نحيا في سبيل الله

  • خطبة جمعة
  • 2025-05-09
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

نحيا في سبيل الله

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.
وبعد فيا عباد الله: عنوان خطبتنا اليوم: نحيا في سبيل الله، وهذه حقائق بين يدي الموضوع.

فرقٌ كبير بين مَن يعيش ومَن يحيا:
الحقيقة الأولى: معظم الناس يعيشون، قلةٌ هُم أولئك الذين يَحيَون الحياة الطيَّبة، قال تعالى:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ(124)
(سورة طه)

يعيش لكنه لا يحيا، يأكل ويشرب، يتزوج، يستمتع بمباهج الدنيا، يعيش (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا).
وفي الوجه المقابل:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)
(سورة النحل)

فرقٌ كبير بين مَن يعيش ومَن يحيا، فالحياة شيء والعيش شيءٌ آخر، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)
(سورة الأنفال)

فمَن يستجيب لله طاعةً في قرآنه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم اتِّباعاً وطاعةً في سُنَّته، فهو يستجيب لما فيه حياته (لِمَا يُحْيِيكُمْ).

الحياة الطيَّبة هي الحياة في ظلال الإيمان والقرآن:
أيُّها الإخوة الكرام: الحياة الطيَّبة هي الحياة في ظلال الإيمان والقرآن، هي الحياة مع الله الواحد الديَّان، هي حياةٌ طيَّبة ولو كان رزقك المادي فيها قليلاً، يكفي أنَّ الله رزقك معرفته والاستقامة على منهجه، هي حياةٌ طيَّبة ولو كانت فيها متاعبٌ ومصاعب، يكفي أنك تُناجيه، وأنك تبثُّه شكواك، وأنك تُخبره بهمِّك، وتعلم أنه يسمعك ويُحبك وقديرٌ على كل شيء.
هذه هي الحياة الطيَّبة، هي حياةٌ طيَّبة في الفقر وفي الغنى، في المرض وفي الصحة، في الضعف وفي القوة، هي حياةٌ طيَّبة عندما تحمل سعادتك معك في قلبك، ولا تنتظر من أسباب الدنيا الزائلة أن تُمدَّك بها، هي حياةٌ طيَّبة ولسان حالك فيها يقول، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما يفعل أعدائي بي؟ سعادتي وبستاني في صدري، إن قتلي شهادة، وسجني خلوة مع الله، ونفيي سياحةٌ في بلاد الله، فماذا يفعل أعدائي بي؟"، الحياة الطيَّبة تعني أن تحمل بستانك في صدرك، فلا يضرك بعدها أن تفقد بعض مقومات الحياة، إذا كنت تحمل السعادة في داخلك.

من طبيعة النفس البشرية أنها تتعلق بعظائم الأمور:
الحقيقة الثانية: إنَّ من طبيعة النفس البشرية، أنها تتعلق بعظائم الأمور، يريد أن يصبح حاكماً ينشر الخير في الأرض، يريد أن يُقتَل شهيداً على عتبات المسجد الأقصى، يريد أن يصبح ذا دخلٍ كبير ليُعمِّر المساجد، طبيعة النفس أنها تتعلق دائماً بعظائم الأمور، وهذا شيءٌ حسن إلى حدٍّ مُعيَّن، ويؤدّي إلى الطموح، أن يطمح الإنسان إلى الأفضل، لكن عندما تُعرِض النفس عن صغائر الأمور التي يظنها صغائر، أن يُربّي أولاده، أن يُنفق شيئاً يسيراً في سبيل الله، أن ينشُر الحق والخير في وظيفته التي يعمل بها ضمن إمكانياته، حينما تُعرِض عن الصغائر، ويتعلق بالعظائم فقط، من سلبيات ذلك أن يترك الإنسان ما بين يديه مما هو قادرٌ عليه، بانتظار أن يحين موعد ما هو بعيدٌ عنه، وبالتالي لا يقوم بشيء، وإنما ينتظر مع شعورٍ مُرهقٍ ومُتعِبٍ بالعجز والخذلان، وهذه مصيبة.
الحقيقة الثالثة: لا يخفى على أحدٍ أنَّ أُمتنا اليوم عموماً، أُمة الإسلام تعيش واقعاً مؤلماً، وهو بطبيعة الحال نتاج أكثر من مئة سنة من الإعراض عن منهج الله، ومن تَرك دفّة قيادة الأُمم لغيرنا، فهذا المجال لا يمكن أن يبقى فارغاً، فاحتله أعداؤنا، واستطاعوا من خلاله أن يفرضوا علينا ثقافتهم، وأن يجعلوا قيادتهم للعالم حرباً على المسلمين، هذا واقعٌ لا يخفى على أحدٍ، وأمام هذا الواقع المؤلم إلا من جُرعاتٍ منعشة بين الحين والآخر، يمنُّ الله بها علينا مفادها، أنني يا عبادي موجود، وأنني أسمع وأرى، وأنني قادرٌ على أن أقلب المعادلات في أي لحظةٍ، ونرى ذلك بأُم أعيننا، جُرعات منعشة بين الحين والآخر، لكن بالعموم الواقع مؤلم، أمام هذا الواقع يُحدِّث الإنسان نفسه دائماً، وهذا الحديث يُثاب عليه، يُحدِّث نفسه كيف ننهض بأمتنا من جديد؟ كيف نكون جنوداً لنصرة ديننا؟ كيف نأخذ موقعنا؟ كيف نُبرئ ساحتنا أمام ربنا؟ إن سألنا يوم القيامة ماذا فعلت؟ رأيت الناس على الشاشات يموتون في فلسطين، في غزَّة، في اليمن، في كل مكان يُذكر فيه اسم الله، تعمل آلة القتل

وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(8)
(سورة البروج)


نحن جميعاً نصغُر أمام أولئك الذين يموتون في سبيل الله:
فماذا صنعت؟ هذا السؤال لا بُدَّ من الإجابة عليه، إننا جميعاً أيُّها الكرام، نصغُر أمام أولئك الذين يموتون في سبيل الله، والله نصغُر أمام بطولاتهم، وصغُرنا سابقاً أمام تضحيات من ضحَّى في هذا البلد، واليوم ننظر إلى هؤلاء الذين يقضون إلى الله في غزَّة، فنصغُر أمامهم، أيُّ مَضاء وأيُّ قوة؟! مبتور القدَم ويخرُج ليصل إلى النقطة صفر، ويُعمِل في عدوّه ويُثخِن فيه، أيُّ رضا عن الله؟ لأُمٍّ تودِّع أولادها راضيةً بقضاء الله وتقول لن نتخلى عن ديننا، ولا عن أرضنا، يصغُر الإنسان المؤمن أمام تضحيات الذين يُضحَّون، ويُقدِّمون أرواحهم في سبيل الله ولإعلاء كلمته، ونتطلع جميعاً إلى أن نعمل بعملهم، ونُحدِّث أنفسنا بالغزو في سبيل الله، ونُحدِّث أنفسنا أن نكون يوماً جنوداً في أرض المعركة، عندما يدعونا الواجب لذلك، ولكن كما أنَّ الموت في سبيل الله مرتبةٌ شريفة، فإنَّ الحياة في سبيل الله مرتبةٌ عظيمة، الحياة في سبيل الله، الموت في سبيل الله قد يفرضه علينا الواقع، في جهادٍ في أرض المعركة، ولكن ماذا لو نحيا في سبيل الله ولسان حالنا:

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)
(سورة الأنعام)

ألا نقرأ جميعاً:

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156)
(سورة البقرة)


مَن يحيا في سبيل الله يموت في سبيل الله ولو مات على فراشه:
دعونا نقف وقفةً توضِّح المعنى: (قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ) أنا وأنت لله، نحن لسنا مُلكاً لأنفسنا، نحن نحيا لله، ونموت في سبيل الله، ونحيا في سبيل الله (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) إن لم يُتح لي ولكَ أن نموت في سبيل الله، فلماذا لا نحيا في سبيل الله؟ وعندها سيكون موتنا في سبيله إن شاء الله، فمَن يحيا في سبيل الله يموت في سبيل الله، ولو مات على فراشه.
أيُّها الإخوة الأحباب: ربما لا تنتهي حياتي ولا حياتك في أرض المعركة، وإنما تنتهي على أرض الحياة وفي معركة الحياة، ولكن يكفي لي ويكفيك شرفاً، أننا على الطريق نقضي إلى الله، لم نُبدِّل ولم نُغيِّر

مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)
(سورة الأحزاب)

يكفي أن نكون ثابتين على الحق، فلو قضينا قضينا ونحن في الطريق.
أيُّها الإخوة الأحباب: كان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ قوله تعالى:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)
(سورة النحل)

فسكت ثم قال:

{ قالَ ابنُ مَسعودٍ: « إنَّ مُعاذًا كان أمَّةً قانِتًا للهِ حَنيفًا»، فقلْتُ في نَفْسي: غلِطَ أبو عَبدِ الرَّحمَنِ، إنَّما قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120] الآيةَ، قالَ: أتَدْري ما الأمَّةُ؟ وما القانِتُ؟ فقلْتُ: اللهُ أعلَمُ، قالَ: الأمَّةُ الَّذي يُعلِّمُ الخَيرَ، والقانِتُ المُطيعُ للهِ ولرَسولهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكذلك كان مُعاذُ بنُ جَبلٍ، كان مُعلِّمَ الخَيرِ، وكان مُطيعًا للهِ ولرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم }

(الراوي : فروة بن نوفل الأشجعي ،المحدث : الحاكم، المصدر: المستدرك على الصحيحين)


كُن أُمةً لا تكن فرداً:
كُن أُمةً لا تكن فرداً، إذا قدِمت يوم القيامة جاءت معك أُسرتك التي ربّيتها على منهج الله، جاء معك موظفوك الذين أقمت فيهم منهج الله والحق والعدل، جاء معك طلابك، جاء معك مرضاك، جاء معك موكِّلوك في قضايا الحق والعدل في المحاماة، كُن أُمةً لا تكن فرداً (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا).
معاذ بن جبل هذا الرجُل أيُّها الكرام، الذي عاش ومات في سبيل الله، ولم يمُت في أرض المعركة، خرَج داعيةً إلى اليمن، وودَّعه النبي صلى الله عليه وسلم، في رحلةٍ دعوية، خرج مجاهداً في الدعوة إلى الله، لم يخرُج للقتال، خرَج داعيةً إلى الله، كم عمره؟ كم عاش معاذ بن جبل؟ ثلاثاً وثلاثين سنة، لم يعش سبعين ولا ثمانين عاماً، فلمّا حضره الموت قال: "مرحباً بالموت مرحبا زائرٌ جاء بعد غياب، وحبيبٌ وفدَ على شوق، اللهم إنك تعلم أني لم أكُن أُحب الدنيا لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلق الذِكر، فتقبَّلني بخير ما تتقبَّل به نفساً مؤمنة"، ثم فاضت روحه، هذا معاذ بن جبل، عاش في سبيل الله تعالى.

احبسوا أنفسكم في الحياة في سبيل الله لأن حياتنا كلها لله:
يقول عبدالله بن رواحة: أنا لا أزال حبيساً في سبيل الله حتى أموت، نحن محبوسون الآن أيُّها الكرام وأنا معكم في سبيل الله، احبسوا أنفسكم في الحياة في سبيل الله، حياتنا كلها لله، عبادتها، ونُسكُها، والعمل فيها، والزواج، والتربية، وميادين الحياة، والتسوُّق، والبيع والشراء، نحن محبوسون في سبيل الله، حتى يأتي الموت، الحياة في سبيل الله تتطلب جهاد العمر كله، الموت دقيقة، الموت ثانية لحظة، أمّا الحياة في سبيل الله فتمتد العمر كله.
كُن مسلماً وكـفاك بين الناس فـخـراً كُن مسـلماً وكــفـاك عـند الله ذُخـراً فإذا حييت ملأت هذي الأرض بـِشراً وإذا قضيت عرفت كيف تموت حُرّاً
{ سليم عبد القادر }
الحياة في سبيل الله جعلت الإمام إبراهيم بن الأيهم يقول: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف"، من السعادة، لقاتلنا الملوك على الحياة الطيَّبة بالسيوف، هذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، يجلس النبي في مجلسٍ بين أصحابه يقول:

{ مَن أصْبَحَ مِنْكُمُ اليومَ صائِمًا؟ قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: فمَن تَبِعَ مِنْكُمُ اليومَ جِنازَةً؟ قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: فمَن أطْعَمَ مِنكُمُ اليومَ مِسْكِينًا قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: فمَن عادَ مِنْكُمُ اليومَ مَرِيضًا قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ما اجْتَمَعْنَ في امْرِئٍ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ. }

(صحيح مسلم)

سيدنا أبو بكر كان يومه كله في سبيل الله، وكان خليفةً وحاكماً وأميراً للمؤمنين في سبيل الله.
معاذ بن جبل عالمٌ يحيا في سبيل الله، عبد الرحمن بن عوف تاجرٌ يحيا في سبيل الله، خالد بن الوليد مقاتلٌ يحيا في سبيل الله، الغُميصاء بنت ملحان، أُم سيدنا أنس بن مالك، أُمٌّ تحيا في سبيل الله.

الغُميصاء امرأةٌ تُفكِّر خارج الصندوق دائماً وتغتنم الفُرَص لفعل شيءٍ للإسلام:
بالمناسبة: الغُميصاء امرأةٌ تُفكِّر خارج الصندوق دائماً، وتغتنم الفُرَص لفعل شيءٍ للإسلام، هذه مواصفاتها، كيف ذلك؟

{ قدِمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ المدينةَ وأنا ابنُ ثمانِ سنينَ، فأخذَت أمِّي بيدي فانطلقَت بي إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فقالَت: يا رسولَ اللَّهِ إنَّهُ لم يبقَ رجلٌ ولا امرأةٌ منَ الأنصارِ إلَّا وقد أتحفَكَ بتُحفةٍ، وإنِّي لا أقدرُ على ما أتحِفُكَ بِهِ إلَّا ابني هذا فخذْهُ فليخدُمْكَ ما بدا لَكَ فخدمتُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ عَشرَ سنينَ فما ضربني ولا سبَّني سَبَّةً ولا عبسَ في وجْهي }

(سنن الترمذي)

الأن تُفكِّر خارج الصندوق كما يقولون، تبحث عن شيءٍ تفعله.
هذه الغُميصاء بعد وفاة والد أنس، خطبها طلحة وكان مشركاً، كان بإمكانها أن تقول له أعتذر عن الزواج، كما تفعل أي امرأةٍ لا يُعجبها الزوج، لكن الغُميصاء تبحث عن فرصةٍ دعوية، فماذا قالت؟ قالت: يا أبا طلحة، ألست تعلم أنَّ إلَهك الذي تعبُد، إنما هو شجرةٌ نجَرَها فلانٌ من الناس، حبشيٌ من بني فلان، والله ما مثلك يا أبا طلحة يُرَدّ، أنت لا تُرَدّ، أنت رجُلٌ تتمناك أي امرأة، ولكنك رجُلٌ كافر وأنا امرأةٌ مسلمة، وما عليك إلا أن تُسلم فذاك مهري، وما أسألك غيره، انتهزت الفرصة، قال: دعيني أنظُر أُريد وقتاً، ثم رجع فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، فقالت لابنها أنس: قُم يا أنس فزوُّجه، هذه امرأةٌ عاشت في سبيل الله، ولو أنَّ النساء كمن رأينا، لفُضِّلت النساء على الرجال.
وما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ عَيبٌ ولا التّـذكـيـرُ فَــخْـرٌ للـهِـلالِ
{ المتنبي }

عبد الرحمن بن عوف تاجرٌ عاش في سبيل الله:
عبد الرحمن بن عوف تاجرٌ عاش في سبيل الله، كان الناس يقولون، أهل المدينة جميعاً، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، شركاء لعبد الرحمن بن عوف، ثُلثٌ يُقرضهم، وثُلثٌ يقضي عنهم ديونهم، وثُلثٌ يصلهم ويعطيهم، لو رآه غريبٌ جالساً بين خدمه لا يميزه بينهم، رجُلٌ لا يعرفه دخل، وعبد الرحمن بن عوف التاجر المليونير كما يقولون، يجلس بين خدمه فلا يُميزه، يُقرِض ثُلث أهل المدينة من ماله، ويُطعِم ثلثها صدقات، ويقضي عن ديون الثُلث الثالث، تاجرٌ عاش في سبيل الله.
أيُّها الإخوة الكرام: فلنحيا في سبيل الله.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين

من أعظم ما نحيا به في سبيل الله تعالى الدعوة إلى الله:
أيُّها الإخوة الأحباب: من أعظم ما نحيا به في سبيل الله تعالى الدعوة إلى الله، يا أحبابنا الكرام نحن الآن في هذا البلد الطيِّب، في سورية الجديدة، في مرحلة البناء، نحن لسنا في ميدان المعركة، نحن لسنا في معركةٍ مع الناس، نحن في ميدان الدعوة إلى الله، لا ينبغي أن نخلط بين ميدان الدعوة وميدان المعركة، في ميدان المعركة أخلاق الجهاد:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(9)
(سورة التحريم)

في ميدان الدعوة:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125)
(سورة النحل)


نحن لسنا أوصياء على الناس فنحن دُعاة ولسنا قُضاة:
كله للأحسن، نحن لسنا أوصياء على الناس، نحن دُعاة ولسنا قُضاة، نحن لم يوكّلنا الله تعالى بالناس أن ندخلهم الجنة، لأنه جلَّ جلاله لم يوكِّل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، قال:

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ(12)
(سورة الليل)

أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(8)
(سورة فاطر)

نحن موكَّلون بالدعوة والميدان الآن مفتوح، بالحكمة والموعظة الحسنة، مرحلة البناء في سورية الجديدة، تحتاج إلى الدعوة بالحكمة، اختيار الزمان والمكان المُناسبيَن، نحن أمام إخوةٍ لنا يُحبِّون الدين، يُحبوننا، يُحبّون دين الله تعالى، فلندعُهم إلى الله بالحكمة.
جاء رجُلٌ وقال لأحد الخلفاء: سأدعوك وسأُغلظ عليك، قال: ولِمَ الغِلظةُ يا أخي، لقد أرسل الله تعالى مَن هو خيرٌ منك إلى مَن هو شرٌّ منّي، أرسل موسى إلى فرعون فقال:

فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ(44)
(سورة طه)

فلِمَ الغِلظة؟ نحن أمام إخوةٍ يُحبوننا، ندعوهم إلى الله بالحكمة، يعني باختيار الزمان، بالمكان، الوقت، الشخص المُناسب، فإذا كانوا بعيدين عن الله، عُصاة، نعظهم الموعظة الحسنة، نُخوّفهم بالله، نُبشِّرهم بما أعدَّ الله، ونُغلِّب جانب التبشير على الإنذار، نحن في ميدان دعوة، لسنا في معركةٍ مع الناس، نحن في ميدان دعوةٍ للناس، بالخير، بالكلمة الطيّبة، وبالموعظة الحسنة.

الدعاء:
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن تولَّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرِف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذلُّ من واليت، ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أنعمت وأوليت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم أهلنا في غزَّة، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم أطعِم جائعهم، واكسُ عُريانهم، وارحم مُصابهم، وآوِ غريبهم، واصرف السوء عنهم يا أرحم الراحمين.
اللهم بلدنا هذا، تغمَّده بفضلك وكريم عطائك، وواسع كرمك وجودك، وابسُط عليه الأمن والأمان يا أرحم الراحمين، ووفِّق القائمين عليه لما فيه مرضاتك، وللعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم.
وأبرِم لهذه الأُمة أمرَ رُشدٍ يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل عصيانك، ويؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، إنك وليُّ ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.