الخصائص التربوية في نهج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
الخصائص التربوية في نهج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
المحاورة هناء المجالي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده المُصطفى، ورسوله المُجتبى، وحبيبه المُرتضى، الذي جمع محاسن الأوائل والأواخر، صاحب الأخلاق العظيمة، والشمائل الحميدة، والخصائص الفريدة. |
مقدمة:
مُستمعينا حيَّاكم الله إلى هذا الكَلِم الطيِّب من برنامج أُذُنُ خير، على صاحبها أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم. |
إخوتي الكرام: على مائدة المصطفى نلتقي في لقاءاتٍ أسبوعية، نعرض فيها إلى أهم خصائص سيرته العطرة، اليوم حديثنا سيكون تكملة لما بدأناه من الحديث عن الخصائص التربوية، في سيرته وفي نهجه، صلوات ربي وسلامه عليه. |
مُستمعينا قد يبدو لكثيرٍ من الناس، أنَّ الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، أصبح أمراً عسيراً في هذا الزمان، فقد اجتاحت بلاد المسلمين ثقافاتٌ غريبة، حلَّت محلَّ كثيرٍ من السُنَّن، وفُتِن الناس بلُغة المُنتصر وشُغِفوا بثقافته، وتعلَّقوا بعاداته، وأعرَضوا عن سُنَّنٍ حميدة، وأداروا ظهورهم لأخلاقٍ مجيدة. |
حاولنا مستمعينا فيما تقدَّم من حلقات، أن نُبرز بعض صفات وشمائل وخصائص دنيوية وأُخروية، لسيدنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه، وإنّا لنرجو أن يجد فيها كل من يستمع إليها، ما يُصلِح شأنهم، اليوم نعرض إلى خصائص تربويةٍ فذَّة، جعلت من القبائل المُتناحرة صحابة، عُبَّادٌ في الليل، فرسانٌ في النهار. |
مُستمعينا نعرِض لهذه الخصائص، مع ضيفنا في هذه الحلقة فضيلة الدكتور بلال نور الدين، أستاذ التفسير وعلوم القرآن، عضو رابطة علماء الشام، المُشرف العام على الأعمال، وعلى الموقع الإلكتروني لفضيلة العالِم الجليل محمد راتب النابلسي. |
حيّاكم الله دكتور وأهلاً ومرحباً بكم. |
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، ونفع بكم، أهلاً وسهلاً ومرحباً. |
المحاورة هناء المجالي:
أهلاً بك دكتور بلال، دكتور بلال سيدنا محمد لم يكن إلا بشر، يُوحى إليه، وما أُوتي إليه عن طريق الوحي قد فُصِّلت آياتهُ في الكتاب، فيما عدا ذلك من أقوالٍ وأعمال، فإنما كانت ثمرة العقل الراجح واللسان الفصيح، فكان إمام البلاغة والفصاحة، وسيد الرجال، اجتمعت له ثلاثة أمور، ليبقى سيِّد البشرية، وسيِّد السادات، فلتُحدثنا يا دكتور عن هذه الأمور، بدايةً من تكوين أُمة من قبائل مُتناحرة، إلى تأسيس دولة بقيَت مصدر للحق، ولا زالت إلى إقامة الدين، والذي يدين به مليارات من الناس، حدثنا يا دكتور عن هذه الأمور، والتي كانت الأساس في التربية، في دعوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، تفضل. |
النبي صلى الله عليه وسلم بشر تجري عليه كل خصائص البشر:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة كما تفضلتم، نبينا صلى الله عليه وسلم، قد أوتيَ من الصفات التي لا أقول تميَّز بها، بل أقول تفرَّد بها، ما أَهَّلهُ صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك الرجُل الذي جَمَع الله به الأُمة، وجَمَع به شتاتها من لدُن بداية الدعوة، وسيبقى ذلك إلى قيام الساعة بإذنه تعالى، فنحن إذ نتحدث عن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكما تفضلتم هو بشر، وعندما نقول بشر فهو يقول عن نفسه: |
{ يا أُمَّ سُلَيْمٍ ! أَمَا تَعْلَمِينَ إني اشتَرَطْتُ على ربي فقلتُ : إنما أنا بَشَرٌ أَرْضَى كما يَرْضَى البَشَرُ، وأَغْضَبُ كما يَغْضَبُ البَشَرُ، فأَيُّما أحدٍ دَعَوْتُ عليه من أُمَّتِي بدعوةٍ ليس لها بأهلٍ أن تَجْعَلَها له طَهورًا، وزكاةً وقُرْبَةً تُقَرِّبُه بها منكَ يومَ القيامةِ }
(أخرجه مسلم)
والله تعالى يقول له: |
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(110)(سورة الكهف)
وهذه مهمةٌ جداً في تحقيق القدوة والأُسوة، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم مَلَكاً من الملائكة لمَا تحققت القدوة به، ولقال القائل كيف نقتدي به وهو مَلَك؟! لا يعصي الله ما أمره، لا تعتلجه نوازع البشر، لا يُحب ما نُحب، لا يشتهي ما نشتهي، فكيف تتحقَّق الأسوة به؟! لذلك جعله الله تعالى بشراً، تجري عليه كل خصائص البشر، فلمّا انتصر على بشريته كان سيد البشر، لكن قال: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) ثم أعقبها (يُوحَىٰ إِلَيَّ) إذاً ميزته الأساسية هي الوحي، بأنَّ الله تعالى يُوحي إليه، فاليوم هناك بعض العبارات الصحيحة، لكن قد تُوحي بشيءٍ غلط، كأن يُقال مثلاً النبي العبقري، المُصلِح، ويُغفَل قضية الوحي، فأول صفة كما تفضلتم هي أنه يوحى إليه، إذاً نحن عندما نأخذ عنه نأخذ عن المعصوم، الذي: |
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ(4)(سورة النجم)
أول صفة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوحى إليه:
نحن بني البشر قد ننطق عن الهوى، بمعنى أنه قد أقول قولاً فيه هوى نفسي، فيه مصلحتي، فيه شيءٌ يسُرّني، ، فيه شيءٌ يُدخل إليَّ مزيداً من المال أو الشُهرة، أمّا صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، فلا ينطق كلاماً عن هوى، وإنما ينطق عن وحيٍّ يوحى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) فالصفة الأولى هي أنه يوحى إليه (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ) عندما يُضاف إلى هذا الوحي قضية الأخلاق الحميدة، التي جاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمثلت في شخصه الكريم، فالنبي صلى الله عليه وسلم على ما أوتيَّ من فصاحة اللسان، والعقل الراجح، والقوة في المنطق، والجمال في الصورة، فقبل كل ذلك، كان خُلُقه عظيماً خاطبه ربه فقال: |
وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)(سورة القلم)
إنَّ تُفيد التوكيد، واللام تُفيد التوكيد (لَعَلَىٰ)، و (عَظِيمٍ) تُفيد التوكيد، ثلاث مؤكدات، وقال عظيم، من يقول خُلُق عظيم؟ العظيم جلَّ جلاله، فإذا استعظم العظيم شيئاً فما أعظمه! ثم قال: (لَعَلَىٰ خُلُقٍ) ما قال ذو خُلُق، لو قال: ذو خُلُق لتبيَّن أنه صاحب أخلاق، لكن على خُلُق أي هو مُتمكِّن من هذه الأخلاق، هو لا يتردد ثانيةً واحدة، في أن يكون الأفضل في كل شيء، في الصدق، في الأمانة، في العِفَّة. |
من صفات النبي الكريم فصاحة اللسان:
الآن لو جئنا إلى الصفات الثانية التي تفضلتِ بها، هو يوحى إليه، صاحب أخلاق حميدة، هو فصيح اللسان، قال تعالى: |
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(4)(سورة إبراهيم)
ما معنى (بِلِسَانِ قَوْمِهِ) ؟ يعني مثلاً عندما جاء سيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كان لسان القوم هو السحر، فجاءهم موسى بشيءٍ ليس كالسحر لكن بَهَرهم: |
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(117)(سورة الأعراف)
فالسحرة أُلقوا ساجدين، لمّا رأوا شيئاً من لسان بيئتهم: |
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(120)(سورة الأعراف)
سيدنا عيسى جاء في قومٍ فيهم الطب متميز جداً، فإذا به يُبرئ الأكمه والأبرص، ويُحيي الموتى بإذن الله. |
وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(49)(سورة آل عمران)
فبهَرَهُم بما يصنعه. |
أمّا نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فجاء في بيئةٍ فيها الشعر والأسواق التي تُقام، سوق عُكاظ وغيره، يتبارون بالشعر، يُعلِّقون المُعلَّقات في جوف الكعبة، فصاحتهم، بلاغتهم، قوة لسانهم، تعليمهم للصغار في البادية، هذه طبيعة البيئة، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، يتكلم بفصاحةٍ، يُتقن لهجات العرب، أخذ من البادية ما أخذ، يوم رضع في البادية عند حليمة السعدية، فإذا به فصيح اللسان، قوي الحُجَّة، قوي المنطق، فبَهَرهم، لعلَّ اليوم من شبابنا، من لا ينتبه كثيراً وهذا شيءٌ سلبي إلى اللغة، فتأسره كما كان يفعل ذلك بصحابة رسول الله، وبالقوم الذين كان أحدهم يتخفَّى ليسمع آياتٍ من كتاب الله. |
الآن إذا أضفنا إلى فصاحة اللسان، وقوة اللغة، والبيان، والمنطق، رجاحة العقل، فالنبي صلى الله عليه وسلم من قبل البعثة، لمّا اختلفوا على من يحمل الحجر الأسود كما في السيرة، اقترح عليهم أن يأخذ كلٌّ بطرف الرداء وأن يوضع الحجر في رداء كبير وأن يُحمَل ثم وضعه بيده النبي صلى الله عليه وسلم في مكانه في الكعبة، فهو صاحب عقل راجح، فهم عميق، قُدرة على حل المشكلات، فهذه الأمور، الوحي مع فصاحة اللسان، مع العقل الراجح، مع ما سبقها من أخلاقٍ حميدة، الصادق الأمين كما كانوا يعرفونه، مع بشريته، كل هذا جعله صلى الله عليه وسلم بحالةٍ انفرادية، لا يُشبِهُها شيء، جعلت الناس يلتَّفون حوله، وجعلته صلى الله عليه وسلم يلمُّ شتات الأمة ويُحييها، بعد ثُباتٍ ونومٍ عميق. |
المحاورة هناء المجالي:
بارك الله بكم يا دكتور، أنا ذكرت في المقدمة، أننا نحاول إبراز بعض من صفات رسول الله في هذه الحلقات، فسيدنا محمد بما أوتيَ من الأخلاق، وما وهِبَ له من حُسن السياسة، ووضعها في نِصابها، فقد أوتيَ النجاح الذي لم يؤتَ أحدٌ من قبله ولا من بعده، لذلك يا دكتور فلتحدثنا عن البدايات في التربية، عن النهج النبوي الكريم، الرجال الذين كانوا حوله، كانوا في مرحلةٍ لم يكن معه أحد، إلا ثُلَّة قليلة من الرجال، نصروه في بداية الدعوة، آمنوا به في مكَّة، وهُم الذين قامت دولة يثرب على أيديهم، حيث أخذ التشريع الإسلامي بالتوسُّع في هذه المرحلة، أكثر مما كانت في مكَّة، بالإضافة إلى سواعد الأنصار، الذين كانوا من أصحاب البيعة الأولى والثانية، كيف استطاع النبي الكريم بتحويل هؤلاء القِلة، الثُلَّة، إلى عُبَّاد في الليل فُرسان في النهار؟ كانوا نواة للأمة النموذجية، وهي أُمة غرسها النبي في المدينة، وأشاد عليها الدولة، ثم كانت الإمبراطورية الإسلامية، تفضل. |
يجب أن يكون هناك توازن في حياة المؤمن بين العبادة الشعائرية والتعاملية:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة لفتتني كلمة عُبَّاد الليل وفرسان النهار، هذا التوازن، فعلاً هذه العبارة التي تتردَّد على ألسنة كُتّاب السيرة والخُطباء، عابد ليل وفارس نهار، هذا التوازن العجيب، سيدنا عُمر رضي الله عنه وأرضاه، كان يقول: "إني إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي"، فهذا التوازن بين أن كان يقال: <<قال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه في وصيته لعُمر: واعلم أن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل >>، فلليل عمل وللنهار عمل، فبمعنى أن يكون هناك توازن في حياة المؤمن، بين مخالطة الناس والصبر على أذاهم، والمال، والبيع، والشراء، حتى يقويَّ نفسه ويقويَّ أمته، وفي الوقت نفسه إذا خلا بربّه تجد عينيه تفيضان دمعاً حُبّاً بربِّه، هذا التوازن بين العبادة التعاملية والعبادة الشعائرية، هذا مهمٌ جداً، والنبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، استطاع أن يبني هذا التوازن العجيب في نفوس أصحابه. |
القرآن الكريم سمّى السُنَّة النبوية بالحكمة:
فبداية الدعوة الكريمة كما تفضلتم، لم يكن هناك هؤلاء الرجال الذين أقبلوا على الدعوة مباشرةً، تلقفوها بالقبول، حمَوها، دافعوا عنها، من أغنياء وأثرياء قريش وغيرها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صبر صبراً عجيباً، حتى بنى هذه الأمة بالبناء الصحيح، فإذا نظرنا إلى تجربة دار الأرقم، هذه التجربة الفريدة، هذه المدرسة أو قُل الجامعة العريقة، التي خرَّجت أول أربعين رجُل في تاريخ الدعوة الإسلامية، لأنَّ سيدنا عمر كان آخر من دخل دار الأرقم، فيقول راوي الحديث: فلما تكاملنا أربعين رجلاً خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس. |
أضف إليهم من كان خلفهم من النساء، أسماء بنت أبي بكر، وأسماء بنت عُميس، وخديجة بنت خويلد، وغيرهن كثيرٌ من النساء اللواتي لم يكنَّ في الدار مباشرةً، لكن كنَّ من المُتعلمات عن بُعد إن صحَّت العبارة، فهؤلاء النفر من الرجال والنساء، خرِّيجو دار الأرقم بُنيَت عليهم الدعوة، الآن إذا نظرنا في دار الأرقم، نحن لا نجد في دار الأرقم مدارس عقديَّة، ولا مدارس فقهيَّة، ولا تفصيلات ولا أحكام ولا كتُب تُدرَّس في الدار، كنّا نجد الكتاب الوحيد هو القرآن الكريم، والسُنَّة النبوية التي سمّاها القرآن الكريم الحكمة. |
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(129)(سورة البقرة)
فلو نظرنا إلى قضية الحكمة، وما كان لها من أثرٍ في تربية الصَحب والنشء الأول، القرآن سمّى السُنَّة حكمةً (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). |
الأمر الآخر قدَّم التزكيّة على التعليم قال: |
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(2)(سورة الجمعة)
فهذه التجربة تلاوة الآيات أولاً (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ثلاثية مهمة في إعداد الجيل الأول، تلاوة الآيات بمعنى أنه يلفِت نظرهم، التلاوة مرحلة أولى يعني هذه قبل التعليم، عبارة عن انظروا إلى الكون بما فيه، اقرؤوا آيةً في كتاب الله، تلاوةً تلفِت نظركم إلى عظيم صنع الله في خلقه، أو عظيم صنعه في عباده أفعال، أو عظيم كلامه بما في القرآن الكريم، يعني آيات كونية وتكوينية وقرآنية. |
ما هي التزكية؟
ثم بعد ذلك قال: (وَيُزَكِّيهِم) يعني تدخل الآن مرحلة التزكية، والتزكية هي تطهير النفس من أدرانها، هي التخلية قبل التحلية، بمعنى أنَّ الكأس لا يمكن أن أملأه بشرابٍ نفيس، قبل أن أُنظفه نظافةً جيدة، فالتزكية هي تلك النظافة التي طهَّر الرسول صلى الله عليه وسلم بها نفوس هؤلاء الصَحب، وهؤلاء الجيل طهَّرها من الأدران، من الدنَس، من التعلُّق المذموم وليس التعلُّق الصحيح بالدنيا، المذموم الذي يمكن أن يبيع دينه من أجلها، أن يجعلها كل شيء، أن يجعلها منتهى آماله، محطَّ رحاله، طهَّرها من التعلُّق المذموم، لأنَّ الدنيا مطلوبة لكن ليس تعلقاً مذموماً، ثم بعد ذلك لمّا طهُرت النفوس قال: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، فسمَّى السُنَّة النبوية، وسمَّى كلام النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة، الحكمة يأتي بها الله تعالى لعبده عندما يُزكّي نفسه قال تعالى: |
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ(269)(سورة البقرة)
مهمة النبي الأولى هي التعليم والأخلاق:
فالسُنَّة النبوية هي تلك الحكمة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمها الأصحاب داخل دار الأرقم، فمَن تخرَّج في دار الأرقم بعد ذلك؟ تخرَّج الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعُمر، وعُثمان، وعلي، كلهم خرِّيجو هذه الدار، العشرة المبشرون بالجنَّة كلهم خرِّيجو دار الأرقم، المُمولون للدعوة عبد الرحمن بن عوف خرِّيج دار الأرقم، سُفراء الإسلام مصعب بن عُمير خرِّيج دار الأرقم، سادة الشهداء جعفر بن أبي طالب، وخبَّاب بن الأرت، وبلال الحبشي خرِّيجو دار الأرقم، تخرَّج في دار الأرقم معظم الرجال الذين نُفاخِر بهم الدنيا اليوم، وخرَّجوا أيضاً من بعدهم ممن تعلَّم على أيديهم، هذه تجربة دار الأرقم أعتقد أنها تجربة يجب أن تُدرَّس، بما فيها من تعليم التوحيد، وتعليم الحكمة، وتعليم الكتاب، وتلاوة الآيات لأنها أصبحت تجربة رائدة، النبي صلى الله عليه وسلم قادها في الدار، كيف لا والمعلِّم الأول فيها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. |
لمّا ذهب جعفر بن أبي طالب، وهو خرِّيج من خرِّيجي دار الأرقم إلى النجاشي، وأراد أن يصف شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، في هؤلاء الثُلَّة الذين تحولوا كما قلنا إلى عُبَّاد ليل وفرسان نهار، ماذا قال له؟ قال: << كُنَّا قَوْماً أهلَ جاهِليَّةٍ، نَعبُدُ الأصنامَ، ونأكُلُ المَيْتةَ، ونأتي الفَواحِشَ، ونَقطَعُ الأرحامَ، حتى أتانا رجلاً نعرف أمانته وعفافه ونسبه>>، يعني لخَّص هذه الشخصية بأنه إذا تكلم صادق، إذا عاملك أمين، إذا استُثيرت شهوته عفيف، وفوق كل ذلك النسب الشريف الذي يُزيِّن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وأَمَرَنا، فبماذا أَمَرَنا؟ قال: << أمَرَنا بصِدقِ الحَديثِ، وأداءِ الأمانةِ، وصِلةِ الرَّحِمِ، وحُسْنِ الجِوارِ، والكَفِّ عنِ المَحارِمِ والدِّماءِ>>، لخَّص الدعوة بأنها بناءٌ أخلاقيٌّ متكامل، مبنيٌّ على عبادة الله عزَّ وجل وتوحيده، إذاً نحن أمام مُعلِّم، يعني لخَّص صلى الله عليه وسلم بعثته كلها فقال: |
{ دخَل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المسجدَ وقومٌ يذكُرونَ اللهَ، وقومٌ يُذاكِرونَ الفقهَ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : كِلا المجلسينِ على خيرٍ، أما الذين يذكُرونَ اللهَ - تعالى - ويسألونَ ربَّهم، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منَعهم، وهؤلاءِ يعلمونَ الناسَ ويتعلَّمونَ، وإنما بُعِثتُ معلمًا، وهذا أفضلُ فقعَد معهم }
(أخرجه الطبراني وابن ماجه)
هذه إنما أداة حصر وقصر، يعني لخَّص أنه بُعِث صلى الله عليه وسلم ليُعلِّم الناس وقال: (وإنما بُعِثتُ معلمًا) وفي روايةٍ أُخرى: |
{ إنَّ اللهَ لم يبعثْني مُعنِّتًا، و لا مُتَعنِّتًا، و لكن بعثني مُعلِّمًا مُيَسِّرًا }
(الألباني صحيح الجامع)
فالنبي صلى الله عليه وسلم كانت مهمته الأولى هي التعليم والأخلاق: |
{ إنَّما بعثتُ لأتمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ }
(أخرجه البيهقي وأحمد)
فإذا اجتمع في الشخصية القيادية هذا التعليم المبني على تلك الأُسس الواضحة، مع إتمامٍ لمكارم الأخلاق، أي توجيهها بالاتجاه الصحيح ووضعها في المكان اللائق، عندها تكون هذه النتائج الباهرة في مدةٍ قصيرةٍ جداً، يعني البناء الأوّلي، تقريباً دار الأرقم خمس إلى ست سنوات، بعدها خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس، حتى إذا تحدثنا عن كل البعثة ثلاثةً وعشرون سنة، فنحن نتحدث عن زمنٍ يسير في مقابل ما تحقَّق من إنجازاتٍ عظيمة. |
المحاورة هناء المجالي:
نعم ونحن في فَلَك دار الأرقم يا دكتور، وقبل الانتقال إلى محورٍ آخر، وأنت تتحدث عن هذه الدار، وأنت تتحدث عن رموز هذه الدار، كان هنالك شيء يُميزهم حقيقةً يا دكتور، وهو ما ينقصنا حقيقةً وهو اليقين الإخباري، نحن عندما نستذكر السيدة سُميِّة، وياسر، وكل هؤلاء الصحابة الذين كانوا في بداية الدعوة، ما الذي جعلهم يصبرون على الألم، وعلى العذاب، وعلى كل هذه المشقَّة التي كانت في بداية الدعوة، أليس هو اليقين الإخباري الذي نحن الآن بحاجةٍ إليه يا دكتور؟ |
ما هو الإيمان بالغيب؟ وكيف تجلى في حياة النبي والصحابة؟
الدكتور بلال نور الدين:
مئة بالمئة، بارك الله بكم على هذا السؤال، إنه الإيمان بالغيب، يعني اليقين الإخباري كما تفضلتم هو ما سمَّاه الله تعالى في كتابه الإيمان بالغيب، عندما يمرُّ النبي صلى الله عليه وسلم على عمار بن ياسر، والإسلام في بداياته وهناك ضعف، ما يملِك النبي صلى الله عليه وسلم له شيئاً، بماذا كان يُصبِّرهم؟ |
{ صبرًا آل ياسرٍ، فإنَّ موعدَكم الجنةُ. }
(أخرجه الطبراني)
فكان يُصبِّرهم بالغيب، يُصبِّرهم بما أعدَّه الله تعالى لهم في قادم الأيام، اليوم ما الذي يُصبِّر أهلنا في غزَّة العِزَّة، وهُم يُسامون سوء العذاب، نسأل الله أن يُفرِّج عنهم، ما الذي يُصبِّرهم؟ الإيمان بالغيب، والله لولا الإيمان بالغيب لما صبرنا ولما صبروا، لكننا ننظر فنقول تكالبت علينا قوى الشرّ، وتكالبت عليهم قوى الشرّ في العالم كله وتآمروا عليهم. |
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)(سورة آل عمران)
ما الذي يزيدهم إيماناً؟ ما الذي يدفع الواحد منهم أن يُمسك صغيره بيده، وقد فارق الدنيا وهو يقول: الحمد لله! من يقول الحمد لله إلا المؤمن بالغيب، لأنه ينتظر موعود الله، يرى شيئاً لا يراه الآخرون، يستشرف مستقبلاً لا يراه الآخرون، فالقضية الأساسية التي رُبّيَ عليها المسلمون في دار الأرقم كانت الإيمان بالغيب، اليقين الإخباري كما تفضّلتم، اليقين الحسّي كلنا نؤمن به، مَن يرى كأساً ثم يقول ليس هناك كأس؟! أنت تراه بعينك إذاً هناك كأس، واليقين العقلي يُميز العُقلاء عن غير العُقلاء، فيقول لا دخان بلا نار، فإذاً هناك نارٌ خلف الجدار لأنني أرى الدخان يتصاعد، فهذا يقين استدلالي يملكه العقلاء. |
لكن من ذا الذي يملِك اليقين الإخباري إلا المؤمنون بالغيب، الذين يعلمون أنَّ الخبر إذا جاء من الله تعالى فهو الحقّ، كان الرجُل يقول من صحابة رسول الله، سيدنا سعد يقول: "ثلاث أنا فيهم رجُل وفيما دون ذلك فأنا واحدٌ من الناس، وعدَّ منها: ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حقٌّ من الله تعالى" فأن يصل الإنسان إلى هذه المرتبة من الإيمان بالغيب، وبما أعدَّه الله تعالى لمن أطاعه، وما أعدَّه لمن عصاه وكأنه يراه رأي عين: |
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ(6)(سورة التكاثر)
كان الواحد من السلف يقول بين أصحابه: لقد رأيت الجنَّة والنار عياناً، قالوا يا هذا انظر فيما تقول، فوالله ما أحدٌ رأى الجنَّة والنار عياناً! قال: لقد رأيتهما بعينَي رسول الله، ورؤيتي لهما بعينَي رسول الله، أعظم عندي من رؤيتهما بعينَيّ، لأنَّ بصري قد يزيغ ويطغى أمّا بصره: |
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ(17)(سورة النجم)
فوصلوا إلى هذه المرحلة، وكان يقول الصحابي: نكون عند رسول الله يُذكِّرنا الجنَّة والنار كأنها رأيُ عين، يعني نحن نُصبِح نراها بأعيننا، فهذه المرحلة من الإيمان بالغيب أو اليقين الإخباري، أو الخبر الصادق، سمِّها ما شئت بالنتيجة هي جعلت هؤلاء الصَحب يملكون سلاحاً لا يملكه أحد، يدافعون عن الإسلام ويُضحون بأنفسهم، الرجُل يأتيه سهمٌ، بعد ذلك في المعركة يقول: فزتُ وربُّ الكعبة! هو ينظُر إلى الفوز العظيم الذي أعدَّه الله له، ويتناسى الجرح الآني الذي حصل، جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة عندما قالت له: |
{ أنهم ذَبَحُوا شاةً فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما بَقِيَ منها؟ قلْتُ: ما بَقِيَ منها إلَّا كَتِفُها، قال: بَقِيَ كلُّها غيرُ كَتِفِه }
(صحيح الترمذي)
هذا هو مفهوم الإيمان بالغيب، الذي جعل المسلمين الأوائل ينتقلون من حالة الدنيا الفانية إلى استشراف الآخرة الباقية. |
المحاورة هناء المجالي:
ونحن الآن بحاجةٍ إلى هذا اليقين الإخباري، إلى أن يكون في القلوب أكثر، وأن نحاول إبرازه أكثر في حياتنا اليومية يا دكتور، حتى تكون هنالك أنظمة في حياتنا، حتى يكون هنالك مسيرة صحيحة ونحن في هذه الحياة، ونحن نعلم أننا كل يوم نقترب من اليقين الإخباري أكثر. |
لماذا اليوم نحن بحاجة إلى الإيمان بالغيب؟
الدكتور بلال نور الدين:
مئة بالمئة، نحن اليوم أشدّ ما نكون إلى الحاجة إلى الإيمان بالغيب، لماذا؟ لأنَّ طُغيان المادة والمجتمع الاستهلاكي اليومي الذي نعيشه، بحيث كل شيء يدعو إلى الدنيا، نحن لا نُنكِر أهمية الدنيا كما قلنا، لكن كل شيء الآن يدعو إلى الدنيا، الإعلانات تدعو إلى الدنيا، الإعلام يدعو إلى الدنيا، ندخل إلى المولات للتسوُّق فنقول ما أكثر الحاجات التي لا نحتاجها، لكن نشتريها ونحن لا نحتاجها، كل شيء أصبح حولنا يدعو إلى المادة، الإعلام، الثقافة العامة، المحاضرات، كله يتحدث عن التحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، يعني أصبحت الدنيا تأسرنا بشكلٍ غير طبيعي، فلا بُدَّ أن نُعيد إحياء فكرة الآخرة، الحياة الآخرة، الحياة الباقية، ما ينتظرنا. |
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)(سورة الفجر)
فنحن لم نحيا بعد، ما زلنا نعيش في الدنيا، لكن الحياة ستأتي فماذا أعدَّدنا لها، كل ما نعدُّه الآن، وكل ما نسعى إليه، وكل ما نلهث وراءه، من أجل ستين، سبعين، ثمانين سنة الحدّ الأعلى، كل ما نفعله، أمّا ما ينتظرنا من حياةٍ تمتد إلى ما لا نهاية، فقلَّ أن نتحدث عنه، هذه مصيبة. |
المحاورة هناء المجالي:
سلَّمنا الله، سبحان الله يا دكتور، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من ساعة سماع جبريل في غار حراء، إلى أن فاضت روحه في بيت أُمِّنا عائشة رضي الله عنها كان واضح الهدف، راجح العقل، حسن السياسة، تلك القوى والصفات لم تجتمع لأحد، لا من قبله ولا من بعده، جعلته من أي جهةٍ نظرت إليه مثلاً كاملاً، أُسوةٌ حسنة، سواء في أيام الدعوة المُجردة عن السُلطة في مكَّة، أو في المدينة بعد تأسيس الدولة، وبعد أن جمع بين شعبين مختلفين في كل الصفات وفي كل الطباع، سواء من المهاجرين أو الأنصار. |
لذلك كان هناك قواعد تربوية اعتمدها النبي في تربية أصحابه عليه الصلاة والسلام، التأثير في محيطه، سواء في مكَّة أو في المدينة، فكان من أهم هذه القواعد يا دكتور بلال قاعدة بناء النفس أولاً، تمَّ ذلك من خلال أُسس، منها تغيير هذه الأُسس كالأُسس الفكرية مثلاً، كالكُفر والإيمان بالخُرافات ونحو ذلك، أو غرس القناعة بالإيمان بالمبادئ، ثم الثقة بالمُربّي وحُبّه، وهذه القاعدة بهذه الأُسس، كيف نُجمِل الحديث عنها وذلك من خلال شواهد، من خلال قصص حيّة نعيشها في يومنا، وكأننا نعيش في يومٍ نبوي، تفضل بارك الله بكم. |
كيف يتحقق بناء الإنسان البناء السليم؟
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أنه كما تفضلتم يمكن أن نبني البُنيان، وما أسهل بناء البنيان، لكن الأهم منه بكثير هو بناء الإنسان، فبناء الإنسان نتائجه أعظم بكثير لكن أسبابه أصعب، فبناء البنيان له قواعد بسيطة جداً، يُتقنها المهندسون ويتعلمونها، أمّا بناء النفس وبناء الإنسان فهو أمرٌ مهمٌ جداً، قال تعالى: |
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(109)(سورة التوبة)
سمَّاه بُنياناً، فإمّا أن يكون البناء قوياً يواجه الشهوات ويواجه الشُبهات، الشهوات ما يدخل إلى النفس، والشُبهات ما يدخل إلى العقل، فإذا كان البناء قوياً واجه شهوات النفس، وواجه الشُبهات التي تدخل إلى العقل، واليوم لو تصفَّح الإنسان اليوتيوب مثلاً، وكل فيديو يُلحِقه بفيديو آخر كما هي سياسة اليوتيوب، فلو علق بشهوةٍ مُعيَّنة، يبدأ اليوتيوب يُرسل له الشهوة التي بعدها والتي بعدها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: |
{ تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ عَرْضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتى يصِيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هَواه }
(الألباني صحيح الجامع)
كيف أنَّ الحصير يكون به أعواد، أنا أُشبِّه تماماً ما يجري في اليوتيوب، اليوتيوب كالحصير عوداً عوداً، أي فيديو فيديو (فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتى يصِيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا) أي كالحجارة الملساء (لا تَضُرُّه فِتنةٌ) انتهى هذا القلب لأنه أنكر الفتن التي عُرِضت عليه من الشهوات والشُبهات (فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها) دخلت فيه الفتن (والآخَرُ أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا) أي كالكأس المقلوب لم يدخل فيه شيء، لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً والعياذ بالله. |
فاليوم بناء النفس لمواجهة هذه الشهوات من جهة، ولمواجهة الشُبهات من جهةٍ أُخرى، هو مهمٌ جداً جداً، كيف بنى الإنسان نفسه في هذا العصر، وكيف بنى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وبنى نفوسهم في عصره صلى الله عليه وسلم، حتى أصبح الواحد منهم، لمّا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم ليتفقد سعد بن الربيع في القتلى عقب المعركة، لم يجد سعد، فأرسل زيداً ليتفقده: |
{ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَالَوَيْهِ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْبَصْرِيُّ، ثنا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّوِيلُ، ثنا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ لِطَلَبِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ لِي:" إِنْ رَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ " قَالَ: فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَعْدُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ:خَبِّرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ السَّلَامُ، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِدُنِي أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الْأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَخْلُصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيكُمْ شُفْرٌ يَطْرِفُ، قَالَ: وَفَاضَتْ نَفْسُهُ رحمه الله }
(رواه الحاكم)
كيف بُنيَ هذا الرجُل؟! الآن هو على فراش الموت يودِّع الدنيا همُّه الدعوة. |
هذه المرأة الأنصارية التي تأتي لتتفقد رسول الله وقد أُشيع خبر مقتله صلى الله عليه وسلم في أُحُد فتقول: |
{ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْن، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي دِينَارٍ فَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوا لَهَا، قَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: خَيْرًا يَا أُمَّ فُلَانٍ، فَقَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَأَشَارُوا لَهَا إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ " }
(أخرجه الطبري في تاريخه وابن المنذر في تفسيره والبيهقي في دلائل النبوة)
أول عوامل بناء النفس التقرب إلى الله:
كيف بُنيَ بلال؟ كيف بُنيَ عمار؟ كيف بُنيَ خبَّاب؟ هذا البناء النفسي العظيم، الذي جعل الواحد منهم يُضحّي في سبيل الله تعالى، شيء عجيب جداً، يسترعي الانتباه، عوامل بناء النفس التي بنى النبي صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه، أَوَلها التقرُّب إلى الله تعالى بكل ما يرضي الله، لأنَّ الإنسان كلما كان أشدّ قُرباً من الله كان أقوى، القوة من أين تأتي؟ من القوي والقوي هو الله، الحلم من أين يأتي؟ من الحليم، الرحمة من أين تأتي؟ من الرحيم، إذاً التقرُّب إلى الله تعالى وهذا المعنى ذَكَره النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري في الحديث القدسي: |
{ إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ. }
(صحيح البخاري)
أي أول ما ينبغي التقرُّب إلى الله بالفرائض ثم قال: (وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ) الموطن الشاهد قال: (فإذا أحْبَبْتُهُ) بعد التقرُّب أَحبَّهُ الله، ما النتيجة: (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) كيف أصبح الله سمعه؟ أصبح لا يسمع إلا ما يُرضي الله، كيف أصبح بصره؟ أصبح لا يرى إلا بنور الله، لا ينظُر إلى الحرام، ينظر إلى الحلال، كيف أصبح يده التي يبطش بها؟ أصبح يُحرِّك يده لنصرة الحق، كيف أصبح رجله التي يمشي بها؟ لا يمشي إلا إلى معروفٍ إلى خيرٍ إلى مسجدٍ إلى إصلاحٍ بين الناس، فأول ما في البناء الإيماني، تُبنى النفوس على القُرب من الجليل جلَّ جلاله، أن تُبنى النفوس على القُرب من الجليل، نحذَر هنا أن تتحول العبادة إلى عادة، فإذا تحولت إلى عادة ربما لا تُبنى بها النفس، لكن عندما نحافظ عليها عبادةً، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، الصيام يُحقِّق التقوى، الصدقة تُطهرهم وتزكيهم بها، فتُبنى النفوس أول ما تُبنى بالمحافظة على العبادات، ثم بالمُجاهدة، بناء النفس يحتاج إلى المُجاهدة |
من عوامل بناء النفس المجاهدة:
وجاهد النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النُصحِ فـاتَّهمِ والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على حُب الرضاع وإن تفطمهُ ينفطمِ{ البوصيري }
فالحياة كلها مُجاهدة، وقال تعالى: |
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69)(سورة العنكبوت)
بعض العلماء جاهدوا في العمل بما علموا، فأورثهم الله علم ما لم يعلموا |
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ(41)(سورة النازعات)
هذا هو الجهاد، بعد المُجاهدة تأتي المحاسبة، بناء النفس، كان يُربّي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على التقرُّب إلى الله، على مُجاهدة النفس لحملها على الطاعات، ثم على محاسبتها دائماً. |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(18)(سورة الحشر)
بعد المُجاهدة لا بُدَّ من مُحاسبة النفس:
فبعد المُجاهدة لا بُدَّ من مُحاسبة النفس، حقوق الله وحقوق العباد وأداء الحقوق، كان يُربّيهم أيضاً بناء النفس بطلب العِلم |
{ مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ، وإنَّ الملائِكَةَ لتَضعُ أجنحتَها لطالِبِ العلمِ رضًا بما يصنعُ وإنَّ العالم ليستغفِرُ لَهُ مَن في السَّمواتِ ومن في الأرضِ، حتَّى الحيتانِ في الماءِ، وفضلَ العالمِ على العابدِ كفَضلِ القمرِ على سائرِ الكواكبِ، وإنَّ العُلَماءَ ورثةُ الأنبياءِ إنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا إنَّما ورَّثوا العلمَ فمَن أخذَهُ أخذَ بحظٍّ وافرٍ }
(أخرجه أبو داوود والترمذي وابن ماجه وأحمد)
طلب العِلم يُربّي النفوس، كان يُربّيهم على مُجالسة الصالحين على مجالس التقوى |
{ مرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعبدِ اللهِ بنِ رَواحةَ وهو يُذكِّرُ أصحابَه فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أما إنكم الملأُ الذين أمرني اللهُ أن أُصبِّرَ نفسي معكم. ثم تلا هذه الآيةَ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إلى قوله: وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا. أمّا إنه ما جلس عِدَّتُكم، إلا جلس معهم عدتُهم من الملائكةِ، إن سبَّحوا الله تعالى سبَّحوه، وإن حمدوا اللهَ حمدوه، وإن كبَّروا اللهَ كبَّروه، ثم يصعدون إلى الربِّ جلَّ ثناؤه، وهو أعلمُ بهم، فيقولون: يا ربَّنا عبادَك سبَّحوك فسبَّحْنا، وكبَّروك فكبَّرْنا، وحمَدوك فحمدْنا، فيقول ربُّنا جلَّ جلالُه: يا ملائكتي أُشهدُكم أني قد غفرتُ لهم. فيقولون: فيهم فلانٌ وفلانٌ الخطَّاءُ، فيقول: هم القومُ لا يَشقى بهم جليسُهم }
(الألباني ضعيف الترغيب)
يبني نفوسهم بتدبُّر القرآن الكريم، يبني نفوسهم بالدعاء، دعاء الله تعالى والتذلُّل بين يديه والطلب منه، كان يقول لهم: |
{ الدُّعاءُ هوَ العبادةُ ثمَّ قالَ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }
(صحيح الترمذي)
أن تعلم أنَّ ربك يسمعك، يُجيبك، يُحبك، هذه المعاني كلها مجتمعة وغيرها كثير، تتحدث عن عناوين بَنَت النفوس، الآن عندما تُبنى النفس بناءً صحيحاً، يُصبِح الإنسان في حالٍ آخَر، يواجه ما يعترضه من الشهوات والشُبهات، ولا تُثنيه سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة عن دينه. |
المحاورة هناء المجالي:
بارك الله بكم، إذاً نفهم دكتور من جميل ما تحدثت، أنَّ هذه الأُسس والتي تحدثت عنها، وأنَّ الثقة بالمُربّي، بعلمه، بفكره، بإخلاصه، يُسهِّل عملية الاقتناع والإيمان بصحة ما يوجَّه إليه، لذلك جُعِل الإيمان بالله وهو ربّ السماوات والأرض، وربّ كل شيء، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، هو الأساس الأول في إيمان المؤمن، وجُعِل حُب المُربّي هو عصب الإيمان، ويقول الرسول الكريم على ذلك: |
{ لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِهِ، ووالدِهِ، والناسِ أجمعينَ }
(أخرجه البخاري ومسلم)
كيف يكون حُب الله وحُب رسوله أحب إلينا من أهلنا ومن أحبابنا ومن الدنيا:
فقط في خلال دقائق، التعريج على هذا الحديث، وكيف يكون حُب الله وحُب رسوله، أحب إلينا من أهلنا ومن أحبابنا ومن الدنيا، هل فينا من يكون الله ورسوله في قلبه قبل كل شيء؟ تفضل. |
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة كما تفضلتم حُب المُربّي أساس في التعليم، قديماً أحد الفلاسفة، أظن سقراط أو غيره، لمّا جاءه أحدهم بابنه ليُعلِّمه، بعد حينٍ قال له: خُذ ابنك عنّي فأنه لا يُحبُّني، يعني لم يتعلَّم، لا تُتعِب نفسك ولا تُذهِب وقتك، فحُب النبي صلى الله عليه وسلم كان أساساً في استجابة الصَحب لتوجيهاته الرشيدة (لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِهِ، ووالدِهِ، والناسِ أجمعينَ) نعم ممكن أن يصل إليها المؤمن، ولها ميزان دقيق جداً، إن تحقَّق تحقَّقت، فالحُب صحيح أنه عملٌ لا إرادي، أو عملٌ قلبي لا يَظهَر، لكن تظهر آثاره، اليوم أنا عندما يأتيني مبلغ ألف دينار من أجل أن أوقِّع توقيعاً، وهو من حرام، إن رفضته فأنا أُحب الله ورسوله أكثر من هذا المال، اليوم عندما يكون لدَي ولَدي، أحبُّه وأضمُّه وأشمُّه وأقول ربما لا أُحب في الدنيا شيئاً غيره، لكن عندما يقول لي ابني بعد حينٍ يكبر ويقول لي: أُريد أن أشتري سيارة فاسحب لي قرضاً رِبوياً، فهل أسحب له قرضاً رِبوياً من أجل أن أُسعِده؟! إذاً أنا أُحبُّه أكثر من الله ورسوله، إن قلت له لا يا بُني لن أُطيعُك في معصيةٍ هذا لا يجوز، لن أسمح لك، إذاً أنا لا أُحبه إلا في الله، اليوم أنا أبَرّ والدي ووالدتي لكن: |
وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(15)(سورة لقمان)
الحُب مبني على الطاعة فالذي تُطيعه هو الذي تُحبه:
فهل أُطيع والدي ووالدتي في معصية الله أم لا؟! فالميزان بسيط جداً، عندما يكون الله ورسوله أحبَّ إلي مما سواهم، فأنا لا أُطيع مخلوقاً وأعصي خالقي جلَّ جلاله، أو أعصي رسولي صلى الله عليه وسلم إذاً أنا أُحبه أكثر، فالميزان دقيق جداً، وكل إنسانٍ يزن به نفسه، ما الذي تُحبُّه أكثر؟ الحُب مبني على الطاعة، فالذي تُطيعه هو الذي تُحبه، أمّا: |
تعصي الإله وأنت تُظهِر حُبَّهُ ذاك لعمرِي في المقال بديعُ لـو كان حبُّك صادقاً لأطعتـــــه إنَّ المُحــــــبَّ لمن يحبُّ يُطيعُ{ الشافعي }
فالصحابة الكرام كان الواحد منهم يُضحّي بكل شيء، من أجل طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يرونه يخلع خاتمه فيخلعون خواتهم: |
{ بينَما رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يصلِّي بأصحابِهِ إذ خلعَ نعليهِ فوضعَهُما عن يسارِهِ فلمَّا رأى ذلِكَ القومُ ألقوا نعالَهُم فلمَّا قضى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ صلاتَهُ قالَ ما حملَكُم علَى إلقاءِ نعالِكُم قالوا رأيناكَ ألقيتَ نعليكَ فألقينا نعالَنا فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إنَّ جبريلَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أتاني فأخبرَني أنَّ فيهِما قذرًا - أو قالَ أذًى - وقالَ إذا جاءَ أحدُكُم إلى المسجدِ فلينظُر فإن رأى في نعليهِ قذرًا أو أذًى فليمسَحهُ وليصلِّ فيهِما }
(أخرجه أبو داوود وأحمد)
{ لمَّا استوى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعةِ قالَ: اجلسوا. فسمعَ ذلِكَ ابنُ مسعودٍ فجلسَ على بابِ المسجدِ فرآهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: تعالَ يا عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودٍ . }
(أخرجه أبو داوود والحاكم والبيهقي)
هو خارج المسجد غير مَعنيٌ بالخطاب، لكن أن يسمع رسول الله يقول اجلسوا ثم لا يجلس! ما عَوَّد أُذُنه أن تفعل ذلك، أمّا بعض المسلمين اليوم للأسف، تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لك يا أخي هذا الحديث ليس لهذا الزمن، الزمن تغيَّر وتحوَّل، وأنتم تأتوا لنا بأحاديثٍ من التُراث؟ يُسمّيه تراثاً!! والعياذ بالله. |
إذاً المحبة لله ولرسوله أكثر مما سواهما (من ولدِهِ، ووالدِهِ، والناسِ أجمعينَ) تعني أنه لا يمكن أن يُطيع أحداً في معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. |
المحاورة هناء المجالي:
بارك الله بكم يا دكتور، ونحن الآن للأسف يا دكتور، لا نعرف من سُنَّة نبينا إلا تركها، نسأل الله السلامة، وبهذا الحُب وبهذه الثقة وبهذه القصص والشواهد، نأتي لختام حلقة اليوم، نسأل الله القبول والإخلاص. |
نشكرك يا دكتور بلال نور الدين، أستاذ التفسير في علوم القرآن، على جميل ما قدَّمت وأفدت، وجزاكم الله خير الجزاء، شكراً جزيلاً يا دكتور. |
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم وحفظكم. |