لقاء يوسف بإخوته بعد تمكينه في الأرض

  • الدرس الحادي عشر: شرح الآيات 56 - 67
  • 2021-01-30

لقاء يوسف بإخوته بعد تمكينه في الأرض

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ، الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل بيته الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يارب العالمين.
وبعد؛ مع اللقاء الحادي عشر مِنْ لقاءات سورة يوسف عليه السلام ومع الآية السادسة والخمسين، وهي قوله تعالى:

وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
(سورة يوسف)

نريد أن نقف وقفةً متأنيةً عند قوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ) كأن الله تعالى يقول لك: ارجع إلى ما سبق من قصة يوسف لتعلم كيف تمَّ التمكين ليوسف، (وَكَذَٰلِكَ) ألقاه إخوته في الجب، ثم اُشتريَ عبداً وبيع في مصر، ودخل قصر العزيز فتعرَّض لمحنةٍ أخرى إذ:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ
(سورة يوسف)

التمكين يسبقه ابتلاء
ثم اتُّهمَ ظلماً وزوراً وبهتاناً بأنه هو مَنْ راودها، ثم أُدْخِلَ السجن فلبِثَ فيه بضع سنين، ثم هيَّأ الله تعالى رؤيا رآها الملك فطلب تعبيرها فتذكَّر صاحبُ السجن ذلك فذهب إليه فلما أوَّلها أُعجب الملك بتأويله، فجاءه يطلب حضوره فطلب براءته قبل أن يحضر بين يدي الملك ثم حضر، هذه (وَكَذَٰلِكَ) إلا أن السياق القرآني اختصر كل هذا الكلام (وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) فمعنى ذلك أن التمكين لا يكون إلا بعد الابتلاء، الأمة الإسلامية اليوم تطلب التمكين وتظن أنه يتحقق لمجرد الطلب، التمكين يسبقه ابتلاء، هذه سنَّة الله في الأرض، وهذا معنى قول الشافعي (لَنْ تُمَكَنَّ قَبْلَ أَنْ تُبْتَلَى).

التمكين والابتلاء
إذا أردت أن يُمكِّن الله لك دينك فإنه يبتليك، وإذا أردت أن يُمكِّن الله لك دنياك فإنه يبتليك، هذه سنَّة الله في الأرض، لا ينبغي أن تقفز على الابتلاء إلى التمكين فوراً، لا يصلُحُ ذلك، هذا معنى (وَكَذَٰلِكَ) كلُّ هذا الذي مرَّ في حياة يوسف والذي قرأت عنه كان سبباً في أنه وصل إلى مرحلة التمكين، خاض امتحانات العُسر ثم الآن سيخوض امتحانات اليُسر، خاض امتحانات الشِّدة والآن سيخوض امتحانات الرخاء، خاض امتحانات الضيق والآن سيخوض امتحانات الفَرَج، هذه سنَّة الله في الأرض:

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
(سورة الأحزاب)

سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
(سورة الإسراء)

الله يتعامل معنا بالسنن وليس بالأماني ي
ربنا عزَّ وجلَّ يتعامل معنا بالسنن وليس بالأماني يقول لك: (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا)، المسلمون في معركة أُحُد عَصَوا أمراً من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في بداية الدعوة، معركةٌ واحدةٌ فقط سبقت أحد؛ بدر، فلم يُعاملهم ربُّنا عزَّ وجلَّ على أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنَصَرهم رغم معصيتهم، أبداً، انهزموا، لم يُعطهم هذه الميزة حتى لا يظُنَّ الناس أن الله يتعامل مع الناس بالأماني، هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبروا معه فلينتصروا! لا، لأن ميزان التوحيد سيختلُّ عند الناس، سيختلُّ ميزان العدل، والله تعالى يريد أن تُحفظ القيم والمبادئ والموازين قبل أن تُحفظ الحركات التي تجري في الأرض، هذه حركاتٌ تنتهي.

الله يتعامل مع عباده بالسنن
سمعت كلمةً لعالمٍ جليلٍ في حربٍ حديثةٍ خاضها بعض الناس وخسروا بها، ولكن هؤلاء الناس الذين خاضوها كانوا غارقين في المعاصي إلى آذانهم كما يقال، فقال: سُررت بهزيمتهم لأنهم لو انتصروا لاختل الميزان عند الناس، فقال الناس: نعصي الله وننتصر، والمسلمون عًصوا أمراً واحداً؛ هو أمرٌ تكتيكيٌّ وليس أمراً تشريعياً لكنه أمر رسول الله:

{ عن البَراءَ قالَ: جعلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ على الرُّماةِ يومَ أُحُدٍ وَكانوا خمسينَ رجلًا عبدَ اللَّهِ بنَ جُبَيْرٍ، وقالَ: إن رأيتُمونا تَخطفُنا الطَّيرُ، فلا تبرَحوا من مَكانِكُم هذا حتَّى أُرْسِلَ لَكُم، وإن رأيتُمونا هزَمنا القومَ وأوطَأناهُم فلا تبرَحوا حتَّى أُرْسِلَ إليكُم }

(صحيح أبي داود)

مهما حصل لا تنزلوا، من أجل أن تنقذونا لا تنزلوا، فهم نزلوا لا ليُنقِذوا وإنما نزلوا ليأخذوا الغنائم، استعجلوا الغنائم فكان ما كان.

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25)
(سورة التوبة)

في أُحُدٍ عَصَوا أمراً تكتيكياً، في حنينٍ عَصوا أمراً توحيدياً، قالوا: لن نُغلَبَ مِنْ قِلَّة، فهُزموا، إذاً الله تعالى يتعامل مع عباده بالسنن ولا يتعامل مع عباده بالأماني:

لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
(سورة النساء)

هذه سُنَّةُ الحياة، فهنا قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) هذا معنى (وَكَذَٰلِكَ)أنها سُنَّةٌ ماضية، يأتي الابتلاء ثم يأتي التمكين.
(مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أي جعلناه مُمكَّناً في الأرض، أي له مكانته يأمر فيُطاع ويَنهى فيُجاب لنَهيه، هذا معنى مَكَّنَّا له، الإنسان الضعيف غير مُمَكَّن، ربما يقول فلا يُسمع لقوله، لكنَّ المُمَكَّن في الأرض يطلب فيُعطى، يأمر فيُطاع وهو مُكِّنَ له في الأرض، وهو حفيظٌ عليمٌ كما قال تعالى:

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
(سورة يوسف)

فمكَّن الله له في الأرض.

المكانة التي وصل إليها سيدنا يوسف
(وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) يَتَبَوَّأُ: أي ينزل منها، أي أصبحت الأرض يأخذ منها نُزُلاً حيث يشاء، هل (الْأَرْض) هنا مصر أم أرضٌ أوسع من مصر؟ هناك قولان لأهل العلم: البعض قال: (الْأَرْض) هنا مصر، لا يراد بها عموم الأرض وإنما يراد بها مصر حصراً لكن سماها الله تعالى (الْأَرْضِ) لأنه الأرض المعهودة في الذهن وهي مصر، وقال البعض: بل إنه قد بوَّأه الله أكثر من مصر، بدليل: أن إخوته سوف يأتون بعد حين مِنْ أرض الشام، مِنْ كنعان إليه، إذاً انتشر خبر ما سيقوم به في هذه السنوات المُجدبة من حفظ قوت الناس في الأرض فأصبح له نزلٌ في كلِّ مكانٍ ينزل به، وهذا ليس مِنَ التَرَف، وإنما أصبح له نُزُلٌ؛ لأنه كان يجوب الأقطار والبلاد حول مصر من أجل أن يؤمِّن لها احتياجاتها ويؤمِّن لها قوتها.
شأن المكان الذي ينزل به الممكَّن في الأرض
ومن المعلوم أنَّ الممكَّن في الأرض إذا نَزَل في مكانٍ كان لهذا المكان شأن، فليس هذا تشريفاً له بقدر ما هو تشريفٌ للناس إن كان عادلاً لأنه إن نَزَل في مكان فيتسارع الناس لتأمين الخدمات، الآن في عصرنا ربما تُعبَّدُ الطرقات وتُنشأ الأرصفة لأنه سيمرُّ الحاكم، فتُخدَمُ الأمكنة التي سيمرُّ بها، يُخدَمُ الناس في المكان الذي سيمرُّ به الحاكم، وفي عهد يوسف عليه السلام عندما يتبوَّأ من الأرض حيث يشاء فهنا له بيتٌ وهنا له منزلٌ وهنا له مكانٌ فتُخدّمُ المنطقة لأن يوسف عليه السلام سيأتي إليها.
(يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) هذه مشيئة يوسف في أن ينزل هنا أو هنا، قال: (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ) انظر (يَشَاءُ) و(نَّشَاءُ): يوسف يشاء والإنسان يشاء بمعنى أنه يريد شيئاً، يشاؤه، لكن مشيئته مرتبطةٌ بمشيئة الخالق، قال تعالى:

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
(سورة التكوير)

فنحن مشيئتنا مرتبطةٌ بمشيئة خالقنا، فأنت قد تريد أو تشاء شيئاً والله لا يشاؤه فلا يحصل، لكن إن شِئته ووافق أن الله عزّ وجلّ أراده حصل، فلا يحصل شيءٌ في ملك الله إلا بمشيئة الله.
فقال: (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ) لكن وصول رحمة الله عزّ وجلّ إلى الخَلق متعلقٌ بمشيئة الله لا بمشيئة يوسف عليه السلام، فقد يريد يوسف أن ينشر هنا طعاماً أو شراباً أو خيراً أو بركةً ولا يشاء الله لهؤلاء القوم ذلك فلا يحصل، وقد لا يصل يوسف إلى مكانٍ ما لكن يريد الله خيراً بأهل هذا المكان فيصل إليهم هذا الخير.

المعنيان اللغوي والشرعي للإحسان
(نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) هذه سُنَّةٌ أيضاً مِنْ سنن الله (وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) يوسف عليه السلام كان محسناً، والإحسان في أصل اللغة هو الإتقان، قال تعالى:

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7)
(سورة السجدة)

أي أتقَنَه، ويقول صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ اللَّهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتُمْ فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذبحتُمْ فأحسنوا الذَّبحَ، وليُحدَّ أحدُكُم شفرتَهُ، وليُرِحْ ذَبيحتَهُ }

(صحيح أبي داود)

فمِنَ الإحسان أن تتقِن ذبح الشاة، فإذا أتقنته لا تُؤلمها، تُحِدُّ شفرتك وتُبعدها فلا تكون قريبةً من أختها لتنظر إليها وهي تُذبح، وتذبحها فوراً بإحسانٍ أي بإتقان، فالأصل في الإحسان أنه الإتقان، وفي الشرع:

{ أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يَراك }

(متفق عليه)

وهنا يلتقي المعنيان اللغوي والشرعي، لأنك عندما تعبد الله كأنك تراه فإنك تُتقن عبادتك بين يديه لأنه يراك، فتصلِّي مُحسناً في صلاتك أي متقناً لصلاتك لأنك تُراقب الله فيها، وتصوم مُحسناً في صيامك لأن الله يراك، وتغضُّ بصرك مُحسناً في ذلك لأنك تعلم أن الله يراقب عينيك، وكذلك لفظَكَ:

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
(سورة ق)

الإحسان هو الزيادة على الفرض والواجب
فالإحسان هو المراقبة وهو الإتقان، والإحسان هو الزيادة على الفرض والواجب، مِنَ الإتقان أن تزيد على الفرض والواجب، فالنافلة إحسان، والصدقة إحسان، بينما الزكاة فرضٌ وإن كانت تحمل معنى الإحسان لكنها فرض، فقد يأتي الإحسان بمعنى الزيادة على الواجب والفرض، فيوسف عليه السلام كان مُحسناً فعل ما أوجبه الله عليه وزاد على ذلك حتى رآه من في السجن فقالوا:

إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
(سورة يوسف)

فيوسف عليه السلام كان مُحسناً، يُعطي، يمنح، يبني حياته على العطاء، والله تعالى لا يُضيع أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، أي لا يمكن أن يُحسن إنسانٌ إلا ويقع أجره على الله، سواءً كان هذا المحسن مؤمناً أم غير مؤمن، لكن ما قانون ذلك؟ الآية التي بعدها قال:

وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
(سورة يوسف)


قانون الإحسان في الدنيا والآخرة
المكافأة الدنيوية للمُحسنين
هذه سُنَّةٌ مِنْ سنن الله، انظر (وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) هذه في الدنيا، وهل المُحسن هو المؤمن فقط؟ لا، لعلَّ غير مؤمنٍ أحسَنَ لمخلوقٍ ولو أنه سقى دابةً، ولو أنه أطعم طيراً، فقد أحسَنَ، هذا إحسان، لا نستطيع أن نقول: ليس إحساناً، هنا لا نتكلم عن نيَّته ولا نتكلم عن دوافعه ولا عن بواعِثِه وإنما نتكلم عن فعله والفعل إحسان، والله تعالى قال:(وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) سواءً كان المُحسن مؤمناً أو غير مؤمن، ثم قال: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) أما الآخرة فقانونها مختلفٌ يأتي بعد المكافأة الدنيوية للمُحسنين جميعاً مكافأةٌ خاصةٌ لمن يتحقق فيه شرطان وهما الإيمان والتقوى.
الإيمان: هو عقيدة، تصديقٌ بالله، إقرارٌ بوجود الله وبوحدانيته وبكماله، إيمانٌ بالرسل، إيمانٌ بالكتب، إيمانٌ بالملائكة، إيمانٌ بالقدر خيره وشرِّه مِنَ الله.
والتقوى هي سلوكٌ بحيث يتقي أن يعصي الله فيأتمر بما أمر وينتهي عما نهى عنه وزجر، فالتقوى هي طاعة الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد للموت قبل الرحيل.
فالتقوى عمل، والإيمان عقيدة، فهما عقيدةٌ وسلوك، إيمانٌ وتقوى فقال: (لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
الآن: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) أجر الدنيا جيد، الله عزّ وجلّ يكافئ المُحسن، قد يُنفق قرشاً فتأتيه عشرة، يُضاعف له، يمكن أن يكون الإنسان لا يصلِّي لكنه بارٌّ بوالديه فيجد من آثار البرِّ في حياته ما يجده، ويقول: والله أعلم أن كل هذا من برِّي بوالدتي وسهري على راحتها وفي مرضها، ويُلقي الله في روعِه ذلك، لكنه غير مُتقٍ أو ربما غير مؤمنٍ أصلاً، فيجد أجر إحسانه في الدنيا، لكن هذا لا يُقارن لأن أجر الدنيا ينتهي، لماذا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ)؟ لأنه أولاً بالكمية لا يُقارن، يعني مثل إنسانٍ سيأخذ ديناراً وإنسانٌ سيأخذ مليون دينار، هل يمكن أن نقول: إن هناك مقارنةً بينهما؟ مستحيل ولا يتقاربان أصلاً الدينار مع المليون دينار، هذا أجره في اليوم دينار وهذا أجره في اليوم مليون دينار كيف يتقاربان؟! ثم هذا الدينار الذي يأخذه في الدنيا سيستمتع به لأيامٍ وستنقضي، والمليون سيبقى معه إلى أبد الآبدين فأيهما خير؟! إذاً أجر الآخرة خيرٌ لأنه أعظم بالكَم وفي الديمومة وفي الاستمرار (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) و(خَيْرٌ) في اللغة العربية تأتي على معنيين، المعنى الأول: أنها ضد الشر، قال تعالى:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
(سورة البقرة)

خيرٌ وشر، وقد تأتي (خَيْرٌ) بمعنى أن هناك شيئين وأحدهما أفضل مِنَ الآخر فنقول: طويلٌ وأطول، عظيمٌ وأعظم، لكن لا يوجد عندنا خيِّرٌ وأخير، هي خيرٌ نفسها فنقول:(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) يعني هناك دنيا وهناك آخرة والتفاضل بينهما أن أجر الآخرة خيرٌ مِنْ أجر الدنيا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) إذاً هناك أجران للمُحسن هذه سنَّة الله، غير المؤمن وغير المُتقي يتلقى أجره في الدنيا ولا يُضيع الله تعالى عمله، والمُتقي المؤمن يأخذ أجراً في الدنيا لكنه لا يقارن بأجر الآخرة: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).

الإيمان والتقوى
التقوى تُلازمك في كلِّ لحظةٍ
انظر (لِّلَّذِينَ آمَنُوا) جاءت بصيغة الفعل الماضي (آمَنُوا) لأنها عقيدةٌ مستقرة، أما السلوك فمستمر قال تعالى: (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) التقوى تُلازمك في كلِّ لحظةٍ مِنْ لحظات حياتك، تنزل إلى الطريق فتغضُّ بصرك، هذه تقوى، تجد إنساناً يحتاج مساعدةً فتساعده، وهذه تقوى، يحين وقت الصلاة فتدخل إلى المسجد، هذه تقوى، يدخل رمضان فتصوم، هذه تقوى، تدخل إلى المتجر فيُخطئ معك صاحب المحل ويزيدك ديناراً فتعود إليه وتُعطيه دنياراً، هذه تقوى، يسيء لك إنسان فتحلُمُ ولا تردُّ على إساءته بإساءة، وهذه تقوى، فالتقوى قال فيها: (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) لأنها عملٌ مستمرٌّ لا يتوقف، أما الإيمان: مجموعة عقائدٍ استقرَّت عندك فقال: (لِّلَّذِينَ آمَنُوا) وكأنه شيءٌ مفروغٌ منه قد حصل وانتهى واستقر وبقيَ أن تسلُكَ السلوك الذي يُعبِّر عنه فقال: (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) دائماً سلوكهم التقوى، الفعل المضارع دائماً يفيد الاستمرار، فعل ( كتب ) شيء، و(يكتب) شيءٌ آخر.

وصول خير سيدنا يوسف إلى خارج مصر
قال:

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58)
(سورة يوسف)

هنا يوجد فجوة في القصة، لكن ربُّنا عزَّ وجلَّ اختصرها كلها، لا داعي لها، لا تُهمُّنا، ما دام يوسف قد قال: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) فحِفظه وعِلمه سينبِّئك بأنه قام بالدور المطلوب منه، ما الدور المطلوب منه؟ ذكرته الرؤيا وتفسيرها، انتهى الأمر، هي سبع سنين مجدبة:

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
(سورة يوسف)

وخزَّنوا وبعد ذلك سبعاً أخرى، أكلوا مما ادخروا:

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
(سورة يوسف)

ليس في الإسلام قطريَّة ولا قوميَّة
القصة انتهت لا داعي الآن لذِكْر ما الذي حصل، الذي حصل هو الذي أُوِّلَت به الرؤيا لأنها رؤيا أنبياء، ورؤيا الأنبياء حقٌّ وذكرها القرآن فأصبحت ثابتةً لا مجال للمماراة والمجادلة فيها، فلم يذكرها لنا، فهنا ترك لك فجوة، قام يوسف بالدور المطلوب منه على أحسن قيام، إلى أن جاء إخوته يدخلون عليه يريدون طعاماً وهذا يُبيِّن أن خير يوسف قد عمَّ خارج مصر أيضاً بهذا الحفظ الذي حفظه، ويدل على أنه ليس هناك في الإسلام قطريَّة ولا قوميَّة، الإسلام أممي، وكل الأنبياء مُسلمون، ولكن الدين بمفهومه العام أممي، لم يقل يوسف: أنا لأهل مصر وحدها، من يأتيه يعطيه بالعدل، قال صلى الله عليه وسلم:

{ المسلمون شركاءُ في ثلاثٍ في الماءِ والكلأِ والنارِ }

(أخرجه أبو داود)

هذه ليس لأحدٍ أن يحتكرها، فلما جاؤوه يُعطيهم وهم ليسوا من مصر، جاؤوا من أرض الشام من أرض كنعان كما كان يقال لها، (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) الآن كيف دخلوا عليه؟ رآهم فطلب دخولهم، عرفهم.

إخوة سيدنا يوسف لم يتعرفوا عليه
قال: (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) هم لما تركوه في الجب كان صغيراً، والطفل تتغيَّر ملامحه تغيراً كبيراً، أما هو فقد تركهم وهم كبارٌ والطفل يحفظ الوجوه كما هي، ثم إن يوسف قد خاض امتحان الجبِّ والقصر والسِّجن وغيَّر ذلك فيه ما غيَّر، ثم إنه في قصره وعظمته فمَنْ يتخيَّل أنه أصبح عزيز مصر يوسف وهو الذي أُلقيَ في الجب، كلُّ شيءٍ لا يمكن أن يجعلهم يفكرون في أنه يوسف لا الشكل ولا تقلبات الزمن ولا الهيئة التي هو عليها وهو عزيز مصر، هنا نلاحظ في القصة ربُّنا عزَّ وجلَّ الآن أخفى كلَّ الشخصيات لم يعد يظهر أي شخصية، فقط يوسف مُكِّنَ له في الأرض وكأنه هو كلُّ شيء، لم يعد هناك امرأة العزيز ولا العزيز ولا الملك انتهى كلُّ شيء أصبح المشهد ليوسف وحده، فهو وحده على هذا المسرح، لأن الله عزَّ وجلَّ رفعه مكاناً عليَّاً جلَّ جلاله.
(فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) ينكرونه: أي لا يعرفونه.

وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ ۚ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59)
(سورة يوسف)

(وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ) الجَهَاز هو ما يتجهَّز به المسافر فيجعله في حقائبٍ على البعير، يجهِّز نفسه، قال: (وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ) يبدو أنه حاورهم وعلم منهم أن لهم أخاً مِنْ أبيهم، أو _ وهذا لا يبعُد_ أن يوسف عليه السلام بهذه القيادة العظيمة التي قاد بها مصر قد أصبح هناك ما يشبه في عصرنا دفتر العائلة، ما يُثبت النسب، ما يُثبت من أنت حتى يُعطى بناءً عليه، كما تعطى اليوم المعونات وكذا بناءً على الوثائق.

طلب سيدنا يوسف إحضار أخيه بنيامين
فقال: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ) أخوه هذا الذي ذكرت كتب التاريخ أن اسمه بنيامين وهو أخوه الشقيق بينما إخوته العشر الأُخر هم إخوة مِنْ أمٍّ أخرى، (قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ ۚ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ) قد وجدتم مِنْ إحساني وأنني أُعطيكم حقكم بالتمام والكمال و(أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي لا أُطَفِّف:

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1)
(سورة المطففين)

تأخذ حقك، وربما أزيدك شيئاً، لأن الإحسان الزيادة.
(وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ) أنت تنزل عندي في خير منزلة، والله تعالى ذَكَرَ أنه جلَّ جلاله إذا نزلت عنده قال:

نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32)
(سورة فصلت)

أنت لك عند الله نُزُلٌ، كلَّ ما رأيت في الدنيا إنساناً أُكرِمَ نُزُلُه هذا تراه أكثر شيءٍ على الشاشات، أُكرِمَ نزُلُه إذا جاء إلى بلدٍ أُكرِم نُزُله فتذكَّر أن هذا الإكرام لا يُعادل شيئاً أمام إكرام الله تعالى للمؤمنين يوم يُكرم نُزُلَهم:

فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55)
(سورة القمر)

تخيل إذا جاء إنسان إلى آخر كيف يكرم نُزُله؟ ثم انظر كيف يُكرِمُ الله نُزُل أوليائه يوم القيامة، قال: (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ).

فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
(سورة يوسف)

إرادة الله هي التي تحكَّمت في الأمر
(فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ) الآن بدأت لغة التهديد لأنه يريدهم أن يعودوا وقد عَلِمَ أنه قد حان الأوان ليلقى والده، لم يبحث يوسف قبل ذلك عن أهله، لم يُطلب منه شرعاً أن يبحث عن والده، حتى جاء الإخوة إليه، رغم أنه يعرف أن والده في الشام وأن إخوته هناك لأنه كان واعياً يوم أُلقيَ في الجُب لم ينسَ، لكن إرادة الله هي التي تحكَّمت في الأمر، حتى أذِنَ الله له وجاء إخوته لتكون هذه الطريقة، (فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي) هذا تهديد، (وَلَا تَقْرَبُونِ) لا تحاولوا أن تأتوا وتتوسطوا، الموضوع محسوم، إما أن تأتوا بأخيكم وإما أن تُحرموا مِنَ الطعام والقوت.

قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
(سورة يوسف)

المراودة: أخذٌ ورَد، وقد ورد ذكرها قبل ذلك:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ (23)
(سورة يوسف)

الآن (قَالُوا سَنُرَاوِدُ) الأمر ليس يسيراً، المراودة تعني أن الأمر ليس يسيراً سيكون فيه أخذٌ وردٌّ وإقناعٌ لعلَّه يقتنع ويُرسله، (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) تأكيدٌ على أنهم سيقومون بالمراودة لعلَّ والدهم يسمح لهم ببنيامين.

تعريف بنظام المقايضة

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
(سورة يوسف)

التعامل بنظام المقايضة في ذلك الزمان
(وَقَالَ) أي يوسف (لِفِتْيَانِهِ) أي لمساعديه (اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ) الرِحال للمسافر لأنه يرحل بها (اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ) كانوا إذا أرادوا أن يأخذوا القوت جاؤوا ببضاعةٍ معهم مما يصنع في بلادهم، الجلد، الصوف، وربما يكون فيها بعض النقد، هذا ما يسمى بنظام المُقايضة، في الأصل أنت عندك بيضٌ وأنا عندي خبز، أنت تريد خبزاً وأنا أريد بيضاً فأعطيك بعضاً من الخبز وأنت تُعطيني بعض البيض، تعارَفَ الناس على ذلك، هذه هي المقايضة، ثم جعلوا النقد وهو الذهب في مقابل السلعة فانتقلت البشرية إلى مستوى الثمن، الثمنيِّة، سلعةٌ وثمن، ثم جعلوا النقد الورقي محل الذهب لأن حمله ثقيل، ثم كانت الكارثة يوم أصبح النقد يطبع من غير ذهبٍ فأصبح الورق هو الثمن لأن حكوماتٍ تدعمه، هذه قصة الدولار، باختصار، مقايضة، ثمن، الثمن ما هو؟ ذهب، الذهب تأتي بدينارٍ ذهبي أو فضي وتأخذ في المقابل بضاعة، الفضة والذهب هي الأثمان، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "‏ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ‏" }

(صحيح مسلم)

لأنه ثمن، ثم جعلوا النقد مكان الذهب، قالوا: نسحب الذهب من الناس، الناس لا يعلمون ماذا يجري، سنعطيكم مكانه بديلاً عنه، ما البديل؟ ورقةٌ مطبوعة، والذهب عندنا في البنوك، ثم بعد حينٍ تركوا الذهب لينتفعوا به وطبعوا أوراقاً وأقنعونا أن هذه الأوراق هي الثمن وأصبحنا نقول: عملتنا تهوي لأنها أصبحت كذا على الدولار، وما الدولار؟ أوراقٌ تطبع في الماكينات متى شاؤوا مِنْ غير رصيد، هذه لعبة، فهنا كان نظام المقايضة.

إعادة البضاعة التي جاء بها إخوة سيدنا يوسف
(وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ) التي جاؤوا بها ليجعلوها ثمن القوت والطعام؛ سمَّاها القرآن الكريم بضاعة، ربما يكون فيها نقد، لكن الغالب أن كلمة بضاعة تدل على أنها كانت عبارةً عن أشياء يستبدلونها بالطعام مما يصنعونه في الشام، مثل الجلود والأصواف والألبسة، جاؤوا ببضاعةٍ يأخذون مكانها الدقيق من أجل طعامهم، (اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ) بدلاً من أن تضعوا لهم الدقيق في رحالهم أرجعوا لهم بضاعتهم التي جاؤوا بها، هم قدموا البضاعة ليأخذوا الدقيق، مساعدوه أمسكوا البضاعة وأعادوها إلى الرحال وحزموها، هم ماذا ظنوا؟ أنَّ الدقيق قد أصبح جاهزاً، أخذوا البعير ورجعوا إلى الشام، لكنهم رجعوا ببضاعتهم التي جاؤوا بها، ربما أخذوا شيئاً يسيراً من الدقيق أو لم يأخذوا شيئاً الله أعلم، فقال: (اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا) رجاء أن يعرفوا إذا رجعوا أن هذه بضاعتهم (إِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ) انقلب إلى أهله أي رجع إليهم، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) رجاء أن يعودوا، لعلَّ هذا الأمر يزيد في معرفتهم بأنني لن أعطيهم شيئاً، هذه بضاعتكم رُدَّت إليكم كما يقال، فيرجعون مرَّةً ثانيةً إلى مصر وهذا ما يريده يوسف عليه السلام.

عودة أخوة سيدنا يوسف إلى أبيهم

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
(سورة يوسف)

الإنسان يقلق على طعامه وشرابه وقوته
(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا) لم يفتحوا بضاعتهم، مِنْ شدة قلقهم على قوتهم لم يفتحوا الرحال في البداية، الرحال مغلقة، فوراً قالوا لأبيهم (يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) الإنسان يقلق على طعامه وشرابه وقوته لا سيما في سنوات الجَدب، (يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) لم نأخذ شيئاً من الطعام (فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ) يعني أرسل معنا أخانا من أجل أن نأخذ كَيلنا، والقمح يبدو أو الدقيق كان يباع بالكيل، بالمكيال، (نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وأكدوا ذلك بكل التأكيدات ب (إنّاَ) وباللام المُزحلقة في الخبر، (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وبتقديم (لَهُ) على (لَحَافِظُونَ) (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) سنقوم بحفظه، وهذا يشبه ما قالوه يوم أرادوا أخذ يوسف، وبنيامين هو الثاني على قلب أبيه وهو ربما أصغر الإخوة بعد يوسف.

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ ۖ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
(سورة يوسف)

(قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ) يعني هل سيكون حِفظُكم له إلا كحِفظِكم لأخيه! يذكرهم بفعلتهم، قلتم ذلك وأخذتم يوسف ولم تعودوا به.
(فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) هنا بدأ قلبه يلين مِنْ لحظة ما قال (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا) يبدو أنه سلَّم الأمر بأنه سيُعطيهم إياه، (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وهذه كلمةٌ عظيمةٌ في المعنى (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا) يعني أنت تحفظ لكن حِفظُكَ ليس كحِفْظِ الله، أنت تحفَظُ ابنك، تحفَظُ مالك، تحفَظُ طعامك، تحفَظُ شرابك، لكن (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا)، (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) حِفظُه مقرونٌ بالرحمة، حِفْظٌ ورحمة، (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

الحوار بين أخوة سيدنا يوسف وأبيه لطلب أخيهم بنيامين

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ۖ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ۖ هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ۖ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ۖ ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
(سورة يوسف)

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ) الآن بعد أن قالوا لأبيهم: أرسل معنا أخانا، عادوا ليفتحوا الرحال والمتاع (وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) رجعوا كما ذهبوا.
(قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي) هنا (مَا نَبْغِي) البَغي يأتي بمعنى الظلم (مَا نَبْغِي) يعني لا نُريد ظلماً، والأرجح (مَا نَبْغِي) يعني ما نطلب شيئاً مِنْ أخذ أخينا (مَا نَبْغِي) يعني ليس لنا أيُّ هدفٍ في ذلك، صار عندهم حُجَّة، ويوسف عليه السلام أراد أن يقيم الحُجَّة بين يدي أبيه حتى يؤكِّد على أن يُعطوه أخاه، فأعطاهم الدليل معهم، فلما وجدوا بضاعتهم معهم صار الدليل واضحاً أمام الأب (هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا).
(وَنَمِيرُ أَهْلَنَا) المِيرة هي الطعام، القوت، ما يأكله الإنسان ليقوم به، ربُّنا عزَّ وجلَّ أنعَمَ علينا بالقوت وأنعَمَ علينا بالإضافات والمحسنات، القوت لأنه المُقِيت جلَّ جلاله، والمُحسِّنات لأنه الودود، فكلُّ ما في الحياة مِنْ تحسيناتٍ هو من وُدِّه جلَّ جلاله، المكسرات ود، والأرز قوت، فهنا (نَمِيرُ أَهْلَنَا) أي نطعم أهلنا قوتهم، القمح، (نَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا) لن نفرِّط بأخينا.
(وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) يبدو أن يوسف عليه السلام قد أقام مقياس العدل بأن كلَّ شخصٍ كيلُه ما يحمله بعير، فكلُّ بعيرٍ تحمل كيلاً لإنسان، فإذا جاؤوا بأخٍ لهم يزيدون كيل بعيرٍ لهذا الأخ، الإحدى عشر أخاً يأخذون كيل إحدى عشر بعيراً، والاثنا عشر يأخذون كيل اثني عشر بعيراً وهكذا.. (وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) لكلِّ شخصٍ كيلٌ تحمله بعيرٌ واحدة.
(وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ۖ ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي الطعام الذي سنأتي به قليلٌ يسيرٌ فعندما نأتي بأخينا يزيد الكيل.

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ ۖ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
(سورة يوسف)

(قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ) أي عهداً من الله، أو قسماً بالله، (تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ) تحلفون بالله أو تعاهدون الله، تعاهدون الله أمامي أن تعودوا به (تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) أي لترجعنَّ إلي بابني.
(إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ) وهذا مِنْ فطنة الأنبياء، رغم أنه الآن يتكلم بكلامٍ جازمٍ وحازمٍ لكن لم ينسَ أن يستثني، المَوثق لم ينسَ أن يستثني منه لأن هذا مَوثقٌ من الله، عهد، ميثاقٌ غليظ، فإن أحاط بهم الأعداء وذهبوا بهم جميعاً أو إن قتلوهم أو إن أسروهم فكيف سيأتون بأخيهم؟! فقال (إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ) يكون أمراً خارجاً عن إرادتكم فهذا الشيء أعذُركم به، رغم كلِّ ما بيني وبينكم مما فعلتم بيوسف لكن أبقى لهم الأمر القدري، (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ ۖ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) أي ميثاقاً من الله عزَّ وجلَّ أو عهداً مع الله (قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) وكَّل الله عزَّ وجلَّ وأشهد الله عزَّ وجلَّ على هذا العهد الذي تم بينه وبينهم بأنهم سيُعيدون له ابنه أو أخاهم، ولم يقل: الله على ما نقول شهيد، وقد يظنُّ الأنسب هنا شهيدٌ يعني يُشهد الله، وإنما قال: (وَكِيلٌ) لأن الوكيل جلَّ جلاله هو الذي نتوكَّل عليه في كلِّ أمر، فهنا يعقوب قد سلَّم الأمر إلى الله، فوكَّلنا الله في حِفظِه ولم نوكلكم أنتم، الوكيل هو الله، أنتم أسباب ولستم حافظين إنما الحافِظُ هو الله جلَّ جلاله (قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ).

وصية سيدنا يعقوب لأبنائه عند دخول المدينة

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
(سورة يوسف)

كان لكل مدينةٍ عدة أبواب
(وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ) كانت المدن لها أبوابٌ يدخل منها الناس، هم لما ذهبوا إلى مصر قال لهم: (لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ) إلى مصر أنتم أحدَ عشر أخاً وإنما (ادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ) المدينة لها أبواب، شخصٌ يدخل من الباب الشرقي، وشخصٌ يدخل من الباب الغربي (ادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ) هذا توجيه يعقوب عليه السلام لم يذكر القرآن لِمَ وجَّه يعقوب هذا التوجيه، اجتهد العلماء في فهمه، قيل: من الحَسَد، إحدى عشر أخاً أشداء، أقوياء، معهم البعير، وينقلون بضاعتهم معهم ورَحلَهم ويدخلون مصر، قيل: لعله خوفٌ من الحسد، وهذا مشروعٌ حتى في ديننا ألا يذكر الإنسان قوته ولا جبروته ولا ماله أمام الآخرين، وقيل لأنَّه قد أصبح لهم مكانةٌ عند العزيز فدخولهم بهذا الشكل عليه يثير الحَنَق في قلوب مَنْ حوله وهم قادمون على يوسف عليه السلام، فالله أعلم، القرآن لم يذكر لماذا، ولكن قال: (وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ) وهذا يدلُّ على أن الأمر متعلقٌ بحفظِهم مِنْ شيءٍ ما، هذا التوجيه مهمٌّ جداً، مرَّة من المرَّات أذكر أن بلداً عربياً فيه ضباطٌ من خيرة الضباط الذين تخرجوا مِنْ أقوى الكليات العسكرية أرادوا أن يُسافروا إلى بلدهم بعد انتهاء مدة التدريب، فركبوا في طائرةٍ واحدةٍ واُسقِطت الطائرة ومات الجميع، لو أنهم لم يركبوا في طائرةٍ واحدةٍ لاستحال أن يقتلوهم جميعاً، إذاً مِنَ الخطأ أن تضع البيض كله - كما يقال - في سلةٍ واحدةٍ، وزِّع مادام هناك إمكان، فهؤلاء لربما تعرضوا لشيءٍ فقال: (لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ) تفرقوا حتى لا تتعرضوا جميعاً لمحنةٍ واحدةٍ.
ثم قال: (وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ) أي هذا التوجيه لا أجعله حِفظاً لكم ولا لأي شيءٍ من الله، فإذا أراد الله سوءاً سيقع، لكن هذا تدبيرٌ وعملٌ بالأسباب، ولكنه ليس ردَّاً لقضاء الله وقدره وإنما هو عملٌ بما أمرني الله تعالى به، فأفرُّ مِنْ قضاء الله إلى قضاء الله، فقط، الإنسان عندما يتخذ أساليبَ لكي لا يمرض فهو لا يخرج مِنْ قضاء الله، لكنه يفرُّ مِنْ قضاء المرض إلى قضاء الشفاء، فما زال في قضاء الله (وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ) يعني ولا أدنى شيء.

الحكم القّدّري والحكم الشرعي
الحُكم لله في كلِّ شيءٍ في الأرض
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ربُّنا عزَّ وجلَّ له حكمٌ يحكم به قَدَريّاً وحكمٌ يحكم به شرعيّاً، هنا المقصود (الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) القَدَري، أي أن أي شيءٍ يقع في ملك الله عزَّ وجلَّ يقع بمشيئة الله، فيكفُر الكافر بإرادته، ويؤمن المؤمن بإرادته، ويغتني الغنيُّ بإرادته، ويفتقِرُ الفقير بإرادته، وتقع الزلازل بإرادته، ويقع الاستقرار بإرادته، هذه إرادته الكونية، فالحُكم لله في كلِّ شيءٍ في الأرض ليس لنا مِنَ الأمر شيء، لكن الحكم الشرعي هو ما يقوله لك الخالق افعل ولا تفعل، والفرق بين الحُكم القَدَري والحُكم الشرعي أننا في الحُكم القَدَري لسنا مخيرين، مَن مِنَّا يملك مرضه وشفاءه؟ مَن مِنَّا يملك غناه وفقره؟ في أغلب الأحوال وإن كان هناك بعض الأسباب التي جعلها الله تجعلك تملك شيئاً من ذلك لكن مهما فعلت إذا أراد بك الفقر فتفتقر، فمِنْ مِنَّا يملك ألا يقع زلزال في الأرض؟ يقول لك: أنا سأسكن في مكان لا تقع فيه زلازل، لا تستطيع، لا تعلم متى يأتي الزلزال، مَنْ منَّا يملك المطر؟ مَنْ منَّا يملك الحجر؟ مَنْ منَّا.. أبداً، فنحن لسنا مخيَّرين في حُكمه القَدَري ولكننا مخيَّرون في حُكمه الشرعي فمِنا مِنْ يصلِّي ومنّا مَنْ لا يصلِّي، لأنه لا بد مِنْ تحقق الاختيار في الحُكم الشرعي ليكون هناك جنةٌ ونارٌ، أما في الحكم القَدَري فجميعنا لا نستطيع حراكاً أمام إرادة الله عزَّ وجلَّ (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)المقصود به الحُكم القَدَري وهو أوسع مِنَ الحُكم الشرعي، أما الشرعي فالحُكم لله لكن نحن مخيَّرون في أن نأتمر بما أمر الله أو لا نأتمر، ونحاسَبُ بناءً عل اختيارنا (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فهذا حصر؛ أبلغ مِنْ قولنا: توكلت على الله، نقول: على الله توكلنا، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي جعلت كلَّ اتكالي على الله، (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) تأكيدٌ آخر بأن المتوكل ينبغي أن يجعل أمره كلَّه لخالقه، والتوكُّل يعني أن تأخذ بالأسباب وكأنها كلُّ شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، فليس المتوكِّل مَنْ ترك الأخذ بالأسباب وليس المتوكِّل مَنْ ألَّه الأسباب، المتوكِّل هو الذي يعلم أن الأمر بيد الله ولكنه يأخذ بالأسباب تعبُّداً، فالطالب الذي لا يدرس ويقول: توكَّلت على الله؛ كاذب، والذي يدرس ويدرس ويدرس ويقول لك: غداً سأنجح لأنني درست فقد وقع في الشرك، أما التوحيد والتوكُّل فيعني أن تأخذ بالأسباب كلِّها ثم تتوكَّل على الله عزَّ وجلَّ:

{ قالَ رجُلٌ: يا رسولَ اللَّه أعقِلُها وأتوَكَّلُ أو أطلِقُها وأتوَكَّلُ؟ قالَ: اعقِلها وتوَكَّلْ، يعني النَّاقَةَ }

(أخرجه الترمذي)

اربط الناقة وتوكَّل على الله، لا تدعها سائبةً وتقول: هربتْ وأنا متوكِّلٌ على الله.
مرَّ سيدنا عمر رضي الله عنه على قومٍ قال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكِّلون على الله، قال: كذبتم، أنتم المُتَّكِلون على الله، ولستم المتوكِّلين على الله، المتوكِّل على الله من ألقى بذرةً في الأرض ثم توكَّل على الله، فنأخذ بالأسباب ونتوكل على رب الأرباب.

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
(سورة يوسف)

والآن بعد ذلك سيصل إخوة يوسف إلى يوسف وتكون القصة بعد ذلك على النحو الذي يذكره القرآن الكريم.
والحمد لله رب العالمين.