تأملات في الصراع بين الحق والباطل
تأملات في الصراع بين الحق والباطل
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين. |
اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً وعملاً مُتقبَّلاً يا رب العالمين. |
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات. |
الأحكام العقلية ثلاث:
وبعد فيا أيُّها الإخوة الكرام: في علم العقيدة يقولون إنَّ الأحكام العقلية ثلاث، العقل الذي هو هبة الله للإنسان، الذي هو عملية يستطيع الإنسان من خلالها فهم الأشياء وإدراكها، والخروج بمُخرجاتٍ صحيحة، هذا العقل يُطلِق ثلاث أحكام: |
الحُكم الأول واجب الوجود، والثاني ممكن الوجود، والثالث مستحيل الوجود، فإذا قلت الجزء أكبر من الكل، قال العقل لا هذا مستحيل الوجود، لا يمكن أن يكون الجزء أكبر من الكل، ولا أن يكون الابن أكبر من أبيه، هذا مستحيل حُكم عقلي مستحيل. |
وإذا قلت هذا الكأس تحرَّك من هُنا إلى هُنا دون أن توجد قوةٌ حرَّكته، يقول لك العقل مستحيل. |
والممكن الوجود، معظم الموجودات في الكون هي مُمكنة، نحن كان يمكن ألّا نوجَد لكننا وجِدنا، هل كان من المُمكن ألّا نوجَد؟ نعم. |
هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا(1)(سورة الإنسان)
ولو شاء الله ما كنّا، لكن الله شاء أن نكون، فنحن ممكنو الوجود، وقع زلزال، الزلزال ممكن الوجود، يمكن أن يقع ويمكن ألّا يقع، ويمكن أن يقع في هذا اليوم أو بعد سنة، ولا أحد يعلم متى يقع، ممكن، أمّا الواجب فهو الذي لا تستقيم الحياة بغير وجوده وهو الخالق، فالله تعالى واجب الوجود، بمعنى أنَّ كل الموجودات تستمد وجودها من وجوده، فهو واجب الوجود، لا يوجد مخلوق من دون خالق، لا يوجَد موجود من غير موجِد، والعربي البسيط جداً جداً كان يقول: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، أفسماواتٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، ألا يدلان على الحكيم الخبير؟! |
الله تعالى واجب الوجود وما سواه مُمكنات الوجود:
يَستدل على وجود خالق للكون، الآن التفاصيل كلها من الغيب، هذا الخالق العظيم، أسماءه الحُسنى، كيف يُعاقِب، كيف يُحاسِب، الجنَّة والنار هذه غيب، يؤمن بها المؤمن من خلال ما جاءه من الله إيماناً، أمّا أصل الفكرة المخلوق لا بُدَّ من خالق، هذا نُسمّيه حُكم عقلي واجب الوجود، فالله تعالى واجب الوجود وما سواه مُمكنات الوجود، ما معنى مُمكن الوجود؟ يعني يُمكن أن يوجَد ويُمكن ألّا يوجَد، وإذا وجِد يُمكن أن يوجَد على الحالة التي هو عليها، أو على حالةٍ خلاف التي هو عليها، فأنا مُمكن الوجود كان يُمكن ألّا أوجَد لكنني وجدت، الآن وجدت كان مُمكن أن أكون أطول أو أقصر من ذلك ممكن، لكن شاء الله أن أكون بهذا الحجم، فأنا مُمكن الوجود. |
هذه المُقدِّمة من أجل أن أقول بعدها شيئاً، وهو ما دام كل شيء في الكون مُمكن الوجود ألم يكن مُمكناً إذاً، نحن نقول الله على كل شيءٍ قدير، ونقرأ في القرآن: |
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(2)(سورة الحديد)
ما دام على كل شيءٍ، وشيء هي أعمّ كلمة في اللغة، إذاً قُدرته تعلَّقت بكل المُمكنات، كل شيءٍ مُمكن في الوجود قُدرته مُتعلقة به، يمكن أن تطلُع الشمس أو لا تطلُع، يوم القيامة ستطلُع الشمس من مغربها بخلاف ما هو معتادٌ عليه قبل ذلك، ستدنو من رؤوس الخلائق بخلاف ما هو معتادٌ عليه، إذاً هي مُمكنة، فالله على كل شيءٍ قدير، بمعنى أنَّ قدرته جلَّ جلاله طالت كل المُمكنات. |
ألم يكن مُمكناً إذاً أن يعيش المؤمنون في كوكبٍ يُسمّى كوكب الأرض، ويجعل الله كوكباً ثانياً كوكب سين صالح للحياة، ويجعل فيه الكُفَّار، كل واحد مؤمن يعيش في كوكب الأرض، والكافر في الكوكب سين من الكواكب، ممكن، فربنا عزَّ وجل عليم، فهذا العبد إن كان مؤمناً وضعه مع المؤمنين، وإذا كان مجرماً يضعه في كوكب المجرمين. |
الحق لا يقوى إلا بالتحدي:
إمكانيةٌ أُخرى: ألم يكن ممكناً أن يجعلنا جميعاً بكوكبٍ واحدٍ ولكن حِقب حِقب؟ على سبيل المثال: من عام ألف وتسعمائة إلى ألفين، هذه حقبةٌ خاصة بالمؤمنين المحسنين، نعيش مع بعض حياةً سعيدة، ورخاء وأمان، لا يوجد صهاينة ولا معتدين، كله خير وسلام وأمان ويعمّ الخير والسلام، بعد ذلك من عام ألفين إلى ألفين ومئة يأتوا الكفار، وهكذا نتناوب على هذه الأرض، وربُّنا على كل شيءٍ قدير، ألم يكن مُمكناً؟ بلى، لكن الله تعالى أراد إذاً أن نعيش جميعاً في زمنٍ واحد، وفي مكانٍ واحد، على أرضٍ واحدة معاً، المسلم والكافر، الفاسق والمستقيم، المُحسن والمُجرم، شاء الله تعالى أن نعيش معاً على أرضٍ واحدة، وفي زمنٍ واحد، لأنَّ الحق لا يقوى إلا بالتحدي، ولأن أهل الحق لا يستحقون الجنَّة إلا بالبذل والتضحية والفداء. |
إذاً نحن قدرُنا أن نعيش معاً، قدرُنا أن يكون هناك بقعةٌ قريبة منّا الآن، يُسام أهلها سوء العذاب، ونحن مُمتحنون بهم، قدرُنا كان في سورية أن نعيش معاً، المجرمون مع المؤمنين، وأن نتصارع لسنواتٍ امتدت طويلاً، وظهر فيها صدق الصادقين، وكذب الكاذبين، وخيانة الخائنين، وأمانة المؤتَمنين، طبيعة الأرض وطبيعة الزمان، التي خلقها الله تعالى، جعل فيها هذا الصراع بين الحق والباطل، وجعله ممتدَّاً من لدن آدم إلى يوم القيامة، ولن تخلو حقبةٌ في الأرض أبداً من هذا الصراع، لا تستطيع أن تقول بأي وقت، استقرَّ الأمر لأهل الحق مئةً بالمئة، ولا استقرَّ الأمر لأهل الباطل مئةً بالمئة، مهما قوي أهل الباطل، يبقى لأهل الحق دائرة يتحركون فيها، عندما تتسع دوائر الحق تضيق حُكماً دوائر الباطل، وعندما تتسع دوائر الباطل تضيق حُكماً دوائر الحق، نحن نتنازع على المكان، في كل زمانٍ وفي كل مكان، وعلى المكانة هذه إرادة الله تعالى. |
النقطة الثانية: نأخذ مثالاً اليوم ما يجري في غزَّة، لأنَّ هي الحدث الأضخم والأبرز الذي يؤلمنا جميعاً، ويُقلقنا جميعاً، ونشعر بالمسؤولية تجاهه جميعاً، ونشعر بالتقصير جميعاً تجاهه، وفي كل زمنٍ يكون عندنا مأساةٌ في هذه الأُمة، خاصةً بالمئة سنة الأخيرة، بسبب بُعدنا عن ديننا، وتخليِّنا عن ركب الحضارة الحقيقية وليست المدنية، وتخليِّنا عن المِقوَد الذي تُقاد به الأُمم بالعدل، في المئة سنة الأخيرة تحوَّلت أحوالنا، نحن كل عشرة سنين عندنا فاجعة، تنتقل من بلدٍ إلى بلد، لكن فاجعة الفواجع هي فلسطينُنا، منذ خمسةٍ وسبعين سنة تعيش هذه المأساة، لما لها من مكانةٍ دينيةٍ ورمزيةٍ كبيرة، ولما في إجرام الصهاينة وتواطؤ الجميع معهم من طرفٍ آخر. |
لا يستقيم إيمان امرئٍ إذا توهَّم للحظةٍ واحدة أنَّ الله تعالى لا يعلم ما يجري:
السؤال الآن حتى يستقيم إيماننا، هل يستقيم إيمان امرئٍ إذا توهَّم للحظةٍ واحدة، أنَّ الله تعالى لا يعلم ما يجري؟ مستحيل، يُصبح مع الإنسان خللٌ عظيم في إيمانه، إذاً يعلم. |
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(3)(سورة الحديد)
قال تعالى: |
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(59)(سورة الأنعام)
في ظلمات البر والبحر، إذا ورقة بالخريف بغابات إفريقيا اهتزَّت وسقطت يعلمه بعلمه، الصاروخ الذي نحن نسمعه؟ إذا الورقة هو يعلمها فالصاروخ يعلمه، فنحن نوقن يقيناً قاطعاً أنَّ الله يعلم ما يجري. |
هل يستقيم إيمان عبدٍ إذا توهَّم أنَّ الله تعالى يعلم ما يجري لكن لا يعنيه؟ مستحيل، أنت أحياناً تكون جالساً على الشُرفة، ترى ابنك مثلاً نسأل الله السلامة، يُمسك بيده سيجارةً، وابنك صغير، الموضوع يعنيك، تنتفض وتنزل وتُمسك به لأنه يعنيك. |
مرةً أُخرى كنت جالساً فرأيت ابن الجيران، لا يعنيك، والمُفترَض أن يعنيك، لكن كونه ابن الجيران تقول هذا من شأن أبوه، ويمكن بأحسن الأحوال تقول لوالده رأيت ابنك اليوم وهو يُدخِّن، انتبه عليه حرام أن يتعلم على هذا الموضوع، لكنه لا يعنيك، فهناك من يعلم لكن لا يعنيه الموضوع. |
هل يستقيم إيماننا إذا توهمَّنا أنَّ الله يعلم ما يجري ولكن لا يعنيه ما يجري؟! مستحيل، هذا مُستمدٌ من اسم الله تعالى القيّوم، القيّوم قائمٌ على كل شيءٍ جلَّ جلاله بكل لحظة، فليس هناك موضوعٌ في الكون لا يعني الله تعالى، إطلاق البصر يعنيه جلَّ جلاله قال: |
وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7)(سورة طه)
هناك جهرٌ يعلمه، وهناك سرٌّ يعلمه، وهناك أشياءٌ أخفى من السر، تحاول أن لا تُحدِّث بها نفسك، يعلمها الله تعالى. |
الإنسان دائماً هناك شيءٌ يجهَر به، يعني مثلاً شخص يريد أن يتزوج امرأةً ثانية، يتحدث أمام أهل بيته ليفتح الموضوع، لديه نيّة الزواج بثانية، فسأله أحد الموجودين ما السبب؟ فقال له: هي امرأة عندها يتيم، وأنا أُحسِن لها منذ زمنٍ، ووضعها صعب، فأحببت أن يكون دخولي وخروجي عليها أن يكون صحيحاً، هذا الجَهر، وفي السر بداخله يقول زوجتي أتعبتني كثيراً، لكنه لا يريد التكلم بهذا أمام العالم، هذا السر، أُريد أن أتزوج الثانية لأرتاح من تعب زوجتي الأولى. |
كل ما يجري في الكون يعنيه جلَّ جلاله:
الآن الأخفى من السر، هذا لا يتكلم به مع نفسه بداخلها، عنده حاجة مما يريده الرجُل من زوجته، لكن هذه هي المطلب الرئيسي، يعني عمق العمق، لكن هذا لا يتكلم به إلى الناس، ولا يُحدِّث نفسه به، هذا أخفى من السر، وغالباً هذا الإنسان يُخفيه دائماً لا يبوح به، يبوح بواحدة، ويُخفي واحدة، ويخبئ واحدة عن ذاته، بلحظة مكاشفة صريحة جداً جداً، يُكاشف نفسه بأخفى من السر، فقال تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) إذاً كل ما يجري في الكون يعنيه جلَّ جلاله، فلو نظر الإنسان نظرةً فيها خيانة، تعني الله تعالى، أي هو قائمٌ عليها جلَّ جلاله. |
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)(سورة غافر)
فهل ربُّنا جلَّ جلاله لا يعنيه ما يجري في غزَّة من قصفٍ وقتلٍ ودمار؟! يعنيه قطعاً. |
إذا علم العبد أنَّ الله يعلم وأنه يعنيه ما يجري، فهل يستقيم إيمانه إذا توهَّم أنَّ الله تعالى لا يقدر على فعل شيءٍ في هذا الأمر، معاذ الله هذا كُفر. |
الثلاثة أي واحدة منها يعتقدها الإنسان اعتقاداً جازماً، يُبيَّن له ويبقى عليها فهذا كُفر، عليم، قيِّوم، قدير، يقدر، يقدر جلَّ جلاله أن يوقف الظلم الآن، إذا كان يعلم ويعنيه ويقدر، لكن ترك الأمور لفترةٍ مُعيَّنة، تجري بطريقةٍ مُعيَّنة، نتوهَّم نحن فيها، أو ضعاف الإيمان أنَّ الله عزَّ وجل لا يتدخل فيها، إذاً هناك حكمةٌ عَلِمها من عَلِمها وجهلها من جهلها. |
إذاً ربُّنا يمتحِن، يتخذ شهداء، ربُّنا يصطفي من عباده من يشاء، ربُّنا يرفع ذكر من يشاء ويخفض ذكر من يشاء، ربُّنا يُهيئ من يشاء لجنَّته ويهيئ من يشاء لنارٍ لا ينفَذ عذابها، ربُّنا جلَّ جلاله يُهيئ لهذه الأُمة أمر رشدٍ، يختبر، يُمحِّص، يجعل الناس في محنةٍ عظيمة، حتى فتنة، ما معنى فتنت الذهب؟ العرب تقول فتنت الذهب، أي عرَّضته للنار، فتنةٌ عظيمة أن تُعرِّض الذهب للنار، حتى تَذهَب عنه العناصر الرخيصة العالقة به مما ليس ذهباً، أي تصفية. |
ربنا عزَّ وجل يُسيِّر الأمور بحكمةٍ بالغة قد نعلم بعضها وقد يخفى علينا كثيرٌ منها:
إذاً ربُّنا عزَّ وجل يُسيِّر الأمور بحكمةٍ بالغةٍ بالغة، قد نعلم بعضها، قد يخفى علينا كثيرٌ منها، لكن إذا انكشفت الحقائق يقول الجميع لا إله إلا الله، لذلك قالوا: إنَّ الله تعالى ليقوّي أعداءه حتى يقول ضِعاف الإيمان أين الله؟ بمعنى أنه تأخر نصر الله، والصحابة الكرام قالوا متى نصر الله؟ ثم يُظهِر آياته حتى يقول الملحدون لا إله إلا الله، عندما تظهر آيات الله جليةً للناس. |
أين يظهر الامتحان؟ في هذه الفترة، ليست البطولة عند الفرَج أن تقول لا إله إلا الله، البطولة أنك بسنوات الضيق موقن بوعد الله، في الوضع الطبيعي ظهرت الآيات وانتصر المُستضعَفون، عندما كان فرعون يسوم بني إسرائيل سوء العذاب، عندما أُغرِق فرعون وانتصر موسى ومن معه على فرعون، الجميع آمَن، لكن البطولة كانت بطولة السحَرَة، عندما كان فرعون بقوته وجبروته: |
قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72)(سورة طه)
البطولة بطولة الرجُل الذي جاء ليقول لموسى: |
وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ(20)(سورة القصص)
عندما كان فرعون بقوة جبروته، كان هناك رجُلٌ صالحٌ مؤمن، يُخفي دينه، ويكتُم إيمانه، يحاول إنقاذ سيدنا موسى ويحافظ على الرسالة. |
البطولات تظهر في المِحن والشدائد لا تظهر عند الرخاء:
البطولات تظهر في المِحَن والشدائد لا تظهر عند الرخاء، عند الرخاء كل الناس أبطال، أمّا المِحَن محك الرجال تظهر في المِحَن، إذا أردت أن تشتري سيارةً، لا تقول سأختبرها في المُنحدَر! كل السيارات في المُنحدرات أداءها جيد، لكن يجب أن تختبر السيارة على طريقٍ قاسٍ وصعب، بالمِحنة، بالصعوبة، بالشدَّة، فالآن ربُّنا جلَّ جلاله في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الأُمة، والتي فيها من الألم الكثير، ولكن تبدو فيها بوادر الأمل، ويبدو فيها الصحوة، ويبدو فيها جهاد المجاهدين، وصدق الصادقين هنا، لذلك ربُّنا عزَّ وجل ماذا قال عندما تحدَّث عن غزوة الأحزاب؟ قال: |
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11)(سورة الأحزاب)
لم يُبتلوا بعد فتح مكة، ابتلوا بالأحزاب، بوقت غزوة الأحزاب، وصل الأمر ببعض ضِعاف الإيمان والمنافقين، أنه أصبح الواحد منهم يقول: " أيعدُنا صاحبكم أن تُفتح علينا بلاد كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته"، يعني سيدنا رسول الله يضرب بالحجر ويقول: "أُبصِر قصوراً حمراء وبيضاء، وفُتحت بلاد اليمن، وفُتحت بلاد كسرى"، قال له: أيعدُنا صاحبكم - ما عادَ يقول رسول الله، صار صاحبكم - أن تُفتح علينا بلاد كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته. |
أمّا عندما ظهر الحق فكل الناس يهللوا للانتصار، ونحن عندنا في سورية لمّا انقضى الموضوع وانزاح النظام، كل الناس أصبحوا يقولوا، والبعض غيَّروا صور حساباتهم، البطولة للذي ثبت أربعة عشر سنة، وهو يقول رغم كل شيء، هذا الرجُل مجرم، أمّا بعد أن هرب، كل الناس أصبحت تقول إنه مجرم، وقت البطولة ليس الأن، وقت البطولة انتهى، عند الفرَج ينتهي وقت البطولات. |
معيب من العبد أن يسأل في المِحنة أين الله:
فالآن أحبابنا الكرام: ما يجري في أرض غزَّة وما يجري على أرض فلسطين مؤلم جداً، ألمه ليس فقط من حجم الإجرام، ألمه من حجم التخاذل، أنت عندما تنظر وتقول أين الأُمة؟! معيب من العبد أن يسأل في المِحنة أين الله، أنتَ أين أنت؟ العبد لا يقول أين الله لماذا لا يتدخل، أنتَ لماذا لا تتدخل؟ نحن الأُمة لماذا لا نتدخل؟ هؤلاء القادرين؟ أنا أعرف أن هناك عجزاً أحياناً، أنا معي مبلغ قدَّمته وأرسلته لكن أنا عاجز، أنا لا أُطالب بحركاتٍ صبيانية، ولا بهلوانية، ولا طائشة، أنا أتحدث عن الشخص القادر، فنحن نقول أين أُمتنا؟ أين نُخَبُنا؟ أين مُثقَّفونا؟ أين القادرون الذين لم يتحركوا؟ أين الجيوش؟ لكن لا نقول أين ربُّنا، ربُّنا جلَّ جلاله موجود لكنه كلَّفك لك، وأعطالك الخيار لك، وجعلك مُكلَّفاً ومختاراً، أمّا ربُّنا جلَّ جلاله: |
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23)(سورة الأنبياء)
نحن نُسأل هو لا يُسأل جلَّ جلاله، مالك المُلك، عندما يُظهِر لك آياته، ويُظهِر حكمه، سيقول الجميع الحمد لله رب العالمين، والله لن يبقى شهيدٌ في غزَّة إلا وسيرضى، ولا أُم مكلومة إلا سترضى، سيُرضي الجميع ربُّنا جلَّ جلاله، خياراته لا محدودة، أحياناً يكون في جيبك خمسين ألف دينار، تشعر وكأنك لست مالك المُلك فقط، بل خياراتك غير محدودة، تقول فلان زعل، يقول لك: الآن نُرضيه بمبلغٍ من المال، بمعنى عندما يكون معك مبلغاً من المال، تشعر أنك قادر على أن تحل مشاكل الدنيا. |
لكن عند ربُّنا عزَّ وجل جنَّةٌ عرضها السماوات والأرض، ربُّنا عزَّ وجل يُحِل على الناس رضوانه على المؤمنين فلا يسخطون بعده، نظرةٌ إلى وجهه الكريم، دخلة في نار جهنم تُنسي الكافر كل ما عاشه من نعيم، وغمسة في الجنَّة للمؤمن تُنسيه كل ما ذاقه من ويلات، ربُّنا خياراته واسعة، فأنت لا تُدقِّق بتصرفات ربُّنا عزَّ وجل، تصرفاته حكمة وعلم وقدرة وكل شيء، انظر في تصرُّفاتي وتصرُّفاتك! |
لعلَّنا خذلنا أهلنا في غزَّة بمعاصينا، لن أتكلم أكثر من ذلك، لعلَّنا خذلناهم ببُعدنا عن ديننا، لعلَّنا خذلناهم لأننا لم نُربّي أولادنا على القرآن، لعلَّنا خذلناهم إذا لم نُطع الله تعالى فيهم، لعلَّنا خذلناهم إذ أقمنا الحفلات والمنكرات، وهُم يعيشون ما يعيشون، أقول الحفلات والمنكرات لا أُريد أن أوقِف الأفراح، لكن ما فيها من المُنكرات لمن يفعل ذلك والعياذ بالله، فإذاً دائماً العبد يسأل نفسه، ما الذي يجب عليه تُجاه سيّده، لكن العبد لا يسأل ما الذي يجب على سيّده تجاهه أبداً. |
قال تعالى: |
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4)(سورة محمد)
كلنا مُمتحنون ببعض:
مشيئة ربُّنا عزَّ وجل في الانتصار من هؤلاء بأي لحظة، وسنراها إن شاء الله كما رأينا غيرها، في التاريخ القريب والبعيد، كم ربُّنا عزَّ وجل انتصر للمظلومين من الظالمين؟ كم حصل ذلك؟ اقرؤوا التاريخ، جاء التتار، وجاء المغول وغيرهم، وربُّنا عزَّ وجل أبادهم وبقي الإسلام ( ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) أنا مُبتلى بكَ وأنتَ مُبتلى بي، أنا مُبتلى بعدوّي ومُبتلى بخصمه وللمُستضعفين وهُم مبتلون به (وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) أنا أُفتَن بهم وهُم يُفتَنون بي. |
كان الشيخ بدر الدين الحسني من أول مشايخ الشام، نشأت بعده المدارس الشامية في الشام، الشيخ بدر الدين الحسني كان شيخ الشام، فهذا الرجُل حصل له من المكانة ما حصل، حتى كانت كلمته إذا تكلم لا يُرد له طلب، حتى أنه مما يُذكر عنه، أنه كان ذاهباً إلى المسجد الأموي في دمشق ليُلقي درسه، فإذا بامرأةٍ نصرانيةٍ تنكبُّ على قدميه وتقول: سوف يُحكم على ابني غداً بالقتل، كان فراري زمن العثمانيين، أي هارب من الخدمة الإلزامية، وهو محكوم بالإعدام في قلعة دمشق غداً، فلو تُكلِّم لي الوالي أو المسؤول عن هذا الموضوع، فترك درسه واعتذر عن درس الأموي، وذهب معها إلى الوالي وقال أُريد أن أتشفَّع عندك لابن هذه المرأة، فقال له هذا الحُكم صادر عن الصدر الأعظم في إسطنبول وليس من عندي، هل تُحب أن أُكلمه لك؟ قال له نعم، كان هناك التلكس القديم وساعات حتى وصل إلى السنترال، وكلَّم الصدر الأعظم وقال له: جاءني الشيخ بدر الدين الحسني شيخ الشام، يطلب ويشفع لابن امرأةٍ ابنها فرَّ من الخدمة الإلزامية، أن يُعفى عنه وإعدامه غداً، فقال له الصدر الأعظم: الشيخ بدر الدين الحسني هو بنفسه عندك؟ فقال: نعم وهو في مكتبي الآن، قال له: متأكد؟ قال: نعم لأنه ما رؤيَ خارجاً إلا إلى المسجد، فقال له: اعفُ عن الجميع وليس عن هذا الشاب فقط، كانوا أربعة عشر شابَّاً محكومين، قال اعفُ عن الجميع بكرامته ومجيئه إليك، فكان له مكانةٌ كبيرة في الشام وفي العالم الإسلامي. |
فمرةً دخل إلى المسجد الأموي واكتظَّ المسجد بالحضور، كلهم جاؤوا لحضور درس الشيخ بدر الدين، فسجد وسُمع يقول: "يا رب لا تحجبني عنك بهم ولا تحجبهم عنك بي"، أنا مُفتَّتنٌ بهم وهُم مُفتَّتنون بي، أي أدخُل وأرى المسجد مُمتلئ فأُحجَب عنك بهم، عند رؤيتهم أغتر بالحضور وأنسى ربُّنا، ولا تحجبهم عنك بي، وهُم أيضاً يغتروا بدرس الشيخ وينسوا ربّنا الذي خلقهم وخلق الشيخ، فقال: لا تحجبني عنك بهم ولا تحجبهم عنك بي، فكلنا مُمتحنون ببعض. |
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4)(سورة محمد)
الأستاذ مُمتحَن بطلابه والطلاب مُمتحنون بأُستاذهم، الموظف مُمتحَن بمديره والمدير مُمتحَن بموظفه، طبيعة الحياة (لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) ونحن مُبتلون بأعدائنا وهُم مُبتلون بنا، وهكذا (وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) فإن كانت الفاتورة كبيرة، والدماء كثيرة، قال: |
وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ(5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ(6)(سورة محمد)
هذه الآية كلما أحسست بضيقٍ في صدرك لما يجري، اقرأها في سورة محمد، اقرأ سورة محمد كاملةً، لما فيها من سلوى للنفس (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ .(6)) |
الدعاء:
اللهم نصراً عزيزاً مؤزَّراً لأهلنا في غزَّة. |
اللهم فرَجاً عاجلاً عنهم وعن جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. |
اللهم إنّا نسألك يا مُنزِل الكتاب، ويا سريع الحساب، ويا هازِم الأحزاب، ويا مُجري السحاب، أن تهزِم الصهاينة المعتدين ومَن والاهم ومَن وقف معهم ومَن أيَّدهم في سرٍّ وعلَن. |
نسألك يا أرحم الراحمين أن تجعل بلادنا بلاد خيرٍ ورخاء، وأن تُنعِم عليها بالأمن والأمان، وأن تصرف عنها كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وحسد الحاسدين، اجعل اللهم هذا الجمع جمعاً مُباركاً مرحوماً، واجعل التفرُّق من بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منّا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وصلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين. |