• 2018-01-26
  • عمان
  • مسجد التقوى

معركة مؤتة


الخطبة الأولى:
يا ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذل في عزك؟ وكيف نضام في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمر كله إليك؟
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً.

معركة مؤتة وأسبابها:
معركة مؤتة وقعت على أرض الأردن
وبعد فيا أيها الأخوة الكرام؛ مع إطلال شهر جُمادى الأولى علينا نستذكر معركة من معارك المسلمين، قد مضى عليها 1400 سنة، فما زادتها الأيام في القلوب إلا رسوخاً، كيف لا وهذه المعركة وقعت على أرض الأردن، وأرض الشام، كيف لا وهذه المعركة تذكرنا بأنه لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام الذين رووا هذه الأرض بدمائهم الطاهرة لما صدحت اليوم مآذن بالأذان، ولما اجتمعنا في بيت من بيوت الله نقيم الصلاة، ونتذاكر العلم، ونتلو القرآن، ولا علمنا أولادنا ديننا، ولا كتاب ربنا، فنحن إنما نعيش ببركة تلك الأيام.
أيها الأخوة الكرام؛ معركة مؤتة في السنة الثامنة للهجرة، والتي وقعت على هذه الأرض التي ضمت رفات كثير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سبب هذه المعركة أيها الأخوة الكرام؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رسولاً - أي سفيراً بالعرف الحديث - إلى الحارث، أو بعث الحارث بن عُمير الأسدي سفيراً إلى ملك بصرى، وكانت تحت حكم الروم، أقوى قوة في الأرض وقتها، فلما نزل الحارث مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فقال: أين تريد؟ قال: الشام، قال: لعلك من رسل محمد! قال: نعم، أنا رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به فأوثق رباطاً، ربطوه، ثم قدمه فضرب عنقه، والرسل والسفراء لا تُقتل في عرف كل الدول من آدم إلى يوم القيامة، الرسل لا تُقتل، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر جمع أصحابه، وأخبرهم بما كان، وأعدّ العدة، وجهز لحرب الروم في الشام.
أيها الأخوة الكرام؛ ربما تعد هذه بكل الأعراف العسكرية مغامرة كبيرة، ولكن عزة الإسلام تأبى أن يُقتل رجلٌ من أهل الإسلام أُرسل سفيراً بكتاب، ثم لا يرد هذا العدوان، ولا يكون هناك ردٌ قوي، ليس احتفاظاً بحق الرد، رد حقيقي.
هنا أيها الأخوة؛ جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد صلاة الظهر وجلس لهم، وأمر بالمعركة، فقال لهم: زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قُتل زيد فجعفر بن أبي طالب فإن أُصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، وأعدّ العدة في ثلاثة آلاف مقاتل، ولم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة على خلاف عادته، وكأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يقول لنا: إن العبرة بالمبادئ والقيم، العبرة بالإسلام لا بالأشخاص.

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
[ سورة آل عمران ]

يريد أن يعلم الناس أنه أنشأ أمة لا ترتبط بالأشخاص بقدر ما ترتبط بالمبادئ والقيم، أما عندما تنخفض الأمة قليلاً فيصبح ارتباطها بالأشخاص، وتنسى القيم والمبادئ، فإن أحسن الشخص أحسنوا، وإن أساء أساؤوا، وهذه مرحلة وسط، لكن عندما تنخفض الأمة أكثر في السلم الاجتماعي والديني والأخلاقي تنحدر إلى عصر يسمى عصر الأشياء فلا القيمة لها قيمة، ولا الشخص له قيمة، وإنما القيمة للأشياء، للمادة، فيكتسب المرء قيمته لا أقول من بيته الفاره، ولا من مركبته الفارهة، ولكن من نمرة سيارته التي أُلصقت على السيارة، يكتسب قيمته من أرقام سيارته فقط، هذا عصر الانحدار.

وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة:
أيها الأخوة الكرام؛ النبي صلى الله عليه وسلم أنشأ أمة، ودعهم، ودع المقاتلين وقال، الآن انظروا في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغزوا باسم الله، هدف القتال، قاتلوا عدو الله وعدوكم في الشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع في دور العبادة، ليسوا مسلمين لكنهم اعتزلوا الناس للعبادة، وهم على عقيدتهم الخاطئة في دور العبادة، فلا تعترضوا لهم أبداً، ولا تقتلوا امرأة، ولا صغيراً، ولا كبيراً فانياً، لا تغرقن نخلاً - إتلاف الممتلكات - ولا تقطعن شجراً، الإفساد في الأرض، ولا تهدموا بيتاً، هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لجيشه وهو متجه لحرب الروم.

ظلم كلمة الجهاد:
ظلمت كلمة الجهاد ظلماً مضاعفاً
والله أيها الأخوة؛ لا أعلم كلمة في تاريخ المسلمين ظُلمت كما ظُلمت كلمة الجهاد، ظُلمها مضاعف، ظلمها أعداؤها، وظلمها أهلها، أعداؤها ظلموها، وأهلها ظلموها، أهلها ظلموها يوماً عندما نزعوها من قاموسهم، ومن فكرهم، خوفاً من الغرب، وإرضاءً للأقوياء حتى يقبلوا بديننا، حذفوا كلمة الجهاد من المناهج، من الفكر، من التربية، من كل شيء، أصبحنا نخاف منها، جهاد! الله أكبر، حتى أراد الأب أن يسمي ابنه جهاداً يقول: لعله إذا خرج إلى الغرب لا يطيقونه، اسمه جهاد، خفنا منها فضعفنا وضعفنا وضعفنا حتى تمكن أعداؤنا منا.
ثم أراد البعض ممن يدعون أنهم مجاهدون أن يمارسوا الجهاد، وأن ينشئوا الدولة، وما إلى ذلك فظلموا الجهاد أكثر وأكثر، فالجهاد لم يُشرع في ذلك، فبرروا بمكرٍ من أعدائنا أن يستبيح الأعداء ديارنا باسم الجهاد، فظلمها أهلها حينما حذفوها، وظلموها حينما طبقوها اليوم بهذه الطريقة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكأن الجهاد بقطع الرؤوس باسم الله، واستباحة الديار الآمنة، وقتل المسلمين، قتلوا المسلمين باسم الجهاد.
أما أعداؤها فقد ظلموها ظلماً آخر، فأصبحوا يحاربون كل شيء في الإسلام بدءاً من الأخلاق، وانتهاءً بالتشريعات السياسية، يحاربون كل شيء في الإسلام باسم محاربة التطرف والإرهاب، فهم عندما يهدمون البيوت، ويبيدون مدناً بأكملها فوق رؤوس ساكنيها وبلاد العرب والإسلام دونكم، فهذا لا يخافون منه لأنه ليس اسمه جهاداً، هو حرب لمكافحة الإرهاب والتطرف، فتباد المدن، ويُقتل الناس، ويُقتل الأبرياء، وتهدم البيوت فوق ساكنيها، ونحارب التطرف والإرهاب، أما نحن إذا قلنا كلمة جهاد فقط، كلمة، يقال: أنت متطرف، فظلمها أهلها وظلمها أعداؤها على السواء، كما قلت لكم: والله لا أعلم كلمة ظُلمت ككلمة الجهاد.

أهداف الجهاد:
الجهاد أيها الأخوة واضح في كتاب الله لا يوجد فيه لبس أبداً، دققوا قوله تعالى:

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
[ سورة البقرة ]

قد يقول قائل: هذه الآية منسوخة يا شيخ، انتهى، الآن قاتلوا الجميع، لا يا أخي تابع الآية: (وَلَا تَعْتَدُوا) هل ينسخ قوله تعالى (وَلَا تَعْتَدُوا) فيصبح واعتدوا؟ حاشا لله (وَلَا تَعْتَدُوا) تابعوا الآية (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) هل ينسخ قوله تعالى إن الله يحب المعتدين؟ حاشاه تعالى أنه يحب المعتدين، حاشا لله.
هدف الجهاد الأول أن تقاتل من يقاتلك، لا أن تكون ضعيفاً، مهاناً، صاغراً أمامهم فقط.
الهدف الثاني:

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
[ سورة البقرة]

(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) هل أعظم من الفتنة التي نعيشها اليوم في بلاد المسلمين بربكم؟ الله تعالى يقول: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) حتى لا يفتن الناس عن دينهم، حتى لا يخرج الشباب من دين الله إلى الإلحاد، حتى لا يخرج الناس من دين الله لأنه دين تطرف وإرهاب (حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) وقعنا في الفتنة (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) حتى يدين أهل الأرض بما شاؤوا، حتى يعبدوا الله عز وجل كما شاؤوا، القتال في الإسلام والجهاد من أجل أن يأخذ كل إنسان دينه، ويعتنق دينه بالشكل الذي يريده، نحن نقاتل في سبيل الله من أجل أن يكون الدين لله.
القتنال في سبيل الله لكي يكون الدين لله
سأضرب مثالاً بسيطاً للتوضيح: هناك سوق في المدينة، يعرض بضاعة رديئةً، رديئة بسعر غال، وأنت جئت ومعك بضاعة جيدة جداً وبسعر معتدل، فقلت لهؤلاء أصحاب السوق، محتكري السوق: افتحوا لي مجالاً لأبيع بضاعتي، والناس إن شاؤوا اشتروا منكم، وإن شاؤوا اشتروا مني فقط، هذا هو الجهاد، فقالوا لك: لا، لن نفتح لك نحن نريد أن نبقي الناس تحت العبودية، ويشترون أسوأ بضاعة بأغلى سعر (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) سوف أدخل بضاعتي حتى يعرف الناس ما هو الإسلام، ويعتنقوا الإسلام إن شاؤوا.

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
[ سورة البقرة ]

حتى تكون الأمور واضحة، وبينة للجميع، نحن أيها الأخوة والله حينما نجلس هذا المجلس في هذا البلد الطيب، في هذا الأمن والأمان نسمع الأذان، نصلي الصلاة، كله حتى الآن بفضل 1400 سنة خلت، نُشر الإسلام في هذه البلاد لا بقوة السيف، وإنما بقوة الحجة والإقناع، لكن مع حديد يرهب الأعداء عندما يمنعون دخول دين الله إلى أي مكان ينبغي أن يدخله، نعيش الآن بركة هذه البلاد، نصلي اليوم بالمسجد، ونجلس معاً ببركة جهاد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الأخوة الكرام:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
[ سورة الحج ]

آية الجهاد، ثم يقول تعالى:

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
[ سورة الحج]

دور العبادة عند النصارى (وَبِيَعٌ) دور العبادة عند اليهود (وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) إذاً هذا الجهاد من أجل أن تبقى دور العبادة، من أجل أن يدين الإنسان بما شاء لربه، لا أن يجبره الطغاة على أن يترك دين الله، وأن يتحلل من القيم والأخلاق.

أحداث معركة مؤتة وقتال المسلمين المستميت للدفاع عن دينهم:
اجتمع مئتا ألف من الروم لحرب المسلمين
أيها الأخوة الكرام؛ مضى المسلمون في معركة مؤتة حتى نزلوا معان هنا في الأردن، في أرض الشام، الأردن من الشام، وأرض الشام أرض مباركة، نزلوا في معان وبلغهم أن هرقل قد نزل للقاء في مئة ألف مقاتل من الروم، واجتمع له مئة ألف من العرب غير المسلمين، وهم يتظاهرون ويتعاونون على إبادتنا في كل عصر ومصر، هم يجتمعون على حربنا، اجتمع مئتا ألف من الروم لحرب المسلمين، فلما بلغ ذلك المسلمون أقاموا ليلتين في معان يفكرون، فقال بعضهم نرسل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإما أن يمدنا بالرجال ثلاثة آلاف مقابل مئة ألف، أي سبعون ضعفاً، إما أن يمدنا بالرجال، أو يرى رأيه فينا، فجاء عبد الله بن رواحة فقال: يا قوم! والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون، أنتم ماذا تكرهون؟ تكرهون الموت؟ أنتم خرجتم من أجل الموت، من أجل الموت في سبيل الله، من أجل الشهادة في سبيل الله.

{ عن عروة بن الزبير رحمه الله: عن عبد الله بن رواحة قال: وما نقاتل الناس بعدد ولا بقوة ولا بكثرة إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنين إما ظهور وإما شهادة، قال عبد الله بن رواحة في مقامهم ذلك قال ابن إسحاق كما حدثني عبد الله بن أبي بكر: أنه حدث عن زيد بن أرقم قال: كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره فخرج في سفرته تلك مردفي على حقيبة راحلته ووالله إنا لنسبر ليلة إذ سمعته يتمثل ببيته هذا }

[ أخرجه الطبراني ]

الظهور على الأعداء، فقال الناس: صدق ابن رواحة، هذا الجيش الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التقى الجمعان في معركة حامية جداً، تخيلوا أخواني مئتا ألف مقابل ثلاثة آلاف، سبعون ضعفاً، فقاتل زيد بن حارثة ببسالة حتى استشهد، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فقاتل بها حتى قُطعت يمينه، فأمسكها بشماله فقُطعت شماله، فأخذها بعضديه ثم استشهد بعدها، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة، ولما وجد في نفسه تردداً قال:
عن عباد بن عبد الله بن الزبير رحمه الله:
يا نفسُ إلا تقتلي تموتي هذا حمامُ الموت قد صليت وما تمنيت فقدْ أعطيــــــت إن تفعلــــــــــــــــــي فعلهما هديت
{ أخرجه الطبراني }
فأخذ الراية فقاتل بها فقتل حتى استشهد، ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم، وكان في الجيش خالد بن الوليد، سيف الله، وقد مضى على إسلامه ثلاثة أشهر فقط، فقال ثابت لخالد: خذ الراية، قال: بل هي لك، أنت أقدم مني إسلاماً، وأقدم مني صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا والله ما أخذتها إلا لك، هو ثابت لا يهرب من القتال سيبقى في الصف الأول، لكنه يهرب من القيادة ويعطيها لمن يستحقها من غير أن يكون هناك عداوة وتنازع لأخذ الصف الأول، فأعطاه الراية، فاستطاع خالد بن الوليد بحنكته وخبرته العسكرية أن يقاتلهم، وأن يغير الخطة، ويغير الرايات، وقد نقول إن المعركة بذلك قد جاءها المدد، لأن الرايات تغيرت، رأوا رايات جديدة، فظنوا أن المدد قد جاء فتراجعوا، واستطاع خالد بن الوليد أن يعود بالجيش إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نعى صحابته قبل أن يبلغ النعي المدينة، نعاهم فوراً بإخبار الله تعالى له فقال:

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أَخَذ الرايةَ زَيد فأُصِيبَ، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بنُ رَوَاحةَ فأُصيبَ - وإِن عَيْنَيْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لَتَذْرِفَانِ - ثم أخذها خالدُ بنُ الوليد من غيرِ إِمْرة، ففُتحَ له }

[أخرجه البخاري والنسائي]

قالها وعيناه تذرفان من الدموع صلى الله عليه وسلم، قال: ثم أخذها سيف من سيوف الله، وهنا سمي خالد بسيف الله المسلول، ثم أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه.
الطعام يُصنع لأهل المتوفى
أيها الأخوة الكرام؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيت جعفر، وكانت زوجه قد عجنت عجينها، وخبزت خبزها، وأولاده يمرحون في صحن الدار، قال: ائتنِي بأولاد جعفر وبكى، قالت له: أبلغك عن جعفر شيء؟ قال: نعم، لقد أصيب اليوم، ثم قال: اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم، وهذه هي السنة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب تلك المعركة، أن يصنع الناس لأهل المتوفى طعاماً، لا أن نرهق أهل المتوفى بصنع الطعام، فالطعام يُصنع لأهل المتوفى، ويقدم لهم، ويُتركون بما يشغلهم.
ولما استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه، قال: احملوا الصبيان، وحمل هو ابن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، واستقبل صحابته العائدين من المعركة.
أيها الأخوة الكرام؛ والله لكأن تلك الأحداث عندما نرويها، ونتحدث بها، لولا أنها موثقة، ولولا أنه دين حق جاءنا بالنقل وبالسند لظن الناس أنها ضرب من الخيال.
كيف كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف دافعوا عن هذا الدين، وكيف نعيش نحن اليوم ببركة دفاعهم، لا تقلقوا على هذا الدين إنه دين الله عز وجل وهو ناصره لا محالة، ولكن ليقلق كل واحد منا على نفسه، هل سمح الله لنا أن نكون جنداً من جنوده أم لم يسمح.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع قريب مجيب للدعوات.
اللهم بفضلك عُمنا، وقنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والسنة توفنا، ونلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا، عليك اتكالنا.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر أخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآو غريبهم، واجعل لنا في ذلك سهماً عملاً متقبلاً يا أكرم الأكرمين.
اللهم انصر أخواننا المرابطين في المسجد الأقصى على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين.
اللهم انصر أخواننا المجاهدين في كل مكان، ووفقهم لما تحب وترضاه بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانتين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تعاملنا بفعل المسيئين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً، سخياً، رخياً، مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين.
وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد.
والحمد لله رب العالمين