من سنن الله تعالى مع الأمم السابقة

  • اللقاء الثالث من تفسير سورة المؤمنون : شرح الآيات 31-44
  • 2024-08-24

من سنن الله تعالى مع الأمم السابقة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
هذا لقاؤنا الثالث من لقاءات سورة المؤمنون، ومع الآية الواحدة والثلاثين من السورة وهي قوله تعالى:

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ(31)
(سورة المؤمنون)

من بعدهم أي من بعد قوم نوح، الذين كذَّبوا نبيهم نوحاً عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وقد جاءهم بالأمر بعبادة الله تعالى وتوحيده وتقواه، فما كان منهم إلا أن كذَّبوه فقال:

قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ(26)
(سورة المؤمنون)

فأوحى الله تعالى إليه أن يصنع الفُلك وأن ينجو مع المؤمنين به، وختم الله تعالى القصة بقوله:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ(30)
(سورة المؤمنون)


القرن هو المدة الزمنية التي يعيش بها جيل من الأجيال:
ثم قال تعالى: (ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) والقرن هو المدة من الزمن، التي يكون فيها حدثٌ مُعيَّن أو شيءٌ مُعيَّن، يُسمّى قرناً، يعني هناك قرن نوح، وقرن عاد، وقرن ثمود، فأي مجموعة بشرية تعيش ظروف متشابهة يُطلق على هذه المدة قرن، ثم اصطُلح حديثاً على تسمية القرن بمئة سنة، يعني جيل كامل، لكن هو في الأصل في القرآن ليس له مفهوم مئة عام، وإنما له مفهوم المدة الزمنية التي يعيش فيها جيلٌ من الأجيال، قرن نوح استمر ألف عام

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ(14)
(سورة العنكبوت)

هذا هو القرن مدة زمنية، فقال: (ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ)، من هو هذا القرن؟ معظم المفسرين قالوا هم قوم عاد، الذين أرسل الله تعالى إليهم نبيَّهُ هوداً عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ(65)
(سورة الأعراف)

لماذا؟ قال: لأنَّ في القرآن في أكثر من سورةٍ ومنها الأعراف ومنها هود ذكر الله نوحاً ثم ذكر من بعده هوداً، لأنَّ هذا هو القرن الذي تلا قرن نوح، والبعض قال بل هو ثمود وهم الأقليَّة، واستنبطوا ذلك من أنَّ عذاب هذا القرن كما جاء في الآيات كان في الصيحة

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ۚ فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(41)
(سورة المؤمنون)


ما هي الصيحة؟
والصيحة ذكرها الله تعالى في إهلاك قوم ثمود، لكن الصيحة هي عذابٌ عام لا يُشترط أن يكون خاصاً بقوم ثمود، فالله تعالى أهلك عاداً بريحٍ صرصرٍ عاتية

وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ(6)
(سورة الحاقة)

فإن قلنا أنَّ الصيحة هي هذا الصوت العظيم الذي يصدر من الريحٍ الصرصرٍ العاتية فهذا مقبول، وإن قلنا أنه رافقها صيحةٌ عظيمةٌ من جبريل عليه السلام كما في بعض التفاسير، فيمكن أن يكون العذاب بالريح والصيحة معاً، على كلٍّ الغالب أنَّ هؤلاء هم قوم هود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وهم عاد.

الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ(8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(9)
(سورة الفجر)

(ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ)، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ خَيْرُ الناس قَرْني، ثمَّ الذين يَلُونَهُم، ثمَّ الذين يَلُونَهُم، ثمَّ يجيءُ أقوامٌ تَسْبِقُ شَهَادةُ أَحَدِهم يَمينَه، وَيَمينُه شَهَادتَه. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

فقرن النبي صلى الله عليه وسلم أي تلك المدة التي عاشها صلى الله عليه وسلم لاسيما بعد بعثته هي خير القرون، هم صحابته الكرام ثم يأتي التابعون ثم يأتي تابعو التابعين، هذا كل جيل يُسمّى قرن، وهو يمتد تقريباً مئة عام، لذلك الآن اصطُلح على تسمية القرن أو على جعل القرن مئة عام.

فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ(32)
(سورة المؤمنون)

هذا الرسول منهم أي من عشيرتهم، من قومهم، بشراً مثلهم، ينطق بلغتهم.

الله تعالى أرسل رسوله بشراً ليصح الاقتداء به:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(4)
(سورة إبراهيم)

هذه كلها يختصرها المولى بقوله (مِّنْهُمْ) يعني منهم أولاً بشر مثلهم، لأنه لو كان مَلَكاً أو لم يكن بشراً، كان مخلوقاً من نوعٍ آخر لما صحَّ الاقتداء به، فالقدوة يجب أن تعاني الظروف التي يُعانيها المُقتدي، يتنازعها الخير والشر، تشتهي كما يشتهي غيرها، قال صلى الله عليه وسلم:

{ اللَّهُمَّ إنَّما أنا بَشَرٌ، أغضَبُ كما يَغضَبُ البَشَرُ، وأَرْضى كما يَرْضى البَشَرُ، فأيُّما مُسلِمٍ لَعَنْتُه في غيرِ كُنْهِه، فاجْعَلْها له صلاةً وأجْرًا. }

(أخرجه شعيب الأرناؤوط)

أمّا لو كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغضب، لا يعتريه الغضب، لا يمكن الاقتداء به، يقول الإنسان أنا أغضب من كل شيء، لو كان لا يشتهي النساء صلى الله عليه وسلم لما صحَّ الاقتداء به في غضّ البصر وحفظ الفرج، فبشرية الأنبياء هي الدافع للاقتداء بهم، لأنهم يعانون الظروف التي يعانيها المدعوون، فمنهم أولاً أنه بشر، ثانياً أنه من القبيلة أو العشيرة، يعني هو ما جاء للعرب من التُرك، أو بالعكس وإنما جاء منهم، من عشيرتهم، من قبيلتهم حتى يعرفوه، النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تحدث عنه جعفر رضي الله عنه مخاطباً النجاشي قال: "حتى بعث الله فينا رسولاً منّا، نعرف أمانته، وصدقه، وعفافه، ونسبه" فهذا باعثٌ قوي على الإيمان به، لأنهم عايشوه قبل البعثة فوجدوه عند الحديث صادقاً، وعند المعاملة أميناً، وعند وجود الشهوة عفيفاً، ثم نسبه معروفٌ بينهم، فهو من بني هاشم صلى الله عليه وسلم من خير قبائل العرب، من قريش، فهذا المعنى الثاني، أولاً منهم بشرٌ مثلهم، ثانياً هو منهم من قبيلتهم، من عشيرتهم، من بيئتهم، ثالثاً يتكلَّم بلسانهم، أي بلغتهم، (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فكل هذه المعاني يختصرها المولى بقوله: (مِّنْهُمْ).

رسالة الأنبياء جميعهم هي التوحيد والعبادة:
(أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ) كل الأنبياء جاؤوا بهاتين الكلمتين التوحيد والعبادة، نوح عليه السلام:

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(59)
(سورة الأعراف)

هنا أيضاً (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ).

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)
(سورة الأنبياء)

إمّا أن يبدأ بالحركة أو أن يبدأ بالعقيدة، لكن كلاهما متكاملان، بمعنى أنه لا بُدَّ من عقيدة هي التوحيد، ولا بُدَّ من عملٍ هو العبادة، أنت في يومك تتعلم أشياء عديدة، أشياء في التجارة، أشياء في الأدب، أشياء في الاقتصاد، أشياء في الإعلام، تتعلم معلومات كثيرة لكن أعظم ما تتعلمه هو توحيد الله، أن تعلم أنه لا إله إلا الله، وفي يومك تفعل أشياءً كثيرة، تذهب إلى نزهة، تذهب لزيارة صديق، تذهب إلى عملك، تتحرك، لكن أعظم حركةٍ تتحركها هي العبادة، أن تقف بين يدي الله مُصلّياً، أو تذهب إلى عملك ناوياً خدمة المسلمين، مُخضِعاً عملك لمنهج الله، يعني العمل عبادة بهذا المعنى، فالحركةُ عبادة، وما يجول في ذهنك توحيد، فإذا اكتمل التوحيد مع العبادة تكاملا، كان هذا أعظم شيءٍ يفعله الإنسان، توحيد وعبادة، لذلك كل الأنبياء جاؤوا بالتوحيد والعبادة، لذلك قال بعض العلماء: الدين واحد فلا يصحّ أن يُقال أديان إلا على سبيل المجاز، يعني يقال أديان على سبيل المجاز، بمعنى دين الإسلام، ودين النصارى، ودين اليهودية، مجازاً، أمّا في الحقيقة الدين واحد، وهو توحيد الله وعبادته.

الشرائع تختلف لكن الدين واحد وهو عبادة الله وتوحيده:
لكن قال تعالى:

وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)
(سورة المائدة)

الشرائع تختلف، اليوم في المناهج الحديثة يكون مطلوب في الصف الرابع من التعليم الأساسي أن يتعلم الطالب هذه الأمور، الآن تؤلَّف مناهج كل حين لكن لا بُدَّ أن تشمل هذه الأمور الثلاثة، فيوضع منهاج جديد يعالج هذه القضايا اللغوية بطريقةٍ جديدة تناسب العصر، نقول هذا الكتاب طبعة عام 2016 تغيَّر المنهاج طبعة 2018 لكن في كل المراحل، وفي الرابع ينبغي أن يتعلم الطالب اللغة العربية المرفوعات الفاعل، ونائب الفاعل، واسم كان، وخبر إنَّ، وغير ذلك من المرفوعات، والمبتدأ والخبر، هذه لا بُدَّ أن يتعلمها لكن كيف الطريقة؟ تختلف نضع النص ثم نستخرج القواعد، نضع القاعدة ثم نطبِّق عليها هذه شرعة ومنهاج، أمّا مفردات المنهاج واحدة، الله تعالى دينه هو الإسلام وهو عبادة الله وتوحيده، لكن كل نبي جاء بشرعةٍ مختلفة في بعض الجزئيات والتفاصيل بغية تحقيق هذين الهدفين.

سبب معارضة الملأ من القوم دعوة الرسل:
(أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ) الكلام نفسه، هذه السورة توضِّح ذكر الأنبياء فيها هدفه شيءٌ واحد وهو وحدة الكلمة التي جاء بها الأنبياء، ثم وحدة الموقف الذي واجه به الكلمة المترفون والملأ من القوم، وقلنا الملأ هم الذين يملؤون المكان ويملؤون العين، فينظر الناس إليهم لأنهم في صدر المجلس فسُمّوا ملأً، وهم غالباً أول من يعارِض دعوة الرُسل، لأنها ستقضي على مكانتهم المصطنعة، التي اصطنعوها لأنفسهم بالبغي والظلم والعدوان، لذلك لمّا النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى قومه بالإسلام بدؤوا يعرضون عليه مقاسمة المُلك، لأنهم لا يريدون الاستغناء عن الميزات، ولا يتوهمون أن غيره جاء إلى الميزات، لا يعقلون المبادئ والقيَم يعقلون الميزات، فقالوا إن شئت المُلك ملَّكناك علينا لكن دع لنا ميزاتنا، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لمّا جاء دعا فوراً إلى عبادة الله تعالى ووحدانيته، ولو أنه جاء بقيَم أخلاقية فقط لما عارضه قومه، إن كنت ستبقي الحُكم بأيدينا والمُلك لنا، فتكلم عن الصدق والأمانة والحب والسلام ما شئت، ما عندنا مشكلة، لكنه صلى الله عليه وسلم انتصر للتوحيد، قال: لا أنا جئت للتوحيد، وعرف ما في داخلهم لأنهم يريدون السيادة، فقال لهم: إن قلتم هذه الكلمة دانت لكم العُرب والعجَم، يعني لن ينزل مُلكُكم شيئاً، لكن سيتحوَّل من الطريق الخاطئ إلى الطريق الصحيح، قولوها وأن أضمن أن تدين لكم العُرب والعجَم معاً، أنتم الآن تدين لكم العُرب، بالتوحيد ستدين لكم العجَم، لكن بقوة الله، فالمعركة دائماً بين النبي غالباً ما تكون مع الملأ من القوم.

وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ(33)
(سورة المؤمنون)

(كَفَرُوا) الكُفر هو الغطاء، والكفران هو إنكار ما جاء به النبي (وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ) وخصَّ التكذيب بلقاء الآخرة بالذكر لأنه الأساس في الإنكار.

عندما تستهدف اللَّذة فإنها لا تكفي الإنسان وتتحول إلى خسران:
(وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي أنعمنا عليهم نعَماً زائلة في الحياة الدنيا حتى تنعَّموا بها، الترف أحبابنا الكرام في القرآن الكريم ورَد في ستة مواضع ولم يرِد إلا مذموم، لم يرِد الترف في كتاب الله تعالى إلا مذموماً، والترف يأتي في اللغة على معانٍ منها التنعُّم بالدنيا، هذا ترف، يعني استهداف النعمة، استهداف اللَّذة، أن تصبح اللَّذة هي الهدف، وهذا الإنسان عندما يستهدف النعمة تنقلب اللَّذة إلى خُسران، اللَّذة ربنا عزَّ وجل منحها للإنسان، لكن طلب منه أن لا يستهدفها وإنما يجعلها وسيلةً وليست غاية، كل الناس عندهم شهوة تجاه المرأة، النساء تجاه الرجل، هذه الشهوة إذا استُهدِفت يملّها الإنسان، من هنا تجد الآن الانحرافات بدأت لأنه لا يرضى بزوجته، يريد العشيقة والخليلة، انتقلت إلى أنه لا يرضى بالنساء يريد الرجال، انتقلت إلى أنه لا يرضى بالرجال يريد الحيوانات، لأنَّ الَّلذة استُهدِفت فما عادت تكفي، متى استُهدِفت اللَّذة لا تكفي الإنسان، متى كانت غايته هي الله ورضوان الله فالحلال يكفيه، الحلال يكفي الإنسان عندما يريد الله، ولا يكفيه شيءٌ من الحرام عندما يريد اللَّذة لذاتها، فالترف هو التنعُّم وقد ورَد في الحديث، ونبينا صلى الله عليه وسلم يخاطب معاذ بن جبل قال:

{ إياكَ والتنعمَ، فإِنَّ عبادَ اللهِ ليسوا بالْمُتَنَعِّمِينَ }

(الألباني صحيح الجامع)


الترف دائماً يرتبط بالفسق والبُعد عن منهج الله:
بمعنى أنهم ليسوا يقصدون النعمة بذاتها فيتنعمون، التنعُّم مرفوض، لكن أن تستثمر النعمة في طاعة الله مطلوب، لكن أن تتنعَّم بمعنى أن تجعل النعمة هدفاً هذا هو المرفوض، فالترف تنعُّم، الترف طغيان، تجاوز للحدود، الترف تجبُّر وبغي، لذلك ورَد في بعض القواميس العربية أنَّ المُترَف هو الجبار، لأنه تمكَّن من النعمة واستحوذ عليها كقارون، لمّا تمكَّن من النعمة

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ(78)
(سورة القصص)

تجبَّر، الترف في القرآن الكريم نتاجه أو الأمور التي يرتبط بها دائماً أولاً الفسق.

وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16)
(سورة الإسراء)

أولاً الفسق، يرتبط الترف بالبُعد عن منهج الله، الخروج عن منهج الله، يرتبط بالظلم والسكوت عن الفساد، يرتبط بمواجهة الهداية، يأتي النبي بالدعوة فيواجهونه، يرتبط بمناهضة الرسل وتكذيبهم كما في هذه الآية: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) ويرتبط باستحقاق الآية، لأنَّ الله يُهلك المترفين، هذا هو الترف في هذه الآية، فهنا ما الذي قاله المترفون؟ قالوا: (مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) كما قلنا سياق الآيات في سورة المؤمنون ليس لبيان قصص الأنبياء مع أقوامهم التفصيلية كما في سورة هود مثلاً، لا، فقط بأن الله عزَّ وجل أرسل الرسول فدعا إلى العبادة والتوحيد، فواجهه الملأ فدعا ربه فأهلكهم الله، هكذا السياق هنا، لذلك بدأ بنوح عليه السلام، ثم بهود عليه السلام ثم قال:

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ(42)
(سورة المؤمنون)

كما سيأتي، ثم ذكر سيدنا موسى وعيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام وخَلفِهم، يعني أول نبيَين وآخِر نبيَين وبينهما (ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ)، السياق هو عاقبة التكذيب، عاقبة المُكذبين، هذا هو سياق السورة، بحسب سياق السورة نفهم القصص التي ترِد فيها، القرآن ليس فيه تكرار، بحسب السياق نفهم وجود هذا الجزء من القصة أو هذا الجزء من القصة.
قالوا: (مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) الكلام نفسه، الحُجة نفسها وهو أنَّ هذا بشر، ونحن لا نتَّبِع بشر، (مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ)، وقالوا عن نبينا صلى الله عليه وسلم:

وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)
(سورة الفرقان)

يعني هم يريدون شيء غير محسوس، غير مادي، ملائكة تنزل من السماء إليهم، مائدة تنزل من السماء.

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُّبِينًا(153)
(سورة النساء)

يريدون الشيء المحسوس والإيمان مبني على الشيء الغيبي وليس المادي.

لا يحصل ترف في المجتمع إلا بوجود فقر شديد:

وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ(34)
(سورة المؤمنون)

نطيعه وهو بشر! نُطيع مَلَكاً، نُطيع كائناً من الفضاء، لكن لا نطيع بشراً مثلنا، ما الذي له علينا من فضل؟ (إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ) طبعاً هذه حُجج وليست هي الحقيقة، الحقيقة هي أنَّ الملأ من قومه علموا أن الإيمان به واتباعه سيقضي على ترفهم وعلى أكلهم حقوق الناس، ما الذي أترفهم؟ لا يحصل ترف حقيقي إلا بوجود فقر حقيقي، لذلك في المجتمعات التي يكون فيها ملأ ويكون فيها ضعفاء، هذه المجتمعات فيها مشكلة كبيرة جداً، كلما الطبقة الوسطى غابت فأنت أمام مشكلات كارثية لا حصر لها، عندما يأتي شخصاً ويقيم حفلاً يُنفق فيه الملايين وينظر إليه آخر بعينيه وهو لا يجد قوت يومه، فأنت أمام ما يُسمّونه إرهاب.
كان سيدنا علي رضي الله عنه يقول: "كاد الفقر أن يكون كُفراً" وكاد الفقر أن يكون إرهاباً، وكاد الفقر أن يكون حسداً وحقداً، لذلك لا يحصل ترف في المجتمع إلا بوجود فقرٍ شديد، لأنَّ الثروة أصبح عشرة بالمئة من الناس في هذا البلد يملكون تسعين بالمئة من الثروة، وتسعين بالمئة يملكون عشرة بالمئة من الثروة، والله تعالى يقول:

مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7)
(سورة الحشر)

المال يجب أن يكون متداولاً بين أوسع شريحة في المجتمع، لا يكون متداولاً بين فئة، تداوله بين فئةٍ محدَّدة يؤدي إلى الترف، لأنه أصبح هناك مبالغ كبيرة فينفقها في المحرمات، وينفقها في التوسع الشديد في المباحات، لكن في الغالب المُترَف ينتقل إلى المحرمات وليس إلى التوسع في المباحات فحسب.

أعظم إنكار المكذبين هو إنكارهم للبعث بعد الموت:

وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ(34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ(35)
(سورة المؤمنون)

إنكارٌ للبعث، وهذا ما عليه معظم الأقوام المُكذّبين أنهم كانوا يُنكِرون البعث بعد الموت، وإن كان هذا عقلاً غير وارد لأنهم وجِدوا وبعِثوا بعد الموت، كانوا من العدم فأصبحوا موجودين كما قال تعالى:

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27)
(سورة الروم)

أن يُعيدهم بعد موتهم وقد أنشأهم من العدم.

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ(36)
(سورة المؤمنون)

هيهات بمعنى بَعُد بعيداً، وهيهات اسم فعل ماض بمعنى بَعُد، نحن عندنا في اللغة اسم وفعل وحرف، الاسم يفيد حدث مجرد من الزمن، إذا قلت كتاب هذا اسم فيه حدث وهو الكتاب، متى تمَّت الكتابة في الماضي، في الحاضر، في المستقبل؟ لا نعلم لكن هناك كتاب، هذا نسُمّيه اسم، حدث من غير زمن، والفعل هو حدث مع الزمن، كتب في الماضي، يكتب الآن، اكتب في المستقبل، فالفعل والحدث والزمن، والاسم هو الحدث من غير زمن، والحرف هو الكلمة التي لا تستقل بمعناها في نفسها في ذاتها، كأن تقول في، لا معنى لكلمة في، إلا أن تقول في المدرسة، الآن عندنا شيءٌ اسمه اسم الفعل، هو معناه معنى الفعل لكن شكله شكل الاسم، لأنه لا يقبل علامات الفعل، فسمّوه اسم الفعل، يعني الفعل: كتب، كتبت، كتبتُ، تكتب، سأكتب له لواحق يقبلها، أمّا هيهات لا تقبل هيهاتُ هيهاتها، لا تقبل علامات الفعل، فقالوا هي اسم فعل هذا من فقه اللغة، هي اسم فعل معناها معنى الفعل لكن شكلها لا يقبل علامات الفعل، فهيهات أي بَعُد.
(هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ) وهيهات الثانية للتوكيد، يعني بعيد هذا الذي يعدكم إياه وهو أن تُبعثوا، يعني أعظم مشكلة عند الكافر أن يكون هناك بعث، وأن هناك حساب، وهو قد أمضى حياته في معصية الخالق، المجرم لو لم يقل في كل لحظةٍ هيهات هيهات أن يقبضوا عليّ لتوقف عن إجرامه، السارق إذا وقف مع نفسه لحظة صفاء وقال لك: سيُقبَض عليّ وسأقضي بقية حياتي في السجن، لتوقف عن السرقة، لكن هو دائماً يقول في ذاته هيهات هيهات، تقول له: ولكنهم قبضوا على أُناس كثيرين، يقول لك: لم يتخذوا الاحتياطات، أنا غيرهم، هو لو فكَّر أنه سيُقبَض عليه لما أقدم على السرقة، فهؤلاء المُكذِّبون لو فكَّروا لحظة أنَّ لهم موقفاً بين يدي الله ما أقدموا على الظلم، (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ) الأمر بعيد جداً، لن يأتي.

إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(37)
(سورة المؤمنون)

قال نموت ونحيا، يعني ليست الحياة بعد الموت وهي البعث لأنهم ينكرونها، ما معنى (نَمُوتُ وَنَحْيَا) يعني نموت نحن ويحيا من بعدنا أبناؤنا، مات أجدادنا وجئنا نحن من بعدهم، أو في تقديم وتأخير يعني (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) نحيا فيها ونموت فيها، نحيا في هذه الحياة ثم نموت، كِلا الأمرين وارِد، (نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ليس هناك بعث أبداً، هي حياتنا تمضي، يأتي جيل، يخلق جيل، نموت وانتهى، بعث لا يوجد بعد الموت.

من حجج المكذبين أيضاً اتهامهم نبيهم بالافتراء والكذب:

إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ(38)
(سورة المؤمنون)

زادوا حُجةً أُخرى وهي اتهام نبيهم بالافتراء، والافتراء هو الاختلاق وهو من أشد أنواع الكذب، فالكاذب قد يذكر شيئاً فيتوهم شيئاً، أو قد يُحرِّف القصة فيذكرها على خلاف ما وقعت، أمّا المفتري فيختلق قصةً ليس لها وجود، يعني يأتيك بقصة يقول لك: أنا اجتمعت مع فلان وكذا وهو لم يجتمع أصلاً مع فلان، والكاذب هو اجتمع معه لكن لم يقل له ذاك، قال له شيءٌ آخر، أو ذكر نصف ما قاله له وتوقف عند النصف الآخر، وهو قال له بعدها شيءٌ آخر يُعدِّل ما قاله في البداية، فالكاذب يكذب في تفاصيل الحياة، المُختلق أو المُفتري يأتي بشيءٍ ليس له أصل أبداً، كله كذب بكذب، فهذا افتراء، فاتهموا نبيهم بأنه يفتري على الله كذباً، بأنه يدَّعي أنه رسول وهو ليس رسولاً، ويدَّعي أنَّ الله أخبره بالبعث وهو ليس كذلك (وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) أي بمُصدقين.

قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ(39)
(سورة المؤمنون)

ما قاله نوح قاله هود، أو صالح عليهما السلام (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ) أي بتكذيبهم إياي انصرني عليهم، فقد استنفذوا فرصتهم فانصرني عليهم وانتقم منهم.

قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ(40)
(سورة المؤمنون)

عم قليلٍ أي بعد قليلٍ، عم تأتي بمعنى بعد، وما زائدة للتوكيد، أي بعد قليلٍ ليصبحن نادمين، (لَّيُصْبِحُنَّ) قد تكون بمعنى الصباح، يعني في الصباح ستأتي الصيحة أو (لَّيُصْبِحُنَّ) بمعنى التحوُّل الصيرورة، يعني ليصيرُنَّ نادمين، ومتى يندم الإنسان؟ الإنسان يندم يعني المُكذِّب يندم غالباً بعد وقوع العذاب، أو بعد وقوعه في المأزق، لمّا قتل أحد ابنَي آدم الآخر بعد ذلك

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31)
(سورة المائدة)


الله جلَّ جلاله لا يُهلِك إلا من استحق العذاب:
المصيبة أنَّ الإنسان يندم بعد أن يقع في المعصية، أو يندم بعد وقوع العذاب، وعندها يفوت الأوان.

قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ(40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ۚ فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(41)
(سورة المؤمنون)

الصيحة هي صوتٌ قويٌ جداً يأتيهم فيهلك الإنسان به، الإنسان له قدرة على تحمل الأصوات، أحياناً يأتي صوت شديد جداً يخرق أُذُنه، يقول لك: خرق جدار الصوت، فتخيَّل الصيحة الشديدة التي تُهلك الإنسان يموت بعدها، يعني هي قوية جداً الصيحة، أو هي تلك الصوت العظيم الذي في الريح الصرصر العاتية التي أصابت قوم عاد، إن قلنا هم قوم عاد.
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ) يعني استحقوا هذه الصيحة، استحقوا العذاب والله تعالى لا يُهلك إلا من يستحق العذاب.

ما هو غُثاء السيل؟
(فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً) عندما يأتي السيل، الماء ينزل المطر فيأتي السيل يجرف معه بقايا النباتات أعواد الأشجار، بقايا القمامة التي في الطرقات، هذه غُثاء، أو هي تلك الرغوة البيضاء التي تعلو الماء الزبَد

أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ(17)
(سورة الرعد)

فإمّا هذه أو تلك، على كلٍّ هي غُثاء كغُثاء السيل، ونبينا صلى الله عليه وسلم نسأل الله السلامة، وصف ما يُعانيه المسلمون في آخر الزمان بأنهم غثاءٌ كغثاء السيل:

{ يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُق، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟! قال: لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، لَينزِعَنَّ اللهُ مِن صُدورِ عدُوِّكم المَهابةَ مِنكم وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوَهَن؟ قال حُبّ الدُنيا وكراهية الموت. }

(رواه أحمد وأبو داوود)

وينبغي إذا قرأنا مثل هذه الأحاديث، أن يكون دافعنا أن نتلافى أن نكون كمن ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن يكون الحديث دافعاً لنا على الاستسلام، البعض يقول لك انظر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم نحن غُثاءٌ كغُثاء السيل، النبي صلى الله عليه وسلم يُحذرنا أن نصل إلى هذا، ليس أنك معجب أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما كان وانتهى الأمر، ينبغي أن تعمل لئلا تبقى الأمة في حالة الغثائية، حتى يكون الفهم صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، هو تحذيرٌ بأن نصل إلى هذه المرحلة مع ما فيه من إخبارٍ لما سيكون، وهذا من دلائل نبوُّته صلى الله عليه وسلم.
(فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ۚ فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بُعداً لهم يعني طرداً لهم من رحمة الله لأنهم ابتعدوا عن الحقّ، فكان جزاؤهم البُعد عن الله تعالى، وظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين (فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

قصة الأنبياء والدُعاة قصة تتكرر في كل قرن وفي كل جيل:
(ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ) هذه القرون لا يذكرها الله تعالى هنا يذكرها في سورة هود، في هذه السورة يُدخِل ذكرها:

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ(61)
(سورة هود)

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ(84)
(سورة هود)

هناك قرونٌ أُخرى، في المرة الأولى قال قرناً، لأنه ذكر قرن واحد، الآن (قُرُونًا آخَرِينَ) في كل قرن جيل، ونبي ودعوة، ومصدقون، ومكذِّبون، وهلاك، ونجاة، القصة نفسها متكررة، الآن ستتكرر مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتكررت معه، وتتكرر في كل زمان مع المُصلحين والدُعاة الذين هم ورثة الأنبياء، في هذه الآية سلوى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل داعيةٍ بعده، في أنه ستواجَه بالطريقة نفسها، الطريقة أنك تأتي لهداية الناس لدعوتهم إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وحده، العنصران المهمان في كل دعوة، سيقوم إليك بعض الناس لاسيما المنتفعون من الفساد، والإفساد والمال والترف، سيواجهونك، سيتكلمون عليك، سينشرون عنك الأكاذيب، سيُبررون عنادهم وفجورهم وخصومتهم بمبرراتٍ واهية لا أساس لها، ستلتجئ إلى الله تعالى وحده ليحميك من كيدهم ومن فجورهم في الخصومة، فينصرك الله ولو بعد حين ويُهلكهم، هذه قصة الدعاة، قصة الأنبياء يذكرها الله تعالى، فقال:

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ(42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ(43)
(سورة المؤمنون)

هذه نكرة في سياق النفي عامة، يعني أي أمةٍ أي أية مجموعةٍ من الناس لا تسبق أجلها ولا تستأخر عنه، فلا تُهلَك قبل موعدها ولا بعد الموعد الذي قدَّره الله تعالى لإهلاكها.

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(34)
(سورة الأعراف)


لكل أمةٍ أجل آتٍ لا محالة:
كما أنَّ الأفراد لهم أجل، فأنت ولدت في يوم كذا، بتاريخ كذا، ساعة كذا، ومعلومٌ أنك ستغادر الدنيا بيوم كذا، بتاريخ كذا، بساعة كذا، فالأمم أيضاً تخضع لما يخضع له الأفراد، لها آجال، وهذا التاريخ شاهدٌ بين يدينا، اليوم بعض الأقوام لهم شواهد، أي إنسانٍ يزور مصر يذهب ويرى تاريخ الفراعنة بأُم عينه، وكيف أصبحوا أثراً بعد عين، ومدائن صالح وغير ذلك، وقوم عاد التي لم يُخلق مثلها في البلاد لا نرى آثارهم لكن نعلم يقيناً أنهم جاؤوا وغادروا، فالأمم لها أجل، وهذه الأمة إن صحَّ تسميتها أمةً أصلاً، التي تكيد لأهلنا في فلسطين ما تكيده اليوم، إن صحَّ أن نُسمّيها أمة فهذا فيه بعض العزَّة لهم، وهم أذلةً لهم أجلهم، والأمة مجموعة أُناس لهم أجل سينقضي، فالهناءة كل الهناءة لمن وقف ضدهم، ولم يُسالمهم، ولم يتكلم عنهم بخير، والشقاء كل الشقاء لمن وقف بصفهم ونافح عنهم، وهم قتلةٌ مجرمون، لكن هم أجلهم آتٍ لا محالة.

إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا(7)
(سورة الإسراء)

فالوعد قادم، وبالمناسبة تاريخ الأمم الحديثة بالعموم كلها من باب القرن الزمني الحقيقي الذي تعرفنا عليه وهو المائة سنة، فهذه الأمة التي بدأت باحتلال أرضٍ وتشريد شعب في عام 1948 نعلم أنَّ أجلها قد اقترب إن شاء الله (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ)، (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ).

سُنَّة الله أن يُهلك كل أمةٍ كذبت رسولها وينجي المؤمنين:

ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ ۖ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ۚ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ۚ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ(44)
(سورة المؤمنون)

أي متواترين يأتي كل واحدٍ بعد الآخر، تترى اسم وليس فعل (تَتْرَى) أي متتالين يتلو أحدهم الآخر، رسول بعد رسول لأنَّ الله تعالى ما ترك أمةً بغير رسول.
(كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ) قدَّم المفعول به على الفاعل (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ۚ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا) بالهلاك بسبب التكذيب.
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ۚ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) يعني أحاديث جمع حديث أو أحدوثة، يعني حتوُّتة بالعاميَّة، اليوم يجتمع بعض أبنائنا في مراكز تحفيظ القرآن، تقول لهم المُدرِّسة سأحكي لكم قصة عاد، أين عاد؟! اليوم قصة فرعون، كيف كذَّب، وكيف دخل البحر باليم وأغرقه الله تعالى وانجاه الله ببدنه، هو فرعون بجبروته أصبح قصةً ترويها المعلمة لطلابها، هذا حجمه الآن (وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) صار الناس يتندرون بالحديث عنهم، بعد أن كانوا ربما لا يجرؤون عن الحديث عنهم في حياتهم بسوء، كي لا يصيبهم أذى مخابرات هؤلاء (وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ).
(فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) يعني يُطرَدون من رحمة الله تعالى، فهذه سُنَّة الله تعالى الماضية، كما قلنا حدَّثنا الله عن قوم نوح، وقوم عاد، وبعد ذلك قرون أُخرى توالت، وأمم جاءت وذهبت، وسُنَّة الله تعالى أنَّ كل أمةٍ تُكذِّب رسولها يُهلكها الله تعالى، ويُنجي رسوله والمؤمنين معه وهذه السُنَّة كذلك، إلى أن ذكر المولى جلَّ جلاله بعد ذاك موسى عليه السلام، ثم عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فذكر أول نبيَين في البشرية وآخِر نبيَين قبل رسالة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، هذا والله تعالى أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.