التمكين في الارض

  • 2017-07-28
  • عمان
  • مسجد الناصر صلاح الدين

التمكين في الارض

لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله سيد الخلق والبشر ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد وسلّم تسليماً كثيراً، وبعد:
فيا أيها الإخوة الكرام؛ موضوعنا اليوم موضوع الساعة، ونحن أيها الإخوة الكرام؛ نشهد حال الأمة المسلمة وقد بلغ بها الضعف مبلغه، وبلغ بها الذل مبلغه، وبلغ بها الهوان مبلغه، وإلى الله تعالى وحده نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، بل إننا نشكو إلى الله -عزَّ وجلَّ-دماءنا التي رخصت عند أهل الأرض فدماء المسلمين تسيل في كل مكان فما يهتز لها جفن ولا إنسان، ولسان الحال: قتل امرئ في غابة جريمة لا تُغتفر وقتل شعب مسلم مسألة فيها نظر؛ هذا لسان الحال ولا حول ولا قوة إلا بالله.

معنى التمكين والاستخلاف في الأرض:
الاستخلاف في الأرض ورد ذكره كثيرا ًفي القرآن الكريم
أيها الإخوة؛ التمكين في الأرض والاستخلاف في الأرض أمر ورد ذكره كثيرا ًفي كتاب الله تعالى؛ أن يُمكّن للأمة وأن يصبح أمرها ونهيها لازماً واجباً، وأن يكون لها مكانة بين الأمم؛ هذا هو التمكين في الأرض، التمكين للمسلمين في الأرض أن يعودوا كما كان سالف عهدهم يُسمع بهم فيُخاف منهم لا أن يخافوا من جميع الناس بل أن يخاف الناس منهم، أن يخاف منهم من أجل أن يُقام العدل لا من أجل الخوف.

التمكين والاستخلاف في الأرض وعد من الله تعالى:
أيها الإخوة الكرام؛ إذا نظرنا في كتاب الله تعالى وجدنا أن التمكين في الأرض والاستخلاف في الأرض وعد وليس تكليفاً، كيف أننا لم نؤمر أن نضمن الجنة لكن أُمرنا أن نعمل للجنة، ليس في القرآن (اضمنوا الجنة) هناك (اعملوا للجنة)، (نسألك موجبات رحمتك) رحمة الله وعد، لكن نحن نأتي بما يوجب رحمة الله، نسألك موجبات لرحمتك، ليس في القرآن (اضمنوا الرزق) لأن الرزق وعد ولكن خذوا بأسباب الرزق.

{ لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطيرَ تغدوا خماصًا وتروح بطانًا }

(أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد عن عمر بن الخطاب)

الرزق وعد لكن المطلوب توكل وأخذ بالأسباب هذا المطلوب.

شرط التمكين والاستخلاف في الأرض:
الآن ليس في القرآن أيها المسلمون: (فلتكونوا ممكنين في الأرض، كونوا خليفة في الأرض) لا أبداً، لن تجدوا في كتاب الله هذا المعنى، ستجدون وعداً من الله بالاستخلاف والتمكين وأمراً لنا بالعبادة والطاعة، فإذا جئنا بما أمر جاء الوعد، نأتي بالشرط فيأتي الوعد، انظروا إلى كتاب الله:

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ (5)
(سورة القصص)

هذه إرادة الله (أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ)

وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ (6)
(سورة القصص)

هذه إرادة الله.

وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚوَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (55)
( سورة النور)

هذا وعد.

ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ(41)
(سورة الحج)

التمكين من الله (أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ)

أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍۢ مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا ٱلْأَنْهَٰرَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنۢ بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ (6)
(سورة الأنعام)

أيضاً التمكين يكون لغير مؤمنين، مكّن الله لهؤلاء ثم أهلكهم (أَلَمْ يَرَوْاْ) هذا لنا: انظروا (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍۢ مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ) كان التمكين لهم أكثر من التمكين لنا ثم أهلكهم، الخلافة في الأرض:

يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلْأَرْضِ فَٱحْكُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌۢ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ(26)
(سورة ص)

قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
(سورة الأعراف)

الاستخلاف من الله.

وَٱذْكُرُوٓاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعْدِ عَادٍۢ وَبَوَّأَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَٱذْكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعْثَوْاْ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
(سورة الأعراف)

أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلْأَرْضِ ۗ أَءِلَٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ(62)
(سورة النمل)

هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَٰٓئِفَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُۥ ۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلْكَٰفِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا ۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلْكَٰفِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
(سورة فاطر)

الاستخلاف والتمكين وعد من الله تعالى
هذه الآيات، استقرأت كتاب الله -عزَّ وجلَّ -ليس فيه أمر للمسلم بأن يكون مستخلفاً أو أن يكون ممكناً له في الأرض؛ هذا وعد من الله، الأمر أن تقيم شرع الله، الأمر أن تعبد الله، الأمر أن تكون كما أمر الله، أما الاستخلاف والتمكين وعد من الله، لماذا؟ لأن الاستخلاف والتمكين أيها الإخوة الكرام يتبع للحكمة الإلهية:

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ (140)
(سورة آل عمران)

والمطلوب فقط أن تثق بموعود الله-عزَّ وجلَّ-وأن تعمل ما أمرت به، والنتيجة إما أن ترى بعينك استخلاف المسلمين في الأرض والتمكين لهم في الأرض أو ألا ترى، لكن الوعد قادم، وقد يكون عمرك قصيراً فلا تدرك هذا الوعد، لكنك ترى في السابق أن الله -عزَّ وجلَّ-مكّن لنا في الأرض، لكن الإنسان خُلق من عجل، قال تعالى:

خُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَٰتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
(سورة الأنبياء)

بين الطبع والتكليف
فإذا استعجلت التمكين واستعجلت الاستخلاف فهذا لطبع أودعه الله فيك، ولكن أتم الآية الكريمة: (خُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ مِنْ عَجَلٍ) التكليف الآن، هذا الطبع الآن جاء التكليف، كيف أن الطبع يقتضي أن تنام والتكليف يقتضي أن تستيقظ لصلاة الفجر، كيف أن الطبع يقتضي أن تنظر إلى المحرمات والتكليف يقتضي أن تغض النظر عن المحرمات، الآن(خُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ مِنْ عَجَلٍ) هذا طبع يستعجل، التكليف: (سَأُوْرِيكُمْ ءَايَٰتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) الآيات قادمة، سأوريكم لكن لا تستعجلوا، من هنا أيها الإخوة الكرام؛ جاء في الحديث الشريف عن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال- وهذا أصل في موضوع التمكين والاستخلاف-قال:

{ شَكَوْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا له: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قالَ: كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ. }

(صحيح البخاري)

الموت على المبدأ والقيم يعني الانتصار
أي اطلب لنا النصر من الله، هذا الآن الاستعجال (خُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ مِنْ عَجَلٍ)، هذا الاستعجال (أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟) الآن ماذا كان جوابه صلى الله عليه وسلم؟ هل رفع يديه إلى السماء وقال: يا رب انصرنا؟ وهو يقولها دائماً -صلى الله عليه وسلم- لكن في هذا الموطن وهم يستعجلون، ماذا كان جوابه؟ قال: (كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) عدنا إلى الاستخلاف، الاستخلاف والتمكين ليس مطلباً شرعياً أُمرنا به، الاستخلاف والتمكين وعد من الله يأتي في الوقت الذي يأذن به الله، ويكفيك أخي المؤمن أن تموت وأنت على مبدئك وقيمك فأنت منتصر مستخلف ممكن ولو كان أهل الأرض كلهم ضد دينك، يكفي أنك مكّنت لدينك في الأرض بأن مت وأنت ثابت عليه تدعو إليه، تحافظ على أسرتك وبيتك وعملك، أنا لا أقلل أيها الإخوة من قيمة الجهاد ولا من قيمة السعي إلى التمكين، لكنني أقول والقرآن يشهد: بأننا أُمرنا بشيء ووعدنا بشيء، فلنأتي بما أمرنا به ولا نستعجل ما وعدنا به لأن الله -عزَّ وجلَّ-أحكم الحاكمين، وهو -جلَّ جلاله - يعلم متى يكون النصر ومتى يكون التمكين، ومتى يكون الاستخلاف، ومتى يؤدي دوره الحقيقي، فلو جاء في غير وقته ربما ما استفدنا منه شيئاً.
أيها الإخوة الكرام؛ قبل زمن كنت عند طبيب أسنان في عيادته، وكان يعالج مريضاً والمريض يتألم، واضطُر ألا يأخذ له مخدراً بسبب صحي، والمريض يتألم كثيراً، والطبيب أدار معي حديثاً أثناء استراحته، قال لي: ما بالنا لا نُستخلف، لا نمكن، لا ننتصر؟ ما بال هذه الأمة كما ترى حالها؟ قلت له: والله حالنا مع الاستخلاف والتمكين ومع الله كحالك مع هذا المريض الذي بين يديك، قال: كيف ذلك؟ قلت: أنت تعمل في فمه وتزعجه تؤلمه، وهو يحاول أن يكفك عن العمل وأنت تتابع وهو يطلب منك ويستغيث، هل تتوقف؟ قال: لا، قلت: لِمَ؟ قال: لأني أعمل شيئاً لمصلحته لابد أن أتمه، قلت له: حالنا مع الله كذلك، نحن ندعو ونستغيث ونستصرخ وحالنا مأساوي ولا يخفى على أحد، ولا حول ولا قوة بالله، ونتألم لكن حال الله معنا- ولله المثل الأعلى- كحال الطبيب مع المريض لا ينزع عنه العلاج حتى يحين وقت نزع العلاج، ويكفيك إن مت أن تموت صابراً محتسباً، وأن تصل إلى الله بسلام وكفى.

المطلوب منا لتحقيق التمكين والاستخلاف في الأرض:
أيها الإخوة الكرام؛ الآن نعود إلى آية في التمكين والنصر والاستخلاف، ولن نأتي على غيرها من الآيات؛ لأنها تمثل المطلوب، اتفقنا أن الاستخلاف والتمكين وعد، لكن ما المطلوب؟ انظروا في سورة النور:

قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ ۚ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلْبَلَٰغُ ٱلْمُبِينُ (54)
(سورة النور)

الرسول الكريم يُطاع استقلالاً في سنته
هذا المطلوب (وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ) ما قال (أطيعوا الله ورسوله) (أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ) لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُطاع استقلالاً في سنته، ولا تلتفتوا إلى المغرضين ولا المشككين بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعكم منهم، فهؤلاء إما مغرضون وإما مهزومون، (قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ) هذا المطلوب الآن؛ أولاً الطاعة المطلقة لله ورسوله.

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا (36)
(سورة الأحزاب)

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65)
(سورة النساء)

هذا المطلوب، (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ ۚ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلْبَلَٰغُ ٱلْمُبِينُ)، الآن (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ) بعد الطاعة المطلقة لله ورسوله (ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ) إذا الاثنان الإيمان بالله الحقيقي الإيمان مع التوحيد، الإيمان الذي لا يخالطه شرك، (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ) صار عندنا طاعة مطلقة لله ولرسوله وإيمان مع توحيد، (وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ) وعمل الصالحات واسع؛ كل عمل يصلح للعرض على الله خالص ابتغي به وجه الله، صواب يوافق السنة فهو عمل صالح، عمارة الأرض بكل أنواعها عمل صالح، الصدقة عمل صالح ، الطاعة عمل صالح (وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا)

الغاية من التمكين في الأرض:
غاية التمكين أن نعيد الناس لربهم
فإذا تم ذلك كله، فما الغاية من التمكين؟ هل الغاية من التمكين أن نقيم الحفلات الغنائية؟ هل الغاية من التمكين أن نجعل الإعلام الفاسد يدخل بيوتنا ويمكّنون في الأرض؟ لا (يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا)، غاية التمكين أن نعيد الناس لربهم، أن نقيم شرع الله، فإذا مُكّنا في الأرض دون أن نحقق الشروط فسيكون هذا التمكين كتمكين الغرب الآن في الأرض، هل تتخيلون أيها الإخوة أننا لو مُكّنا في هذه الأرض ونحن على هذه الحال سنقيم شرع الله؟! لا والله، وأرجو ألا أحلف، بل سنقيم ما يقيمه الغرب في بلادهم؛ لأننا في الأصل نتطلع إليهم، فنضاعف من فسادهم عندما نُمكّن في الأرض، نحن على خوفنا وذلنا وضعفنا لا نقيم شرع الله -عزَّ وجلَّ- فإذا مُكّنا سنكون (يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا)؟! سنكون (ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ)؟! أم سنكون (نهوا عن المعروف وأمروا بالمنكر) هنا المشكلة، لذلك قلت لكم: الاستخلاف والتمكين وعد من الله، ثقوا به؛ انتهى، القرار صدر لا تراجع فيه، الله الذي يعد (وَعَدَ ٱللَّهُ) أتشك في وعد الله؟! لكن نشك في أننا نأتي بالشرط أو لا، والله ما أتينا بالشرط؛ طاعة مطلقة، إيمان، عمل صالح عندها (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ)

وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
(سورة النور)

بعد التمكين (وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أيها الإخوة الكرام؛ هذه آية من آيات التمكين واضحة جلية، التذكرة الأخيرة: التمكين وعد، الاستخلاف وعد، النصر وعد، ووعد الله آتٍ فلا تقنطوا، ولكن فلنأتي جميعاً بالشرط الذي يؤهلنا لأن نكون عند موعود الله تعالى، وأما إخوتنا المرابطون حول الأقصى الذين:

{ لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي قائِمَةً بأَمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، أوْ خالَفَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ ظاهِرُونَ علَى النَّاسِ. }

(أخرجه مسلم عن معاوية بن أبي سفيان)

فهؤلاء قاموا بواجبهم ولله الحمد والمنة، لأن الله -عزَّ وجلَّ- يأبى أن ينفرد الباطل بالساحة، فلذلك في كل عصر، وفي كل أمة هناك من يسعى لإعزاز دين الله -عزَّ وجلَّ-، وهؤلاء الأخوة سعوا لذلك فمن مات منهم مات شهيداً ومن عاش منكم عاش حميداً، وأسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يمكّننا وأن يمكّن لنا، ونحن واثقون من وعد الله -عزَّ وجلَّ- والحمد لله رب العالمين.

الخاتمة:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها الإخوة؛ في دقيقة نموذج عملي (غزوة الخندق-الأحزاب-) يصفها الله تعالى:

إِذْ جَآءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلْأَبْصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ (10)
(سورة الأحزاب)

من شدة الهول (وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠) يظنون أن الله لا ينصرهم.

هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
(سورة الأحزاب)

الآن:

وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورًا (12)
(سورة الأحزاب)

ضعاف الإيمان (مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورًا) وصلوا إلى مرحلة -وهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول من في قلبه مرض، والمنافقون مفروغ منهم: (مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورًا)، هو يضرب الصخر ويقول: "ستفتح عليكم بلاد كسرى وقيصر"، وفتحت، وبعض المخذّلين في الصفوف الخلفية يقول: " أيعدنا صاحبكم أن نفتح بلاد كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يأتي حاجته" هذا نموذج عملي.

الدعاء:
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، لك الشكر على ما أنعمت وأوليت، نستغفرك ونتوب إليك، نؤمن بك ونتوكل عليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، يا واصل المنقطعين صلنا برحمتك إليك، اللهم بفضلك عُمّنا واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم بفضلك ورحمتك أنزل على أهلنا في فلسطين من الصبر أضعاف ما أنزلت من البلاء، اللهم بفضلك ورحمتك ثبت إخواننا المرابطين في الأقصى، ثبتهم من عندك يا أكرم الأكرمين، اللهم مكّن لهم في الأرض يا أرحم الراحمين، اللهم بفضلك ورحمتك انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين.
اللهم رد الأقصى لديار المسلمين وحررهم من دنس الصهاينة المعتدين، اللهم عليك بمن قتلهم، اللهم عليكم بمن سفك الدماء، اللهم عليك بمن عاث في الأرض فساداً، اللهم عليك بمن عاث في بيوتك دماراً، اللهم إنهم يقولون: من أشد منا قوة؟! وقد غاب عنهم أنك بجبروتك أشد منهم قوة، فيا رب انتقم لعبادك المؤمنين، انتقم لعبادك المستضعفين، اللهم يا أرحم الراحمين انصر إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل مكان يُذكر فيه اسمك يا الله برحمتك يا أرحم الراحمين، واجعل هذا البلد آمناً، سخياً، رخياً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك ويهدى فيه أهل عصيانك، ويؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، وفق الله ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.