رفعت الأقلام وجفت الصحف

  • خطبة جمعة
  • 2025-05-16
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

رفعت الأقلام وجفت الصحف

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آل نبينا محمد، وعلى أصحاب نبينا محمد، وعلى أزواج نبينا محمد، وعلى ذريِّة نبينا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.
وبعد فيا أيُّها الإخوة الكرام: لربما تكلم رجلٌ ذو مكانةٍ بين قومه، فقيل بعد كلامه، هذا الكلام الذي لا كلام بعده، ولا يُضاف عليه شيء.
لربما تَجادل مجموعةٌ من الناس حول قضيةٍ من القضايا، وإذ برجُلٍ من أهل الاختصاص يحسم القضية بكلامٍ فصلٍ، فيسكُت الجميع بعد كلامه، قد يُكتَب حول أمرٍ ما الكثير، ويكتُب حوله الكثيرون، ثم يكتُب حوله رجلٌ خبيرٌ، فيُشبِع الموضوع بحثاً وفق إدراكٍ عميق ورؤيةٍ ثاقبة، فيقال: قَطَعَتْ جَهِيزَةُ قَوْلَ كُلِّ خَطِيبٍ.

البشر إذا تكلموا يُصيبون ويخطئون لكن النبي المعصوم إذا تكلم بوحيٍ من الله تعالى:
يُروى أنَّ قبيلتين من قبائل العرب، قتل رجُلٌ من إحدى القبيلتين، رجُلاً من قبيلةٍ أُخرى، فجلس القوم في ناديهم يتحاورون وعَلَت أصواتهم، يُطالبون بديِّة القتيل، ويُطالب بعضهم بالعفو، ويطالب آخرون بالقصاص، فدخلت امرأةٌ اسمها جهيزة فقالت لهم: لقد قُتِل القاتل، انتهت القصة، فقالوا: "قَطَعَتْ جَهِيزَةُ قَوْلَ كُلِّ خَطِيبٍ"، لم يعُد هناك داعٍ للكلام، هذا في كلام البشر فكيف بكلام سيد البشر؟ هذا في كلام من يُصيبون ويخطئون، فكيف إذا تكلم المعصوم صلى الله عليه وسلم بوحيٍ من الله تعالى؟ أيكون بعد كلام االله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كلام؟

{ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ }

(صحيح الترمذي)


قضية التوحيد الكلمة التي يحيا المؤمن عليها ويرجو الله أن يُختَم له بها:
أيُّها الإخوة الأحباب: في عقيدتنا كلمةٌ فاصلة، وقضيةٌ مصيرية، وكلامٌ ما بعده كلام، مَن عَلِمه ما ضرَّه لو لم يتعلم غيره، ومن جَهِله ما نفعته علوم الدنيا كلها ولو تعلَّمها، إنها قضية التوحيد، إنها الكلمة التي يحيا المؤمن عليها ويرجو الله أن يُختَم له بها

{ من كان آخرُ كلامهِ لا إلهَ إلَّا اللهُ دخل الجنَّةَ }

(أخرجه أبو داوود وأحمد)

لا إله إلا الله تعني أنه لا يعطي ولا يمنع إلا الله، ولا ينفع ولا يضر إلا الله، ولا يخفض ولا يرفع إلا الله، ولا يعز ولا يذل إلا الله، ولا يُحيي ولا يُميت إلا الله.
أيُّها الإخوة الكرام: كلمة التوحيد بُعث بها كل الأنبياء، قال تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)
(سورة الأنبياء)

وبُعث بها نبينا صلى الله عليه وسلم، فنادى قومه بأعلى صوته:

{ رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يَمُرُّ في سوقِ ذي المَجازِ وعليهِ حلَّةٌ حمراءُ وَهوَ يقولُ أيُّها النَّاسُ قولوا لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تُفلِحوا ورجلٌ يتَّبعُهُ ويَرميهِ بالحجارةِ وقد أدمى كعبَهُ وعُرقوبَهُ وَهوَ يقولُ يا أيُّها النَّاسُ لا تُطيعوهُ فإنَّهُ كذَّابٌ فقُلتُ مَن هذا فَقالوا إنه غلامُ بَني عبدِ المطَّلِبِ فقُلتُ مَن هذا الَّذي يتَّبعُهُ ويرميهِ بالحِجارةِ فقالوا عَبدُ العُزَّى أبو لَهبٍ }

(أخرجه ابن إسحاق وابن المبارك وابن سعد وابن حبان)

أيُّها الإخوة الكرام: هذه الكلمة بُعث بها النبي صلى الله عليه وسلم حرباً على كل صنمٍ يُعبَد من دون الله، سواءً صُنع من حجرٍ أو من خشبٍ أو من عجوةٍ أو كان صنَماً بشرياً من عظمٍ ولحمٍ ودمٍ.

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256)
(سورة البقرة)

مَن قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبَد من دون الله، حَرُم ماله ودمه وحسابه على الله.

النبي بدأ دعوته بالتوحيد لأنه إن صَلَح أمر التوحيد صَلَح كل شيءٍ بعده:
أيُّها الإخوة الأحباب: لو بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، دون أن يمسَّ أصنامهم وطواغيتهم بسوءٍ، ما تكلم على أصنامهم بأي شيء، ولا سفَّه طاغوتهم الذي يعبدونه من دون الله، لاتَّبَعَهُ أكثر القوم، ما الذي كان يؤلمهم؟ أنه كان يُسفِّه أصنامهم، يُسفِّه آلهتهُم التي تُعبَد من دون الله، لو أنه دعا إلى الله دون أن يُسفِّه أصنامهم لتَبِعَهُ الكثير، لو أنه جعلها دعوةً قوميةً عروبية نحن العرب، أُريد أن أعتزَّ بكم، وأن أُهاجم بكم الفُرس والروم، لاتَّبَعَهُ كثيرٌ من العرب بدعوى القومية والعربية، لو أنه جعلها دعوةً اجتماعية نريد أن نوزِّع الثروة توزيعاً عادلاً بين الناس، عدالة اجتماعية، لاتَّبَعَهُ كثيرون، لو أنه جعلها دعوةً أخلاقية فحسب، صدق وأمانة وعفاف فقط، دون أن نتحدث عن التوحيد لأُعجِب بها كثيرون، لكنه صلى الله عليه وسلم بدأها بالتوحيد، لأنه إن صَلَح أمر التوحيد صَلَح كل شيءٍ بعده، وإن فسدت كلمة لا إله إلا الله في قلوبهم، فسد بعدها كل شيء.

التوحيد أن ترى أنَّ يد الله وحدها تعمل في الخفاء:
أيُّها الإخوة الكرام: أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم نبذاً للطواغيت، وكُفراً بهم، وإخلاصاً في العبادة للواحد الأحد، ومن أجل هذه الكلمة، عانى النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وأُخرِج من بلده، وأوذي في سبيل الله، وودَّع الكثيرين من أصحابه شهداء في سبيل الله، انتصاراً لكلمة التوحيد.
التوحيد أن ترى أنَّ يد الله وحدها تعمل في الخفاء

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(17)
(سورة الأنفال)

ما انتصرنا إذ انتصرنا ولكن الله نصرنا، ما رفعنا العقوبات إذ رفعناها، ولكن الله أراد رفعها لحكمةٍ يعلمها، ليس لنا من الأمر شيء، يوم كنّا صغاراً كنّا نذهب إلى مسرح العرائس، قبل الشاشة الصغيرة التي أصبح فيها من الكرتون ما فيها، في مسرح العرائس كنّا ونحن صغاراً، نظن أن هذه الدُمى تتحرك وحدها، بسبب جهلنا وضعف إدراكنا، فلمّا كبرنا علمنا أنَّ هناك من يُمسِك الخيوط ويحركها، هي لا تتحرك وحدها، أرأيتم إلى هذا المثال؟ كل ما يجري في الكون لا تصنعه أمريكا، ولا يصنعه الغرب، ولا يصنعه الصهاينة، يصنعه الله وحده، ليس لك من الأمر شيء، نحن لنا من الأمر أن نستقيم أو لا نستقيم، لأننا مُحاسبون على ما كُلِّفنا به، لنا أن نَصدُق أو لا نَصدُق، أن نؤتمن أو نخون، لكن الكون كله يتحرك بإرادة الله تعالى وحده، هذا هو التوحيد وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.

قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(51)
(سورة التوبة)

ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(154)
(سورة آل عمران)

التوحيد يعني: أنه لا يمكن أن يمسَّني ضرٌّ إلا وقد كتبه الله لي، ولا يمكن أن يصل إليَّ نفعٌ إلا وقد أراد الله أن يصل إلَيّ

وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(107)
(سورة يونس)

قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(188)
(سورة الأعراف)

هذا سيد الخلق وحبيب الحق.
في اللغة العربية فاءٌ يُسمّيها اللغويون الفاء الفصيحة، إذا رجُلٌ تكلم كلاماً عربياً، بيّناً، واضحاً، يُقال عنه فصيح، في اللغة العربية فاءٌ فصيحة، لأنها تُعبِّر عن معنىً اختفى قبلها، مثال ذلك:
قال تعالى:

أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184)
(سورة البقرة)

هذه الفاء فصيحة لماذا؟ لأن قبلها كلمة محذوفة، فمن كان مريضاً أو على سفرٍ "فأفطَر" فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، لو صام وهو مريضٌ أو مسافر فليس عليه عدةٌ من أيامٍ أُخَر، فهي فاءٌ فصيحة، مثالها في التوحيد موضع بحثنا، قال تعالى:

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)
(سورة هود)


إذا علمت يقيناً أنَّ " الله لا إله إلا هو"، فاتخذه وكيلاً:
فإذا تيقَّنت من ذلك حقاً فاعبده وحده، وتوكل عليه وحده، أمّا إذا ظننت أن الأمر يرجع إلى أمريكا، فتوجه بالعبادة إلى أمريكا، معاذ الله، إذا ظننت أن الأمر يرجع إلى المسؤول الفلاني، فاجعل حاجتك عنده (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)

رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا(9)
(سورة المزمل)

فإذا علمت يقيناً أنَّ " الله لا إله إلا هو"، فاتخذه وكيلاً، لا تتخذ غيره لأنه لا إله إلا الله، لا معبود إلا الله، لا يُعطيني إلا الله، لا ينفعني إلا الله، لا يُعزّني إلا الله (رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا).

ما أصابنا من خيرٍ فمن الله وحده:
أيُّها الإخوة الأحباب: ما أصابنا من خيرٍ فمن الله وحده، وله المنّ والفضل وحده، وهذا الخير قد يُيسّره الله على يدٍ من الصالحين ممن يستحق الشكر

{ من لم يشكرِ النَّاسَ لم يشكرِ اللَّهَ }

(أخرجه الترمذي وأحمد)

قد يُيسِّر الله الخير على يد رجُلٍ من الناس، طبيب مؤمن صالح يُيسِّر الله على يديه شفاء ابنك، تشكر له وقلبك مُعلقٌ بالله، لكن قد يُجري الله تعالى هذا الخير على يد من لا يبتغي من الله أجراً، ولا يستحق من الناس شكراً.
أمّا أهل السياسة فلهم أن يشكروا وهذا من بديهيات العمل السياسي، أن يُشكَر من أسدى معروفاً لشخصٍ أو لبلدٍ أو لأمةٍ، لكن الدعاة وطلاب العلم وروُّاد المساجد والمؤمنون الصادقون، ليس من شأنهم خلط الأوراق، ولا تبييض صحائف المجرمين، ولا تناسي آهات الثكالى، وضلوع الأطفال، وصرخات العجائز تحت الأنقاض، وعذابات الأسرى في سجون الظالمين.

فرعون الطاغية الذي يضرب الله فيه المَثَل في قرأنه لكل طاغيةٍ يستعلي:
هذا فرعون الطاغية الذي يضرب الله فيه المَثَل في قرأنه لكل طاغيةٍ يستعلي ويقول:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ(38)
(سورة القصص)

بلسان حاله أو بمقاله، أو يقول:

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ(24)
(سورة النازعات)

بلسان حاله أو بلسان مقاله، هذا فرعون الطاغية استعبد الناس، ونشر الفتن الطائفية بينهم، واستضعف قومه، وجعل الناس شيعاً، وقَتَل من قَتَل، وأفسد من أفسد، وأفسد في الأرض فساداً عظيماً، ثم يُخاطب موسى عليه السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، يخاطبه بكل حمق مُمتناً عليه، وكأنه صاحب العطية والفضل فيقول له:

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18)
(سورة الشعراء)

ربّيتك في قصري، أعطيتك حق الحياة، كنت أُذبِّح الناس، لكنني استحييتُك (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) لم يشكر موسى للمجرم فعله، لم يقل له شكراً لك ربّيتي وليداً، بل قال له مُستنكراً:

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)
(سورة الشعراء)

هذه نعمةٌ تتكلم بها؟! استعبدَّت بني إسرائيل كلهم، ثم منحتني حقَّ الحياة وتركتني، فتجعل ذلك مِنَّةً منك وعطية (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) تمنُّ عليَّ أن أعطيتني حقاً هو لي في الأصل، وأنت منعتني منه زوراً وبُهتاناً وعلوُّاً في الأرض، وأنت مكّنت الظالمين من رقابي، وأنت تركتهم سنوات يعيثون في الأرض فساداً، وأنت مكَّنت لهم لينالوا من أهل السُنَّة في بلاد الشام، وأنت تُذبِّح الناس في غزَّة وأنت تقصف بيوت الآمنين، وكل ذلك يجري على سمعك وبصرك وبسلاحك وبمالك، ثم تمنُّ عليَّ مِنةً أن أعطيتني حقاً في الحياة، ويجب عليَّ أن أقف لأشكر لك! لن أفعل (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
اللهم ما أصبح بنا أو بأحدٍ من خلقك، من نعمةٍ فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فأتمّ اللهم نعمتك وفضلك علينا يا أكرم الأكرمين.

{ (احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) }

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم ما أصبح وما أمسى بنا من نعمةٍ، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، أتم اللهم نعمتك وفضلك علينا يا أكرم الأكرمين.
اللهم رُدَّ عن بلادنا كيد الكائدين، وتآمُر المتآمرين، ومكر الماكرين، اللهم لا تُمكِّن لهم في بلادنا يا أرحم الراحمين.
اللهم أهلنا في غزَّة، كُن لهم عوناً ومعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم اجبُر كسرهم، اللهم ارحم ضعفهم، اللهم ارحم شهداءهم، واشفِ جرحاهم، وفُكَّ أسراهم، وأدخِل الأمن والأمان إلى ربوع بلادهم يا أرحم الراحمين.
اللهم إنَّ أعداءنا قد طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وقالوا من أشدُّ منّا قوة، وقد غاب عنهم أنك أشدُّ منهم قوة، فيا أرحم الراحمين كُن لهم بالمرصاد، وصُبَّ عليهم صوتاً من عذاب، واكفنا اللهم شرَّهم بما شئت وكيف شئت، وهيئ لهذه الأمة أمر رشدٍ يُعز فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل عصيانك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم أصلِح بلادنا، اللهم أصلِح الراعي والرعيَّة، اللهم وفِّق من ولّيتهم أمورنا للعمل بكتابك وبسُنَّة نبيَّك صلى الله عليه وسلم، واجعل بلادنا أمناً أماناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وصلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.