أين الخلل؟

  • خطبة جمعة
  • 2025-02-14
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

أين الخلل؟

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.

لا بُدَّ للمؤمن أن يستعد لشهر رمضان:
وبعد أيُّها الإخوة الأحباب: فها قد انتصف شعبان، سبَقه رجب الفرد، ويليه إن شاء الله تعالى رمضان الخير، اللهم بلِّغنا رمضان، وقد قيل: في رجب تزرع بذرةً، وفي شعبان تسقيها، وفي رمضان تحصُد خيراتها، لا بُدَّ للمؤمن أن يستعد لشهر رمضان، كما أنه يستعد لضيفٍ عزيزٍ قادمٍ عليه، بعد غياب سنةٍ كاملة، فإذا جاء رمضان وقد استعدَّ المؤمن له بالتوبة، كان رمضان تحليةً بعد التخلية، الآن يجب أن نتخلى من الذنوب، أن نتخلى من شهوات النفس، أن نبرأ إلى الله من ظلمٍ ظلمناه لأنفسنا، أو ظلمناه لخلق الله تعالى، حتى إذا جاء الأول من رمضان، جاءت التحلية من أول يوم، تحليةً بعد التخلية.
أيُّها الإخوة الكرام: هذه الأشهُر الثلاث المتتالية، رجب وشعبان ورمضان، تُذكِّرنا بصفحاتٍ مشرقة من تاريخنا، عندما نقرأ التاريخ، لا نقرأه لنقول كان جَدّي وجَدُّك، ولكن لنقول هذا جَدّي وجَدُّك، هذا عملي وعملك، هذا ما ينبغي أن نُقدِّمه لأمتنا، لا نقرأه للتفاخر، ولا للتنازع، ولا للاختلاف، فإن قرأناه للتنازع، فحسبنا قوله تعالى:

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(141)
(سورة البقرة)


لا بُد أن نقرأ التاريخ لاستنباط الدروس والعِبر والفوائد:
لكننا نقرأ التاريخ قراءةً، لاستنباط الدروس والعِبر والفوائد، التي تفيدنا في حاضرنا وفي مستقبلنا، انطلاقاً من قوله تعالى:

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(111)
(سورة يوسف)

أيُّها الإخوة الأحباب: في رجب كانت غزوة تبوك، وكانت معركة اليرموك، وكان تحرير القدس على يد البطل صلاح الدين الأيوبي، وفي شعبان كانت القادسية، وفي رمضان كانت غزوة بدر، وكان فتح مكة، وكان فتح الأندلس، وكانت معركة حطين، وكانت معركة عين جالوت، كل ذلك كان في هذه الأشهُر المباركة.

أين الخلل؟
أيُّها الإخوة الكرام: عندما نقرأ التاريخ، ثم نقفز إلى حاضرنا، فنجد ذلك البَون الشاسع، بين ما كان وما هو كائن، فإن سؤالاً يقفز إلى الذهن، أين الخلل؟ أين المشكلة؟ لماذا اليوم قد تداعت الأمم على أمة الإسلام

{ يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم، لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ }

(صحيح أبي داوود)

كما قال صلى الله عليه وسلم، أين الخلل؟ كيف نبحث عنه؟ وكيف نخرُج من واقعٍ مؤلم، إلى مستقبلٍ رشيد، المسلمون في معركة أُحُد، خالفوا أمراً واحداً من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أمراً تشريعياً، لم يقل لهم والعياذ بالله، حاشاهم، دَعوا الزِنا ففعلوه، حاشاهم، كان أمراً تكتيكياً، إدارياً، قال لهم صلى الله عليه وسلم

{ عن البَراءَ قالَ : جعلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ على الرُّماةِ يومَ أُحُدٍ وَكانوا خمسينَ رجلًا عبدَ اللَّهِ بنَ جُبَيْرٍ، وقالَ: إن رأيتُمونا تَخطفُنا الطَّيرُ، فلا تبرَحوا من مَكانِكُم هذا حتَّى أُرْسِلَ لَكُم، وإن رأيتُمونا هزَمنا القومَ وأوطَأناهُم فلا تبرَحوا حتَّى أُرْسِلَ إليكُم. قالَ: فَهَزمَهُمُ اللَّهُ. قالَ: فأَنا واللَّهِ رأيتُ النِّساءَ يُسنِدنَ على الجبلِ، فقالَ أصحابُ عبدِ اللَّهِ بنِ جُبَيْرٍ الغَنيمةَ أي قومِ الغَنيمةَ : ظَهَرَ أصحابُكُم فما تَنتَظِرونَ؟ فقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ جُبَيْرٍ: أنَسيتُمْ ما قالَ لَكُم رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ؟ فقالوا: واللَّهِ لَنَأْتينَّ النَّاسَ فلَنُصيبنَّ مِنَ الغَنيمةِ، فأتَوهم فصُرِفَت وجوهُهُم وأقبَلوا مُنهزمينَ }

(أخرجه البخاري وأبو داوود)

أي وصلنا إلى مرحلةٍ من الهزيمة، بحيث أصبحت الطير تأكل منّا، إياكم والنزول من على جبل الرُماة، لكنهم نزلوا، فكان نزولهم ومخالفتهم لأمرٍ واحدٍ من أومر رسول الله، سبباً في هزيمتهم، الآن انظروا إلى القرآن الكريم عندما تحدَّث عن الواقعة، ماذا قال تعالى:

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(165)
(سورة آل عمران)

(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ) أي في أُحُد، (قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا) أي في بدر، أين الخلل؟ لما أصابتنا تلك المصيبة؟

إذا وقعت مُصيبةٌ وجّه أُصبُعك إلى الداخل:
ما قال لهم جلَّ جلاله، قل إنها من عند أعدائكم، ولا من تآمُر الدول عليكم، ولا من الماسونية، ولا من الصهيونية، ولا من الاستعمار والاستكبار الغربي، (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) وجَّه لهم سهام النقد إلى الداخل فوراً، إذا وقعت مُصيبةٌ، وجّه أُصبُعك إلى الداخل، قل هو من عند نفسي، إذا وقعت مُصيبةٌ للمسلمين، قل لعلها بسبب تقصيرٍ منّي، يجب أن أقوم، أن أُغيِّر، أن أفعل شيئاً (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ).
أيُّها الإخوة الكرام: مصيبة المصائب، أنَّ كثيراً منّا إذا أصابه خير، نسب الخير إلى نفسه مباشرةً، كانت تجارته رائجة في عامٍ من الأعوام، هذا بسبب أنني درست السوق جيداً، وعرفت كيف أُدير العملية بكاملها، إذا نجح طلابه، هذا بسبب التعليم الجيِّد والوقت الذي أنفقته، لكن عندما يقع الإخفاق في شيءٍ، فإنه ينسبه إلى الله، "صنع الله"، كلمة حق أُريد بها باطل، الفشل ينسبه إلى ربّه، والنجاح ينسبه إلى نفسه،

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا(43)
(سورة الإسراء)

فأيها الإخوة الكرام: لا بُدَّ إذا وقع خلل، أن يكون الجواب (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) كما وجَّه القرآن الكريم.

الأمة نوعان: أمة التبليغ وأمة الاستجابة:
أيُّها الإخوة الكرام: أين الأمة اليوم؟ عندما أتحدث عن الأمة، فالأمة نوعان: أمة التبليغ وأمة الاستجابة.
أمة التبليغ: اليوم ملياري مسلم، اليوم في الأرض ربع سكان الأرض مسلمون، هذه أمة التبليغ، بلغتها الرسالة فقط، لكن أين الأمة؟ أي أمة الاستجابة، الذين استجابوا للتبليغ، هؤلاء كم هُم والله لا أعلم، لكن لا أظنهم كثيرين للأسف.
أمة الاستجابة: هم الذين استجابوا لله ولرسوله، أنت اليوم عندك دعوة لعملٍ مهم، دعوت ألف شخص، لكن من جاء للعمل؟ مئة، هؤلاء أمة الاستجابة، الباقي تبلَّغوا لكنهم لم يأتوا، والمسلمون اليوم مليارا مسلمٍ تبلَّغوا بالرسالة، لكن من الذي يعمل لهذه الرسالة؟ هذه أمة الاستجابة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)
(سورة الأنفال)

وعندما أسأل أين الأمة؟ فإنني أسأل هذا السؤال من واقعٍ، انظر إلى هذا السؤال في صلاة الفجر، كم تجد من أمة الإسلام في صلاة الفجر؟ انظر إلى أمة الإسلام في الأفراح، كم تجد من أمة الإسلام مَن أفراحهم وفق منهج الله؟ انظر إلى أمة الإسلام في شبابها وبناتها، كم تجد من شبابنا مَن يحمل همَّاً؟ وكم تجد من بناتنا مَن تحمل همَّاً؟ همَّ أمة، هذه أمة الاستجابة التي نتحدث عنها.

أمة الإسلام لا تموت ولا تُستأصل:
أمة الإسلام أيها الكرام، لا تموت، ولا تُستأصل، هذا وعد الله، أنه لا يستأصل هذه الأمة، أكثر من ألف وأربعمئة سنة، والأمة باقية، كم كِيد لهذه الأمة؟ قال لي أحدهم يوماً: والله إني لأتعجَّب من مكر الأعداء بنا، كم يمكرون بنا؟ قلت له والله إني لأتعجَّب من بقائنا! كم نحن أقوياء بقوة الله تعالى، كل هذا المكر وما تزال الأمة قائمة، وما تزال المساجد مفتوحة، في بلدنا هذا الذي نعيش به، ستّون سنة، من أعظم أهداف الحزب البائد، القضاء على الإسلام، وانظر إلى الإسلام أين هو وانظر إلى الحزب أين هو؟! سخَّروا المراكز الثقافية، والمدارس كلها، منذ أن كنّا صغاراً لنُردِّد شعاراتهم، فلمّا كبرنا قلنا: قائدنا للأبد سيدنا محمد، فأنا لا أعجب من مكر الأعداء، بل أعجب من أنَّ الله تعالى تكفَّل بحفظ هذه الأمة العظيمة.
أيُّها الكرام: أمة الإسلام لا تموت لكنها تنام أحياناً، ثم تستيقظ وتصحو، وأنا والله لست متفائلاً تفاؤلاً ساذجاً، ولكنني أعي أننا والله أعلم، في مرحلة الصحوة بعد النوم، نسأل الله التمام.
أيُّها الإخوة الكرام: الأمة موجودة، لكنها كثيراً ما تغيب في واقع الحياة، فلا تجدها في واقع الحياة، وما نُريده هنا أن نبعث الأمة من جديد، بجهودنا جميعاً، وبتربية أبنائنا، وبشبابنا، وبنسائنا، أن نبعث الأمة من جديد.

الأمة هي التي تصنع الدولة وليست الدولة من تصنع الأمة:
الأمة أيُّها الكرام، هي التي تصنع الدولة، الدولة لم تصنع أمةً أبداً، لا تنتظروا من الدولة أن تصنع أمةً، يعني نحن ننتظر الدولة الإسلامية الرشيدة، من أجل أن تصنعنا، لن تصنعنا الدولة، نحن نصنع الدولة، الأمة عندما تكبر وتلتزم شرع الله، نحن نصنع الدولة، الأمة تصنع الدولة، وليس العكس شرع الله يُحكَّم عندما تكون هناك أمةٌ تخضع له، وليس عندما تجد أمةً تتحايل لتتهرب منه، نحن نصنع الدولة عندما نترك الرِبا، نحن نصنع الدولة عندما نُعرِض عن المُنكرات، نحن نصنع الدولة، عندما نأوي بأولادنا وبناتنا إلى تربيةٍ إسلاميةٍ رشيدة، نحن نصنع الدولة.
أيُّها الإخوة الكرام: لا ينبغي أن نستهين بعملٍ، مهما يكن هذا العمل صغيراً، لا تقل هذا العمل بسيطٌ وصغير، هو لبِنة في بناء الأمة، انظروا إلى قوله تعالى:

وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ(92)
(سورة التوبة)

يرفع الله تعالى الحرَج، عن مَن جاءوا إلى رسول الله ليحملهم في الجهاد، فلم يجد ما يحملهم عليه، قال: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) خلَّد القرآن الكريم هذه الدمعات الطاهرة، التي سالت على الوجنات الطاهرة، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم حزنوا لأنه لم يكن لهم نصيبٌ في الجهاد، فخلَّد الله دمعاتهم، فحتى الدمعات عند الله غالية، فما بالك بالعمل؟ ما بالك بالجهد؟

الأمة التي صنعها النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم:
أيُّها الإخوة الكرام: الأمة التي صنعها النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، أنشأت دولةً فتحت بلاد كِسرى وقيصر.
ما الذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في بيعتي العقبة الأولى والثانية؟ كان يبعث الأمة، دار الأرقم دارٌ صغيرة، ليس فيها تبريد، ولا تدفئة، ولا وسائد، ولا أي وسيلةٍ من وسائل الراحة، ولا إنترنت، ولا فضائيات، دارٌ متواضعة جداً، قريبة من الصفا، تُطل على بيت الله الحرام، هذه دار الأرقم، لصحابيٍ جليل خُلِّد اسمه باسمها، الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، هذه الدار الصغيرة، تخرَّج فيها الخلفاء، أبو بكر، عثمان، علي، وآخرهم عمر رضي الله عنهم، كلهم خرّيجو دار الأرقم، سادة الشهداء تخرَّجوا في دار الأرقم، جعفر بن أبي طالب، زيد بن حارثة، خرّيجو دار الأرقم، المُموِلون للدعوة، دافعو الأموال، تخرَّجوا في دار الأرقم، عبد الحمن بن عوف مثلاً، الصابرون الذين نسمع عنهم، تخرَّجوا في دار الأرقم، خبَّاب بن الأرت، عمار بن ياسر، بلال الحبشي، خرّيجو دار الأرقم، أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح، خريج دار الأرقم، المُبشَّرون بالجنَّة، معظمهم من خرّيجي دار الأرقم، السفراء في دار الأرقم، مصعب بن عمير رضي الله عنهم، كل الأسماء الامعة التي كان لها أعظم الفضل في الأمة الإسلامية، تخرَّجوا في دار الأرقم، وخرَّجوا مَن بعدهم على نهج هذه الدار المتواضعة، التي لم يكن فيها أي وسيلةٍ من وسائل الدنيا، لكنها كانت متصلةً بالآخرة، وكان فيها الجِد والعمل والاجتهاد لرفعة الدعوة.

كلمة من خطبة قاضي دمشق بعد تحرير بيت المقدس :
أيُّها الإخوة الأحباب: اسمحوا لي كنموذج، أن أعود بكم عبر البُعد الزماني، إلى يوم الجمعة، السابع والعشرين من رجب، السنة الثالثة والثمانين بعد الخمسمئة للهجرة، وعبر البُعد المكاني إلى المسجد الأقصى المبارك، ها هو صلاح الدين الأيوبي، وقد يسَّر الله تعالى له، تحرير المسجد الأقصى من أيدي الغاصبين، بعد احتلاله قريباً من مئة عام، على أيدي الفرنجة الغاصبين، ندخل المسجد الأقصى، فإذا نحن بالمسلمين قد جلسوا على أرض المسجد، لا يتمايز أميرهم عن صغيرهم، وبينهم صلاح الدين الأيوبي، ها هو مُحي الدين القُرشي، قاضي دمشق يصعد المنبر، ليخطُب بالناس خُطبةً عصماء، افتتحها بقوله تعالى:

فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(45)
(سورة الأنعام)

ثم قال: << أيُّها الناس، أبشروا برضوان الله، الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العُليا، لما يسَّره الله على أيديكم، من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وتطهير هذا البيت، الذي أذِن الله أن يُرفع ويُذكر فيه اسمه، من رجس الشرك والعدوان.
ثم قال: إياكم عباد الله أن يستذلكم الشيطان، فيُخيِّل إليكم أنَّ هذا النصر، إنما كان بسيوفكم الحِداد، أو خيولكم الجياد، لا والله ما النصر إلا من عند الله>>.
ومما جاء في خُطبته: احذروا عباد الله، بعد أن شرَّفكم الله بهذا الفتح الجليل، أن تقترفوا كبيرةً من مناهيه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)
(سورة محمد)

خذوا في حسن الداء، وقطع شأفة الأعداء، ثم قام صلاح الدين الأيوبي، وخلع رداءه، وبدأ بنفسه بتطهير المسجد الأقصى، وفعل المسلمون مثل فعله.

صلاح الدين الأيوبي لم يكن نتاج لحظةٍ طارئة وإنما كان نتاج أمة :
أيُّها الإخوة الأحباب: صلاح الدين الأيوبي، هذا القائد البطل الذي نتغنى ببطولاته، لم يكن فرداً، ولم يكن نتاج لحظةٍ طارئة، ولو كان كذلك لما فتح القدس كلها.
صلاح الدين الأيوبي، كان نتاج أمة، لمّا أراد صلاح الدين الأيوبي أن يفتح الأقصى، ربَّى أمةً، افتتح المدارس، وأنشأ الجيل، وعلَّم الأطفال، هذه المدرسة التي بجوار المسجد هنا، المدرسة العُمرية المعروفة، هذه المدرسة أُنشِئت في عهد صلاح الدين الأيوبي، في السنة السابعة والسبعين بعد الخمسمئة، قبل خمس سنواتٍ من فتح بيت المقدس، هذه إحدى المدارس، المدرسة العُمرية، وهذا الحيّ الذي نحن فيه، هو حيّ الصالحية، لكثرة الرجال الصالحين من أهله، ولكثرة مَن جاءه من الصالحين، وتربّوا فيه من أهل نابلُس، ومن أهل بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، تربَّى الصالحون في هذا الحيّ، وفُتحت المدارس التي كانت تُعلِّم الدين الصحيح، العِلم مع التزكية، مع التربية، مع التوجيه، مع العمل.
نحن اليوم عندنا مدارس كثيرة، لا أقصد بالمدارس المُنشآت، وإنما طُرق التدريس والتعليم، هناك من يعتني بالتصوف وبالتزكية، على العين والرأس، لكن هل هذا يكفي؟ الجواب لا، وهناك مَن يكتفي بالعلوم النظرية، سيُصبح علم الفقه والحديث، كعِلم الهندسة والبتروكيماويات، تماماً لا يفرق شيئاً عنهم، ولا يُزكّي النفس.
وهناك من يفعل هذا وذاك، لكنه لا يحث الناس على الحركة، لذلك وجدنا في هذه العَشر، نسأل الله السلامة، وجدنا الكثير ممن سقط في هذه الأزمة، سقط أخلاقياً، وسقط قيَمياً، وسقط نفاقاً، وسقط لأنه لم يتربَّ التربية الصحيحة، التي تجعله يُفضِّل مصلحة الإسلام، وأهل الإسلام، على مصالحه الضيِّقة، وجدنا كل ذلك.
لكن صلاح الدين الأيوبي، كانت مدارسه تشع علماً، ونوراً، ومعرفةً، وجهاداً، وخيراً، وبركةً، هذه مدارس دمشق، وهذه العُمرية واحدة منها، واليوم بفضل الله تعالى، وأسأل الله أن يُتمّ فضله علينا جميعاً، تقوم وزارة الأوقاف مشكورةً، باسترداد هذه الأوقاف المنهوبة، التي لو أُعيدت إلى حظيرة الإسلام، وأهل الإسلام، لملأت الدنيا علماً، كما كانت دمشق تملأ الدنيا علماً، دون أي حاجة لأي تبرُّع، بأموال الوقف فقط، التي تُنهب ولا يُطالِب بها أحد من ستّين سنة.

السرقة من المال العام أعظم من السرقة من المال الخاص:
أيُها الكرام: تربّى الناس خطأً، أنَّ السرقة من المال الخاص كبيرةً، يعني أنا أسير في الطريق، ويأتي أحدهم ويسحب من جيبي مئةً، هذا سارق، ويُقام عليه النكير لأنه سارق، لكن الذي يسرق من المال العام هذا ليس سارقاً، هذا شاطر، ثم يتبرع، ينفق زكاة ماله أيضاً! الذي يأخذ وقفاً أجره في اليوم الواحد مليون ليرة، يأخذه في السنة كلها بمليون، هذا ليس سارقاً، هذا شاطر، استطاع أن يوقِّع عقد! هذا أعظم السارقين، لأنه تعلقت به حقوق الأُمة كلها، سنأتي جميعاً يوم القيامة لنطالبه بأموالنا، بأموال أولادنا، بأموال جيلنا، فالسرقة من المال العام أعظم من السرقة من المال الخاص، المال الخاص يتعلق بمن سرقت منه، قد تعتذر منه فيسامحك، أو تُعيد له فيعفو عنك، أمّا السرقة من المال العام تتعلق بأمةٍ بأكملها، تُسرق أموالها وتُنهب، ولا أحد يُطالب بها، لكن الله عزَّ وجل، حسيب هؤلاء الذين يسرقون المال العام.

لا تقلق على هذا الدين إنه دين الله تعالى:
أيُّها الإخوة الأحباب: لا نقلق على هذا الدين، إنه دين الله تعالى، ولكن يجب أن نقلق على أنفسنا، فيما إذا سمح الله تعالى لنا، أو لم يسمح، أن نكون جنوداً لنصرته، الدين منصور بنا أو بغيرنا، والله قد ينصره بالرجُل الفاجر، ليس بالصالح بل بالفاجر، هكذا سُنَّة الله، أنَّ دينه منصور، كثيرون من الإخوة الكرام الذين غادروا دمشق قبل سنواتٍ كثيرة، أكثر من عشرة أعوام، ربما من ثلاثين أو أربعين سنة، كانوا يظنون أنهم سيعودون إلى دمشق، ليجدوها لا مساجد فيها، ولا خُطب، ولا دروس، ولا حُفَّاظ، ولا معاهد، فذُهلوا لما رأوا! لأنَّ الله تعالى حفظ دينه، بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليل، فالله تعالى ناصرٌ دينه، ومظهرٌ أمره، لكن التحدي الأكبر أن نسأل أنفسنا، هل نحن في خدمة هذا الدين، أم والعياذ بالله في خندقٍ آخر؟
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطَّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حِذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، وأستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبُنا عليك اتكالنا.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرّ، مولانا رب العالمين.
اللهم يا أرحم الراحمين، كن لأهلنا في فلسطين وفي غزَّة، عوناً ومُعيناً وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبَّلاً يا أرحم الراحمين.
اللهم رُدَّ كيد الأعداء في نحورهم، اللهم إنّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم مُجري السحاب، مُنزل الكتاب، هازم الأحزاب، سريع الحساب، اهزم الصهاينة المُعتدين، ومَن والاهم، ومَن أيَّدهم، ومن وقف معهم.
اللهم وانشر الأمن والأمان في ربوع بلادنا وبلاد المسلمين، ووفِّق مَن وليِّتهم أمورنا لما فيه خير البلاد والعباد، إنك وليُّ ذلك والقادر عليه.
وصلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين .