الاسراء و المعراج

  • 2018-04-06
  • عمان
  • مسجد الزميلي

الاسراء و المعراج


الخطبة الأولى:
يا ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذل في عزك؟ وكيف نضام في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمر كله إليك؟
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً.

عام الحزن عام تعدد المآسي على النبي الكريم:
وبعد يا أيها الأخوة الكرام؛ فقد جرت العادة أن يستذكر المسلمون في شهر رجب ذكرى الإسراء والمعراج، هذا على قول من قال: إن الإسراء والمعراج كان في شهر رجب وفي المسألة أقوال، ولا يعنينا متى كان الإسراء والمعراج بقدر ما يعنينا ما الدروس التي يمكن أن نستنبطها من رحلة الإسراء والمعراج، والذي عليه الجمهور أن الإسراء والمعراج كان بعد عام الحزن، بعد السنة العاشرة للبعثة، وكان قبل الهجرة، في السنة السادسة عشرة للبعثة.
تأثير عام الحزب في نفس النبي الكريم
عام الحزن أيها الأخوة سمي في السيرة بعام الحزن لما كان فيه من أحداث جسيمة أثرت في نفس النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ففي هذا العام فقد النبي صلى الله عليه وسلم السند الداخلي في بيته، فقد زوجه خديجة التي كانت تمده بسند داخلي إذا أوى إلى بيته، وفقد السند الخارجي فتوفي عمه أبو طالب، الذي كان يحميه من أذى قريش.
وفي عام الحزن أيضاً خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد أعرض أهل مكة عن دعوته فخرج من الطائف لعله يجد فيهم رجلاً رشيداً يستجيب لدعوته، ويدخل في دين الله عز وجل، فما كان من أهل الطائف إلا أن آذوا النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنهم أغروا صبيانهم به، حتى ضربوه بالحجارة، حتى شجت جبهته، وأثر الدم في قدمه الشريف.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم أوى إلى حائط، ودعا بدعاء أورده الطبراني في كتابه وإن كان في سنده ضعف ولكن متنه صحيح، قال صلى الله عليه وسلم يخاطب ربه ويناجيه:

{ عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: لما توفي أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ماشياً على قدميه يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه فانصرف فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وهواني على الناس أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله }

[ أخرجه الطبراني ]

أيها الأخوة الكرام؛ هذا العام بما فيه من مآسٍ متتابعة، جاءت بعده معجزة الإسراء والمعراج.

الإسراء والمعراج مسح لجراح الماضي وتسلية للنبي الكريم:
المعجزة تستحيل عادة لكن لا تستحيل عقلاً
بالمناسبة أيها الأخوة الإسراء والمعراج معجزة بلا شك، لكن المعجزة تستحيل عادة لكن لا تستحيل عقلاً، ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أننا اليوم لو أخبرنا إنسان أنه غادر من مكة إلى بيت المقدس ورجع في نفس الليلة، ألا نصدقه؟ غادر في الطائرة ورجع في الليلة نفسها في طائرة خاصة، هذا ممكن اليوم، فالمعجزة ليست مستحيلة في العقل، ولكن العادة تأباها، ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن للعادة أن تتخيل أن الإنسان يغادر ويعود في ليلة واحدة لمسيرة تحتاج أشهراً، من هنا عندما حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه صبيحة ليلة الإسراء والمعراج بما حصل معه فإن قريشاً كذبته، لكن الصديق رضي الله عنه قبل أن يسمع منه قال: إن كان قال فصدق، قالوا: تصدقه أنه ذهب وعاد في ليلة واحدة؟ قال: أصدقه بما يأتيني من خبر السماء، بوحي الله عز وجل، أفلا أصدقه بما يأتيني من خبر الأرض؟ ومن هنا سمي الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
أيها الأخوة الكرام؛ إذاً الإسراء والمعراج جاء بعد عام الحزن ليعلمنا دروساً ودروساً، ومن هنا قال الله تعالى بمطلع سورة الإسراء:

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
[ سورة الإسراء ]

الآن ختام الآية قد يتوهم متوهم للوهلة الأولى إن الله على كل شيء قدير، لأن الإسراء والمعراج معجزة بقدرة من الله عز وجل، لكن ختام الآية جاء: ( إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) أي قد سمع الله تعالى دعاء محمد صلى الله عليه وسلم في الطائف، ورأى حاله، وأبصر نداء قوله له، وما ذاق منهم فجاء الإسراء والمعراج مسحاً لجراح الماضي، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه الله تعالى أن اليسر مع العسر، وأن النصر مع الكرب، وأن الفرج مع الهم والغم.

الحياة الدنيا مبنية على الابتلاء:
أيها الأخوة الكرام؛ المؤمن مبتلى، وله من نبي الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، كما في الحديث الصحيح:

{ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس بلاء؟ قال: النبيون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه إن كان صلب الدين اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء على العبد حتى يدعه يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة }

[أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم ]

يكفر الله عن خطاياه بالابتلاء
يكفر الله عن خطاياه بالابتلاء، فإذا ابتلاك الله عز وجل القول الأمثل قول صلى الله عليه وسلم: (غير أن عافيتك أوسع لي) لا تطلب الابتلاء، اطلب العافية، لكن عافيتك يا رب أوسع لنا، لا نريد إلا العافية، لكن الحياة بنيت على الابتلاء.

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
[ سورة الملك]

إذاً لم يكن هناك حياة، ولا موت، ولا لقاء الله عز وجل من غير ابتلاء، هذه الدنيا، من هنا الإمام الشافعي رضي الله عنه سُئل: أندعو الله عز وجل بالابتلاء أم بالتمكين في الأرض دون ابتلاء؟ فكانت إجابته رائعة رحمه الله، قال الشافعي: لن تمكن قبل أن تبتلى، ادعُ ما شئت، لن يحصل التمكين، ويكون لك تمكين في الأرض إلا بعد ابتلاء تصبر عليه، وتنجح فيه.
كما أنك تقول في الجامعة: هل أريد النجاح أم الدراسة؟ فيقول لك مدير الجامعة: لن تنجح قبل أن تدرس، فالدراسة أصل لأن تنجح، والابتلاء أصل لتمكن في الأرض.
إذاً أيها الأخوة الكرام؛ إذا ابتلى الله إنساناً:

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
[ سورة البقرة]

وغير ذلك من أنواع الابتلاءات فليعلم أن هذه حقيقة الحياة الدنيا، وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ثم يأتي بعد ذلك التمكين، فالنبي صلى الله عليه وسلم عاش عام الحزن بأكمله، صبر، وشكر، وصبر على أذى قومه بعد أن آذاه أهل الطائف جاءه ملك الجبال قال:

{ عن عائشة رضي الله عنها: قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أَتَى عليك يوم كان أشدَّ مِنْ يوم أُحُد؟ قال: لقد لَقِيتُ من قومك. وكان أشَدَّ ما لقيت: يوم العقَبة؛ إِذ عَرَضْتُ نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كِلال. فلم يُجبني إِلى ما أردتُ. فانطلقت وأنا مهموم.على وجهي. فلم أستفق إِلا وأنا بقَرْن الثعالب. فرفعت رأسي. فإِذا أنا بسحابة قد أظلَّلتني. فنظرت فإِذا فيها جبريل. فناداني. فقال: إِنَّ الله قد سمع قولَ قومِكَ. وما ردُّوا عليك. وقد بعثَ إِليك مَلَكَ الجبال لتأمر بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال. فسلَّم عليَّ. ثم قال: يا محمد. إن الله قد سمع قولَ قومِكَ. وأنا مَلَكُ الجبال. وقد بعثني ربُّك إِليك لتأمرني بما شئت. إنْ شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرِجَ الله من أَصلابهم مَنْ يَعبد الله وحده لا يُشْرِكُ به شيئاً }

[أخرجه البخاري ومسلم]

يا محمد إن الله أمرني أن أكون طوع أمرك، لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين، والأخشبان هما جبلان في الطائف، أي لو أطبق عليهم الأخشبين اليوم لا يوجد طائف، مدينة الطائف كلها غير موجودة، تنتهي بلحظة واحدة، كن فيكون، لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين، قال: لا يا أخي، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون، عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله ويعبده، دعا لهم بالهداية، واعتذر عنهم، فإنهم لا يعلمون، وسأل الله عز وجل أن تكون ذريتهم كما يحب الله ويرضى، هذه هي النبوة، هذه أخلاق النبوة.
بعد هذا الموقف العظيم منه صلى الله عليه وسلم جاءته رحلة الإسراء والمعراج فرفعت عنه الكرب، وأزالت عنه الهم، وأعلنت أنه سيد بني آدم، وارتقت به إلى أعلى عليين: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ).

الوصول للعبودية لله تعالى:
العبودية أعلى مرتبة في حياة الإنسان
أيضاً من مقام هذه الآية أيها الأخوة؛ قد يقول قائل: لِمَ لم يقل الله تعالى: سبحان الذي أسرى برسوله وهي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم؟ لماذا لم يقل: بنبيه؟ لماذا قال: بعبده؟ ليعلمنا أن أعلى مكانة يمكن أن تبلغها في حياتك أن تتحقق بمقام عبوديتك لله عز وجل، أن تكون عبداً لله، فالعبودية أعلى مرتبة في حياة الإنسان، فإن كنت عبداً لله عز وجل فقد بلغت مقاماً علياً عند الله تعالى، وليست العبودية بمعنى الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج كما يفهم بعض المسلمين، لكن العبادة اسم جامع لكل ما فرض الله من الأقوال والأعمال، فعملك عبادة، ودراستك عبادة، وسعيك في الأرض عبادة، وكل عمل يوافق منهج الله وتبتغي به وجه الله هو عبادة إلى الله.

الدروس التي تعلمناها من الإسراء والمعراج:
1 ـ باب السماء مفتوح لكل عبد من عباد الله عز وجل:
أيها الأخوة الكرام؛ الإسراء والمعراج يعلمنا أنه إذا أغلقت أبواب الأرض فتحت أبواب السماء، فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم عاداه قومه وآذوه، ولم يبقَ له منفذ في أهل الأرض ذهب من مكة إلى الطائف فلقي أشد مما لقي في مكة عندها فتحت أبواب السماء.
وأنت أيها المؤمن لك من الإسراء والمعراج نصيب، فإذا أحاطت بك الهموم، وألمت بك الخطوب، وضاقت عليك الدنيا بما رحبت، فإن الباب الذي لا يغلق هو باب السماء، وهذا الباب أيها الأخوة دائماً هو مفتوح لكل عبد من عباد الله عز وجل، فارفع كفك إلى السماء وقل: يا رب، وأبواب السماء مفتوحة لا تغلق.

2 ـ الله تعالى هو الآمر والضامن والحافظ:
أيها الأخوة الكرام؛ إن الإسراء والمعراج يعلمنا أنه ما دام الله تعالى هو الآمر فهو الحافظ والضامن، ما معنى ذلك؟ الله تعالى أمرك بأمر فهو الذي يضمن لك ويحفظك إن طبقت هذا الأمر، ولو عاداك أهل الأرض فيه، فما دام الله هو الآمر فهو الحافظ والضامن، هو من أمرك أن تربي أولادك على منهج الله عز وجل، هو من يحفظهم لك ويحفظك لهم، هو الذي أمرك ألا تأخذ قرشاً من حرام هو الذي يرزقك، هو الذي أمرك أن تغض بصرك عن محارم الله، هو الذي يزوجك، هو الذي أمرك أن تتفوق وتعمل وتسعى، هو الذي يحقق لك المراتب العالية، مادام الله هو الآمر فهو الحافظ والضامن.
مادام الله هو الآمر فهو الحافظ والضامن
أستاذة اليقين هاجر زوج سيدنا إبراهيم عليه السلام، لما أسكنها وابنها بوادٍ غير ذي زرع لا ماء، ولا طعام، ولا شيء، ثم وضعها ومضى، فلما بلغ عند الثنية، قالت له: يا إبراهيم إلى من تكلنا في مكان لا نبت فيه ولا شيء؟ وحدنا، إلى من تكلنا؟ فلم يرد، ولعله خشي كما يقول كتّاب أو شُراح الحديث خشي أن يدير وجهه، وقد امتلأت عيناه بالدموع، فهو يغادر ابنه الرضيع، وزوجته في صحراء قاحلة، فلم يلتفت، حتى لا تنازعه نفسه بتنفيذ أمر الله، فقالت له زوجته هاجر:

{ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: قال: وما كنت تتحدّث؟. قال: كنا نقول: إِن إِبراهيم عليه السلام حين جاء عَرضت عليه امرأةُ إِسماعيل النزولَ، فأَبَى أن ينزلَ فجاءت بهذا الحجَر، فقال: ليس كذلك '. من هاهنا ذكر البخاري عن أيوب، وكثير عن سعيد بن جبير، قال ابن عباس: ' أول ما اتخذتِ النِّساءُ المِنْطَق: من قِبَل أُمِّ إِسماعيل اتخذت مِنْطَقا لِتُعفّي أثرها على سارَة، ثم جاء بها إِبراهيم وبابنها إِسماعيل، وهِيَ تُرضعه حتى وضعها عند البيت، عند دَوحَة فوق زمزمَ في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أَحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك، ووضع عندهما جِرابا فيه تمر، وسِقاء فيه ماء، ثم قَفَّى إِبراهيم مُنْطلقا فتَبعَته أمُّ إِسماعيل، فقالت: يا إِبراهيم، أين تذهبُ وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟، فقالت له ذلك مِرَارا، وجعل لا يلتفت إِليها، فقالت له: الله أمركَ بهذا؟ قال: نعم. قالت: إِذن لا يُضيِّعنا }

[أخرجه البخاري ]

إذاً لا يضيع، لأن الله أمر فهو الذي يحصل، حاشاه أن يأمرك بأمر ثم يضيعك إن طبقت الأمر، مستحيل! تقول: كيف أحصل على مال إلا من قرض ربوي؟ الله أمرك ألا ترابي هو الذي يحفظك، وهو الذي يعينك على نفسك ولو طال الأمر، ما دام الله هو الآمر فهو الحافظ والضامن.
جليبيب صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في وجهه دمامة، قبح في الصورة، وفقر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم يوماً: ألا تتزوج يا جليبيب؟ قال: ومن يزوجني يا رسول الله؟! قال: أنا، أتتزوج إن فعلت؟ قال: نعم، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يبحث عن زوجة لجليبيب، إلى أن جاءه رجل من الأثرياء، من أثرياء المدينة، قال: يا رسول الله إني أريد أن أزوج ابنتي، فقال له صلى الله عليه وسلم: أنا أخطبها، فظن الرجل أن النبي سيخطبها لنفسه، قال: نعم، ونعمين برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولكن ليس لنفسي أريدها، قال: لمن تخطبها؟ قال: لجليبيب، قال: جليبيب! قال: نعم، فقال: إذاً استأذن أمها، أي أطلب المشورة من أمها، وهذا ليس عيباً وليس حراماً، هي ابنتها كما هي ابنتي، دخل إلى أمها، قال: إن رسول الله يخطب إليك ابنتك، قالت: زوّج رسول الله، نعم لرسول الله، قال: ليس لنفسه يريدها، قالت: لمن؟ قال: يريدها لجليبيب، قالت: جليبيب؟ لا والله، لا أزوجها جليبيباً، وقد منعناها فلاناً، وفلاناً، جاءنا من هو أفضل منه، وما زوجناها.
موطن الشاهد هنا، البنت خلف الستر تسمع الحديث بين والديها، صرخت بأعلى صوتها من خطبني إليكما؟ من الخاطب؟ قالا: رسول الله، قالت: وتردان أمر رسول الله؟ ادفعا بي إليه فإنه لن يضيعني، ثم تلت قوله تعالى:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً (36)
[ سورة الأحزاب ]

زوج النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفتاة لجليبيب، ودعا لهما فقال: اللهم صب عليهما الخير صباً، ولا تجعل عيشهما كداً كداً، وبعد أسبوع أو أسبوعين من الزواج دعا داعي الجهاد، فخرج جليبيب ليجاهد في سبيل الله، وبعد انقضاء المعركة جلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه قال: من تفقدون؟ قالوا: لا نفقد أحداً، قال: لكني أفقد جليبيب، قوموا بنا إلى أرض المعركة، فوجده في أرض المعركة وقد استشهد، وحوله سبعة من المشركين قد قتلهم فانحنى إليه صلى الله عليه وسلم، ورفعه على تلك يديه، وقبّله من جبهته وقال: يا جليبيب أنت مني وأنا منك، يقول أنس بن مالك راوي الحديث: فوالله لقد حفرنا قبر جليبيب، وماله فراش غير ذراع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ما بقي واحد منا إلا وتمنى أن يكون مكان جليبيب، وأدخله صلى الله عليه وسلم إلى القبر، ثم يقول راوي الحديث أنس رضي الله عنه: أما زوجة جليبيب فما إن قضت عدتها حتى خطبها رجل من أثرياء المدينة، فوالله ما وجدنا أيماً في العرب أنفق منها وأسرع زواجاً في المدينة، وكسبت زوجة جليبيب طاعة رسول الله، وكسب جليبيب بركة طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ادفعا بي إليه فإنه لا يضيعني، هذا هو موطن الشاهد.
ما دام الله هو الآمر فهو الحافظ والضامن، لا تخش شيئاً مع الله، نفذ أمر الله وانتظر الخير من الله عز وجل.

{ عن مالك بن أنس رحمه الله بلغَهُ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: استقيموا ولن تُحْصُوا، واعلموا أنَّ خيرَ أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن }

[ أخرجه مالك]

قال بعض شراح الحديث: ولن تحصوا الخيرات التي سوف تأتيكم من نتائج استقامتكم على طاعة الله تعالى.

3 ـ الصبر والثبات:
أيها الأخوة الكرام؛ الإسراء والمعراج يعلمنا أنه لولا الصبر والثبات ما عبد رب الأرض والسماوات، فهذه البركات التي نعيشها اليوم، ووجودنا في هذا المسجد اليوم إنما هو خير وبركة من ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام على منهج الله عز وجل حتى نشروا الإسلام في بقاع الأرض.

4 ـ اليسر مع العسر والنصر مع الصبر والفرج مع الكرب:
الإسراء والمعراج يعلمنا أن اليسر مع العسر، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب.

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)
[ سورة الشرح ]

ولم يقل تعالى إن بعد العسر يسراً، لأن بذور اليسر موجودة في داخل العسر الذي تراه عسراً هو يهيئ لليسر أن يأتي بعده لحكمة الله عز وجل.

5 ـ أمانة المسجد الأقصى:
وأخيراً: الإسراء والمعراج يذكرنا نحن المسلمين بواجبنا تجاه المسجد الأقصى المبارك الذي فتحه عمر، وحرره صلاح الدين، واستباحه اليوم الصهاينة المعتدون، بعد أن هان أمر الله على المسلمين فهانوا على الله.
يعلمنا أن هذا المسجد أمانة في رقابنا جميعاً، فكان من الممكن أن يعرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء من مكة.

وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
[ سورة إبراهيم ]

المسجد الأقصى أمانة في رقابنا
ولكنه أراد أن يسرى به صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ليرينا منزلة هذا المكان، ولو اعتصمنا بكتاب ربنا لكان هذا المسجد بأيدينا نصلي فيه، ونعبد الله عز وجل، وكيف الله عز وجل جعله مقياساً لالتزام هذه الأمة بربها، ففي التاريخ يوم كان المسلمون أقوياء، متمسكين بأمر ربهم كان المسجد الأقصى بيدهم، فلما انحرفوا عن منهج الله عز وجل كان ما كان، ولكن لله الحمد والمنة في هذا المسجد أخوة من المرابطين الذين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، واقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، لك الشكر على ما أنعمت وأوليت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم بفضلك عُمنا، وقنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، ارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، وأنت أرحم الراحمين.
اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى نستحق أن تنصرنا على أعدائنا.
اللهم انصر أخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآو غريبهم، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل عليهم من البلاء.
اجعل اللهم هذا البلد آمناً، سخياً، رخياً، مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين.
ووفق اللهم ملك البلاد لخير البلاد والعباد.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
[ سورة النحل]

أقم الصلاة، وقوموا إلى صلاتكم.
والحمد لله رب العالمين