مواجهة موسى عليه السلام لفرعون

  • الدرس الثامن- شرح الآيات 35 - 40
  • 2019-04-26

مواجهة موسى عليه السلام لفرعون

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين.


انتقال موسى من حياة يعيشها مع فرعون إلى حياة فيها تأمل ومسؤولية :
مع اللقاء الثامن من لقاءات سورة القصص ومع قوله تعالى في الآية السادسة والثلاثين:

فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ
(سورة القصص:الآية 36)

في اللقاء السابق وصلنا إلى أن موسى عليه السلام قضى الأجل عشر سنوات، عشر حجج، ثم سار بأهله، حصل لقاء تاريخي، أي لقاء يسجله التاريخ، هناك لقاءات تاريخية اليوم ليس لها معنى إلا أن لها تاريخاً! حصل بتاريخ كذا، لكن اللقاء التاريخي هذا؛ سميته لقاءً تاريخياً بإحدى خطب الجمعة لأن التاريخ سجله بأحرف من نور، هذا اللقاء بين موسى عليه السلام العبد المخلوق والخالق جل جلاله، في هذا اللقاء تحمَّل موسى الرسالة، وتحدثنا كيف خطا ربنا عز وجل بموسى عليه السلام خطوات حتى وصل إلى حمل الرسالة، موسى عليه السلام يعيش في قصر فرعون، رُبِّيَ في قصر فرعون، يعيش حياة الترف، واطلب تعطَ إن صح التعبير، أراد الله عز وجل أن ينتقل موسى عليه السلام إلى حالة رعي الغنم فأصبح أجيراً، وقلنا: كلمة أجير ليست ذمّاً وإنما وصف شرعي، فكل إنسان يعمل عند آخر يسمى أجيراً شرعاً، فأصبح أجيراً عند هذا الرجل الصالح، الذي هو في أغلب الروايات شعيب عليه السلام، تزوج ابنته، عاش حياة مختلفة، انتقل من حياة يعيشها مع فرعون إلى حياة فيها تأمل، لأن رعي الغنم يحتاج دائماً إلى تأمُّل، فيها تعامل مع مخلوقات ضعيفة تعطي النفس شيئاً مختلفاً، وفيها تحمّل مسؤولية، الآن هو عائد، انتهت مرحلة الإعداد وبدأت مرحلة التكليف، فكلفه الله تعالى بحمل الرسالة إلى فرعون، طلب من الله العون فأمده بأخيه هارون، قلنا: بقي هارون هاروناً وبقي موسى موسى، أي لا يمنع أبداً أن تستعين بمن هو دونك أو بمن هو فوقك في العلم، أو في المرتبة، فهذا دأب الصالحين، وقال في نهاية الآية: (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا) أي حماية الله لأوليائه (فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ).

المؤمن مقيّد منضبط :
الفجوة تترك للخيال مساحة
الآن (فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا) هنا انطوت صفحة، وقلنا من أسلوب القرآن القصصي أن يكون هناك فجوات في القصة، وهذا الأسلوب متبع بأعظم الروايات والقصص، هو الفجوة، الفجوة تترك للخيال مساحة، وتلغي الطول المملَّ، وتلغي الفقرات التي لا تتناسب مع الهدف من عرض القصة، الفجوة لها عدة أهداف، فهنا يوجد فجوة، حمل الرسالة وتابع طريقه ووصل، كيف دخل إلى المدينة وهو خرج منها مطارداً؟ كيف دخل؟ من استقبله؟ ماذا حدث عندما رأوه؟ لا تضيف شيئاً للقصة وتتركها لخيال المستمع، وهذه الفجوة تجعل عنده صدمة، أي أغلق الستار صعدنا لمرحلة جديدة، المرحلة الجديدة (فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ)، (بَيِّنَاتٍ) أي واضحات ظاهرات لا تحتاج إلى تأويل، لا تحتاج إلى نظر بعمق، واضحة، الآية واضحة من الله، الآيات هنا بمعنى العلامات (فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى)، بشكل عام المنحرف، أو البعيد عن الله عز وجل، أو الكافر، أو المشرك، المساحة التي يأخذها بحكم عدم إيمانه بوجود إله يحاسب ويعاقب مساحة واسعة.
الآن إذا أتيتُ بك وأنت شاب مؤمن، وأتيت بشاب لم يُدخل الإيمان بحساباته نهائياً، لا يفكر بالإيمان نهائياً، وكتبت قائمة بمئة شيء لك وله، وقلت لك: الذي تستطيع فعله ضع إشارة صح أمامه، هو من دون تفكير يضع إشارة صح على كل شيء، ويمكن أن يضع إشارة صح على الورقة كلها من الأعلى، ويقول: أفعل كل شيء، أي إذا قلت له: هناك عملية غش واحصد منها مئة دينار، يفعلها، كُلْ، يفعلها، انظر إلى الحرام، يفعلها، هو ليس عنده مشكلة، لا يوجد عنده قيود لممارساته، أنت تقول لي: هذه أفعلها لا يوجد بها شيء، ولكن هذه لا أستطيع فعلها، وهذه لا أستطيع أن أفعلها، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:

{ الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْكَ ولا يَفْتِكُ مؤمِنٌ }

(أخرجه أبو داود في سننه بسند صحيح)

المؤمن عنده قيود
المؤمن عنده قيود، فالمؤمن مقيّد، لذلك الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، يجب أن نعترف أننا مقيّدون، وهذا القيد ليس عبئاً، هذا وسام شرف لك، عندما تقول: أنا مقيّد، الحركة عندي محدودة بزاوية محددة، لا أتحرك مئة وثمانين درجة أنا عندي، ستون درجة حركة والباقي حرام، فعندك انضباط.

إنكار أصحاب فرعون ما جاء به موسى لأنه سيعارض ما يتوهمونه مصلحةً :
المصلحة في الشرع
الآن (فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا) فوراً (قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى) فردة الفعل ليست ناتجة عن أن الآيات غير ظاهرة، وليست ناتجة عن أن الحجة ليست بالغة، ولكن ناتجة عن أنّ هؤلاء إن قالوا: إن هناك إلهاً سيحاسب وسيعاقب فهذا سيحجزهم عن إيذاء الناس، كان رجال القصر جالسين مع فرعون يستعبدون الناس باسم آلهتهم المزعومة، يأكلون ما يحلو لهم، ويشربون ما يحلو لهم، ويقترفون ما يحلو لهم، شهوات المال، شهوات النساء، كله مباح (فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ) أنت تتخيل يجب أن يقولوا: آمنّا، لأن الآيات واضحة، وردة الفعل غير متوقعة، ما سبب ردة الفعل غير المتوقعة؟ أن الآيات البينات ستلزمهم بشيء بعدها، الآن سامحوني بهذه الفكرة التي سوف أقولها لا أعنيها تماماً لكن أريد أن أفعل صدمة بها: كفار قريش و مشركو قريش واضحون وصريحون أكثر من بعض المؤمنين اليوم، كفار قريش علِموا أن التزامهم بالمنهج، وإيمانهم بما جاء في كتاب الله، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يمنعهم عن مصالحهم الشخصية المتوهمة فلم يؤمنوا، أما بعض المؤمنين ممن عندهم شيء من النفاق فماذا تريد؟ تريد أن أؤمن؟ يؤمن ولا ينفذ شيئاً، ذلك الكافر أوضح منه، هل فهمت مقصدي؟ مثلاً أنا يوجد عندي طالبان، طالب قلت له: ادرس، قال لي: لا أريد أن أدرس، والطالب الآخر قلت له: ادرس، قال لي: على عيني أستاذ، أنا الذي أدرس، أنا بأمرك، والاثنان ذهبا ووضعا رأسهما وناما، بالنسبة لي أي شخص أوضح؟ الذي لا يريد أن يدرس، فهؤلاء (فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى) أنكروه فوراً لأنه يعارض مصالحهم المتوهمة، لماذا أقول المتوهمة؟ لأن المصلحة في الشرع، لا يوجد مصلحة خارج الشرع، أنت إذا قلت لي: والله أنا أرى مصلحتي في هذه الصفقة، ولو كان فيها ربا، أنا أقول لك: هذه الصفقة ليست من مصلحتك، مصلحتك أن تترك الصفقة، أما أنت فتوهمت أن مصلحتك في شيء، لكن يستحيل أن تكون المصلحة فيما يخالف شرع الله، ثَمَّ شرع الله ثَمَّ المصلحة، تجد المصلحة حيث الشرع والشريعة، نعم، فالآن هؤلاء أنكروا، إنكارهم ليس نابعاً من ضعف الحجة، وليس نابعاً من أن موسى لم يستطع أن يقنعهم، لا، أبداً، لأن ربنا عز وجل قال لهم: (بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) فالحجة بالغة:

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ
(سورة الأنعام: الآية 149)

لكن فوراً (سِحْرٌ مُّفْتَرًى) لأنه سيعارض ما يتوهمونه مصلحةً، (مُّفْتَرًى) أي مكذوب، الآن لماذا قالوا: سحر؟ لأنهم يعرفون السحر، أي هم وجدوا أنسب شيء أن يواجهوه بدجلهم وكذبهم، هم مقيمون على السحر، ويعرفون السحر، ويعرفون فنونه، فأرادوا أن يقنعوا الناس بأنه سحر من خلال ما هم يعلمونه، (قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى) هذه أول حجة، اتهام باطل، واجه الآية الواضحة البينة الظاهرة بتهمة جاهزة معلبة مباشرة، الحجة الثانية لهم قالوا: (وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) انظر إلى ضعف التفكير، أقول لك مثلاً: هذا الأمر جيد، تقول لي: أبي لم يفعله، ولو لم يفعله والدك لكن هو جيد، بمعنى هل أبوك فعل كل الخير وانتهى عن كل الشر؟ كحجة هذه ليست حجة (وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) وهل آباؤكم الأولون إقرارهم الشيء يعني أنه صواب وتركهم الشيء يعني أنه خطأ؟! إذاً حجة ضعيفة جداً أمام الآيات البينات، انظر إلى الآيات البينات ثم قابلها بهذه الحجج الواهية (قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى) ادعاء لا يوجد له أي دليل، أنا أعطيك علامات بينات واضحات، وأنت تواجهني بأننا لم نسمع بهذا في آبائنا الأولين!

مداخل الشيطان على الإنسان :
ماذا قال الشيطان؟

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
(سورة الأعراف:الآية 17)

مداخل الشيطان على الإنسان
انتبهوا قال: (لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) قال العلماء: (مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) بحجة العصرنة والحداثة، أي كيف يأتيك الشيطان من بين يديك؟ يقول لك: الماضي الآن انتهى، وهذه الأحكام لم تعد لهذا الزمان، هذه الأحكام نزلت في وقت محدد، وزمان محدد، ومكان محدد، لكن اليوم إذا لم نتعامل بالربا لا يوجد حياة، لا يوجد مجتمع، هذه (مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ)، (مِنْ خَلْفِهِمْ) نحن لم نتربَّ على هذا، نحن تربينا أن نجتمع معاً على مائدة واحدة رجالاً ونساءً، نحن تربينا أن نقيم الطعام على الجنائز بعد مضي أربعين يوماً، عاداتنا وتقاليدنا هذه (مِنْ خَلْفِهِمْ) يذكره بالماضي، هل الماضي صحيح؟ فيه الصح وفيه الخطأ، (وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) يدخله أثناء صلاته، أثناء عبادته، أي يأتيك الشيطان وأنت في عبادة يوسوس لك، صحت الصلاة، لم تصح، الفاتحة فيها أربع عشرة شدة أنت نطقت ثلاث عشرة شدة! فصلاتك باطلة! هذه عَنْ أَيْمَانِهِمْ، وَعَن شَمَائِلِهِمْ ذنوب ومعاص، لكن ما قال: من فوقهم، لأن فوقهم مع الله، وإذا كنت مع الله لا يوجد شيطان، لا يدخل، وما قال: من تحتهم، لأن هذا باب الانكسار لله تعالى، أربع جهات، يوجد معك جهتان مفتوحتان: الالتجاء والتضرع، الانكسار والمناجاة. (وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ):

وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
(سورة القصص: الآية 37)


إغلاق الحوار مع المتأول لأن حواره عقيم :
الحوار يكون ضمن المسألة المعالجة
موسى عليه السلام أعطوه حجتين؛ لكن أحياناً بعض الكلام من ضعفه لا يستأهل أن ترد عليه، أو لا تجد من العبارات ما يرد عليه، بمعنى إذا قلت لشخص: ينبغي أن تكون مؤمناً، فقال لي: لكن أبي لم يكن مؤمناً، انقطع النقاش، انتهى، إذا قال لي: أنا لا أرى إلهاً حتى أؤمن به، أو أنا لست مقتنعاً بمفردات الإيمان، اجلس لنتحاور، بمعنى عندما يدخل بضمن نطاق المسألة المعالجة إذاً هناك حوار، لكن إذا أتى بشيء غريب قال لي: أبي لم يكن مؤمناً، إن رددت عليه أنا عملياً أُسَفِّه نفسي، لأن الحجة غير صحيحة، فمن وهن حججهم لم يواجههم موسى، ولم يكمل الطريق معهم، مثل إبراهيم عليه السلام مع النمروذ:

إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ
(سورة البقرة:الآية 258)

هذا مُتأوِّل، انظر حجته أقوى من حجة هؤلاء، حجة تأول، بمعنى أنا ملك آمر في قتل شخص فيقتلونه، وآمر بالعفو عنه فيعفون عنه، إذاً أنا أحيي وأميت، إبراهيم كان يستطيع أن يقول له: إن الحياة والموت التي يفعلها الإله ليست مثل التي تفعلها أنت، فالله عز وجل يحيي من عدم، ويميت الموت الحقيقي، أما أنت بالنسبة لك فالعفو ليس احياءً حقيقياً، لأن هذا له حياة أصلية، والموت ليس بيدك، فأنت قد تأمر بقتله ويموت قبل أن تقتله، وقد، وقد، إذاً هناك حجج عند إبراهيم عليه السلام، لكن إبراهيم عليه السلام عندما وجد هذا المتأول أغلق الباب معه (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) سأسلم لك بما قلت، لا رضى به، وإنما لأنني إن واجهتك به فهذا حوارٌ عقيم، أو جدال عقيم، فسأغلق الباب، وسأفتح لك باباً آخر لا يمكن لك أن تتأوله، ألست ملكاً وتحيي وتميت، كما تريد، أنا أريد منك طلباً واحداً (اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) أنت أخرجها من المغرب تصبح إلهاً، افـعل شيئاً مـن أفعال الإله وهو السيطرة على الـكون، بــأن الشمس تـشرق دائماً من المشرق،
مجموعة النجاحات هي الفلاح
فهنا عندما قالوا: (وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) موسى عليه السلام (وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي الظالم الذي ظلم نفسه بحجبها عن الله، وظلم الآخرين عندما أعرض عن منهج الله، فاعتدى عليهم، هذا ليس له الفلاح، قد يظن نفسه فالحاً، القرآن يستخدم دائماً الفلاح للتعبير عن النجاح، لا يوجد بالقرآن نجح، هناك فلح، مجموعة النجاحات هي الفلاح، تسمى مفلحاً عندما تحصّل رضى الله، فكل نجاحات الدنيا مع بعضها إذا كانت في رضى الله أصبحت فلاحاً:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
(سورة المؤمنون: الآية 1)


فرعون خسر خسارة عظيمة لأنه لم يستطع اكتساب الوقت :
فرعون نجح لكن لم يفلح
قال: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) قد يظهر لك على الشبكية أنهم ناجحون في الحياة، أي فرعون نجح أم لم ينجح في حياته؟ نجح، بِعُرف الناس فرعون في حياته كان ناجحاً، استطاع أن يضبط عدداً كبيراً من الناس، ويستعبدهم، ويجمع ثروة ضخمة جداً على أنقاضهم، ويذبّح، ويستحيي، وأمره نافذ، فهو على الشبكية نجح، لكن هو لم يفلح، لأنه بالنتيجة لقي الله قبل أن يعود إليه، قال تعالى:

آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
(سورة يونس:الآية 91)

أي ما استطاع أن يكسب الوقت الذي هو أثمن شيء في حياته، إذاً هو خاسر خسارة عظيمة:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ
(سورة القصص: الآية 38)

هناك أشياء ثابتة لا يمكن أن تتغير
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) انظر بدأت اللهجة تنزل قليلاً، فرعون قال: أنا ربكم الأعلى، الآن مع حجة موسى عليه السلام لطّف القول قليلاً (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) حسب معلوماتي لا يوجد غيري، أي أنه نزل بسقف مطالبه أو على الأقل ليرضي أتباعه، فتح واحداً بالمئة مجالاً لأن يكون هناك إله غيره (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) لا أعرف أن هناك إلهاً غيري، وفتح مجالاً له ليسمعوا منه هل اقتنعوا أم لم يقتنعوا؟ لفظه أصبح متحفظاً أو إلى حد ما دبلوماسياً، قالوا: (أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ) بعد ما ( نَكِّرُوا) (قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) بلقيس كانت واعية؛ إذا قالت لهم: هذا عرشي هناك مشكلة لأنه قد يكون تمّ تقليده لأنهم (نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا) أي غيروا فيه قليلاً، لكن هناك أشياء ثابتة لا يمكن أن تتغير، فإذا فقالت: إنه ليس عرشي أيضاً وقعت في مشكلة (قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) هذا جواب دبلوماسي (كَأَنَّهُ هُوَ) فالخياران مفتوحان فيما بعد، فإذا كان ليس عرشها أنا لم أقل عرشي، وإذا كان عرشها أنا لم أقل هذا ليس عرشي، هذا الجواب الدبلوماسي، وتكلمنا عن أصعب سؤال طرحوه على الفيس بوك، أصعب سؤال أن يسألك شخص هل لديك وقت؟ تخاف أن تقول له: لا يوجد لدي وقت، قد يريد دعوتك، وإذا قلت له: يوجد لدي وقت، تخاف أن يكون هناك عمل صعب تعال وساعدني في نقل البيت، فيقول لك: هذا أصعب جواب، فهنا يلجأ الشخص إلى الجواب الدبلوماسي، ماذا يقول له؟ والله أنا ليس لدي وقت ولكن أُفرغ نفسي إذا كان هنالك شيء ضروري، قل لي ماذا تريد، فيسمع منه أولاً حتى يعطيه ثانياً ما يناسبه فهذا هو الجواب الدبلوماسي.

قارون و هامان أركان الطغيان في عصر فرعون :
أركان طغيان فرعون
هنا قال: (أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ) هامان هو جزء من السلسلة، أو من أركان الطغيان التي بنى فرعون أمره عليها، فرعون وهامان وقارون، قارون: هو وزير المالية، أو ماسك عصب الاقتصاد في البلد، أحياناً يكون وزير المالية مسكيناً ليس له شيء، وزير المالية أحياناً يكون ليس له قوة، ولكن هناك شخص ماسك عصب الاقتصاد، فقارون:

مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ
(سورة القصص: الآية 76)

لغز الأهرامات
كان من قوم موسى، وفرعون كان ممسكاً بقوة الاستبداد السياسي، أي بحكم الواقع الراهن أنا قائم على شؤونكم، ويستعبد الناس، وهامان هو الركيزة الثالثة للطغيان التي تمثل التغطية الإعلامية، بمعنى أي طغيان يلزمه استبداد سياسي، وإعلام يُساند، وقوة مالية، فكان الثلاثة مع بعضهم، فهامان يبرر حماقات فرعون، طبعاً هامان كان وزير البناء، ولكن يمسك القوة الإعلامية بحكم قربه من فرعون لكن هو كان وزير البناء، وهامان ورد ذكره في الكتب القديمة، وكان مهندس البناء في عصر فرعون، فهنا أشار القرآن لذلك، فقال: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) وهذه تشير إشارة إلى أنه ربما كان بنّاء الأهرامات، وهذه نظرية موجودة بأحد نظريات بناء الأهرامات، أن هذا الآجر أو ما يسمى الحجر الذي كان بطريقة معينة يوقد عليه فيتحول إلى حجر صلب قاس، لأن لغز الأهرامات أن حجم الحجارة كيف ارتفعت إلى الأعالي؟ اليوم أنت في الأهرامات إذا صعدت درجة أو درجتين أو ثلاث درجات تجد لافتة ممنوع الاقتراب أكثر، صعدت ورأيت الهرم لمكان محدد ثم يمنعونك، أنت عندما تصعد لأربع أو خمس درجات تصبح في علو بناء، أي أكثر من هذا أصبح هناك خطر، الهرم الكبير (خوفو) لا تدخله إلا مع دليل، ولا تستطيع أن تدوره كله، هنالك أماكن إلى حد الآن داخل الأهرامات تخاف أن تدخل، ولا تعرف كيف تخرج منها، الهرم أعجوبة من أعاجيب الدنيا. وأنا مرة استخدمت الأهرامات باستخدام جداً دقيق، هاتفتني أخت ابنتها ببلاد الغرب بحكم الحياة المادية المسيطرة في الغرب، المادة التي هي كل شيء، تصبح بشكل طبيعي تنفي الغيبيات، لأن الغيب يحتاج إيماناً.

مستويات المعرفة نظر أثر خبر :
الخبر أعلى مستويات المعرفة
عندنا نظر، وعندنا أثر، وعندنا خبر، هذا يناسب الآية هنا ( نظر، أثر، خبر)، ثلاث كلمات، النظر نشترك به مع بقية المخلوقات، فإذا قال لك إنسان: أنا يا أخي عقلاني، لا أصدق حتى أرى بعيني، قل له: والله هنالك مشكلة عندك، لأنه معذرة أيضاً الحيوان إذا رأى بعينه يصدق، فالنظر ليس مهماً، وأدنى مستويات المعرفة هو النظر، أدنى مستوى من مستويات المعرفة هو النظر، أو السمع، أي كل الحواس أدنى مستوى، أما الأثر الأعلى قليلاً فهو العقلي، الأثر تقول: هذا الكون له إله، أصبحت عاقلاً، أصبحت إنساناً تستدلُّ من شيء موجود على شيء ليس غير موجود ولكن غير مرئي بالنظر، هو موجود ولكنك لا تراه، هنا يوجد كهرباء في هذه الغرفة لأن المصابيح متألقة، هذه عملية عقلية يتقنها البشر ولا تتقنها المخلوقات الأخرى، أما إذا أردت أن تكون مؤمناً، ليس فقط إنساناً وعاقلاً، فيجب أن تنتقل إلى أعلى مستويات المعرفة وهو الخبر فما يأتيك عن الله فهو صدق.
سيدنا أبو بكر الصديق قالوا له: إن صاحبك يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عُرِجَ به إلى السماء، قال: "إن كان قال فقد صدق"، هذا الخبر.
قال أحد السلف: لقد رأيت الجنة والنار عياناً، قالوا: انظر فيما تقول، قال: والله قد رأيتهما عياناً، لقد رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق عندي من رؤيتي لهما بعيني، لأن بصري قد يزيغ ويطغى، أما بصره فما زاغ وما طغى.
فالخبر أعلى من النظر وأعلى من الأثر، فأنت عندما تقول: أنا مؤمن بالغيب، أي أنك أنت من أصحاب أعلى مستويات المعرفة وهي الخبر، أنت تُصدّق لأن المخبر صادق فقط.

مواجهةُ الضعيفِ الحجةُ البينة الواضحة بالاستهزاء :
القرآن كله غيب
نعود إلى الأهرامات، أصبحت في الغرب حالة المادية المقيتة المسيطرة على المجتمع فبدأت تنكر الغيبيات، إنكار الغبيات يؤدي بك إلى إنكار القرآن، لأن القرآن كله غيب، الشهود في القرآن قليل، القرآن يتكلم عن قصص هذا غيب، القصص كلها غيب، والجنة والنار غيب، أي شيء غاب عن بصرك، فهي بدأت تنكر الغيبيات، من أحد الغيبيات التي تنكرها، عندما ناقشتها فوصلنا إلى سؤال قالت: كيف بنيت سفينة نوح؟ من يستطيع أن يبني سفينة نوح؟ كيف لهذا الحجم أن يحمل من كلٍّ زوجين اثنين؟

احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
(سورة هود: الآية 40)

كيف بنى السفينة ولم يكن هناك بحر في الأساس؟

مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ
(سورة هود: الآية 38)

تقول لي: هذه القصة غير واقعية وليست صحيحة، قلت لها: سأقول لكِ شيئاً، قالت: تفضل، قلت لها: أنا برأيي الأهرامات أيضاً ليست واقعية، وليست صحيحة، لأنه إلى الآن لا أحد يعرف كيف بنوا الأهرامات، وكيف بعد آلاف السنين وجدوا فيها بذور قمح تنبت وجبن؟ وكيف حنطوا الناس؟ أنا برأيي كل الأهرامات أنكرها، فسكتت، قلت لها: أنتِ ما رأيك هل تنكرين الأهرامات؟ قالت: لا، قلت لها: لماذا؟ قالت: لأنها موجودة، قلت لها: إذاً أنتِ عندما ترين شيئاً بعينك وإن كان غريباً جداً، والعقل لا يصدق وقوعه في هذا الزمن صدّقت فيه، لماذا لا تصدقين قصة جاءت عن الله عز وجل ليست أغرب من قصة الأهرامات بأن سفينة بنيت؟ قلت لها: نعم كان عندهم تطور، وصنعوا سفينة كبيرة أكبر من سفننا اليوم، وأعظم منها، وأكثر تحضراً منها، ما المانع؟ لا يوجد شيء يمنع لا عقلاً ولا منطقاً، لكن هذه المشكلة عندما يضعف الخبر عندنا أو قيمة الخبر عندنا، فهنا قال: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) حتى يصبح جاهزاً للصعود عليه، ويصبح حجراً، (فَاجْعَل لِّي صَرْحًا) أي بناء طويل، برج من الأبراج (لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ) الله عز وجل في السماء بغض النظر عن تفاصيل ذلك، أي سواء قلنا جهة العلو بغض النظر عنها أو وقفنا عند النص:

أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ
( سورة الملك: الآية 16)

القوي يواجه الحجة بالحجة
في السماء وانتهى، أي لا نريد أن ندخل في قضية عقدية ليس لها آثار، فهو يستهزئ الآن، فرعون بدأ بمرحلة الاستهزاء وهذا منطق الضعيف، القوي يواجه الحجة بالحجة، موسى آتاه بآيات بينات، فأنت إذا كان عندك حجة تواجه الحجة بالحجة، أما الضعيف فماذا يفعل؟ يواجه الحجة البالغة والآية البينة بالاستهزاء، اصنع لي صرحاً لأصعد وأطلع إلى إله موسى، (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) أنا أعتقد بأنه كاذب فيما يدّعي من وجود إله (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) من أن له إلهاً في السماء ينصره ويؤيده، فهو أراد باستهزائه أن يخفف أثر الآيات في نفوس الرعية، أي هو أصيب بالصدمة، فكيف امتصها؟ أول شيء (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) ومن ثم يا هامان ابن (لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ) ما قال: إلهنا، قال: إله موسى، (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) الظن يأتي في اللغة بمعنى اليقين، ويأتي بمعنى الظن:

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ
(سورة البقرة: الآية 46)

أي يعتقدون مئة بالمئة، الظن في اللغة يأتي بمعنى اليقين، وقد يأتي بمعنى الظن، هنا ربما يكون فرعون مازال متحفظاً بكلماته (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) فرعون ذكي، هو ليس شخصية عادية، لا نستطيع أن نقول: إنه شخصية عادية لكن والعياذ بالله ذكاؤه أورده النار:

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ
(سورة هود: الآية 98)

فهو استخدم ذكاءه الذي وهبه الله إياه فيما أهلكه، فلعله تحفظ بالعبارة (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) وليس يقيناً:

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ
(سورة القصص: الآية 39)


القيد الوصفي والقيد الاحترازي :
تحدثنا سابقاً عن القيد الوصفي والقيد الاحترازي، نحن عندنا قيد وصف، وعندنا قيد احتراز، قيد الوصف كأن تقول:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً
(سورة آل عمران: الآية 130)

الاستكبار يكون بغير الحق
هذا قيد وصف، أي الربا مآله أضعاف مضاعفة ليس احترازاً، أي لا يوجد إنسان يأتي ويقول اليوم: أنا سآكل الربا ولكن سآكله ضعفاً واحداً وليس أضعافاً مضاعفة، مرة واحدة، فهذا حلال، لأني لم أخالف نص الآية، نقول له: أنت لست فقيهاً بلغة العرب، لأن هذا القيد ليس المقصود منه الاحتراز، وإنما المقصود منه الوصف، وصف الربا بأنه يؤول في المستقبل إلى أضعافٍ مضاعفة، هنا الأمر نفسه قال: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) هل هناك استكبار في الأرض بالحق؟ لا، الإنسان عندما يستكبر في الأرض فهو يستكبر بغير الحق، لأنه ضعيف فلمَ الاستكبار؟ هو محتاج إلى لقمة طعامه، فلماذا الاستكبار؟ هو محتاج إلى شربة الماء، ومحتاج إلى أن يخرج شربة الماء، فلماذا الاستكبار؟ هو من نطفةٍ من ماءٍ مهين فلماذا الاستكبار؟ إذاً عندما يستكبر الإنسان في الأرض هل يستكبر بالحق؟ يستكبر بغير الحق، وعندما قتل اليهود النبيين:

وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
(سورة آل عمران: الآية 21)

هل هناك قتل للنبيين بحق؟ مستحيل، هذا قيد الوصف، أما قيد الاحتراز فمثل قوله تعالى:

وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
(سورة آل عمران: الآية 97)

فمن لم يستطع إليه سبيلاً ليس عليه حج، هذا احترازي، فيجب أن نميز بين القيد الوصفي والاحترازي.
الإنسان الؤمن يقف عند حدود الله
هنا (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) هنا الظن بمعنى اليقين، أي اعتقدوا في ظنهم، في زعمهم، أن مرجعهم ليس إلى الله، إذاً الإنسان عندما يعتقد أن مرجعه إلى الله هل يستكبر؟ مستحيل، الإنسان عندما يعتقد أنه سيرجع إلى الله يقف عند حدود الله لأن له موقفاً بين يدي الله (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) قال:

فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
(سورة القصص: الآية 40)

أخذناه لفرعون وجنوده، طبعاً هنا ما فصلت السورة.

سورة القصص سورة تبين رعاية الله لأوليائه وأن إرادة الله هي الغالبة :
سورة القصص كما قلنا في البداية هي سورة تبين رعاية الله عز وجل لأوليائه، وأن إرادة الله هي الغالبة، وهذا المعنى عبّر عنه القرآن الكريم بشكل واضح في بداية السورة :

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ
(سورة القصص: الآية 4-5-6)

سورة القصص كلها مدارها على هاتين الآيتين، بأن إرادة الله هي الغالبة فجاءت القصة تناسب هذا الهدف، فأعطاك الحلقة التي كان فيها موسى رضيعاً وإرادة الله غلبت، كانت إرادة فرعون أن يذبحه وإرادة الله أن يجعله من المرسلين فجعله (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ردّه وجعله من المرسلين فتحققت الغاية، فالآن اختصر المسافات الأخرى، ماذا حدث لفرعون بالإغراق لأن هنا ليس مكانها، بسورة أخرى فصل كيف وصلوا وقالوا:

إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
(سورة الشعراء: الآية 61-62)

فكل سورة بما يناسبها.

سورة القصص قانونٌ يجري في كل زمانٍ ومكان :
هنا القصة اكتفت بهذا القدر وهو ملخص سريع، قال: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ) القصة موجودة في مكان آخر، لكن هنا لا نحتاج إلى هذا التفصيل بمسار القصة، بجو السورة لا نحتاج إلى التفصيل القصصي فيها، فقال: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ) النبذ فيه بمعنى الاحتقار:

كَلَّا ۖ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ
(سورة الهمزة: الآية 4)

مَردّ الظالمين هو إلى هلاك
فالنبذ هو الترك مع المهانة، قال: (فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) البحر متلاطم الأمواج (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) إذاً تحققت إرادة الله، (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) هذا أمر قرآني يقتضي الوجوب، انظر، هل نظرنا؟ الله يأمرك فانظر يا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمره لنا من بعده أن نتدبر عاقبة الظالمين، وأن مَردّ الظالمين طال الزمن أم قصر هو إلى هلاك كهلاك فرعون (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) ما قال: فانظر كيف كانت عاقبة فرعون وجنوده لأنه لو قال: كيف كانت عاقبة فرعون لتوهمنا أن فرعون هو الفرعون الوحيد للأمة، لكن ربنا عز وجل يقول لك: سيأتي زمان آخر ويكون فيه فراعنة كفرعون، وسيظلمون الناس وسيفعلون ويفعلون، وستكون عاقبتهم كعاقبة فرعون (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فهذه القصة قانونٌ يجري في كل زمانٍ ومكان، وليست قصةً للرفاهية أو للتسلية أو للمتعة الآنية التي تنقضي بانقضاء سماعك للقصة.

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ
(سورة القصص: الآية 41)

نؤجل هذا الكلام إلى لقاءٍ لاحق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته