نصر من الله وفتح قريب
نصر من الله وفتح قريب
الخطبة الأولى:
يا ربنا لك الحمد، مِلأ السماوات والأرض، ومِلأ ما بينهما ومِلأ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لِمَا أعطيت، ولا مُعطي لِمَا منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. |
الحمد لله على كل ابتسامةٍ افترَّ عنها ثغر امرئٍ في مشارق الأرض ومغاربها، فرحاً بزوال الطُغاة، واستبشاراً بمستقبلٍ أفضل لبلادنا. |
الحمد لله على فرحة كل أُمٍ وكل أبٍ التقيا بأولادهما بعد طول فراق. |
الحمد لله على فرحة كل معتقلٍ، جاءه فرَج الله من حيث لا يحتسب، ورأى نور الشمس بعد اشتداد الظلام. |
الحمد لله على فرحة كل شيخٍ، قدَّر الله له أن يرى سوريةَ، بلا هذا النظام الفاجر، بعد أن ظنَّ لأعوام ٍ طويلة، أنَّ ذلك من المُستبعدات. |
الحمد لله على فرحة كل شهيدٍ، قد لقيَ ربّه قبل أن يرى وعد الله، ولكن حسبه أنه قضى إلى ربّه، ثابتاً لم يُبدِّل ولم يُغيِّر، فهو حيٌّ عند ربّه يُرزق. |
الحمد لله على نعمة الرضا، التي نعُمَت بها أُمهات الشهداء والأرامل والأطفال، فأنزل الله على قلوبهم السكينة. |
الحمد لله على نعمة الثبات على الحقّ، والتبرّؤ من الباطل، رغم طول المحنة واشتدادها وآلامها. |
الحمد لله على نعمة الوطن السليب، عائداً إلى أهله، بعد سنوات السلب والنهب والفقد المؤلم. |
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(45)(سورة الأنعام)
والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، سيد الأولين والآخرين، القائل: |
{ كانت ناقةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تُسمَّى العَضْباءَ ، وكانت لا تُسبَقُ، فجاء أعرابيٌّ على قَعُودٍ له، فسبَق، فشَقَّ ذلك على المسلِمينَ، فقال: ما لكم؟ فقالوا: سُبِقتِ العَضْباءُ ، فقال: إنَّه حقٌّ على اللهِ عزَّ وجلَّ أن لا يرتفِعَ شيءٌ في الدُّنيا إلَّا وضَعه. }
(أخرجه البخاري)
صدقت يا سيدي يا رسول الله، فها قد وضع الله الظالمين، وهم في أوج قوتهم يقولون: |
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(15)(سورة فصلت)
وأرانا الله فيهم آياته، وفرَّح قلوبنا بزوال سطوتهم. |
على الإنسان أن يتذكر دائماً أن الله تعالى ناظرٌ إليه:
أيُّها الإخوة الأحباب: أيُّها الإخوة الأكارم، يقول ربنا جلَّ جلاله، في معرِض الحديث عن موسى وقومه: |
قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(129)(سورة الأعراف)
ولقد منَّ الله على أرض الشام المباركة، فأهلك عدوُّاً من ألدّ أعدائها، عاث فيها فساداً، وإجراماً، وظلماً، وسفكاً للدماء، لستين سنةً خلت، ثم استخلَفَنا من بعده، وهنا بدأت حكايةٌ جديدة عنوانها: |
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(14)(سورة يونس)
فتأمل معي قول الله تعالى: (لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) واستغرِق في التفكير، لتعلم مَن هو الناظر إليك، فإن علمت أن الله تعالى هو الذي ينظر، فما أحراك أن تتأدب وهو ينظر إليك، ما أحراك أن تدرس كل خطوةٍ من خطواتك، وكل سكنةٍ من سكناتك، وكل كلمةٍ من كلماتك، وكل فعلٍ من أفعالك، فإنَّ الناظر، هو الله. |
أيُّها الإخوة الكرام: إذا قيل لك إنَّ أباك ينظر كيف تعمل، فإنك تتأدب في حضرته لأنه والدك، وإن قيل لك إنَّ فلاناً من الخلق من ذوي الشأن والسطوة، ينظر إليك كيف تعمل، فإنك تُغيِّر وتُبدِّل حتى يأتي الفعل على ما يُحب الناظر، فكيف إذا كان الناظر هو الله جلَّ في علياءه؟! ماذا نعمل؟ كيف نعمل؟ ما المطلوب منّا؟ قال تعالى: |
الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ(41)(سورة الحج)
أول ما ينبغي فعله بعد النصر إحسان العلاقة مع الله تعالى:
فالمُمكَّن في الأرض بدأً من بيته الذي له فيه المكانة، وانتهاءً بالولاية العظمى، يجب أن تكون أمامه أربع مهماتٍ خطيرة: الأولى أن يُحسن علاقته بخالقه (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ). |
والثانية: أن يُحسن علاقته بالناس (وَآتَوُا الزَّكَاةَ) فهناك حركتان، حركةٌ عموديةٌ نحو الإله بالصِلة، وحركةٌ أفقيةٌ نحو الخَلق بالإحسان. |
فلا بُدَّ أولاً من أن نُحسن علاقتنا بالله، ونرمِّمها إن كان فيها نقص، وبعدها لا بُدَّ أن نُحسن علاقتنا بالناس، قال تعالى: |
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2)(سورة الكوثر)
للإحسان إلى خلقه، إحسان العلاقة بالله ثم إحسان العلاقة بخلق الله، يقول تعالى: |
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)(سورة النصر)
ما معنى أن يأتي الأمر هنا، بالتسبيح والتحميد والاستغفار ونحن في نشوة النصر؟ لأنَّ إحسان العلاقة بالله تعالى، هو أول ما ينبغي على الإنسان أن يفعله. |
إحسان العلاقة مع خلق الله تعالى هو بالعطاء المُطلق والتوقف عن الظلم:
أمّا حُسن العلاقة مع خَلق الله تعالى، فتكون بالعطاء المُطلق، ويُعبِّر عنها القرآن الكريم بقوله: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) بالعطاء والإحسان لخلق الله تعالى، وقبل العطاء والإحسان لا بُدَّ من كفِّ المظالم، ولا بُدَّ من التوقف عن ظلم الآخرين. |
قد أزاح الله تعالى عنّا ظلماً عظيماً، فهل أزحنا ظلماً داخلياً فيما بيننا؟ هل أعاد الأخ إلى أخته حقَّها المسلوب من ميراث أبيها؟ وهل أعاد الابن لأبيه حقَّه المسلوب بترك برِّه؟ وهل أعاد الأب لابنه حقَّه المسلوب بترك تربيته؟ لا بُدَّ أن نُعيد العلاقة على أساس رفع الظلم، وقد رفع الله عنّا الظلم الخارجي. |
أيُّها الإخوة الكرام: النبي صلى الله عليه وسلم جلس مع بعض أصحابه العائدين من الحبشة، فقال لهم: |
{ ألَا تُحدِّثونَ بأعجبِ شيءٍ رأيتُم بأرضِ الحبشَةِ؟ فقال فِتْيَةٌ منهم: يَا رسولَ اللهِ بينَا نحنُ جلُوسٌ إذْ مرَّتْ عليْنَا عجوزٌ مِنْ عجائِزِهِمْ تَحْمِلُ قُلَّةً مِنْ ماءٍ، فمَرَّتْ بِفَتًى منهُمْ فجعلَ إحدَى يدَيْهِ بينَ كتِفَيْها، ثُمَّ دفَعَها عَلَى رُكْبَتَيْها، فانكَسَرَتْ قُلَّتُها، فلَمَّا ارْتَفَعَتِ التَفَتَتْ فقالتْ: سوفَ تعلَمُ يا غُدَرُ إذا وضعَ اللهُ الكُرْسِيَّ، وجمَعَ الأوَّلينَ والآخرينَ، وتكَلَّمَتِ الأيْدِي والأرْجُلُ بما كانوا يَكْسِبونَ، أتعلَمُ أمري وأمرَكَ عندَهُ غدًا. فقال رسول اللهِ: صَدَقَتْ، كيف يُقَدِّسُ اللهُ قومًا لا يؤخَذُ لضَعِيفِهِمْ مِنْ قَوِيِّهِمْ؟ }
(الألباني مختصر العلو)
لا بُدَّ أن نرعى الضعفاء، لا بُدَّ أن نُعيد المظالم، لا بُدَّ أن نرفع الظلم فيما بيننا، حتى يُثبِّت الله هذا النصر المبين، ويجعل لنا في بلادنا خيراً وبركةً عميمة. |
بعد التمكين والنصر واجبٌ على المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وأمّا الأمر الثالث والرابع بعد التمكين في الأرض: (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) إنها الفريضة السادسة المُغيِّبة، فلا تكاد تجد من المسلمين من يجد معروفاً فيُقرُّه، أو يجد مُنكراً فينهى عنه إلا من رحم ربي، لا بُدَّ أن نعيد هذه الكلمة إلى الواجهة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق الضوابط الشرعية، نأمر بالمعروف بمعروفٍ، ولا ننهى عن منكرٍ يؤدي إلى منكرٍ أعظم منه. |
يجب أن نخرج من محراب الصلاة إلى محراب الحياة صفاً واحداً:
أيُّها الإخوة الأحباب: ما الذي نفعله في صفِّ الصلاة في جماعة المسجد، يجب أن نفعله في صفِّ الحياة والبناء تماماً، ألا تصلّون صلاة الجماعة؟ ألن نقف بعد قليلٍ في صفٍ واحدٍ لنؤدّي الجمعة؟ يجب أن نخرج من محراب الصلاة إلى محراب الحياة، كما كنّا في الصف، بالفكر نفسه. |
بادئ ذي بدء في صف الصلاة يقول تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) نحن معاً، نحن في صفٍّ واحد، ويقول صلى الله عليه وسلم: |
{ قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: صَلَاةُ الرَّجُلِ في جَمَاعَةٍ تَزِيدُ علَى صَلَاتِهِ في بَيْتِهِ، وَصَلَاتِهِ في سُوقِهِ، بضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَذلكَ أنَّ أَحَدَهُمْ إذَا تَوَضَّأَ فأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى المَسْجِدَ لا يَنْهَزُهُ إلَّا الصَّلَاةُ ، لا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ، فَلَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلَّا رُفِعَ له بهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عنْه بهَا خَطِيئَةٌ، حتَّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ، فَإِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ كانَ في الصَّلَاةِ ما كَانَتِ الصَّلَاةُ هي تَحْبِسُهُ، وَالْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ علَى أَحَدِكُمْ ما دَامَ في مَجْلِسِهِ الذي صَلَّى فيه يقولونَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ له، اللَّهُمَّ تُبْ عليه، ما لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، ما لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ. }
(صحيح مسلم)
لا شكَّ أن الأجر يزيد، صلاة الرجُل تزيد، تزيد في الأجر بلا شكّ، لكن هل هو الأجر فقط؟ الكلمة جاءت مطلقة، ما قال صلى الله عليه وسلم تزيد في الأجر، قال تزيد، هكذا مطلقة، فما الذي يزيد فيها؟ هو زيادةٌ في الأجر نعم، وزيادةٌ في التعاون، وزيادةٌ في وحدة الصف، وزيادةٌ في لقاء الإخوان، وزيادةٌ في الحُبّ والمودة والألفة، واجتماع القلوب على الله، تزيد في كل شيء، كل ذلك لأنك تقف مع أخيك في صفٍ واحد، وفي قرآننا سورةٌ خاصة هي سورة الصف، وفيها قوله تعالى: |
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ(4)(سورة الصف)
فتعالوا بنا إلى رحلةٍ سريعة في فقه الصف، ماذا نصنع في صف الصلاة؟ أولاً نلتزم الصف عند استقامته ونكمله، إذا دخلت إلى المسجد ووجدت الصف لم يكتمل فلا بُدَّ أن تقف في الصف، ولا يجوز لك أن تُحدِث صفاً جديداً ما لم يكتمل الصف الذي أمامك. |
أيُّها الإخوة الكرام: لا بُدَّ أن نزيد الصف ونمدَّه، لا يقولن قائلٌ أُصلّي وحدي بعيداً، لا بُدَّ أن تُصلّي في الصف، وفي صف المجتمع لا بُدَّ أن تقف في الصف، لا يجوز لك أن تُنشئ صفاً جديداً، أنت مع المجموع ما داموا على الحقّ، فنحن تبعٌ للمجموع نمدُّ الصف ونُكمله. |
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام الصدِّيق فقال لعمر رضي الله عنه: "ابسُط يدك نبايع لك، فقال عمر: يا أبا بكر أنت أفضل منّي، فقال أبو بكر: أنت أقوى منّي يا عمر، فقال عمر رضي الله عنه: فإن قوتي لك مع فضلك، يُكمّل بعضنا الآخر"، نُكمّل الصف، نمدّ الصف إذا استقام، ومن هنا يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رأى رجلًا يصلِّي خلفَ الصفِّ وحدَه فأمره أن يُعيدَ الصلاةَ، وقال: لا صلاةَ لمنفردٍ خلفَ الصفِّ. }
(مجموع فتاوى ابن باز صحيح)
ومن هنا كان العرب يقولون: " إذا عزَّ أخوك فهِن" إذا وجدت أخو قد اشتدَّ فلِن له، لا تشتد عليه إذا اشتدّ، لا يصحّ أن نكون منفردين، بل يجب أن تتعاون مع أخيك وأن تمدَّ له يدك، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم (رأى رجلًا يصلِّي خلفَ الصفِّ وحدَه فأمره أن يُعيدَ الصلاةَ) لا تكن خلف الصف، كن مع الصف، فإقامة الصف جزءٌ من إقامة الصلاة، وإقامة الصلاة جزءٌ من ديننا بل هي عماد ديننا، يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ أَقيموا الصفوفَ، و حاذُوا بين المناكبِ، و سُدُّوا الخَلَلَ، و لِينوا بأيدي إخوانِكم، ولاتذَروا فُرُجاتٍ للشيطانِ، ومن وصل صفًّا وصله اللهُ، و من قطع صفًّا قطعَه اللهُ }
(أخرجه أبو داوود وأحمد والطبراني)
لا بُدَّ أن نسدَّ الخلل ونملأ الفراغ لبناء المجتمع والحياة:
وأمّا النقطة الثانية في الصف، أننا نملأ الفراغ في الصف ونسد الخلل عند وجوده، فإذا دخلت إلى المسجد ووجدت فُرجةً في الصف فإنك تملؤها أليس كذلك؟ وكذلك في صف الحياة والبناء، وبناء الدولة وبناء المجتمع، إذا وجدت فراغاً في الصف فأملأه فوراً. |
أيُّها الإخوة الكرام: لأنَّ الشيطان يدخل من الفُرجة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سُدُّوا الخَلَلَ، و لِينوا بأيدي إخوانِكم، ولاتذَروا فُرُجاتٍ للشيطانِ، ومن وصل صفًّا وصله اللهُ، و من قطع صفًّا قطعَه اللهُ) ويقول يوسف عليه السلام كما في كتاب ربنا: |
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55)(سورة يوسف)
أُريد أن أسدّ الفُرجة، وجدت خللاً أُريد أن أسدَّه، ليس هذا الميدان ميدان التواضع أبداً، هذا ميدان التنافس في العمل، التواضع ليس ذهاباً وتركاً للعمل، لكنه عملٌ مع نفي العُجب والكِبر من النفس، لا بُدَّ من العمل، ولا بُدَّ أن يسدَّ كل منّا الخلل في الصف إذا وجده ووجد فيه مكاناً له. |
أيُّها الإخوة الكرام: خلاصة الأمر، إن كنت أميناً وتجد في نفسك الخبرة اللازمة لأداء المهمة، فبادر وسدَّ الخلل، ولا تذر في الصف فُرجةً يدخل منها الشيطان، أو يدخل منها شياطين الإنس الذين يريدون أن يعبثوا في الصف. |
يجب أن نقوِّم صفوف الحياة بالحكمة واللطف:
أيُّها الإخوة الكرام: وأمّا النقطة الثالثة في الصف، فإن وجدنا في الصف اعوجاجاً نقوِّمه بالحكمة والموعظة الحسنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ولِينوا بأيدي إخوانِكم) ما معنى (ولِينوا بأيدي إخوانِكم)؟ يعني إذا وجد أخوك أنك خارجٌ من الصف، فأمسك بيدك لتدخل فيه، فلِن في يده ولا تتشنج، فإنه يريد بك خيراً، يجب أيُّها الكرام، أن نقوِّم صفوف الصلاة، وكان النبي يقوِّمها كما يقوِّم صفوف المعركة، ولا بُدَّ أن نقوِّم صفوف الحياة، فإن وجدنا اعوجاجاً نقوِّمه بالحكمة، وإن كنت المقوَّم فلا تستنكف عن الاستجابة لأخيك (لِينوا بأيدي إخوانِكم) وإن رأيت اعوجاجاً فكن أنت المقوِّم له بحكمةٍ ولطفٍ ولين. |
كان بين عمر رضي الله عنه وبين رجُلٍ كلامٌ في شيءٍ فقال له الرجُل: اتقِ الله يا أمير المؤمنين، فقال رجُلٌ من الواقفين: أتقول لأمير المؤمنين اتقِ الله؟! فقال له عمر: دعه فليقلها نِعمَ ما قال، ثم قال عمر: "لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم"، نقوِّم الصف، نقوِّم الاعوجاج. |
أيُّها الكرام: في محصّلة الأمر نحن معاً في صفٍ واحد، في قاربٍ واحد، نتغاضى عن الجزئيات، ونتعاون على الكُليِّات، يعذر بعضنا بعضاً، وينصح بعضنا لبعض، أنت في الصلاة تستقيم مع أخيك في الصف، دون أن تسأله عن فكره أو مذهبه، هل وقف أحدكم يوماً في الصف وقبل أن يُكبِّر التفت إلى اليمين وإلى اليسار وسأله أعطني مذهبك العقديّ، ومذهبك الفقهيّ وتفاصيلك حتى أصطفّ معك؟! أم يقف كلٌّ منّا ويأخذ بالمناكب بين إخوانه؟ هكذا يجب أن نكون، نتعاون ونعذر بعضنا وننصح لبعضنا. |
منهجنا هو كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم:
أيُّها الإخوة الكرام: قدِم السائب بن الأقرع على عمر بن الخطاب يُبشره بنصر المسلمين في معركة نهاوند، فسأله عمر عن شهداء المسلمين، فعدَّ فلاناً وفلاناً من أعيان الناس ممن يعرفهم عمر، ثم قال وآخرون لا يعرفهم أمير المؤمنين، فجعل عمر يبكي ويقول: "وما ضرَّهم أن لا يعرفهم عمر؟ لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم بالشهادة، وماذا يصنعون بمعرفة عمر؟" |
وفي السنوات الماضية مات خلقٌ كثير في سبيل الله، ونُصرةً لأمتهم ودينهم، بعضهم سلَّط عليهم الإعلام الأضواء، وكثيرٌ منهم لا يعرفهم أحد، وما ضرَّهم أن لا نعرفهم؟ وما ضرَّهم أن لا يعرفهم أحد إن كان الله يعرفهم، عندما نقف في الصلاة وفي صف الصلاة نقف وفق منهج، هل منكم من يقف في الصف ولا يعلم المنهج الذي سيسير عليه الإمام؟ قراءة، ركوع، سجود، كلنا يعرف المنهج، واليوم لا بُدَّ أن نقف في الصف على منهج، وهو كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نقف على هوى، والهوى اليوم له أسماءٍ عدة، من أسماء الهوى اليوم العقل، نحن نتَّبِع العقل، من أسماء الهوى اليوم العلمانية، نحن علمانيون، نريد دولةً علمانية، يعني منسوبةً إلى العلم أم إلى ماذا؟ هي في تعريفهم احترام جميع الأديان هكذا يقولون، وفي الواقع هي الحرب على الإسلام والقيَم، فنحن عندما نقف في الصف يجب أن نقف على منهج، وهذا المنهج هو كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نتَّبِع الهوى. |
احفظوا منّي هذه الكلمات أيُّها الكرام: نحن في الصف، إن استقام الصف فأكمله، وإن كان فيه فراغٌ فأملأه، وإن كان فيه اعوجاجٌ فقوِّمه، هذه الكلمات الثلاث، أكمل الصف، وأملأ فراغه، وقوِّم اعوجاجه، في صف الصلاة، وفي صف المعركة، وفي صف المجتمع والبناء، هذه حاجتنا اليوم. |
أيُّها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطَّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني، وأستغفر الله. |
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ المتقين، وأُصلِّي وأُسلِّم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. |
اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صلَّيت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيد. |
وبعد أيُّها الكرام: قصتان رويتهما من على هذا المنبر قبل اثنتي عشرة سنة، واسمحوا لي أن أُعيدهما اليوم، لأنني أشعر أنَّ لهما اليوم طعماً آخر، غير الطعم الذي رويتهما به قبل اثنتي عشرة سنة. |
الأولى: يُذكَر أنَّ إنساناً كان يطوف حول الكعبة، ويقول يا ربّ اغفر لي ذنبي ولا أظنك تفعل، والعياذ بالله، فمشى وراؤه الإمام الشافعي، وقال يا هذا ما أشدَّ يأسك من رحمة الله، قال: ذنبي عظيم، قال: وما ذنبك؟ قال كنت جندياً في حملةٍ لقمع فتنةٍ، فلمّا قُمِعت أُحلَّت لنا المدينة بما فيها، فدخلت أحد البيوت، فرأيت فيه رجُلاً وامرأةً وطفلين، قتلت الرجُل، وقلت للمرأة أعطني كل ما عندك من مالٍ، أعطتني كل ما لديها، فقتلت ولدها الأول، فلمّا رأتني جادَّاً في قتل الثاني أعطتني درعاً من ذهبٍ، أعجبتني، تأملتها فإذا فيها بيتان من الشِعر: |
إذا جـار الأمـير وحاجبـاه وقاضي الأرضِ أسرف في القضاءِ فــويلٌ ثـمَّ ويـــلٌ ثـم ويـلٌ لقـاضي الأرض مـن قاضي السماءِ{ يعقوب بن يوسف الكوفي }
القصة الثانية:
في نكبة البرامكة، قال جعفرٌ لأبيه يحيى بن خالدٍ بن برمك، وهما في القيود والحبس، يا أبتِ، بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة، أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس، فقال له أبوه: يا بني، دعوة مظلومٍ سرت بليلٍ غفلنا عنها، ولم يغفل الله عنها، ثم أنشأ يقول: |
رُبَّ قومٍ قد غدوا في نعمةٍ زمناً والدهرُ ريَّان غدقْ سـكتَ الدهرُ زمـاناً عنـهمُ ثُمَّ أبكاهم دماً حين نَطَقْ{ محمد بن زياد الأعرابيّ }
وقد تحقق الوعد، وأبكاهم دماً حين نطق، وصدق الله ورسوله، وكذبوا كلهم، ليت الظالمين والطغاة يتعلمون الدروس ويعون التاريخ، ولكن هيهات هيهات، فهم أصغر من ذلك. |
الدعاء:
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توَلّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، اللهم إنّا نسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، اللهم إنّا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيُّك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيُّك محمد صلى الله عليه وسلم. |
اللهم اجعل بلدنا هذا أمناً سخاءً رخاءً مطمئناً، وأتم فضلك يا أكرم الأكرمين. |
اللهم كما أنعمت فزِد، اللهم كما أنعمت فتمِّم، اللهم كما أنعمت فتمِّم، اللهم وارضي علينا خيارنا، اللهم واجعل ولايتنا فيمن خافك فينا يا أرحم الراحمين، واجعلهم يا ربِّ رحمةً يا أكرم الأكرمين، ومكّنهم يا أكرم الأكرمين، من بسط الأمن والأمان في ربوع هذا البلد يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين اجعل هذا البلد مستظلاً بكتابك وبسُنَّة نبيَّك صلى الله عليه وسلم، أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل عصيانك، ويُذل فيه أهل الإجرام والطغاة يا أرحم الراحمين. |
اللهم كما فرَّحت قلوبنا بنصرك، ففرِّح قلوب أهلنا في غزَّة بفرَجٍ عاجلٍ يا أرحم الراحمين، اللهم فرِّج عنهم ما أهمَّهم وأغمَّهم، اللهم ثبِّت أقدامهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام اليهود، اللهم عليك بالصهاينة المعتدين المجرمين، ومَن والاهم ومَن وقف معهم ومَن أيَّدهم يا أرحم الراحمين، ربنا اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تعاملنا بفعل المُسيئين يا أرحم الراحمين، وصلٍّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. |