كيف نقرأ القرآن؟

  • 2017-04-19
  • عمان
  • مسجد الناصر صلاح الدين

كيف نقرأ القرآن؟

يا ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض ، وملء ما بينهما ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد ، لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد .
الحمد لله الذي خضع كل شيء لهيبته ، واستسلم كل شيء لقدرته ، وتصاغر كل شيء لكبريائه .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، غنى كل فقير ، وعز كل ذليل ، وقوة كل ضعيف ، ومفزع كل ملهوف .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً ، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته .
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آل سيدنا محمد ، وعلى أصحاب سيدنا محمد ، وعلى أزواج سيدنا محمد ، وعلى ذرية سيدنا محمد ، وسلم تسليماً كثيراً .

القرآن الكريم مصدر عزتنا ومنهج حياتنا :
وبعد فيا أيها الإخوة الكرام ؛ بين أيدينا كتاب ، هذا الكتاب كان يوماً مصدراً لعزة المسلمين ، ورفعتهم ، ونصرهم ، وكونهم :

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
[ سورة آل عمران ]

وهو اليوم كما هو لم يتغير ، ولم يتبدل .

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
[ سورة الحجر ]

لا بد من عودة إلى كتاب الله
الكتاب كما هو ، والمنهج بين أيدينا ، لكنه ما عاد يفعل فعله كما كان في الماضي ، كما كان في جيل الصحابة الكرام ، والتابعين ، والسلف الصالح ، فإذا سلمنا أن المنهج كما هو ، وهذا من عقيدتنا الثابتة ، إذاً الكرة في ملعبنا ، والمشكلة عندنا ، ونحن الذين قصرنا في فهم هذا المنهج ، وفي اتباعه ، وفي العمل به ، لذلك أيها الإخوة لا بد من عودة إلى كتاب الله ، لابد أن يصبح القرآن منهجاً في حياتنا ، لا لوحات تعلق في بيوتنا ، وفي مركباتنا ، وفي أعمالنا ، لابد أن نتخذه منهجاً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيشكو أمته شكوى واحدة وردت في القرآن :

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)
[ سورة الفرقان ]

هجروا أحكامه ، هجروا فهمه ، هجروا تلاوته ، وهجروا العمل به ، فغالب المسلمين يفتحون المصحف بشكل دوري من رمضان إلى رمضان ، وبعضهم من الجمعة إلى الجمعة ، وقليل من يفتحه كل يوم ليقرأ فيه ولو صفحة واحدة ، وقليل جداً من يقرأ تفسيره ، وأقل منه من يتدبره ، ويحاول أن ينظر أين هو من هذا القرآن ، وهل هو مطبق أم غير مطبق لأحكامه ؟

القرآن كلام الله فإذا قرأناه ينبغي أن نتفاعل معه :
أيها الإخوة ؛ قال تعالى :

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
[ سورة البقرة ]

روى مالك عن نافع عن ابن عمر ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ) أي يتبعونه حق اتباعه .
عندما تقرأ القرآن ينبغي أن تجيب القرآن
وعن عمر رضي الله عنه : هم الذين إذا مروا بآية رحمةٍ سألوها ، وإذا مروا بآية عذاب ، استعاذوا منها ، أي إخواننا الكرام يتفاعلون مع الآيات الذين ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ) يتفاعلون معه ، أي حينما يقرؤون آية في وصف الجنة يقولون : يا رب ، تدمع أعينهم ، يا رب اجعلنا من أهل الجنان ، وحينما يقرؤون آية فيها وصف للجحيم والنيران يتفاعلون ، فتنطلق منهم العبرات ، ويقولون : يا رب أجرنا من نار جهنم ، يتفاعلون مع القرآن .
القرآن كلام الله ، بلغة عربية ، واللغة العربية نص ، والنص حيّ ، أي فيه حياة ، هو كائن حي ، ليس جماداً ، ينطق ، يحدثك ، فأنت عندما تقرأ القرآن ينبغي أن تجيب القرآن ، أن تتفاعل معه ، لا أن تتلوه على أنه نص جامد كما يقرأ الإنسان أحياناً أخباراً ، أو صحيفة فيستجيب أو لا يستجيب ، يقتنع أو لا يقتنع ، القرآن نص ، باللغة العربية ، مبين ، ذكر حكيم ، فإذا قرأته ينبغي أن تتفاعل معه .

تلاوة القرآن حق تلاوته تعني :
1 ـ أن نحسن قراءته وفق قواعد اللغة العربية وقواعد علم التجويد :
إخواننا الكرام ؛ إذاً تلاوة القرآن حق تلاوته تعني أولاً : أن نحسن قراءته ، لأن حركةً قد تغير المعنى ، ولأن كلمة أو حركةً قد تقلب المعنى رأساً على عقب .

وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
[ سورة فاطر ]

فإذا قرأ الإنسان إنما يخشى اللهُ قلب المعنى وبدله ، لذلك أولاً أن نحسن قراءته ، هذا أهم كتاب ، بالنسبة لطلاب الجامعات هناك مادة فيها نجاح ورسوب ، هناك مادة إثرائية ، المادة التي فيها نجاح ورسوب مادة أساسية ، أي إن لم يقرأها ، ويفهمها ، ويقدم الامتحان ، وينال علامة عالية فسيعيد السنة ، لن ينجح ، هذا الكتاب مقرر ، الأسئلة منه ، وعنه يوم القيامة .

2 ـ أن نحسن فهمه :
أولاً : ينبغي أن نحسن قراءته وفق قواعد اللغة العربية ، وقواعد علم التجويد إن أمكن بعد أن نحسن تلاوته ينبغي أن نحسن فهمه ، أن تفهم مراد الله من كلامه ، ما معنى هذه الكلمة ، كثيراً ما نقرأ في سور الجزء الأخير :

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
[ سورة الهمزة ]

من الهمزة ؟ ومن اللمزة ؟

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً (1)
[ سورة العاديات ]

ما هي العاديات ؟ وما معنى ضبحاً ؟ طبعاً تسعون بالمئة من كتاب الله عز وجل واضح لمجرد القراءة ، لكن بعض الكلمات تحتاج أن يكون في المصحف تفسير الكلمات ، هذا أول شيء ، أن نحسن فهمه .

3 ـ أن نحسن تدبره :
وبعد إحسان فهمه أن نحسن تدبره ، وما معنى التدبر ؟ التدبر باختصار أن تقول : أين أنا من هذه الآية ؟

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96)
[ سورة مريم]

هل أنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ؟ أما أنا مؤمن سكوني لا أتحرك ؟ أما زاد في الإيمان ضعف يحجزني عن القيام بأعباء الرسالة والتكليف ؟ ينبغي أن أنظر ، هذا تدبر .
يروى أن أحد الصالحين قرأ قوله تعالى :

لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
[ سورة الأنبياء]

أي مذكور فيه فلان ، كيف مذكور ؟ قال : عليّ بالقرآن لألتمس ذكري ، هاتوا المصحف ، قال فمرّ بقوم :

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
[ سورة الحاقة ]

قال : يا رب أبرأ إليك أن أكون من هؤلاء ، لا أعرف نفسي فيهم .
ومرّ بقوم كفروا بالله ، فقال : يا رب أعوذ بك من أن أكون من هؤلاء ، ومرّ بالمنافقين فقال : يا رب أبرأ إليك أن أكون من هؤلاء ، ثم مرّ بالمؤمنين :

تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
[ سورة السجدة ]

قال : لست أعرف نفسي هاهنا .

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
[ سورة المؤمنون ]

قال : يا رب لا أعرف نفسي هاهنا ، حتى مرّ بقوله تعالى :

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
[ سورة التوبة ]

قال : يا رب أنا من هؤلاء ، أي أن تلتمس ذكرك في كتاب الله هذا هو التدبر ، أنا مطبق لهذه الآية ؟ يقول الله تعالى :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
[ سورة الحجرات ]

هل أنا أغتاب الناس أم لا أغتابهم ؟ هذا التدبر ، هذا هو التدبر ، أين أنا من الآية؟

4 ـ أن نحسن العمل به :
أخيراً أن تحسن العمل به ، بعد التدبر يوجد عمل ، أنطلق إلى موقف .
إذاً أحبابنا الكرام ؛ أن نتلو القرآن حق تلاوته ، أي أن نحسن قراءته ، أن نحسن فهمه ، أن نحسن تدبره ، أن نحسن العمل به .

ثلاثة محاور أساسية في كتاب الله هي :

1 ـ التعريف بالله تعالى :
أيها الإخوة ؛ في القرآن الكريم ثلاثة محاور أساسية لعلها تشمل الجزء الأكبر من كتاب الله ، المحور الأول ؛ هو محور التعريف بالله ، بالآمر جلّ جلاله ، يتكلم لك الله عن ذاته العلية .
المحور الثاني : يتكلم لك عن أمره ، افعل ولا تفعل .
المحور الثالث : يتكلم لك عن نتائج تطبيق الأمر ، جنة ونار .
المحور الأول التعريف بالله تعالى
هذه المحاور الثلاث هي الأساسية في كتاب الله ، أي إن قرأت في كتاب الله تقريباً لن تجد إلا ضمن هذه المحاور آية تعرفك بالله ، تتكلم لك عن الله ، وآية تقول لك افعل هذا ، ولا تفعل هذا ، وآية تحدثك عن الجنة والنار ، حتى تعرف ما النتائج ، إن عرفت الله واستقمت على أمره ما النتيجة ؟ المحور الأول التعريف بالله تعالى :

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
[ سورة الطلاق ]

هل عرفته قديراً ؟ عليماً ؟ تخافه ؟ ترجوه ؟ هذا محور .

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ( 190)
[ سورة آل عمران]

هذا أيضاً من التعريف بالله ، يعرفك به عن طريق خلقه .
إخواننا الكرام ؛ سيدنا عمر رضي الله عنه كان يمسك تفاحة ، يقول : أكلتها ذهبت أطعمتها بقيت ، فيذهب ويطعمها للفقراء ، أكلتها ذهبت أطعمتها بقيت ، لأنه يبقى ثوابها فيطعمها ، لو صح لنا أن نقيس على هذا أنت عندما تمسك تفاحة لتأكلها ، وتريد أن تأكلها لكن إن أكلتها دون أن تنظر في عظيم خلق الله بها ، ودون أن تشكر الله عليها ذهبت ، لكن إن أكلتها وقلت : يا رب لك الحمد ، ما أعظم خلق الله ! بقيت لأنك استفدت منها الفائدة الأعظم ، كل ما في هذا الكون له فائدة دنيوية محدودة ، تأكل ، وتشرب ، وتتمتع ، لكن هناك فائدة أعظم وهي أن تشكر الله على نعمه ، فتصل إلى الله من خلال نعمه ، تصل إلى المنعم من خلال النعمة ، هذا المحور الأول في القرآن ، تقريباً 1200 آية في القرآن تعرفك بالله من خلال خلقه.

قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
[سورة يونس]

وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
[سورة الذاريات]

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
[سورة الطارق]

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
[سورة عبس]

وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
[سورة يس]

إلى آخره ، آيات كثيرة تعرفك بالله من خلال خلقه ، وقد يعرفك الله به من خلال أفعاله ، فيروي لك قصصاً .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
[سورة الفجر]

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
[سورة الفيل]

أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)
[سورة القلم]

هذا كله تعريف بالله ، لكن من خلال الأفعال ، من خلال ما تشاهده في الكون كيف يدمر الظالمين ، الغابرين ، قد لا ترى مصير الظالمين الحاليين ، لكن يريك أو يحدثك عن مصير السابقين وكأنك تراه ( أَلَمْ تَرَ ) .
وقد يعرفك الله بذاته من خلال طريق مباشر .

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
[سورة الإخلاص]

إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
[سورة طه]

آية الكرسي :

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
[سورة البقرة]

لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
[سورة البقرة]

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
[سورة الشورى]

يحدثك عن ذاته ، ينبغي أن تعرفه أولاً ، هذا المحور الأول في القرآن .

2 ـ الاستجابة لأمر الله :
ما دمت تعرف الله ينبغي أن تلتزم بأمره
المحور الثاني : يحدثك عن افعل ولا تفعل ، أي ما دمت تعرف الله تماماً فينبغي الآن أن تلتزم بأمره .
إخواننا الكرام ؛ سآتي بآيات نماذج كيف يربط الله عز وجل بين أنك تعرفه جيداً وأنه ينبغي أن تنفذ أمره ؟ مثلاً :

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
[ سورة النور]

أي إذا كنت تعرف أن الله عليم بما تعمل تستجيب لأمره ( وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ) هذا مثل ، مثل آخر :

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
[ سورة التغابن]

مثل ثالث :

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
[ سورة البقرة ]

يعطيك الأمر افعل أو لا تفعل ( وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ) هذا لا تفعل ، ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) هذا افعل ، ثم يرجعك إلى المحور الأول ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) عليم ، بصير ، الله الذي تعرفه يراك ، ينظر إليك هو الذي يأمرك .

3 ـ نتائج تطبيق الأمر :
المحور الثالث : آيات الوعد والوعيد ، يعني النتائج ، أي إن طبقت الأمر بعد إن عرفت الآمر هذا مصير من يطبق ، وهذا مصير من يخالف .

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
[ سورة الحاقة ]

هذه آيات الوعد والوعيد ، وكأنك ترى المشهد أمامك ، أي ملخص الملخص : تعرف الله ، تقدره حق قدره ، تندفع إلى تنفيذ أمره ، راغباً بما عنده من ثواب ، خائفاً بما عنده من عقاب ، هذه هي المحاور الثلاث الأساسية في القرآن ، تعرفه ، تقدره حق قدره ، تتجه لتنفيذ أمره راجياً الثواب ، خائفاً من العقاب .
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، استغفروا الله .

الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد ، وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، في العالمين إنك حميد مجيد .

شأن عبد الله بن مسعود مع القرآن الكريم :
عبد الله كان له شأن آخر مع القرآن
أيها الإخوة الكرام ؛ عبد الله بن مسعود أحد صحابة رسول الله ، وأحد المقرئين الذين كانوا يتفاعلون مع كتاب الله ، وكل صحابة رسول الله كانوا كذلك لكن عبد الله له مع القرآن شأن آخر ، هذا الرجل كان من رهبان الليل ، فرسان النهار ، كان يتحدى قريشاً نهاراً بالقرآن بجوار الكعبة ، وكان في الليل يأوي إلى بيته فيرتل الآيات ويبكي ، كان له مع القرآن شأن آخر يقول صلى الله عليه وسلم :

{ من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد – عبد الله بن مسعود – }

[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والبزار في مسنده والإمام أحمد في مسنده]

كان يقول عبد الله بن مسعود : والله الذي لا إله غيره ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت ، وفيما نزلت ، هذا من فهمه لكتاب الله .
مرة كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمضي ليلاً فلقي ركباً ، والظلام دامس ، والليل مخيم ، فلم يرَ الركب لكن سمع أصواتهم ، فأمر عمر رجلاً أن يناديهم ، الصوت في الليل يصل ، أن يناديهم ، من أين القوم ؟ فأجاب عبد الله : من الفج العميق ، فقال عمر : أين تريدون ؟ فقال : البيت العتيق ، يستخدم عبارات قرآنية ، لأنه يعيش مع القرآن دائماً ، فأصبحت عباراته من القرآن ، فقال عمر : إن فيهم عالماً ، هذه الأجوبة أجوبة عالم بالقرآن الكريم ، أمر رجلاً فناداه ، أي القرآن أعظم ؟ فأجابه عبد الله :

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
[ سورة البقرة]

آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله ، لأنها من آيات المحور الأول ، التعريف بالله ، أعظم نوع من أنواع التعريف بالله مباشرة ( الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ) يتحدث الله عن ذاته ، هذه أعظم آية ، قال عمر : نادهم ! أي القرآن أحكم ؟ أحكم بمعنى واضح الدلالة جداً ، واضحاً ، فقال :

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
[سورة النحل]

علاقتك مع الناس تبنى بالعدل
هذه أحكم آية في كتاب الله ( يأمر ) هذا أمر ونهي ، هذه من آيات المحور الثاني تعريف الأمر ، يأمر وينهى ، لكن جمع كل الأوامر بأنها عدل وإحسان وإيتاء ذي القربى ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) علاقتك مع الناس تبنى بالعدل ، لا تظلِم ولا تظلَم ، لكن ينبغي أن تضيف إلى العدل إحساناً فتتنازل أحياناً عن حقوقك ، ما كل شيء يحل بالعدل ، كثير من القضايا تحل بالإحسان وليس بالعدل ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء ) في القول ( والمنكر ) في الفعل ( والبغي ) ظلم الناس ، هذه أحكم آية في كتاب الله كما قال ابن مسعود .
قال : سلهم إي القرآن أجمع ؟ أي آية جامعة مانعة ، أي كلمات قليلة تعبر عن معان ضخمة ، فقال ابن مسعود :

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

هذه أجمع آية في كتاب الله ، فقال : سلهم أي القرآن أخوف ؟ آية تقرؤها فترتعد فرائصك ؟ فقال ابن مسعود :

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (123)
[سورة النساء]

الدين ليس بالأماني ، أتمنى يا رب ، الجنة يا رب ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) هذه أخوف آية في كتاب الله .
قال : سلهم : أي القرآن أرجى ؟ آية تقرؤها فترجو رحمة الله ، قال :

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
[ سورة الزمر]

قال عمر : نادهم ، أفيكم عبد الله بن مسعود ؟ قالوا : اللهم نعم ، عرفه .
وروى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لعبد الله بن مسعود :
(( اقرأ ؟ قال : أقرأ وعليك أنزل ؟ ))
صعبة ، تقرأ الوحي على من جاء بالوحي عن الله تعالى ، أمر صعب ، أي الآن أنت أمام معلم قرآن ، تقول : أقرؤه عليك ، تخاف .
قال : (( أقرأ وعليك أنزل ؟ ))
قال : (( إني أحب أن أسمعه من غيري )) .
أحياناً يقرأ الإنسان ، أحياناً يحب أن يسمع بصوت شجي .
قال : (( اقرأ ))
قال ابن مسعود فقرأت عليه من سورة النساء حتى بلغت قوله تعالى : (( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً )) ، (( وَجِئْنَا بِكَ )) الخطاب لرسول عليه الصلاة والسلام .

وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)

فقال : حسبك فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان .
هكذا كان تفاعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كلام الله تعالى .

الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، اللهم بارك لنا فيما أعطيت ، واقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، فلك الحمد على ما قضيت ، ولك الشكر على ما أنعمت وأوليت ، نستغفرك ونتوب إليك .
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، ونور أبصارنا ، وجلاء أحزاننا وهمومنا ، اللهم ذكرنا منه ما نسينا ، وعلمنا منه ما جهلنا ، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار ، اللهم اجعله حجة لنا ، ولا تجعله حجة علينا ، اللهم اجعله قائدنا إلى الجنة ، لا سائقنا إلى النار يا أرحم الراحمين .
اللهم ارحمنا برحمتك ، اللهم فرج عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ما أهمهم ، وما أغمهم ، وما نزل بهم يا أرحم الراحمين .
اللهم أطعم الجياع ، واكسُ العراة ، وارحم المصابين ، وآو الغرباء ، يا ربِّ عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم عليك بمن سفك الدماء ، اللهم عليك بمن استحل الحرمات ، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك ، اللهم فرج عن إخواننا المستضعفين وانصرهم نصراً عاجلاً غير آجل يا أرحم الراحمين .
اللهم بفضلك ورحمتك اجعل هذا البلد آمناً ، سخياً ، رخياً ، مطمئناً ، وسائر بلاد المسلمين .
وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد .
والحمد لله رب العالمين