رمضان شهر التغيير
رمضان شهر التغيير
يا ربنا لك الحمد، ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته. |
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً. |
لله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص:
وبعد فيا أيُّها الإخوة الكرام: فإن لله خواص، في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فإنَّ الله تعالى خلق الخلق كلهم، واصطفى منهم أنبياءه ورُسله، ففضّلهم على جميع الخلق تفضيلاً، ثم اصطفى من أنبيائه ورُسله أولي العزم من الرُسل، ثم اصطفى من أولي العزم، نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعله خير الخلق كلهم. |
أيُّها الإخوة الأحباب: وخلق الله الأمكنة والبلاد، ثم اصطفى منها بيوته، فجعل بيوته في الأرض المساجد، ثم اصطفى من المساجد ثلاثاً، لا تُشد الرِحال إلا إليها، المسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى. |
أيُّها الإخوة الأحباب: نحن على أبواب رمضان، وهذا الشهر العظيم نستقبله في كل عام، ضيفاً، عزيزاً، كريماً، يحلُّ بديارنا، نسأل الله أن يُبلِّغنا رمضان، ولو أنَّ كل واحدِ منكم الآن، أجرى جرداً سريعاً، لخرج معه أشخاصٌ كُثُر، من أحبابه، وأقربائه، وأصدقائه، كانوا معه في رمضان الماضي، ولكنهم ليسوا معنا في رمضان القادم، فهذه سُنَّة الحياة، فمادام الله تعالى، أذِنَ وسمح بأن نعيش إلى رمضان، فهذه نعمةٌ كبيرة يُدركها ذوي الأبصار النافذة. |
كل العبادات شرعها الله من أجل التغيير ورمضان شهر التغيير:
أيُّها الإخوة الأحباب: رمضان شهر التغيير، لأنَّ كل إنسانٍ منّا له شخصياتٌ ثلاث، شخصيةٌ يكونها هي أنت وأنا، بما نحن عليه من محاسن ومساوئ، من إيجابياتٍ وسلبيات، أنا وأنت، شخصيةٌ يكونها، وهناك شخصيةٌ يكره أن يكونها، شخصية المجرم، يقول لك أكرهها، السارق، الوصولي، المنافق، |
أكره أن أكونها، وهناك شخصيةٌ يُحبّ أن يكونها وهي القدوة والأُسوة، من أجل ذلك يسعى الإنسان دائماً إلى التغيير، أن يُغيِّر ما بنفسه وبحاله، ليرقى إلى الشخصية التي يُحب أن يكونها، فالتغيير سمةٌ من سمات المؤمن، أنه يُغيِّر، ويُبدِّل، ويُطوُّر، ويسعى إلى أن يُغيِّر حاله إلى أفضل حال، قبل أن يحين موعد الفراق، ورمضان شهر التغيير، بل لا أُبالغ إذا قلت: إنَّ كل العبادات التي شَرَعها الله تعالى، إنما شَرَعها من أجل التغيير، الصلاة، قال تعالى: |
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)(سورة العنكبوت)
الصلاة تُغيِّر، يكون هناك فحشٌ في القول، ومنكراً في الفعل، فتأتي صلاة المؤمن فتُغيِّر حاله فيصبح كلامه مُتَّزناً، لا سُباب فيه ولا فحشاء، وفِعله صالحاً لا مُنكر فيه ولا زور، فالصلاة تُغيِّر. |
الصدقة والزكاة من أجل التغيير: |
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103)(سورة التوبة)
فأنت بعد الصدقة حالك مختلفٌ عن ما قبل الصدقة، بعد أن تدفع الصدقة، أنت طاهر النفس، زكيُّ النفس، فالصدقة من أجل التغيير. |
والحج من أجل التغيير قال تعالى: |
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ(197)(سورة البقرة)
من أجل أن تُغيِّر. |
والصيام من أجل التغيير: |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)(سورة البقرة)
من أجل أن تنتقل حال الإنسان، من ضعفٍ في التقوى، إلى تقوى يريدها الله تعالى، فشُرِعت العبادات لأجل أن يُغيِّر الإنسان، ولأجل أن يُطوُّر نفسه. |
ما هو الصيام الحقيقي؟
أيُّها الإخوة الكرام: يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ من لم يدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ بِهِ، فليسَ للَّهِ حاجةٌ بأن يدَعَ طعامَهُ وشرابَهُ }
(أخرجه البخاري وأحمد وأبو داوود وابن ماجه والترمذي والنسائي)
إن لم يكن الصيام مُغيِّراً للحال، بحيث يترك الإنسان شيئاً ويلتزم شيئاً جديداً، فما حاجة الله تعالى في صيامنا، من أجل أن نترك الطعام والشراب. |
ويقول صلى الله عليه وسلم: |
{ ليس الصيامُ من الأكلِ والشربِ، إنما الصيامُ من اللَّغوِ و الرفَثِ ، فإن سابَّك أحدٌ أو جهِل عليك فقل: إني صائمٌ، إني صائمٌ لا تُسابِّ و أنت صائمٌ، وفي رواية: فإن سابَّك أحدٌ فقل: إني صائمٌ، وإن كنتَ قائمًا فاجْلِسْ }
(أخرجه ابن حبان والحاكم وابن خزيمة)
هذا الصيام الفقهي من الأكل والشرب، لكن الصيام الحقيقي (ليس الصيامُ من الأكلِ والشربِ إنما الصيامُ من اللَّغوِ و الرفَثِ، فإن سابَّك أحدٌ أو جهِل عليك فقل: إني صائمٌ، إني صائمٌ لا تُسابِّ وأنت صائمٌ). |
هكذا يفعل الصيام، الصيام يُغيِّر، الإنسان قبل الصيام يمكن أن يسبّه أحد فيُبادله سبّاً بسبّ، وشتماً بشتم، لكن الصيام يُغيِّره. |
{ الصيامُ جُنَّةٌ ، فإذا كان أحدُكم صائمًا فلا يَرفُثْ ولا يَجهلْ، فإنِ امْرُؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَهُ فَليَقُلْ إنِّي صائمٌ. }
(أخرجه البخاري ومسلم)
فإن لم يُحدِث الصيام تغييراً في السلوك، فإنه يبقى امتناعاً عن الطعام والشراب فحسب، لسان حال بعض الناس اليوم للأسف، هو لسان حال ذلك الشاعر الجاهلي الذي قال يوماً: |
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَد عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا{ عمرو بن كلثوم }
لكن لسانه ولسان حاله بعد الصيام أن يقول: |
ألا لا يجهلن أحد علينا فنحلُم نحن خير الناس دينا
يحلُم على من يجهل عليه (فإن سابَّك أحدٌ أو جهِل عليك فقل: إني صائمٌ). |
أيُّها الإخوة الأحباب: |
{ قيلَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ و سلَّمَ: يا رَسولَ اللهِ: إنَّ فلانةَ تقومُ اللَّيلَ و تَصومُ النَّهارَ و تفعلُ، وتصدَّقُ، و تُؤذي جيرانَها بلِسانِها؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليهِ و سلم لا خَيرَ فيها، هيَ من أهلِ النَّارِ، قالوا: وفُلانةُ تصلِّي المكتوبةَ، و تصدَّقُ بأثوارٍ، و لا تُؤذي أحدًا ؟ فقال رسولُ اللهِ: هيَ من أهلِ الجنَّةِ }
(أخرجه احمد والبخاري)
لكن الصيام والصلاة والصدقة لم تُغيِّر في حالها، والدليل: (غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار). |
الحديث مُخيف، تُكثِر، ليس تُصلّي وتصوم وتتصدق فقط، بل تُكثِر من الصيام والصدقة والصلاة، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، لم تُغيِّر الصلاة فيها، لم تنهها الصلاة عن الفحشاء والمنكر، لم يدفعها الصيام إلى التقوى، لم تدفعها الصدقة إلى الطهارة والزكاة، كما يريد الله تعالى قال: (هي في النار). |
والحديث المشهور: |
{ أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ. }
(صحيح مسلم)
يجب أن نخرج من الصيام بتقوى الله:
أيُّها الإخوة الأحباب: يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ ثلاثُ من كنَّ فيهِ فَهوَ مُنافقٌ وإن صامَ وصلَّى وحجَّ واعتمرَ وقالَ : إنِّي مسلِمٌ : إذا حدَّثَ كذبَ وإذا وعدَ أخلفَ وإذا ائتُمنَ خان }
(الألباني ضعيف الجامع)
أيُّها الإخوة الأحباب: إذاً كل العبادات والصيام على رأسها، شُرعت من أجل أن تُغيِّر السلوك، من أجل أن ينتقل الإنسان من حالٍ إلى حال، يجب أن نخرج من الصيام بتقوى الله |
{ عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، قالَ: ”أنْ يُطاعَ فَلا يُعْصى، ويُذْكَرَ فَلا يُنْسى" }
(أخرجه الحاكم)
ويجب أن نعزم من الآن، على التوبة والتغيير، وما التوبة إلا تغييرٌ في السلوك. |
ما هي التوبة: أن أكون في واقع وأن أنتقل إلى واقعٍ آخر، فأنا أُغيِّر، سُنَّة الحياة التغيير، لماذا علة الصيام أنه يدفع إلى التقوى؟ لأنك قبل الإفطار بنصف ساعة، يبلغ منك الجهد مبلَغه، فتجلس وقد خارت قواك، وتشعر أنك مفتقرٌ إلى شُربة ماءٍ أو لقمة طعام، فتشعر بضعفك، فتعلم أنك محتاجٌ إلى ربك، فتتقي أن تعصيه، ولأنك في القيام تقف بين يديه بخشوعٍ وتذلل، فتشعر بالقرب منه والإنس به فتتقي أن تعصيه، لذلك كانت علة الصيام (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). |
متى يطغى الإنسان؟ ومتى يتقي ربه حقاً؟
متى يطغى الإنسان؟ |
كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ(6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ(7)(سورة العلق)
عندما يظنُّ نفسه مستغنياً عن الله يطغى في الأرض، ويفعل ما يحلو له. |
متى يتقي ربه حقّاً؟ عندما يشعر بضعفه، وليس هناك شيءٌ يُشعِر الإنسان بضعفه كما يفعل الصيام بالإنسان. |
أيُّها الإخوة الأحباب: كنت أقرأ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه، ربِّ العِزَّة جلّ جلاله. |
{ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وأنا أجْزِي به، ولَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ. }
(أخرجه البخاري ومسلم)
فأقول في نفسي: أليست الصلاة لله؟ أليس الحج لله؟ أليست الصدقة لله؟ فلماذا اختصَّ الصيام بعبادة الإخلاص فقال: (إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وأنا أجْزِي به)؟ |
لأنَّ الصيام أيُّها الكرام فيه الترك، الصلاة فعل، أفعالٌ وأقوالٌ مُفتتحةٌ بالتكبير، مُختتمةٌ بالتسليم، والصدقة فيها دفع مال، والحج طواف حول الكعبة، وسعي وحلق وتقصير، فكل العبادات فيها معنى الفعل، الصيام فيه معنى الترك، أن تترك شيئاً لله، وهذا غالباً ما يكون إلا إخلاصاً لوجه الله، كما هو غض البصر، امتناعٌ عن النظر، فكل عبادةٍ يكون مبناها على الترك والامتناع، فالإخلاص فيها لله أظهر وأعمق، لذلك قال: (إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وأنا أجْزِي به). |
رمضان شهر التغيير والتغيير سُنَّة كونية:
أيُّها الإخوة الكرام: رمضان شهر التغيير، والتغيير فيه يبدأ من نظام حياتك، من موعد نومك واستيقاظك، من أوقات طعامك وشرابك، ويمتد إلى علاقتك بالقرآن، فتُغيِّر تلك العلاقة من هجرٍ أو بعض هجر، إلى صلةٍ مستمرةٍ بكتاب الله، وينتقل إلى علاقتك بأسرتك، وبقيام الليل، وينتقل إلى علاقتك بأهلك وعلاقتك بالناس جميعاً، فإن سابَّه أحد فليقل إنّي صائم، فهو يُغيِّر نمط حياتك كلها، لذلك كان الصوم عبادة التغيير. |
أيُّها الإخوة الأحباب: التغيير سُنَّةٌ كونية، انظر في كون الله تعالى، كل شيءٍ يتغيَّر، قال تعالى: |
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ(28)(سورة الشورى)
تغيير. |
وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33)(سورة يس)
تغيير. |
في خلق الإنسان: |
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14)(سورة المؤمنون)
تغييرٌ مستمر. |
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ(54)(سورة الروم)
الإنسان يتغيَّر، انظر إلى صورتك قبل عشرين سنة، وانظر إلى المرآة، ستجد أثر التغيير في حياتك، لذلك كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: "الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما" ، تغيَّر لون الشَعر من السواد إلى البياض، وتغيَّرت نضارة البشرة، ثم انحنى الظهر، ثم ضعفت الرؤية، الليل والنهار وتقلبها تعمل في الإنسان، بفعل الله طبعاً، تُغيِّر بالإنسان، ضع تفاحةً على طاولة وغِب عن البيت شهراً ثم عُد، ستجد أثر الليل والنهار قد تغيَّر في التفاحة، كل شيءٍ يتغيَّر في الكون بفعل تعاقب الليل والنهار، هذه سُنَّة الله، قال: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، غيِّر أنت، أنت تتغير كل يوم فغيِّر حياتك، غيِّر السلوك، انتقل من المعصية إلى الطاعة، من البُعد عن الله إلى القُرب منه، من الفحشاء والمُنكَر إلى قول الحُسن وفعل الحُسن، تغيَّر. |
أيُّها الإخوة الكرام: |
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)(سورة آل عمران)
تغيير، رأينا هذه الآية بأُمّ أعيننا في الأشهُر الأخيرة، كيف غيَّر الله الحال وبدَّل الواقع، ما كان يتصور إنسان أن يصبح أعزة أهلها في الدنيا أذلة، لكن الله يُغيِّر، هذه سُنَّة الحياة التغيير، ثم جعل الله تعالى هذه السُنَّة الكونية أمراً شرعياً، هناك سُنَّة كونية وهناك أمرٌ شرعي، جعل الله سُنَّته الكونية أمراً شرعياً فقال تعالى: |
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ(11)(سورة الرعد)
هي سُنَّة، لأنك إن غيَّرت الأحسن إلى الأسوأ، غيَّر الله حالك من النِعمة إلى النقمة، وإن غيَّرت الأسوأ إلى الأحسن، غيَّر الله حالك من الأسوأ إلى الأحسن، فربط الله التغيير الذي يقع منه على عباده لتغييرهم هُم، فلا بُدَّ أن نُغيِّر حتى يُغيِّر الله تعالى ما بنا، لكن إذا كان التغيير إلى الأسوأ قال تعالى: |
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(53)(سورة الأنفال)
هذا تغيير إلى الأسوأ والعياذ بالله، تكون النعمة موجودةً فيُغيِّر العباد، بدل من أن يشكروا الله عليها يكفروه، فيُغيِّر الله حالهم، قال تعالى: |
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)(سورة النحل)
أيُّها الإخوة الكرام: إذا كنت في ضعفٍ، فغيِّر علاقتك بالله حتى يُحيل الله ضعفك إلى قوةٍ وعزٍّ وتمكين، إذا كنت في ضيقٍ وكرب، فغيِّر في طاعتك لله عزَّ وجل، وأحكِم صلتك به حتى يُغيِّر حالك، من الضيق إلى السعة ومن الهم إلى الانشراح (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ). |
إنَّ الناس إذا رأوا المنكر ثم لم يُغيِّروه، أوشك الله أن يعمّهم بعقاب، عندما يشاهد الإنسان منكراً وهو قادرٌ على تغييره ولا يُغيِّر، فإنَّ الله يعمّ الجميع بالعقاب والعياذ بالله. |
التغيير سُنَّة الحياة، ورمضان شهر التغيير، ويجب أن نخرج من رمضان، بل ينبغي أن يمضي كل يومٍ في رمضان ونحن نُغيِّر، وإلا فإنَّ الصيام يبقى امتناعاً عن الطعام والشراب. |
لماذا نسعد في رمضان:
أيُّها الإخوة الأحباب: لماذا نسعد في رمضان؟ ما الذي يسعدنا في رمضان؟ |
رمضان في النهار، امتناعٌ عن الطعام والشراب، حتى يصل الإنسان إلى الضعف، قبل الغروب بقليل، وليله قيام، فما إن يأكل حتى يؤذِّن العشاء، فيهرع إلى المسجد، فرمضان من حيث التعب، فيه تعبٌ زائدٌ على بقية الأشهُر، ومع ذلك نحن نسعد به، ما الذي يسعدنا في رمضان؟ سأضرب مثالين من خلالهما نعرف لماذا نسعد في رمضان. |
المثال الأول: رجُلٌ سافر إلى بلدٍ غربي، في صبيحة اليوم الأول من نزوله في الفندق، اتصل بالاستعلامات وسألهم إلى أين أذهب؟ هل هذا سؤالٌ يُسأل؟! يُجيبُه عامل الاستقبال لماذا أنت هنا؟ إن جئت سائحاً فعليك بالمتنزَّهات، إن جئت تاجراً فعليك بالمصانع والشركات، إن جئت طالباً فعليك بالمدارس والجامعات، بمعنى أنَّ الإنسان لا يمكن أن تصح حركته إلا إذا عرف هدفه، مستحيل، الآن أنا سأخرج من المسجد، أتوقف لحظة عند الباب، أُحدِّد إلى أين سأذهب، ثم أتحرك، هذه طبيعة الحياة، لا تصح الحركة حتى تعرف هدفك. |
لا يسعد الإنسان إلا إذا جاءت حركته متوافقة مع هدفه:
المثال الثاني: رجُلٌ يعمل في تجارة السجاد، وعنده كساد في السوق، فأمضى يومه من غير أن يبيع سجادةً واحدة، طوال النهار شاي وقهوة، رجع إلى بيته في المساء مرتاح لم يعمل شيئاً، لكنه منزعجٌ جداً، لأنه لم يبع ولم يُحقِّق ربحاً، بعد أيامٍ تحرك السوق، فنزل وطيلة النهار وهو يعمل، ويفرد السجاد ويعود ليطوي السجاد، وهكذا حتى خارت قواه من التعب، لكن ربح ربحاً كبيراً، عاد مساءً إلى بيته مُتعب الجسد لكنه مسرورٌ جداً، بمعنى أنَّ الإنسان لا يمكن أن يسعد، إلا إذا جاءت حركته متوافقةً مع هدفه، أمّا الحركة من غير هدف لا يسعد بها. |
لماذا نسعد في رمضان؟ لأننا مشغولون بالهدف الذي خُلقنا من أجله، حركتنا صحيحة، وحركتنا وفق الهدف، نعرف هدفنا ونتحرك الحركة المناسبة له، فنحن سعداء لأننا نعبُد الله، لأننا نتصل به، لأننا نُحبه ونشعر بحبّه لنا، لأننا انتصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا، امتنعنا عن ما أمرنا الله أن نمتنع عنه، أدِّينا ما أراد أن نؤدّيَه، غضضنا البصر، حفظنا اللسان، ونحن سعداء لأننا نسير إلى الهدف الذي خُلقنا من أجله وهو الجنَّة، ولن يسعد الإنسان إلا إذا تحرك وفق هدفه. |
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، وأستغفر الله. |
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيد. |
الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات. |
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمَّنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين. |
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبنا عليك اتكالنا. |
اللهم بلِّغنا رمضان، اللهم بلِّغنا رمضان، وأعنّا فيه على الصيام والقيام وغضِّ البصر وحفظ اللسان، واجعلنا فيه من عتقائك من النيران. |
اللهم أهلنا في غزَّة وفلسطين، كن لهم عوناً ومعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مُصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً مُتقبَّلاً يا أرحم الراحمين. |
اللهم كن للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم كن لهم عوناً ومعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً. |
اللهم بلدنا بلد الشام، اللهم متِّعه بالأمن والأمان، وانشر عليه رحماتك، وأفِض عليه من بركاتك، وصُبَّ عليه الخير صبّاً صبّا، ولا تجعل عيش أهله كدّاً كدّاً، برحمتك يا أرحم الراحمين. |
ووفِّق ولاتنا وولاة أمور المسلمين، لما فيه مرضاتك، والعمل بكتابك وسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم. |
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين. |