• 2018-04-27
  • عمان
  • مسجد الزميلي

الاصلاح


الخطبة الأولى:
يا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْد مِلْء السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ومِلْء ما بينهما، وَمِلْء مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْد، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْد، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْد، لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدّ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، غِنَى كُلِّ فَقِير، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيل، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيف، وَمفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذلُّ في عزك؟ وكيف نُضامُ في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك؟ وأشهدُ أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمدٍ وسلم تسليماً كثيراً.

محبة الله عز وحل للإصلاح والمصلحين:
وبعد فيا أيها الأخوة الكرام؛ كلمةٌ يرجوها أصحاب العقول الراجحة، وتتوق إليها النفوس السليمة، يرجوها كل مؤمنٍ مخلصٍ غيورٍ، إنها كلمة الإصلاح، وهل هناك أجمل من الإصلاح؟ هل هناك أجمل من أن يصلح الإنسان علاقته بربه؟ ثم يصلح علاقته بمن هم حوله، ثم يصلح علاقته بمجتمعه، ثم يصلح علاقته حتى بالبيئة من حوله من جماد ونبات وحيوان؟ هل هناك أجمل من الإصلاح؟
أيها الأخوة الكرام؛ الله تعالى يصف المؤمنين فيقول:

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
[ سورة الأعراف]

حاشا لله أن يضيع أجر إنسان أراد إصلاحاً، أصلح في مجتمعه، أصلح في بيئته، أصلح في الناس من حوله، أصلح في كل علاقةٍ بين اثنين (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)، وفي الطرف المقابل قال تعالى:

فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ۖ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
[سورة يونس]

الإفساد عكس الإصلاح
فالإفساد عكس الإصلاح تماماً، والله تعالى لا يضيع أجر من أصلح، ولا يصلح عمل من أفسد، فالمفسدون في الأرض مهما رأيت من قوتهم، ومن جبروتهم، ومهما توهمت أنهم يسيطرون ويحكمون ويملكون، فإن الله تعالى سنَّ قانوناً وهو أنَّ عمل المفسدين لا يصلحه الله تعالى ومصيره إلى الزوال والهلاك.
أيها الأخوة الكرام؛ أما موسى عليه السلام فماذا قال لأخيه هارون؟

وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
[ سورة الأعراف]

(وأَصْلِحْ): أمره بالإصلاح، (وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)فالطريق الذي يسير فيه المفسدون طريق مصيرها في الدنيا إلى الشقاء، وفي الآخرة إلى العذاب (وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ).
ويقول الله تعالى أيضاً:

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
[ سورة القصص]

الله تعالى يحب الإصلاح والمصلحين، ولكنه لا يحب الإفساد والمفسدين، ومن يبغي الفساد في الأرض سواء إفساد المرأة، أو إفساد الجيل، أو إفساد الإعلام، أو إفساد البيئة، أو بتلوث الهواء، أو بأي شيء يفسد مادياً أو معنوياً فــ (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ):

وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
[سورة البقرة]

أيها الأخوة الكرام؛ وفي الحديث الشريف:

{ بدأ الإسلامُ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأ فطُوبِى للغرباءِ، وفي روايةٍ: قيل: يا رسولَ اللهِ : مَن الغرباءُ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناسُ، وفي لفظٍ آخرَ قال : هم الذين يُصلِحون ما أفسد الناسُ من سنتي }

( السنن الواردة في الفتن بسند صحيح)

فإذا أردت أن تكون من غرباء آخر الزمان فأصلح عند الفساد، إذا رأيت الناس قد فسدوا فلا تقل: أنا مع المجموع، ولا تقل: ضع رأسك بين الرؤوس فأنت واحد من المجموع، بل قل: أنا أصلح إذا فسد الناس.

الفرق بين الصالح والمصلح:
الغرب صنع مواطناً وليس إنساناً
أيها الأخوة الكرام؛ المدنية الغربية، ولا أقول الحضارة، فالحضارة قيم وأخلاق وثقافة، الغرب بمدنيته التي نراها اليوم والتي تشرئب لها الأعناق هل استطاع أن ينشئ إنساناً صالحاً بمعنى الصلاح الحقيقي؟ الجواب: لا، ودونكم كل يوم يعلن الإعلام عن فساد هؤلاء، وشيوع المخدرات، وانتشار الجريمة، وتفكك الأسرة، وغير ذلك مما يندى له الجبين، وهذا لا يخفى على عاقل، فما الذي صنعه الغرب؟ صنع مواطناً وليس إنساناً، صنع مواطناً صالحاً، فأنت إذا ذهبت إلى بلد من البلاد تجد قيم المواطنة من هذه البلاد الغربية فتقول: والله سرني ما رأيت، سرني أنني لم أر إنساناً يتجاوز الإشارة الحمراء، صحيح ونتمنى أن نكون كذلك، تقول: سرني أنني ما وجدت إنساناً يلقي ورقة أو قمامة في الشارع، قيمٌ جميلةٌ، ونرجو الله أن نتحلى بها في مجتمعاتنا، فديننا يأمرنا بذلك، لكن هل هذا حقق الإنسان الصالح؟ الجواب: لا، فهذه أمورٌ نريدها ونرجوها ونتمناها لكنها لا تصنع إنساناً صالحاً، أما الإسلام فقد صنع إنساناً صالحاً، فإذا وضعته في أي مكانٍ في الأرض وفي أي زمانٍ فهو صالحٌ لا يحب الفساد، لا فساد المجتمع، ولا فساد المرأة، ولا فساد البيئة، ولا فساد العلاقات، يصلح ذات البين، بين كل شيئين، بين شريكين، بين علاقتين، علاقته بالنبات يصلحها فلا يقطع النبات إلا لحاجة، علاقته بالهواء يصلحها فلا يلوثه، هذا إنسان صالح، أما أن يعيش الإنسان في بيئة محددة تفرضها قوانين صارمة فيلتزم ويصبح مواطناً صالحاً، ولا يهمه أن شعوباً في الأرض تقصف وتباد فهذا ليس صلاحاً، هذا مواطن يصلح لأن يعيش في وطنه، ويلتزم بقوانين البلد الذي يعيش فيه فقط.
أيها الأخوة الكرام؛ الإسلام يميز بين الصالح والمصلح، فالصالح قد ينجو بنفسه، لكن المجتمع لا ينجو إلا بالمصلحين، قال تعالى:

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
[سورة هود]

فالصالح يصلح نفسه، أما المصلح فيسعى إلى الإصلاح في مجتمعه، يصلح أولاده، يصلح زوجته، يصلح العلاقة مع شريكه، يصلح العلاقة مع أرحامه، ثم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ليصلح المجتمع من حوله، هذا مصلح، والأمة لا ترقى بالصالحين فحسب، ولكنها ترقى بالمصلحين، الذين يُصلِحُون إذا فسد الناس.

تعريف الفساد لغوياً:
الفساد أن تخرج الشيء عن طبيعته
أيها الأخوة الكرام؛ وإذا أردنا أن نغوص في العمق قليلاً نقول: ما الفساد؟ في اللغة ما الفساد؟ الفساد أن تخرج الشيء عن طبيعته، اللبن له طبيعة، طعمٌ طيبٌ، يهدئ الأعصاب، يشعر الإنسان بالراحة، هذه طبيعة اللبن، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما اختار اللبن قيل له: أتيت الفطرة، هذه الفطرة، لم يختر الخمر الذي يذهب العقل، فاللبن له طبيعة، والخمر له طبيعة، الآن لو جئت بنقطة من النفط (البنزين) ووضعتها في اللبن، ما الذي فعلته في اللبن؟ أفسدته لأنك أخرجته عن طبيعته، هل يمكن أن تشربه الآن؟ لا، لأنه فاسد، أنت أفسدته، الهواء هو أوكسجين تتنفسه فتشعر بالارتياح، فإذا جاءت سيارة لم تلتزم بالقوانين ونفخت الدخان الأسود في الهواء وأنت تسير ماذا تفعل؟ تغلق أنفك لأن الهواء قد فسد، خرج عن طبيعته، هذا هو الفساد، الآن هذا فسادٌ ماديٌّ ومنهيٌّ عنه في شرعنا وفي ديننا.

إفساد المرأة والمجتمع والعلاقات بين الناس هدف الإعلام الأول:
الآن؛ المرأة خلقت لتكون أختاً لها صدر البيت، ثم لتكون زوجة لها مكانةٌ كبيرةٌ عند زوجها:

{ مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ، فَإِذَا شَهِدَ أَمْرًا فَلْيَتَكَلَّمْ بخَيْرٍ، أَوْ لِيَسْكُتْ، وَاسْتَوْصُوا بالنِّسَاءِ، فإنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أَعْوَجَ شيءٍ في الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، إنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، اسْتَوْصُوا بالنِّسَاءِ خَيْرًا }

[صحيح مسلم]

المجتمع والإعلام أخرج المرأة عن طبيعتها
ثم لتكون أماً يلتف أبناؤها من حولها، يبرونها، يطيعونها فيما تأمر، هي كالملكة في بيتها، هذه طبيعة المرأة التي خلقها الله عليها، فإذا جاء الإعلام وأفسد المرأة أخرجها عن طبيعتها، قال لها: ينبغي أن تتبرجي فتبرجت، ينبغي ألا تطيعي زوجك فأنت مستقلة في قرارك، ففعلت، ينبغي ألا تكوني في البيت لتربية أولادك، لك عملٌ خارج البيت مهمٌّ جداً نحن مع تحرر المرأة فخرجت من بيتها، وتركت الأولاد للخادمة ففسد البيت وفسدت المرأة، ما الذي حصل؟ أخرج المجتمع والإعلام المرأة عن طبيعتها ففسدت وأفسدت:

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
[سورة الروم]

هذا إفساد، هذا إفساد المرأة، إفساد الجيل، ثم الإفساد في العلاقات بين الناس، الإسلام يقول؛ والكلام الآن موجه للإخوة الشباب، الإسلام يقول: الزواج أساس الحب:

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
[سورة الروم]

الله سبحانه وتعالى يتولى بعد أن تتزوج امرأةً صالحةً أن يجعل بينك وبينها مودة تعبر بها عن حبك، ورحمةً تمنعك من أن تؤذيها بكلمة، هكذا يقول الله، هذه طبيعة الخلق، طبيعة العلاقة، جاء الإعلام وجاءت المدنية الغربية وغزتنا فقالوا للمرأة وللشاب، للفتاة وللشاب: لا، الحب أساس الزواج، أحبها أولاً واقض معها الليالي الملاح وبعد ذلك إن وجدتها مناسبة فتزوجها، فشقي الشاب وشقيت المرأة، لأن العلاقة خرجت عن طبيعتها، هذا فساد، ولأن هذا الشاب نفسه الذي يرضى أن يتكلم مع فتاةٍ، ويخرج معها في نزهةٍ، ويدخل معها في بيتٍ، ويختلي بها لا يسمح بفطرته أن يحدث ذلك لأخته، لأنه يعلم أنه فساد، ولكنه انساق وراء شهوته وتوهم أن الحب أساس الزواج، والعكس هو الصحيح، الزواج أساس الحب، هذا هو الإفساد بالتحديد.

المؤمن يُصلحُ ولا يفسد:
أيها الأخوة الكرام؛ المؤمن يُصلحُ ولا يفسد، في البيئة، في المرأة، في الجيل، في العلاقات، يصلح ولا يفسد، أولاً: يصلح علاقته بربه، فهناك إصلاحٌ للفرد، وهناك إصلاحٌ للمجتمع.
يجب أن تصلح علاقتك بربك
إصلاح الفرد: أن تصلح علاقتك بربك، كيف تصلح العلاقة بالله؟ يكرر القرآن دائماً: (يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ)، إقامة الصلاة: هي إصلاح العلاقة بالله، أن تتصل بالله، وإيتاء الزكاة: هو الإحسان، أن تحسن للناس فتصلح علاقتك بالناس، أما المجتمع بشكل عام فلا يصلح إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة العدل، عندها يصلح المجتمع:

{ أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا }

[صحيح البخاري]

هؤلاء الذين أهمهم أمر المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقالوا: من يجترئ على تكليمه إلا أسامة حب رسول الله؟ جاء أسامة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أقول: تورط، قيل له: افعل، فانطلق بدافع أن يخلِّص هذه المرأة التي سرقت، حد من حدود الله، غضب النبي صلى الله عيه وسلم وقال له: يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله؟! وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
هكذا يصلح المجتمع بما يسمى اليوم: سيادة القانون.

تلخيص منهج الإصلاح كما جاء في القرآن الكريم:
أيها الأخوة الكرام؛ القرآن الكريم لخص منهج الإصلاح، الآن الكلام مهم جداً أيها الأخوة: أحتاج وأنا في بيتي، وتحتاج وأنت في بيتك إذا أردت إصلاح أسرتك، ويحتاج الحاكم إذا أراد أن يصلح مجتمعاً هدفاً واحداً؛ اسمعوا: جاء على لسان شعيب عليه السلام:

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
[سورة هود]

خمسة بنود في هذه الآية لخصت منهج الإصلاح الذي ينبغي أن يتبعه كل مصلح، اسمعوا إلى هذه البنود:
البند الأول: وضوح المنهج المستند إلى وحي السماء (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ) على أمر واضح لا لبس فيه، لكن هذه البينة من أين؟ هل هي من مناهج الغرب أم الشرق؟! هل هي من مناهج الشيوعية والاشتراكية؟! (عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) من منهج السماء، فوضوح المنهج المستند إلى وحي السماء أول بندٍ للإصلاح.
المصلحون قدوة لمن حولهم
ثانياً: المصلحون - وهذا أهم بند- قدوة لمن حولهم، قال لهم شعيب: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُۚ) أقول لكم: أكل المال الحرام لا يجوز، ثم أخالفكم وآكل المال الحرام، ما هذا الإصلاح؟! فالمصلحون قدوة لمن حولهم، أنت في البيت تريد أن تصلح أولادك أنت قدوة لهم ينبغي أن تكون أول الملتزمين بالأمر ثم تأمرهم، الحاكم يريد أن يصلح مجتمعه يكون أول الملتزمين بالأمر ثم يصلح المجتمع، المصلحون قدوة من أصغر فرد إلى أكبر فرد.
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أراد أن يأمر الناس بأمر جمع أهله وأقاربه وخاصته ثم قال لهم: «إني قد نهيت الناس عن كذا وكذا.. وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم.. فإن وقعتم وقعوا.. وإن هبتم هابوا.. وإني والله لا أوتى برجل منكم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني.. فمن شاء منكم فليتقدم ومن شاء فليتأخر». يقول كتاب السيرة: فأصبحت القرابة من عمر مصيبة.
ابن عمر رضي الله عنه كان يرعى إبلاً فبلغ ذلك عمر، فقال له: ماذا فعلت؟ قال: إنها إبل اشتريتها بمالي وبعثتها إلى المرعى أتاجر فيها، وأبتغي ما يبتغي المسلمون، فتهكم عمر من كلامه قائلاً: «ويقول الناس حين يرونها ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين.. اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين.. وهكذا تسمن إبلك ويربو ربحك، ثم صاح فيه آمراً: يا عبدالله.. خذ رأس مالك الذى دفعته في هذه الإبل واجعل الربح في بيت مال المسلمين».
المصلحون قدوة.
قال له: ما هذه الغنائم؟ سيدنا عمر لسيدنا علي: ما هذه الغنائم كلها! جاؤوا حتى بأصغر شيء، قال له علي رضي الله عنه: «يا أمير المؤمنين لقد عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا!!» .
والأب المصلح ينبغي أن يقول لنفسه: أنا أتقيد بأوامر الله فيتقيد أبنائي من بعدي، ولو فعلت ما لا ينبغي عليّ فعله لفعله أبنائي، من أصغر خلية في المجتمع إلى أكبر شيخ، المصلحون قدوة، هذا هو البند الثاني، وضوح المنهج، القدوة في الإصلاح.
ثالثاً: الإرادة، قال لهم شعيب: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ) راقبوا في كتاب الله الإصلاح يأتي مع الإرادة:

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
[سورة النساء]

(إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا) في العلاقات الزوجية (يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا).

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(228)
[سورة البقرة]

الإصلاح يحتاج إلى الإرادة
فالإصلاح يحتاج إلى الإرادة، إرادة صادقة، أنا ينبغي أن أغير، ينبغي أن أصلح، ينبغي أن أصلح خروج بناتي، ينبغي أن أصلح حجاب أهل بيتي، يجب أن أصلح دين أولادي، ينبغي أن أصلح علاقتي مع شريكي، ينبغي أن أصلح علاقتي مع أرحامي، وهكذا، الإرادة الصادقة.
البند الرابع هو بذل الجهد والوسع:

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
[سورة هود]

هذه (مَا اسْتَطَعْتُ) تفيد استنفاد الجهد (مَا اسْتَطَعْتُ) أي كل شيء أستطيع أن أفعله لأصلح ينبغي أن أفعله، بمنتهى استطاعتي.
أما الأمر الخامس والأخير وهو أهم أمر فهو التوكل على الله، والاستعانة بالله، واستمداد العون منه:

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
[سورة هود]

أتوكل عليه، وأرجع إليه في كل أمر وفي كل شأن.
أقرأ الآية مرة أخيرة:

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
[سورة هود]

(يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي): وضوح المنهج المستند إلى وحي السماء، (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ): المصلحون قدوة، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ): الإرادة الصادقة، (مَا اسْتَطَعْتُ): استنفاد الجهد، (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ): الاستعانة بالله والتوكل عليه.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، استغفروا الله.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمین، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سمیعٌ قریبٌ مجیبٌ للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا علیك اتكلنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم بفضلك وكرمك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر أخواننا المرابطين في المسجد الأقصى على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم فرج عن المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً صالحاً متقبلاً يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، واجعل اللهم هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
والحمد لله رب العالمين