الحمد لله وحده

  • اللقاء الأول من تفسير سورة سبأ | شرح الآيات 1-6
  • 2024-05-27

الحمد لله وحده

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم عَلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلماً وعَملاً مُتقبّلاً يا ربَّ العالمين.

من عظيم نِعم الله تعالى على المؤمن أن يُلهمه الحمد:
وبعد أيُّها الإخوة الكرام: في عدة لقاءات خطر في بالي أن نُعالج سورةً من سور القرآن الكريم ونتدبر ما فيها، وكنت منذ فترةٍ أتدبر سورة سبأ، هذه السورة التي غالباً يُمَرُّ عليها دون تدبُّر، يعني مغمورة، وإن كان كل القرآن الكريم مشهورٌ معروف، لكن لا يُنتبَه كثيراً لسورة سبأ، سورة سبأ من السور المكيّة، والتي تتحدث عن موضوع مهم جداً، وهو موضوع الحمد والشُكر لله تعالى، وتعرِض في سبيل ذلك نماذج لأقوام تركوا شُكر الله تعالى وماذا حلَّ بهم، فتدعو إلى هذا المعنى العظيم وهو معنى الحمد والشكر لله.
والحقيقة ما دعاني إلى الـتأمل في هذه السورة، ما كنت أشاهده وأسمعه وتسمعونه جميعاً من حالة الحمد والرِضا التي نراها عند أهلنا وإخواننا في غَزَّة، نسأل الله أن يُفرِّج عنهم، نجد الواحد منهم وقد فقد بيته وخرج من تحت الرُكام وهو يقول: الحمد لله، ونجد الثاني فقد أولاده وهو يقول: الحمد لله، ونجد الثالث قد حصّل لقمةً من خبزٍ، أو شُربةً من ماء فيقول: الحمد لله، والحقيقة أنَّ حالة الرضا عن الله، وحالة الحمد هي من أعظم حالات المؤمن، ومن عظيم فضل الله تعالى على المؤمن أن يُلهَمَ الحمد، لأنه ما من نعمةٍ يُنعَم بها على الإنسان فيحمد الله تعالى عليها، إلا كان الحمد أفضل من النعمة التي أنعم الله تعالى عليه بها.
هب أنك ملكت الدنيا بما فيها، ونسيت أن تَحمَد الله على ما أعطاك، نسأل الله السلامة، فإنَّ كل ما أعطاك سيزول وسينتهي بالموت، لكن الحمد سيبقى وسيدوم أثره إلى أبد الآبدين جنَّةً عرضها السماوات والأرض، لأنَّ الله تعالى جعل للحامدين بيتاً في الجنَّة وسمّاه بيت الحمد، والنبي صلى الله عليه وسلم يحمل لواء الحمد يوم القيامة، فالحمد على النِعمة أفضل من النِعمة، فالنِعَم كلها زائلة، لكن الحمد لله تعالى باقٍ مستمر، فمن أُلهم الحمد فقد أُلهم خيراً كثيراً، ومن حُرِم الحمد فمهما أصابه من الدنيا، فوالله ما أصابه من الخير شيئاً، فالحمد على النعمة أمانٌ من زوالها، وكما قلنا أفضل من النعمة نفسها.
اليوم إخواننا في غزَّة أعادوا لنا هذا المفهوم، كُنّا وكان كثيرٌ من المسلمين يعيشون موجةً من السخط نسأل الله السلامة، فلا هو راضٍ عن دخله، ولا عن بيته ولا عن زوجه، ولا عن أولاده ولا عن كثيرٍ مما حباه الله تعالى به من النِعم، فلمّا نظرنا إلى هؤلاء النفَر الذين فقدوا كل ما هو من بديهيات حياتنا، ما يملكه فُقراؤنا، فقدوا ما يملكه فقراؤنا، وظهروا بحمدهم لله تعالى ورضاهم عنه، وشكرهم له جلَّ جلاله، فإننا صغُرنا أمام ذلك وانتبهنا إلى نعمٍ كُنّا لا ننتبه إليها، فالنعمة إذا أُلفت نُسيت، ومرضٌ عظيم هو مرض إلف النعم، أن يألف الإنسان نِعم الله تعالى عليه، لكن المؤمن لا يألف النِعمة مهما امتدت، وقد كان من دعاء الصالحين: "اللهم أرِنا نِعمك بدوامها لا بزوالها"، لأنها إذا زالت ظهرت صارخةً وعُرِف مكانها وقدرُها، لكن إذا كانت موجودةً فيألفها الإنسان، فينسى نِعم الله تعالى عليه، لو دخلت إلى الحمّام واستحممت والماء موجود وخرجت نظيفاً، يُقال لك: نعيماً، الحمّام نعيم عظيم، الاغتسال نعيم من نعيم الدنيا، لو شربت شُربة ماء هذا من النعيم، النبي صلى الله عليه وسلم لمّا ضرب بيديه من بعد الطعام، وشرب من الماء قال: والله إن هذا هو النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة.

ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ(8)
(سورة التكاثر)

يعني الرصيد في البنك والبيت الفخم، والإطلالة الجميلة، والمزرعة والمسابح والمُكسّرات ما هي؟ إذا كان النعيم هو كسرة الخبز وشربة الماء! فذاك من زيادات النعيم فلله الحمد على نِعَمه ونسأل الله أن يديمها علينا، وأن يُلهمنا الشُكر الحقّ لها.

ما معنى الحمد؟
سورة سبأ أيُّها الكرام، لأنها سورة الحمد والشكر افتتحها المولى جلَّ جلاله بقوله: الحمد لله، فهو جلَّ جلاله يحمد نفسه ويعلّمنا جلَّ جلاله صيغةً من صيغ الحمد، (الحمد لله) والحمد هو الثناء، الثناء الجميل على الله تعالى وهو يشمل المدح والشكر معاً، فالمدح يعني أن تمدح إنساناً على شيءٍ من صفات الخير فيه؟، فتقول فلانٌ كريم، وقد لا يصيبك من كرمه شيء، لكنك تمدحه على ما فيه من صفات الخير، قد يكون في بلدٍ آخر وسمعت عن عطائه فتقول: إنني أمدح فيه هذه الصفة العظيمة الكرم، الشجاعة، نحن اليوم نمتدح أهل غزَّة بما فيهم من صفات الخير والشجاعة، والجرأة، نمتدح هؤلاء المجاهدين الذين يُضحّون بالغالي والنفيس في سبيل رضا الله عزَّ وجل، نمتدحهم، هذا مدح، وقد تشكر لإنسانٍ صنيعاً صنعه معك، فتقول له: شكر الله لك هذه المساعدة، شكر الله لك هذه الكلمات الطيبة التي تكلمتها بحقي، وأسأل الله أن أكون عند حسن ظنك، فتشكر له، فتمدحه وتشكر، الحمد هو الثناء المُطلق على الله تعالى لما فيه من صفاتٍ تستحق الثناء، ولما يأتينا من خيرٍ عميمٍ منه لا ينقطع، فالحمد هو أعظم من المدح وأعظم من الشكر، لأنه يشمل الثناء على جميع الصفات والثناء الحسن على نِعَم الله تعالى التي أولانا بها، وأعظمها ورأسها نِعمة الإيجاد، ونِعمة الإمداد، ونِعمة الهدى والرشاد، فقد أوجدنا من العدم:

هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا(1)
(سورة الإنسان)

ثم بعد الإيجاد أمدَّنا جلَّ جلاله بما نحتاجه:

إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(2)
(سورة الإنسان)

أمدَّنا بالنِعم، بالسمع، بالبصر، أمدَّنا بالأب، والأم، والزوجة، والولد، والطعام، والشراب، والغذاء، والماء، والتربة الصالحة، والنبات عدِّد ما شئت.. ، ثم قال:

إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)
(سورة الإنسان)

فالنعمة الثالثة هي نعمة الهدى، لأنه دلّنا على الطريق الذي يُسعدنا ويوصلنا إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض فالهِداية هي الدلالة، فالله تعالى أوجدَّ من عدم، ثم أمدَّ، ثم هدى جلَّ جلاله:

قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ(49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ(50)
(سورة طه)

(خَلْقَهُ) ولم يقل خَلَقَه بل قال أعطاه خلْقَه، يعني أعطاه خلْقَه المتناسب مع المهمة التي أُنيطت به، يعني أعطاه الخلق المناسب له، فالطير له خلقه، والجذر ينزل للأسفل، والساق للأعلى، والعين مُحاطة بصندوق يحميها، وبأهداب ورموش، وحاجب يُزينها، والقلب ضمن القفص الصدري، والرحم ضمن الحوض، والدماغ ضمن الجمجمة، فكل الأعضاء المهمة أحاطها بالحماية (أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) يعني خلقه على الصورة الأكمل (ثُمَّ هَدَىٰ) هداه إلى مصالحه، الطير تهاجر وتعود إلى موطنها، سمك السلمون يغادر ويقطع المحيطات ثم يعود إلى الأنهار التي ولد فيها ليموت فيها، (ثُمَّ هَدَىٰ) هداه.

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ(19)
(سورة الملك)

وقالوا: (ثُمَّ هَدَىٰ) هدى الناس بهذا الخلق، يعني أعطاه خلقه ثم هداك به، فلمّا تنظر إليه تستدل على وجود خالقه، فهداك به، وهداه إلى مصالحه، (أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ).

من نِعَم الله أنَّ الكون كله ملكاً لله تعالى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1)
(سورة سبأ)

وهذه السورة بدأت بالحمد، وهناك خمس سور في كتاب الله تعالى بدأت بالحمد، وأعظمها سورة الفاتحة التي نقرأها في كل صلاة:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)
(سورة الفاتحة)

وسورة الأنعام:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)
(سورة الأنعام)

وسورة فاطر

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)
(سورة فاطر)

وسورة الكهف:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا(1)
( سورة الكهف)

نعمة المنهج، نعمة الهداية.
وهنا (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) الحمد لله أنَّ الكون مُلكٌ لله تعالى وليس مُلكاً لغيره، فهو الذي يتصرف به كيفما يشاء جلَّ جلاله.

لولا نعمة الآخرة لكانت الحياة جحيماً لا يُطاق:
(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) هنا حمدٌ من نوعٍ خاص، وهو حمدٌ في الآخرة.
والله يا أيُّها الكرام لولا نعمة الآخرة لكانت الحياة في هذه الظروف جحيماً لا يُطاق، هب إنساناً ليس مؤمناً ونحن نتابع ونشاهد ذلك، ويرى على الشاشات ما يراه، يرى هؤلاء الذين تجردوا من كل قيمة، ومن كل إنسانية، ومن كل حيوانية حتى، يدمرون البشر والحجر، ويقصفون، وينتهكون الأعراض، وينتهكون الُحرمات، ثم يجد هؤلاء المستضعفين الذين لا عندهم لا قنابل ولا طائرات، لا يستطيعون الردَّ عن أنفسهم ولا الذَّبَّ عن عيالهم، ثم ينظر إلى هذا المشهد المؤلم وهو لا يعيّ أن هناك تتمةً للمشهد، ويظنُّ أن المشهد قد انتهى هنا، فما معنى الحياة والمشهد قد انتهى، والظالم قد ظَلَم، والمظلوم قد ظُلِم، ثم لا نذهب إلى الحساب ولا إلى ربٍّ كريم، ولا إلى جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، ولا يذهب هؤلاء إلى جهنم وبئس المصير، والله إنَّ الحياة في ظلّ هذه المُعطيات من غير إيمانٍ بالآخرة لا تُطاق ولا تُعاش، ما الذي يُصبِّرنا رغم الأسى الذي نعيشه، وهذا من الإيمان أن نعيش مأساتهم لكن ما الذي يُصبِّرنا؟ يُصبِّرنا إيماننا بالآخرة قال: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ)، سيُحمد الله تعالى في الآخرة حمداً لم يُحمد به في الدنيا، ومن أين جئت بهذه الكلمة؟ لأنَّ الله تعالى له مئة رحمة كما ورد في الحديث الصحيح، أنزل رحمةً واحدة في الدنيا بها يتراحم الخلق، حتى ترفع الدّابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، برحمةٍ من الله.

{ جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ، فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ في الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذلكَ الجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الخَلَائِقُ، حتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عن وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ. }

(صحيح مسلم)

رحمةً واحدة، وادّخر تسعةً وتسعين رحمةً ليوم القيامة، فإذا كُنّا برحمةٍ واحدة نحمد الله تعالى فكيف بتسعةٍ وتسعين رحمة سنراها يوم القيامة؟!
ومن رحمته جلَّ جلاله عدله، ومن رحمته انتقامه:

قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ(14)
(سورة التوبة)

فهذا من رحمته جلَّ جلاله.
فَقَسا لِتَزدَجِروا وَمَن يَكُ راحماً فَليَقسُ أَحياناً على من يَرحَمُ
{ أبو تمام }
فمن رحمته عدله وانتقامه جلَّ جلاله، فسيُحمَد الله تعالى في الآخرة بأعظم بكثير مما حُمِد في الدنيا قال: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) نعمة الآخرة من أعظم نِعم الله.

من صفات الله تعالى الحكمة والخبرة وهما مرتبطان مع بعضهما:
(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) وهذان اسمان من أسماء الله الحُسنى مُرتبطان ببعضهما، ويُحمَد الله تعالى عليهما، الحكمة والخبرة، الحكمة نابعة من الخبرة، الحكمة هي منتج من منتجات الخبرة، حتى عند الإنسان ولله المثل الأعلى، فأنت متى تكون حكيماً؟ عندما تكون خبيراً ببواطن الأمور في تعاملك مع ابنك مثلاً، العِلم شيء جيد، لكن الخبرة أعمق من العِلم، الخبرة عِلم ببواطن الأمور، فأنت تتصرف مع ابنك بالحكمة بناءً على خبرتك به، تقول والله هذا ابني أنا أعرفه، أنا خبيرٌ به، أنا جربت كثيراً، هذا ابني لا أستطيع أن أُجلبه بالعقوبة، إنه يحتاج إلى مُسايرة، فخبرتك به جعلتك تتعامل معه بالحكمة.
جلَّ جلاله ولله المثل الأعلى قال: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)، فمن علمه بعباده أنه يتصرف جلَّ جلاله بالحكمة، فيضع الشيء المناسب بالمكان المناسب في الوقت المناسب، فهو الحكيم جلَّ جلاله، وهو الخبير،

يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ(2)
(سورة سبأ)

هذا من الخبرة، الآن جاء لك بمثال عن خبرته جلَّ جلاله، (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) هذا عِلم عميق فيه خبرة، ما الذي يلج في الأرض؟ إذا مات الإنسان يلج في الأرض، والماء إذا نزل نشرب منه وكثيرٌ منه يتسرَّب

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
(سورة الزمر)

يتسرَّب في باطن الأرض، والبذرة مُبرمجة، نضعها في التراب ونُهيل عليها التراب فتنبت (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ).
(وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) النبات يخرج من الأرض، والإنسان يوم القيامة يخرج من الأرض.

قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ(25)
(سورة الأعراف)

فيعلم ما يدخل وما يخرج، (مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي يدخل فيها، الولوج هو الدخول

ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(61)
(سورة الحج)

أي يُدخله.

التكاليف هي ما ينزل من السماء والذي يعرج إليها هو رد فعل الإنسان عليها:
(يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ) ينزل من السماء أمران، ماديٌ ومعنوي، المادي من السماء المطر، وأحياناً الصواعق، وأحياناً البرق، هذا ينزل من السماء وهي أمور مادية جعل الله فيها حياتنا، وأهمها المطر وهو الرزق من الله تعالى.
(يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ) فهناك أمورٌ مادية تنزل من السماء، وهناك أمورٌ معنوية وهي الوحي، فينزل من السماء الوحي، المنهج ينزل من السماء فهو جلَّ جلاله خبير، يعلم هذا المنهج ويعلم مناسبته لعباده، فيفرض عليهم من التكاليف ما يكون فيه قدرتهم ووسعهم،(وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا).

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ(10)
(سورة فاطر)

فالتكاليف تنزل، وردّ فعل الإنسان يعرُج، ينزل من السماء صلِّ، فُرضت الصلاة في السماء وحتى جميع الفرائض نزلت بوحيٍ من السماء على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم، الآن ردُّ فعلك على التكليف الإلهي يعرُج، فالملائكة تعمل صعوداً وهبوطاً، فينزل جبريل بالوحي على نبيه، وتعرُج الملائكة إلى ربنا جلَّ جلاله بكلمنا الطيِّب، بعملنا الصالح، بصلاتنا.

{ إن لله ملائكةً سيَّاحين في الأرضِ فضلاً عن كُتَّابِ الناسِ فإذا وجدوا أقوامًا يذكرون اللهَ تنادوْا هلُمُّوا إلى بُغيتِكم فيجيئون فيحُفُّون بهم إلى السماءِ الدنيا فيقولُ اللهُ: أيِّ شيءٍ تركتم عبادي يصنعون فيقولون تركناهم يحمدونَك ويمجدونَك ويذكرونَك. قال فيقولُ: هل رأوْني فيقولون لا قال فيقولُ: كيف لو رأوْني. قال فيقولونُ لو رأوْك لكانوا أشدَّ تحميدًا وأشدَّ تمجيدًا وأشدَّ لك ذكرًا قال فيقولُ وأيُّ شيءٍ يطلبون. قال فيقولون: يطلبون الجنةَ. قال فيقولُ: فهل رأوْها. قال فيقولون: لا. قال فيقولُ: فكيف لو رأوْها. قال فيقولون: لو رأوْها لكانوا أشدَّ لها طلبًا وأشدَّ عليها حرصًا. قال فيقول: فمن أيِّ شيءٍ يتعوذون. قالوا: يتعوَّذون من النارِ. قال فيقولُ: فهل رأوْها. فيقولون: لا .فيقولُ: فكيف لو رأوْها. فيقولون: لو رأوْها لكانوا أشدَّ منها هربًا وأشدَّ منها خوفًا وأشدَّ منها تعوُّذًا. قال فيقولُ: فإني أُشهدُكم أني قد غفرتُ لهم. فيقولون إن فيهم فلانًا الخطاءَ لم يُردْهم إنما جاءَهم لحاجةٍ. فيقولُ هم القومُ لا يَشقى لهم جليسٌ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

فالملائكة تصعد إلى الله تعالى بأعمالنا الطيِّبة، تنزل بالتكليف وتصعد بردّ فعلنا على التكليف، فنحن في صلةٍ دائمة مع السماء، نتلقى منها التعليمات ونُنفذ ونرفع النتائج.

المغفرة والرحمة صفتان مرتبطتان مع بعضهما:
(وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) غالباً ما تقترن المغفرة بالرحمة، كيف هنا السميع العليم، الحكيم الخبير، هذه دراسة مهمة جداً، بعض طلاب الماجستير والدكتوراه عملوا بها رسائل، يعني ارتباط الأسماء في أواخر الآيات، يعني تذييل الآيات، يأتي فيه غالباً اسمان، فارتباط الاسمين مهم جداً، فالمغفرة ترتبط بالرحمة كثيراً، لأن المغفرة هي تخلية والرحمة هي تحلية، فغفر الذنب أي ستره، تخلية يعني إزالة الذنب بطريقةٍ أو بأُخرى، العفو أبلغ من الستر، العفو معه محو، المغفرة فيها ستر، جمعٌ غفير، يعني جمعٌ كثير غطّى الأرض من شدّته وكثرته، المِغفَر يضعه الرجُل على رأسه حتى يمنع وصول السهام إليه، يحمي به نفسه، فالمغفرة ستر، حماية فهي تخلية، إنسان مُثقل بذنوبه تأتي المغفرة فتُخليه من الذنوب، الرحمة هي تلك التحلية التي يصبُّها الله تعالى في قلب المؤمن، فيملأه رضاً وسكينة، وحب، وخير، وأمن، وطمأنينة، فالرحمة كلمة واسعة، جلَّ جلاله (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) وهناك آيات وهو الغفور الرحيم.

من أعظم الإنكار إنكار الغيب ووجود الله جلَّ جلاله:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(3)
(سورة سبأ)

من أعظم إنكار المُنكرين هو إنكار الغيب، ومن أعظم إنكار الغيب إنكار وجود الله جلَّ جلاله، وهذا لم يفعله العرب كانوا أعقل من ذلك، اليوم من يفعله قد نحر عقله، فما فعلوه، فما ذكره الله تعالى للمشركين بأنهم أنكروا وجود الله، لكن من إنكارهم إنكار إلوهيته فكانوا يتوجهون إلى أصنامهم، ومن إنكارهم أنهم أنكروا الساعة (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) والحقيقة أنَّ الإنسان إذا أراد أن يصنع شيئاً في الحياة، لا بُدَّ أن يُغطيه بفكرة أو بايدولوجيا، لا يوجد إنسان يصدر في الحياة عن فكر عن فعل، إلا أن يكون قد غطّى هذا الفعل بايدولوجيا مُعيّنة، هذه طبيعة الحياة، يعني حتى الطُغاة في الأرض الذين يحكمون دول يحكمونها بايدولوجيات، فإذا أراد أن يحمي نفسه ويحمي وجوده يحميه بايدولوجيا، بفكرةٍ مُعيّنة يُغطي بها فعله، هذه طبيعة الحياة، ويحافظ على هذه الفكرة كثيراً، لأنه بزوالها يزول هو، فيربط وجوده بالفكرة، فالإنسان إذا أراد أن ينحرف عن منهج الله، يقول لك هناك يوم قيامة وهناك حساب عسير لا يصح! يعني لا يستقيم أن أفعل ما أشاء وأقول الله سيحاسبني، فإمّا أن أتناسى الموضوع أو أن أُنكر وجوده تماماً، وكل انحراف يرتبط بفكرةٍ تناسب حجم الانحراف، يعني المسلمون لا ينكرون الساعة، ولكن إذا تكلمت معه لساعة وقلت له هذا قرض رِبوي لا يجوز، يقول لك: النبي سيشفع لنا، نحن أُمّة محمد، أُمّة مرحومة! يعني مع هذه المخالفات النبي سيدخلنا الجنَّة.

{ شفاعتي لأَهلِ الْكبائرِ من أمَّتي }

(أخرجه أبو داوود والترمذي وأحمد)

مع صحة الحديث لكن له تفسيره، يعني يحتج ببعض الأحاديث وبعض الآيات ليُبرِّر هذا الانحراف الذي هو معصية مُعيّنة، إذا تجاوز ذلك إلى مرحلة أكبر منه فيحتاج ايدولوجيا أُخرى، ممكن أن يقول لك: أفعالنا نحن مُجبرون عليها، تقول له لِمَ لا تُصلّي؟! يقول لك: حتى يأذن لي ربي، كله بإذن ربي، فهو هنا يقوم بايدولوجيا بطريقةٍ ثانية، إذا امرأة مُتفلِّتة من منهج الله عزَّ وجل وقلت لها: انضبطي بمنهج الله والتزمي، تقول لك: نرى الملتزمات ماذا يفعلن، فالإنسان يُبرِّر لنفسه ويغطي نفسه بايدولوجيا.
الآن إذا أراد أن يصل لمرحلة يفعل بها ما يحلو له، يريد أن يقصف شعوب، ويدمر، فيقول لا تأتينا الساعة، أمّا إذا كان هناك ساعة وحساب فتلك مصيبة (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) والله وضع المسلمون اليوم كثيرٌ منهم، طبعاً لا يقولوا لا تأتينا الساعة، لكن طبيعة حياتهم وتفلّتهم من منهج الله، وأكلهم الرِبا، وتركهم الفرائض التي أُمروا بها، يعني كأن لسان حالهم يقول لا تأتينا الساعة أو سيُغفر لنا، يعني مشكلة أننا نعيش بهذا الواقع والساعة سوف تأتي.
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) اقسم لهم بالله، أشدّ أنواع التأكيد، (قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) لام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة، واو القسَم مع اللام مع نون التوكيد الثقيلة.

من أعظم إيمان المؤمن أن يؤمن بالغيب وبوجود الله تعالى:
(عَالِمِ الْغَيْب) هذه صفة الربّ جلَّ جلاله، من أعظم إيمان المؤمن أن يؤمن بالغيب، من أعظم إيمان المؤمن أن يؤمن بأن الله تعالى يعلم الغيب جلَّ جلاله.
(لَا يَعْزُبُ) أي لا يغيب، (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) الذرَّة هي النملة الصغيرة جداً، طبعاً الذرَّة اليوم لها مفهوم فيزيائي مختلف، لكن بعهد النزول نحن نُفسِّر القرآن عند نزول القرآن، بمفهوم الكلمة عند نزول القرآن، فالذرَّة عند العرب هي النملة الصغيرة، يعني الشيء اليسير البسيط جداً، وأُخذت منها الذرَّة الفيزيائية اليوم.
(لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ) للتوكيد لا أصغر من الذرَّة ولا أكبر منها، لا يغيب عنه شيء جلَّ جلاله.
(إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) كله عند الله عزَّ وجل مسجل بكتابٍ واضحٍ جلي، الإيمان بالغيب هو أول طريق الشكر، نتحدث عن سورة الشكر، سورة الحمد، الذي ليس لديه إيمان بالغيب، لديه إيمان بالشهادة، فيعيش مع النِعمة لا يعيش مع المُنعِم، المؤمن بالشهادة يستكثر من النِعمة لكن لا ينتبه إلى المُنعِم، فحتى تؤمن بالمُنعم وتشكر للمُنعم لا بُدَّ أن يكون.

الإيمان والعمل متلازمان فالإيمان من غير عمل إيمان ناقص:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(3) لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(4)
(سورة سبأ)

الجزاء يوم القيامة أيضاً ينبع عن الإيمان بالغيب، (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ترابط وجودي في القرآن الكريم بين الإيمان والعمل، فالعمل هو جزء من الإيمان أو هو نتيجة للإيمان، خلاف لفظي شكلي، والنتيجة أنَّ الإيمان والعمل متلازمان مترابطان، الإيمان السكوني من غير عمل، لن نقول لا ينفع، لكنه إيمان ناقص غير مُكتمل، لا بُدّ من العمل ليُكمِّل الإيمان، (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وليس أي عمل ولكن العمل الصالح الذي يصلح للعرض على الله، ولا يصلح العمل للعرض على الله إلا إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتُغيّ به وجه الله، وصواباً ما وافق شرع الله الكتاب والسُنَّة (أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ(5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(6)
(سورة سبأ)

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) الإنسان يؤتى أشياءً كثيرة، لكن أعظم ما يؤتى أن يؤتى العِلم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(11)
(سورة المجادلة)

فأعظم عطية من الله هي عطية العِلم، فالمؤمن العالم يرى رؤية قلبية.

إيمانك بالله تعالى هو ما يجعلك ترى الحقّ وترى النور في قلبك:
(الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) الإنسان أيُّها الكرام يرى بعلمه وبعقله قبل أن يرى بعينه، أو ببصره، أنت لمّا تكون في مكتبك أو في متجرك، أو في أي مكان، ويأتيك مبلغ من حرامٍ لا يُرضي الله تعالى وترفضه، ما الذي دفعك إلى رفضه؟ أنك رأيت شيئاً لا يراه الناس، رأيت أنَّ هذا المبلغ هو نارٌ مُحرِقة وليس مكسباً، غيرك قد يُسارع إلى أخذه ويعتبره مغنماً عظيماً، مع أنه حرام، لكنه يأكل الحرام، لأنه يظنّ أنَّ هذا المبلغ فيه خيرٌ له، ما الذي يجعل الإنسان يرى النور، يرى الحقّ، ويرى أنَّ هذا المنهج هو الحقّ من الله تعالى؟ إيمانه بالله تعالى، فيرى بنور الله، ما الذي جعل يوسف عليه السلام يقول:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
(سورة يوسف)

شيءٌ رآه، قال تعالى:

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ(24)
(سورة يوسف)

البرهان أول النور، أول نور الفجر يُسمّى برهان، يعني لولا النور الذي رآه وألقاه الله تعالى في قلبه، فرأى الزِنا هلاكاً له في دينه ودنياه وأُخراه، لهمَّ بها، كما فعلت هي، لكن هي لم يكن عندها نور فهمَّت به، (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ)، يعني لولا أنه ألقى الله تعالى في قلبه نوراً، جعله يرى أنه ما أُنزل إليه من ربه هو الحقّ لهمَّ بها، فهي شهوة تدفع الإنسان، فمن غير نور الوحي يرى المرأة في الحرام مغنماً، ويرى المال الحرام مغنماً، ويرى المنصِب ولو على حساب دماء الناس مغنماً، لكن لمّا ينظر بنور الله، يرى هذه الأشياء مغرماً، ويراها ثِقلاً عليه وناراً تُحرق، فقال: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) فالعِلم هو النور.

العزيز هو الذي يحتاجه كل شيءٍ في كل شيء ولا يحتاج إلى شيء:
(وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)، أيضاً تلازم العزيز الحميد وبها أختِم، العزيز هو الشيء النادر الوجود، الذي لا يحتاج شيئاً ويحتاجه كل شيءٍ في كل شيء، فالله تعالى هو العزيز، هو لا يحتاجنا، هو صاحب العِزة، عزيز مصر لماذا سُمّيَ عزيز مصر؟ لأنه ليس بحاجة الناس، لن يقول لأحدٍ اجلب لي حنطة، لكن أهل مصر كلها كانوا بحاجته، فسُمّيَ عزيزاً، فالعزيز جلَّ جلاله على الإطلاق هو الله فقط، ويحتاجه كل شيءٍ في كل شيء، وهو لا يحتاج أحداً من مخلوقاته، والعزيز بأل التعريف ليست إلا لله، ليس من عزيزٍ إلا الله، لكن يقال عزيز مصر، عزيز بيته، عزيز ملكه، إلى آخره بالإضافة، لكن العزيز هو الله.
الآن العزيز بعِزته ولأن كل شيءٍ يحتاجه ولا يحتاج أحداً، هو مستغنٍ عن عباده، فقد يُتوهَّم أنه لا يُحمَد له لأنه ليس بحاجتهم، إذا ملِك البلاد عزيز، أو عِزة مُعيّنة، إذا أنت قمت بعملٍ اتجاهه، هو ليس مُضطراً إلى شُكرك، لأنه أنت بحاجته وهو ليس بحاجتك، فلا يحمد لك فعلك، لكن الله تعالى على عظيم عِزته التي لا يوازيها فيها أحد، يَحمد لعباده، أنت تحتاجه ورغم ذلك إذا صلّيت له، يشكر لك ويحمد لك صلاتك، هذا عظيم الكرم جلَّ جلاله، فهو حميدٌ رغم عظيم عِزته، حتى لا يُتوهَّم أنَّ العزيز لا يحمد، ولأننا يجب أن نتعلم من صفات الله تعالى ونتخلق بها.
فهذا درس لكل من جعله الله في مكانٍ عزيز، يعني لو كنت مدير شركة، وعندك عشرين موظف، ودخل إليك الحاجب بكأس الشاي، هو بحاجتك والراتب من عندك في آخر الشهر، لكن ما الذي يمنع أن تقول له جزاك الله خيراً وشكراً؟ فتملأ قلبه سروراً، وأنت داخل إلى البناء، الحارس هو بحاجتك، والراتب أخر الشهر عندما يطرق بابك ويأخذ المقرر له، لكن رأيته ينظف الأرض وابتعدت عنه حتى لا تُضايقه في عمله، وقلت له عافاك الله شكراً لعملك، فإذا كان الإنسان في مكانٍ ووجد نفسه عزيزاً، فليحمد للناس ولا يجعل من عزته حاجزاً بينه وبين حمد الناس، هذا من التعلم من أفعال الله وصفاته، فهو جلَّ جلاله العزيز الحميد، والحمد لله ربِّ العالمين.