حلب - المأساة والأمة الغائبة

  • 2016-12-16
  • عمان
  • مسجد الناصر صلاح الدين

حلب - المأساة والأمة الغائبة


مقدمة:
يا ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذل في عزك؟ وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك؟ والأمر كله إليك. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً؛ ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد وسلّم تسليماً كثيراً، وبعد:
فيا أيها الإخوة الكرام، كنا نسير في مجموعة خطب بعنوان: اعرف رسولك، ولكنني سأقطعها في هذه الخطبة لنعود إليها في الخطبة اللاحقة إن شاء الله، وذلك لنتحدث عن الحدث الساخن في هذا الأسبوع من وجهة شرعية.
أيها الإخوة الكرام، حلب وما أدراكم ما حلب، وجميعكم تابع خلال هذا الأسبوع أخبار هذه المدينة الجريحة.

الحقيقة المرة خير ألف مرة من الوهم المريح:
أيها الإخوة، بادئ ذي بدء ينبغي أن ننطلق من حقيقة مهمة؛ وهي أن الحقيقة المرة خير ألف مرة من الوهم المريح، يمكن أن أخاطبكم الآن بكلام أدغدغ فيه عواطفكم ومشاعركم، وما أسهله! ويمكن أن أتكلم بكلام بعيد عن الواقع يجعلكم تشعرون بالتفاؤل، وما أسهل ذلك!
لا تستهينوا بقيمة الدعاء
ولكنني انطلقت من هذه الحقيقة واعذروني لنتكلم عن الواقع كما هو، لأن ذلك أدعى لتصحيح الأخطاء، وأدعى لعمل صحيح، في هذا الأسبوع تفاعلت الأمة بشكل جيد مع هذا الحدث المأساوي، ووالله أيها الإخوة لا تستهينوا بقيمة الدعاء، فلعل الله عز وجل بدعوة إخوة طيبين في هذا البلد الطيب، أو غيره من بلاد المسلمين خفّف المحنة، أو أزال بعض الغُمّة عن أهلنا في حلب، وفي غيرها من ديار المسلمين، والله تعالى لن يخلد الدعوات فقط، الله تعالى خلّد دموعاً فاضت من أناس لم يجدوا ما يفعلوا شيئاً فذكر ذلك في القرآن، قال تعالى:

وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ(92)
(سورة التوبة)


عدم التقليل من أي عمل ولو كان صغيراً:
من لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم
خلّد الله دموعهم في القرآن ليقول لك أيها المسلم لا تستهنْ بعملٍ مهما كان بسيطاً، لذلك القلوب التي تعاطفت، والدعوات التي انطلقت، والناس الذين قنتوا في الصلوات، والناس الذين دفعوا وبذلوا هؤلاء كلهم عند الله لهم مكان عظيم، فهم يهتمون بأمر المسلمين، فهم من المسلمين، أما الساهرون في الملاهي وفي الشهوات بعيداً عن هموم المسلمين، فينطبق عليهم قول بعض الصحابة: "من لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم" فأنا لا أقلل من شأن أي عمل ولو دمعة سالت على خدّ إنسان حَزَناً لمَا يلقاه إخوته المسلمون في حلب، وفي شتى الأمصار.
ولكن لا بد مرة ثانية أن نعود إلى الحقائق؛ لأننا دائماً أيها الإخوة نتفاعل مع الأحداث تفاعلاً آنياً، ثم تُغلَق محنة حلب إعلامياً، وتُغلَق معها الدعوات والتعاطفات، وينتهي الأمر إلى أن تأتي محنة أعظم وأشد من سابقتها، وهكذا حالنا.

ما يحدث للأمة الإسلامية بما قدمت أيدينا:
لذلك كان لا بد من حديث ربما يكون قاسياً، ولكنه حديث واقعي، أيها الإخوة في معركة أحد هُزِم المسلمون، وكان ذلك نتيجة لمخالفتهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، علّق القرآن على الحادثة فماذا قال؟ قال تعالى:

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
(سورة آل عمران)

فلسطين مصيبة المصائب
وحلب مصيبة، والموصل مصيبة، وفلسطين مصيبة المصائب ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا﴾ ما مصدره؟ لمَ حصل؟ ما السبب؟ ﴿أَنَّىٰ هَٰذَا﴾ الجواب الرباني ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ هذه هي الحقيقة المرة ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قدرة الله فوق هؤلاء الطغاة، فوق المتجبرين، لكن سبب الحدث، سبب المصيبة هو من عند أنفسكم، ليس من عند المجتمع الدولي الذي تنادونه، ﴿هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ النبي صلى الله عليه وسلم عانى ما عاناه من العذاب في مكة، هل سمعتم في السيرة كلها أنه استصرخ المجتمع الدولي؟ هل نادى الفرس والروم لينصروه؟ لم يفعل، بلال الحبشي يوم كانوا يضعون فوقه الصخور، وجسده ملتصق برمال الصحراء الساحنة، لما توضع الصخور هل كان ينادي الفرس أو الروم أم كان يقول أحد أحد؟ كان يقول: أحد أحد.

لا وجود لمجتمع دولي ينصر المسلمين:
المجتمع الدولي لا يتدخل إلا من أجل مصالحه
عمار بن ياسر يوم كان يُسام وأهله سوء العذاب هل استصرخ المجتمع الدولي؟ أنا لا أدري أولاً أين هو المجتمع الدولي؟ لا أعرف هذا المصطلح من هو؟ يستنكرون صمته، يستنكرون سكوته، يستنكرون مشاركته في الجريمة، أنا لا أدري حتى الآن فإذا كان عند أحدكم جواب فليقل لي من هو المجتمع الدولي حتى نستصرخه؟ أو ننتظر منه شيئاً، أو نعلق الأمل به، أو نقول لماذا لم ينصرنا؟ أين هو؟ أنا لا أعرف أن هناك مجتمعاً دولياً، بل إن كان عند أحدكم منذ مئة عام سابقة مرة واحدة، مثال واحد لتدخّل هذا المجتمع الدولي لنصرة الضعيف حقاً فليعطني هذا المثال، أنا لا أعلم أن مجتمعاً دولياً تدخل لنصرتنا، أو لنصرة مظلوم، لم يحصل ذلك، هذه الكذبة لنضعها على جنب، كفانا تعلقاً بها، لا أعلم لا في فلسطين، ولا في العراق، ولا في ليبيا، ولا في مصر، ولا في بلد عربي، ولا مسلم، ولا في بورما أن المجتمع الدولي تدخل يوماً لنصرة ضعيف، أو لإحقاق حق، أو لإبطال باطل، أبداً، تدخل من أجل النفط، تدخل من أجل مصالحه، تدخل من أجل الاقتصاد، تدخل من أجل كل شيء يحقق الرفاه لشعبه، لكن هل تدخل لنصرة الضعيف؟ أنا لا أعلم، إن كان أحدكم يعلم فليخبرنا.
لذلك أيها الإخوة، النبي صلى الله عليه وسلم لم يستصرخ أحداً؛ لأنه يؤمن بقوله تعالى:

هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(119)
(سورة آل عمران)

فهو لم يستصرخهم، النبي صلى الله عليه وسلم عمل، عمل ما يستطيعه، فحقق النصر.

البعد عن الشرع يبعدنا عن النصر:
أيها الإخوة الكرام، إذاً عَودٌ على بدء، الآية الكريمة ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ هنا موطن الشاهد، ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ من عند أنفسكم حينما لم يتمكن الإيمان منها، ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ حينما أردتم أن تزيلوا ظلماً بظلم ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ حينما حملتم مئة راية وراية وادّعيتم أنكم تقاتلون تحت راية التوحيد﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ حينما تنازعتم، فالله تعالى يقول:

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(46)
(سورة الأنفال)

﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ حينما أردتم أن تحكموا بالشرع وأنتم لم تحتكموا إليه بعد ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾.
أيها الإخوة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح:

{ يوشك الأممُ أن تتداعى عليكم، كما تتداعى الآكلةُ إلى قصعتِها، فقال قائلٌ: ومن قلةٍ بنا نحن يومئذٍ؟! قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيلِ، ولينزعنَّ اللهُ من صدورِ عدوكم المهابةَ منكم، وليَقذفنَّ في قلوبِكم الوهنَ، قال قائل: يا رسول اللهِ! وما الوهنُ؟! قال: حبُّ الدنيا، وكراهيةُ الموتِ. }

(الألباني)

كما ترون الآن، تداعى عليكم الأمم، ويتقاسمون الأدوار حتى تتم المحرقة، وحتى تتم المجزرة بين رافض، ومؤيد، ومجلس أمن، وجمعية الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، يتقاسمون الأدوار حتى يتم الأمر كما يريدون.
(يوشك الأممُ أن تتداعى عليكم، كما تتداعى الآكلةُ إلى قصعتِها، فقال قائلٌ: ومن قلةٍ بنا نحن يومئذٍ؟! قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ) مليار ونصف مليار، لستم قلة (فقال قائلٌ: ومن قلةٍ بنا نحن يومئذٍ؟! قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيلِ)، حينما نزلت الأمطار نزل السيل، وظهر على سطح السيل بعض الفقاعات، هذا الغثاء (ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيلِ) بعد دقائق انتهى (وليَقذفنَّ في قلوبِكم الوهنَ، قال قائل: يا رسول اللهِ! وما الوهنُ؟! قال: حبُّ الدنيا، وكراهيةُ الموتِ) التعلق بالدنيا، والتعلق بالدنيا ليس تعلقاً بالمال فقط، التعلق بالإمارة تعلق بالدنيا، والتعلق بالراية تعلقٌ بالدنيا، والتعلق بالمال تعلقٌ بالدنيا، والتعلق بالمكانة تعلقٌ بالدنيا، والتعلق في منصب تعلق بالدنيا.

لما غابت الأمة غابت الرؤية الشرعية الصحيحة:
الأمة غائبة
أيها الإخوة الكرام، باختصار؛ الأمة غائبة، تقول لي: كيف الأمة غائبة؟ الآن عندنا مليار ونصف مليار مسلم، أمَا رأيتهم؟ نعم رأيتهم، هناك فرق بين أن تكون الأمة موجودة، وأن تكون الأمة حاضرة، موجودة نعم، ولكن هل هي حاضرة؟ الجواب: لا، هل هي فاعلة؟ الجواب: لا، الأمة غائبة، أمة الإسلام غائبة، كيف استنتجت ذلك؟ أقول لك: نظرت إلى المساجد في صلاة الفجر فاستنتجت أن الأمة غائبة، في صلاة العشاء، فاستنتجت أن الأمة غائبة، نظرت في معاملاتنا المالية، وفي الأموال الربوية فنظرت أن الأمة غائبة، نظرت إلى شباب وبنات المسلمين في الطرقات فرأيت أن الأمة غائبة، نظرت إلى أفراحنا والاختلاط فيها، فوجدت أن الأمة غائبة، نظرت إلى بيوتنا إلى ماذا تحتكم؟ فوجدت أن الأمة غائبة، نظرت إلى الإعلام الذي ندير عليه المؤشرات في بيوتنا، فوجدت أن الأمة غائبة، أمّا أنني نظرت إلى خريطة العالم الإسلامي فالأمة موجودة، لكن في واقع الأمر الأمة غائبة لا تحتكم إلى شرع الله، لا تطبق شرع الله في شيء من حياتها، إذاً الأمة غائبة، فلما غابت الأمة غابت الرؤية الشرعية الصحيحة، فانطلقنا من العواطف، نريد الحرية، نريد الكرامة، سنقضي على الاستبداد، سنرفع راية التوحيد، ما لنا غيرك يا الله، انطلقنا من العواطف، فلما انطلقنا من العواطف، وتركنا الرؤية الشرعية الصحيحة، وكيف بنى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة وكيف أحياها، مع غياب الرؤية الشرعية تحكمت العواطف بالناس، والله تعالى لا يحاكمنا بالعواطف، ولا يريدنا أن نحتكم إلى العواطف، قال تعالى:

لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(123)
(سورة النساء)

لا تتمنَّ ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾.

الحاجة إلى أمة حقيقية تبنى بالشكل الصحيح:
إحياء الأمة بالعمل وتطبيق الكتاب والسنة
أيها الإخوة الكرام، لا بد أن تتضافر الجهود وتتوحد لإحياء الأمة المسلمة، لا لبناء الدولة الإسلامية، لإحياء الأمة المسلمة، إحيائها بالعمل وتطبيق منهج الله، بالكتاب والسنة، بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، وأولها صلح بالتوحيد، وصلح بالتعلق بالله، وصلح بالتعلق بالقرآن الكريم المهجور بيننا اليوم، وصلح بالمساجد التي تمتلئ في كل الصلوات، وصلح بالجيل الذي يُربَّى على طاعة الله، هكذا صلح أول الأمة، فآخرها لا يصلح بالعواطف، ليس الموضوع هبّة، وليس الموضوع انتفاضة عابرة وتذهب، الموضوع أننا نحتاج إلى أمة حقيقية تُبنَى بالشكل الصحيح.
أيها الإخوة الكرام، الأمة تصنع دولة، لكن الدولة لا تصنع أمة، أطلقْ شعارات براقة، الدولة الإسلامية، أطلق ما شئت هذه لا تصنع أمة، هذه إذا كانت في أحسن أحوالها لا هذه الذي يدّعون أنها دولة إسلامية، وهي تقوم بأبشع الجرائم، وتنفذ مخططات الأعداء، أقول إن كان هناك دولة إسلامية حقيقية فهي لا تصنع أمة، لكن الأمة التي صنعها النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم صنعت دولة فتحت بعد ذلك بلاد كسرى وقيصر.

النبي الكريم خرّج أمة من دار الأرقم:
أيها الإخوة الكرام، ما الذي كان يفعله صلى الله عليه وسلم في بيعتي العقبة الأولى والثانية؟ كان يبعث الأمة من رقادها، ما الذي كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم؟ كان يبني الأمة، ويحيي الأمة الغائبة، التي كانت تعبد الأصنام، أحياها النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، في دار صغيرة للصحابي الجليل الأرقم قريبة من الصفا، مطلة على الكعبة، دار صغيرة ليس فيها لا مكيفات، ولا تدفئة ولا شيء، يجتمعون فيها ويبنون فيها الأمة.
الخلفاء تخرجوا من دار الأرقم، أبو بكر، عثمان، علي، رضي الله عنهم جميعاً، تخرجوا من دار الأرقم، هذه المدرسة هي التي خرجتهم، الشهداء وسادة الشهداء تخرجوا من دار الأرقم؛ جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة تخرجوا من دار الأرقم، المموّلون للدعوة الأغنياء تخرجوا من دار الأرقم؛ عبد الرحمن بن عوف، الصابرون تخرجوا من دار الأرقم؛ بلال الحبشي، عمار بن ياسر، خباب بن الأرت، هؤلاء كلهم خريجو هذه المدرسة، دار الأرقم، أمين الأمة؛ أبو عبيدة ابن الجراح تخرّج من دار الأرقم، المبشرون بالجنة معظمهم تخرجوا في دار الأرقم، الدعاة إلى الله، وإلى الحق، وإلى الصلاح، المصلحون، السفراء، تخرجوا في دار الأرقم أمثال مصعب بن عمير، هؤلاء جميعاً كانوا خريجي هذه المدرسة، مدرسة دار الأرقم التي تقع على الصفا قريبة من الكعبة المشرفة، فلما أُحييت الأمة بُنيت الدولة بالشكل الصحيح.

سنن الله الكونية والشرعية:
سنن الله تعالى لا تحابي أحداً
أيها الإخوة الكرام، مرة ثانية اعذروني فأنا لا أريد أن أدغدغ المشاعر، ولا العواطف، ولا أثير الشجون، أنا أريد أن أتحدث بالواقع حتى لا نسيء الظن بربنا، الله تعالى موجود، وسننه لا تحابي أحداً أبداً، أنت إذا تعرضت لسنن الله الشرعية فعليك أن تكون وفق السنن الشرعية، وإلا لا تنطبق عليك، الصحابة الكرام ومعهم سيد الخلق على رأسهم صلى الله عليه وسلم هل انتصروا في أحد؟ لا، هل انتصروا في حنين؟ لا، في حنين أعجبتهم كثرتهم فلم ينتصروا، في أحد خالفوا الأمر الشرعي، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينتصروا، فإذا كانت سنن الله لم تحابِ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل ننتظر أن تحابينا نحن على ما نحن عليه اليوم من معاصٍ وآثام؟ مستحيل، ما دمت تتعرض لسنن الله الشرعية فعليك أن تكون وفقها، وإلا لن تنطبق عليك:

اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
(سورة فاطر)


السنن الكونية:
سنن الله شرعية وسنن كونية، السنن الكونية؛ النصر للأقوى، السنن الكونية؛ النصر لمن يملك الطائرات، السنن الكونية؛ النصر لمن يملك الحلفاء، والحلفاء اليوم كلهم ليسوا في صف المسلمين، هذه السنن الكونية.

السنن الشرعية:
النصر لمن يأخذ بالأسباب
أما السنن الشرعية النصر لمن يأخذ بالأسباب، ولمن يحمل نفسه على طاعة الله، ويبني الأمة ويحييها كما فعل صلاح الدين الأيوبي، أحيا الأمة ثم ذهب إلى القدس فحررها، فإذا كنت تري أن تتعرض للسنن الشرعية فعليك أن تكون وفقها، فسنن الله لا تحابي أحداً، هذه هي الحقيقة أيها الإخوة ينبغي أن نعيها، وينبغي أن نعي هذا الدرس المؤلم الذي عشناه في هذا الأسبوع، والذي نسأل الله ألا نعيش أمثاله بعد ذلك.
ولكن لا بد من أن نصحو من غفلتنا، لا بد من أن نغير، أن نبدأ من أنفسنا، أن نعدل الخطة، أن نغير المسار، أن نصحح المسار، أن نلتزم بأمر الله، أن نجعل أفراحنا إسلامية، وأتراحنا إسلامية، ومساجدنا تعجّ بالمصلين، وأموالنا تُنفَق في الوجه الصحيح، وتُكتسَب من الوجه الصحيح، وأولادنا يُربّون على طاعة الله، والعلاقة مع زوجاتنا وفق منهج الله، والعلاقة مع النساء الأخريات وفق منهج الله، وبناتنا محجبات وفق منهج الله وهكذا، هذا هو الحق الذي ندين الله عز وجل به، ونقوله.

دعاء الختام:
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل إلى ما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، استغفروا الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع قريب ومجيب للدعوات.
اللهم برحمتك عمّنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والسنة توفنا نلقاك وأنت راض عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم أهلنا في حلب، فرجاً عاجلاً غير آجل، اللهم اجبر كسر قلوبهم، اللهم ارفع الغمة عنهم، اللهم آوِهم، اللهم دفّئهم برحمتك، اللهم اشملهم بجميل عنايتك، يا أرحم الراحمين، اللهم اخذل من خذلهم، وانصر من نصرهم، اللهم عليك بأعدائهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بمن ظلمهم، اللهم عليك بمن شارك بظلمهم، اللهم عليك بمن أيّد ظلمهم، اللهم عليك بمن أفتى بظلمهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
الله اجعل لهذه الأمة أمر رُشدٍ يُعزّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، ويُحَق فيه الحق، ويُبطَل فيه الباطل.
اللهم أهلنا المسلمين في كل مكان، فرج اللهم همهم، واكشف غمهم، اللهم اجعل لهم من كل ضيق مخرجاً، ومن كل همّ فرجاً يا أرحم الراحمين.
اللهم قد عمّ الفساد فنجّنا، قلت حيلة فتولّنا، ارفع مقتك وغضبك عنا، لا تعاملنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم عاملنا بما أنت له أهل، أنت أهل التقوى وأهل المغفرة.
اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا.
يا ناصر المستضعفين انصر عبادك الموحدين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، مستظلاً بكتابك، وشرعة نبيك صلى الله عليه وسل، وألهم القائمين على أمره السداد والرشاد، وإقامة أمرك يا أرحم الراحمين.
وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.