آيات الجهاد والنصر وتجلياتها في المشهد العظيم لمعركة غزة

  • الإذاعة الأردنية - النافذة المفتوحة
  • 2023-11-04
  • عمان
  • الأردن

آيات الجهاد والنصر وتجلياتها في المشهد العظيم لمعركة غزة


المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وخير الصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين.
مستمعينا نحييكم في هذا اللقاء الطيب من برنامجكم (نوافذ دينية) والتي نخصص حلقاتها في هذه الظروف للحديث عن المشهد العظيم في غزة، وربط هذه المشاهد بآيات القرآن الكريم، مستمعينا الحديث عن المسجد الأقصى لا ينتهي، الحديث عن بطولات المرابطين لا تنتهي، لذلك نتحدث عن هذا الموضوع مع ضيفنا على هاتف البرنامج الداعية الدكتور بلال نور الدين عضو رابطة علماء الشام، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، المشرف العام والمسؤول عن موقع وأعمال العالم الجليل الدكتور محمد راتب النابلسي، حياك الله دكتور وأهلاً ومرحباً بكم.

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، ونفع بكم وأعلى قدركم، وشكراً على إتاحة هذه الفرصة لنقدم ولو أقل القليل أمام من يقدمون أرواحهم ونفوسهم في سبيل الله تعالى.

مكانة المسجد الأقصى والقدس:
المقدمة:
الله يتقبل من الجميع يا دكتور، كما ذكرت في المقدمة فإن المسجد الأقصى له المكانة الدينية العظيمة كمكة والمدينة، جعله الله منتهى الإسراء ومبتدأ المعراج فكان هدية لبلاد الشام أن يكون على أرضها أرض الحشر والحشد والرباط، السؤال يا دكتور كيف كان الإيمان والتوحيد هو أساس الجهاد؟ وهذا ما نراه في رباط أهلنا في غزة، وهناك روابط يا دكتور بين غزة والقدس؛ روابط دينية، عقدية، تاريخية، جغرافية، نود التوضيح نفع الله بكم.

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أنه كما تفضلتم المسجد الأقصى له مكانة كبيرة وعظيمة عند المسلمين، فإن الله تعالى ذكره في كتابه ذكراً صريحاً فقال جلَّ من قائل:

سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ (1)
(سورة الإسراء)

المسجد الأقصى أرض مباركة وما حولها مبارك
قد بقي المسجد الأقصى قبلة المسلمين ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وهو ثاني مسجد بُني في الأرض بعد المسجد الحرام وهو ثالث المساجد التي تشد إليها الرحال؛ فهو أرض مباركة وما حولها مبارك، ويقول -صلى الله عليه وسلم-:

{ سيصيرُ الأمرُ إلى أن تَكونوا جُنودًا مجنَّدةً جُندٌ بالشَّامِ، وجندٌ باليمنِ وجُندٌ بالعراقِ قالَ ابنُ حوالةَ: خِر لي يا رسولَ اللَّهِ إن أدرَكْتُ ذلِكَ، فقالَ: عليكَ بالشَّامِ، فإنَّها خيرةُ اللَّهِ من أرضِهِ، يَجتبي إليها خيرتَهُ من عبادِهِ، فأمَّا إن أبيتُمْ، فعليكُم بيمنِكُم، واسقوا من غُدُرِكُم، فإنَّ اللَّهَ توَكَّلَ لي بالشَّامِ وأَهْلِهِ. }

( صحيح أبي داود عن عبد الله بن حوالة)

وفي المسجد الأقصى تتضاعف الحسنات، فقط ورد في الحديث الصحيح:

{ فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي هذا ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة }

(أخرجه البيهقي وصححه الألباني عن أبي الدرداء وجابر)

وهو مقام الطائفة المؤمنة المنصورة إلى قيام الساعة، فعن ثوبان قال صلى الله عليه وسلم:

{ لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وفي رواية: وهُمْ كَذلكَ. }

(أخرجه مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم)

وجاء في حديث معاوية أن معاذاً قال: وهم بالشام، فالقدس لها مكانة عظيمة في نفوس المؤمنين وما حولها مبارك ببركتها، وهذا لم يكن بأي مكان آخر أن يُبارك مع حوله ببركته، والشام كلها مباركة ببركة المسجد الأقصى، وأما غزة فلها صلة وثيقة بالقدس، تلك المدينة العظيمة تبعد عن القدس 78 كم إلى الجنوب الغربي وهي من أقدم مدن العالم المأهولة، وجاءت تسميتها من المنعة والقوة، ومن جميل ما ذُكر في معجم البلدان لياقوت الحموي، قال معنى غزة "أن يُميَّز شخصٌ ما بشيء خاص من بين أصحابه"، وقد جاءت تسمية غزة كما في معجم ياقوت الحموي من"أن يُميَّز شخصٌ ما بشيء خاص من بين أصحابه" وهذا المعنى له دلالة عظيمة اليوم، فاليوم اسم غزة على كل لسان، قد ميز من جميع البلدان ومن جميع المدن بما منحها الله تعالى ووهبها من قوة الجهاد، وقوة الرباط في سبيل الله تعالى، وقد كان القرشيون يذهبون في رحلة الصيف إلى الشام وإلى غزة من أرض الشام، وبها توفي هاشم جد النبي -صلى الله عليه وسلم- فسميت غزة هاشم ودفن بها في المسجد المعروف اليوم في غزة، وهي مسقط رأس الإمام الشافعي -رضي الله عنه وأرضاه-، إذاً مما تقدم يتبين أن هناك علاقة وثيقة بين القدس وغزة من ناحية تاريخية وجغرافية وعقدية -كما تفضلتِ -جزاك الله خير الجزاء.

البشائر الربانية والمثبتات الإيمانية على أرض غزة:
المقدمة:
ولعل لغزة من اسمها نصيب، فلتبقَ دائمة غزة رمح، غزة سيف في كيان كل عدو محتل، بارك الله فيكم يا دكتور، نتحدث الآن عن البشائر الربانية والمثبتات الإيمانية، سبق وأن تحدثنا عن أنها أرض مقدسة مباركة، كلما لامسها دنس طهرت، القدسية لا يعمّر فيها ظالم، وبركتها أن فيها معنيين يا دكتور؛ المعنى الأول وهو الثبات حيث يقول تعالى في حق سيدنا إبراهيم:

وَنَجَّيْنَٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِى بَٰرَكْنَا فِيهَا لِلْعَٰلَمِينَ (71)
(سورة الأنبياء)

إذاً مبارك فيها للعالمين، لذلك ما يحدث فيها له انعكاسات دائماً عالمية، المعنى الثاني وهو النمو الإيجابي فبركة فلسطين قانون ثابت، هنالك معارك حصلت على أرضها؛ اليرموك، عين جالوت، نابليون لم يمكث عليها ثلاثة أشهر، نهاية الدجال فيها، يأجوج ومأجوج فيها، إذاً أرض ما يحصل فيها ينعكس عالمياً، من هذه الوقائع وهذه البشائر نرجو توضيحاً لهذه المثبتات والبشائر بارك الله فيكم.

الدكتور بلال نور الدين:
حياكم الله، الحقيقة أن البشائر في كتاب الله تعالى كثيرة، وأن مثبتات الإيمان كثيرة، ولكن علينا نحن أن نلتقطها، وأن نتبينها، وأن نفهمها، وأن نعيها لاسيما في هذه الظروف، ومن أعظم مثبتات الإيمان والبشائر هي وعد الله تعالى، فالله تعالى وعد ووعد الله آتٍ، ووعد الله لا يُخلف.

وَعْدَ ٱللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُۥ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
(سورة الروم)

والله تعالى له سنن، والسنن بالعرف الحديث أو المصطلح الحديث هي قوانين، والقوانين هي أن تقدم المقدمات فتأخذ النتائج؛ هذه السنة، قال تعالى:

ٱسْتِكْبَارًا فِى ٱلْأَرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِۦ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
(سورة فاطر)

فسنن الله لا تبدل ولا تتحول ثابتة في كل زمان وفي كل مكان، والله تعالى وعد، قال تعالى:

وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚوَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (55)
(سورة النور)

هذا قانون مضى على الأمم السابقة قبلنا (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى)، وقال تعالى:

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ(173)
(سورة الصافات)

وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ (13)
(سورة الصف)

الوعود في كتاب الله تعالى واضحة للمؤمنين
الوعود في كتاب الله تعالى واضحة للمؤمنين، ولا بد أنها متحققة لكن تتحقق في الوقت الذي يريده الله وفي اللحظة التي تحقق المردود الأعظم الذي يريد الله تعالى منها، وفي حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وعد أيضاً، قال:

{ بشِّرْ هذهِ الأُمَّةَ بالتَّيسيرِ، والسَّناءِ والرِّفعةِ بالدِّينِ، والتَّمكينِ في البلادِ، والنَّصرِ، فمَن عمِلَ منهُم بعملِ الآخرةِ للدُّنيا، فليسَ لهُ في الآخرةِ مِن نصيبٍ }

( أخرجه أحمد عن أبي بن كعب )

ومن أعظم الأحاديث التي تثبت الإيمان اليوم في نفوسنا ونفوس أهلنا في كل مكان حديث خباب بن الأرت -رضي الله عنه- إذ يقول:

{ شَكَوْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا له: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قالَ: كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ. }

(صحيح البخاري)

كلنا يتخيل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أمام الكعبة المشرفة وخباب يطلب منه الدعاء أن ينهض ويرفع يديه إلى السماء وأن يدعو الله تعالى لكنه لم يفعل، لماذا؟ أقول: ربما لمح في كلام خباب أن النفوس قد ضعفت أمام هذا الظلم وأمام تلك الغطرسة التي كان يمارسها القرشيون المشركون على المسلمين، فقال: (أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟) فقعد وهو محمر وجهه -صلى الله عليه وسلم-، فقال: (كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ) ثم قال وهذه هي البشارة: (واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) هنا موطن الشاهد (ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)

خُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَٰتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
(سورة الأنبياء)


الصبر مع النصر:
فقط اصبروا لأن نصر الله آت، ولأن بشارة الله آتية لا محالة ولكن إياكم والعجلة، ولكن لا تستعجلون، فالإنسان في الأصل مجبول على العجلة (خُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ مِنْ عَجَلٍ).

وَيَدْعُ ٱلْإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا (11)
(سورة الإسراء)

لكن المطلوب منه، دائماً التكليف يعارض ما طُبع عليه الإنسان؛ فهو قد طُبع على إطلاق البصر، وأُمر بغض البصر، طُبع على حب النوم، وأمر بصلاة الفجر، فدائماً يُطبع الإنسان على الشيء ويؤمر بشيء، فما أُمر به يخالف طبعه لكنه يدخله الجنة.

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ (41)
(سورة النازعات)

فبالتالي نحن مطبوعون على العجلة، نحب الشيء العاجل، نحب الشيء أن يتحقق غداً، بعد ساعة أن يتم الله هذه المعركة وأن تنتهي بنصر وفتح -وهذا ما نرجوه-، وإن شاء الله يتحقق ولكن ما أُمرنا به خلاف ما طُبعنا عليه وهو أنّا نستعجل النصر فلنصبر.

فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
(سورة الروم)


المقدمة:
بارك الله فيكم، هذا محور متأخر كنت أود التنبيه له، ولكن ما دام ونحن نتحدث عن الصبر وعن النصر فأود أن أقول يا دكتور أن الصبر هنالك صبر على النصر، وهذا صبر غريب، موعد النصر يحدده الله صاحب النصر.

إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِى يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعْدِهِۦ ۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ (160)
(سورة آل عمران)

أنواع النصر: أنواع الصبر كثيرة كما قلت؛ صبر على الطاعة، صبر عن المعصية، صبر في الجهاد، لكن هنالك صبر على النصر هذه قضية عقدية، هنالك المستعجلون كما ذكرت يريدون قطف الثمار سريعاً، والله تعالى يقول:

وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَٰفِرِينَ (141)
(سورة آل عمران)

فالصبر يظهر قوة الإيمان، وهذا متجلٍّ لأهلنا المرابطين في غزة، وهنالك مثال في القرآن الكريم يا دكتور بين سورة الأحقاف وهي سورة مكية في قوله تعالى:

فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَٰغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (35)
(سورة الأحقاف)

في آخر الآيات للآية (35) مباشرة في الترتيب سورة محمد- صلوات ربي وسلامه عليه- سورة مدنية في قوله تعالى:

ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ (1) وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍۢ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
(سورة محمد)

إذاً قمة استضعاف في سورة الأحقاف، جاءت سورة محمد لتتحدث عن الجهاد وعن النصرة وتتحدث عن غزوة بدر، بين السورتين فترة طويلة لكن جعلهم الله سورتين متتاليتين مع بعضهم البعض، جعلهما بوابة هذه بوابة لتلك وذلك لبيان أن الله هو من يحدد النصر، فنود التعليق من فضيلتكم على الصبر على النصر تفضل.

الدكتور بلال نور الدين:
الصبر هو المنع
بارك الله بكم، الحقيقة -كما تفضلتِ- من أنواع الصبر أن يصبر الإنسان على وعد الله تعالى بالنصر، أن يصبر نفسه، الصبر هو المنع، هو حبس النفس؛ هي تريد شيئاً وهو يمنعها منه، هي تريد أن تحقق غايتها في تلك اللحظة من باب أن الإنسان يحب العجلة، والله تعالى يريد منه أن يصبر حتى يأتي وعد الله تعالى الحق، إذاً لا بد من الصبر، أضرب مثالاً واقعياً: ابن يحب والده حباً شديداً وأُدخل والده إلى العمليات، ولا بد من عملية جراحية قد تطول مدتها لساعات، عملية دقيقة جداً في القلب مثلا،ً ولسبب أو لآخر استطاع الابن أن يصل إلى غرفة العمليات وانكب على قدم الطبيب يرجوه ويتوسل إليه أن يوقف العملية فوراً؛ لأنه لا يحب أن يرى والده وهو بهذه الحالة وقد شُق صدره، ونُشر عظمه، وأُخرج قلبه من مكانه، فترجى الطبيب أن يوقف العملية، ما الذي يفعله الطبيب؟ يقول: أخرجوه فوراً، أخرجوه، لا بد من أن تصبر خارج غرفة العمليات حتى تنتهي العملية وتنجح العملية ويُشفى المريض شفاء تاماً، فربنا -عزَّ وجلَّ- يعالجنا، وله حكمة عظيمة في الوقت الذي يعالجنا به، وبالطريقة التي يعالجنا بها، فينبغي أن نصبر حتى تنتهي العملية بنجاح وحتى نشفى شفاء تاماً، هذا هو المثل البسيط الذي ضربته يبين حالنا مع الله -عزَّ وجلَّ- ونحن اليوم ندعو ونكثر من الدعاء وهذا مطلوب، بل الدعاء هو العبادة، واليوم نقنط في مساجدنا وندعو الله تعالى بالنصر العاجل وهذا مطلوب، ولكن لا ينبغي للحظة واحدة أن نتوهم أن نأتي بالنصر في الوقت الذي نريده، النصر يأتي في الوقت الذي يريده الله، العز والتمكين يأتي في الوقت الذي يريده الله، نحن مطلوب منا أن ندعو دون أن نستعجل، لذلك جاء في الحديث الصحيح:

{ يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي. }

(أخرجه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة )

فهو يعجل على ربه، يريد تحقيق ما يريده فوراً، والله تعالى يقول له: اصبر حتى يأتي الوقت الذي ينبغي أن يتحقق به النصر، سيدنا موسى دعا وقال له الله تعالى ولهارون:

قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
(سورة يونس)

فمتى أُجيبت؟ بعد أربعين سنة، فإذاً إجابة الدعاء تأتي في الوقت الذي يريده الله، وبالطريقة التي يريدها الله، لا في الوقت الذي نريده نحن وبالطريقة التي نريدها نحن، فهذا هو الصبر مع النصر، وآخر شيء أقوله في هذا الباب أن الصبر مع الطاعة طريق النصر، قال تعالى:

إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـًٔا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
(سورة آل عمران)

الصبر مع التقوى نصر، وأما الصبر مع المعصية فهو قهر وقبر، فإن صبرنا مع طاعة الله تعالى كان النصر، وإن صبر من يدّعي الصبر لكن مع معصية، يعصي الله ويقول: أنا صابر، إذاً ما وراء الصبر مع المعصية إلا قهر ثم قبر، وما وراء الصبر مع الطاعة إلا عز ونصر.

بيان فضل المجاهدين في سبيل الله:
المقدمة:
بارك الله فيكم، نتحدث الآن عن بيان فضل المجاهدين في سبيل الله يا دكتور، هنالك مجاهدون بأموالهم وأنفسهم على القاعدين، نتطرق للسؤال حول تقديم المال على النفس في أغلب سور القرآن الكريمة، وما الرسالة المطلوبة من ذلك ونحن نستمع للآية (95) من سورة النساء يقول تعالى:

لَّا يَسْتَوِى ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
(سورة النساء)

نريد يا دكتور ربط هذه الآية العظيمة بما يحصل على الأرض الآن، بيان فضل ومقام الجهاد الذي ذُكر فيه سبعون آية بألفاظ مختلفة كالجهاد، كالقتال، النفير، وأما آيات الجهاد فهي ست وعشرون آية، تفضل.

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الآية تميز بين صنفين من الناس، الأول قعد لم يقم ليبذل جهده، ما هو الجهاد؟ هو استفراغ الجهد والوسع في سبيل تحقيق أمر ما، سيجاهد الإنسان لتحقيق أمر ما، فالقاعد ترك والمجاهد جاهد أي بذل جهده، وفرق كبير بين من يبذل جهده ومن يقعد، أي بأبسط مثال: غداً امتحان مهم جداً في التوجيهي أحدهم قاعد لم يدرس، والثاني أمسك الكتاب ويدور في الغرفة ويبذل كل جهد لحفظ ما فيه، هل يستوي هذا مع هذا غداً في الامتحان؟! مستحيل، فمن جاهد وبذل جهده لا يمكن أن يوازن مع من قعد عن بذل الجهد، والجهاد -قبل أن نتحدث عن المال والنفس- الجهاد بشكل عام من منطلق أنه بذل الجهد هو أربعة أنواع؛ النوع الأول وهو ما أسميه التعليم الأساسي أي الذي لا بد منه هو جهاد النفس والهوى، أن يمنع الإنسان نفسه وهواه من المعاصي والآثام، قال تعالى:

وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ(69)
(سورة العنكبوت)

وقال شراح الآية ومفسروها جاهدوا فينا: أي حملوا أنفسهم على طاعة الله والإتيان بما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر؛ فيهديهم الله تعالى السبل، هذا أول جهاد جهاد النفس والهوى، ثم يأتي بعده الجهاد الدعوي وهذا ما فعله أهل غزة العزة يوم كنا نسمع عن قوافل الحفاظ لكتاب الله تعالى وقوافل المفسرين لكتاب الله تعالى، ومدينة غزة مدينة العلماء ومدينة الإمام الشافعي، فرأينا عندهم الجهاد الدعوي، قال تعالى:

فَلَا تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدْهُم بِهِۦ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
(سورة الفرقان)

أي بالقرآن الكريم (جِهَادًا كَبِيرًا)، فسمّى الجهاد بتعليم القرآن (جِهَادًا كَبِيرًا)، ثم يأتي الجهاد البنائي والجهاد البنائي يعني الإعداد، وهذا أيضاً ما لاحظناه في غزة وفي فلسطين وهو جهاد الإعداد.

وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍۢ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
(سورة الأنفال)

تقديم المال على النفس في الجهاد
فأمر -جلَّ جلاله- بإعداد القوة المتاحة لا قوة المكافئة، القوة التي نستطيعها وهذا ما رأيناه أيضاً، وبعد هذه الأنواع الثلاثة يأتي الجهاد الأعظم وهو ذروة سنام الإسلام، وهو الجهاد القتالي القتال في سبيل الله، فإذا تحقق الإنسان من جهاد نفسه وهواه لأن المهزوم أمام نفسه لا يستطيع أن يواجه نملة في أرض المعركة، ثم تحقق من جهاده الدعوي من خلال تعلم القرآن الكريم وتعليمه، ثم تحقق من جهاده البنائي وهو الإعداد بمختلف أشكاله فإنه يُرجى منه -إن شاء الله تعالى- أن يكون له الفوز والغلبة والنصر في جهاده القتالي، الآن عطفاً على ذلك وما جاء في سؤالك الكريم، فعلاً في معظم الآيات إلا في آية واحدة تقدم المال على النفس في الجهاد، فلماذا؟ هذا شيء يلفت النظر، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، فلماذا قدّم المال على النفس؟ في الحقيقة هناك سببان فيما أعتقد؛ السبب الأول أن دائرة الجهاد بالمال أوسع من دائرة الجهاد بالنفس، اليوم في واقعنا الذي نعيشه اليوم كلنا نطمح -إن شاء الله- أن نجاهد بأنفسنا، لكن المتاح لمعظم الأمة هو جهد المال وليس جهاد النفس، فلأن دائرة الجهاد بالمال أوسع فالقادرون عليه أكثر قدّمه الله تعالى أهمية، والسبب الثاني أن الجهاد بالمال وسيلة للجهاد بالنفس، فقدم الوسيلة على الغاية بمعنى أن المجاهد بنفسه إن لم يجد من يدعمه مالياً بالعتاد، بالقوة، بالسلاح، بالإعداد، بالتعليم فإنه لا يستطيع أن يؤدي مهمته على الشكل المطلوب، فقدّم الوسيلة على الغاية لأن الوسيلة تسبق الغاية، فنحن عندما تهيئ الأمة أموالها وتصرفها في منافذ الجهاد في سبيل الله بمختلف أنواعه التي ذكرتها سواء في تعليم العلم ونشره، أو في الإعداد، أو في القتال في سبيل الله تعالى، أو في جهاد النفس والهوى من خلال المعارف والعلوم والتعريف بالله تعالى بجميع أنواع الجهاد، عندما تهيئ الأمة أموالها لذلك فإنها تحقق الجهاد بالنفس، لذلك بدأ بالجهاد بالمال، فرسالتنا اليوم لكل قادر لكل من يملك ولو قوت يومه أن ينفق من ماله في سبيل الله تعالى، أن يجاهد بماله، وأن يقف مع أهله المستضعفين بماله من أجل أن يقويهم؛ يقوي المجاهدين، ويقوي الجبهة الداخلية من النساء والأطفال والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، لا بد من تقوية هؤلاء وتثبيتهم في أرضهم، ومدهم بأسباب القوة والبقاء فالجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس في القرآن الكريم لأن دائرته أوسع و لأنه وسيلة مهمة لتحقيق الغاية وهي الجهاد بالنفس.

الأثر السلبي للقاعدين:
المقدمة:
بارك الله فيك يا دكتور، هنالك مداخلة كلمة (القاعدون) تكررت كثيراً في القرآن الكريم في سورة التوبة كثرت، وهم من آثر الراحة والقعود ونحن لا نقصد هنا أصحاب العلل، فهنالك من آثر الراحة القعود في منازلهم ليس فقط القعود وإنما يطلقون الشائعات، المثبطات، الخذلان وما إلى ذلك فكلها هذه في دائرة القاعدون، فنرجو ألا نسمح لهم بالحديث كثيراً أو بإعطاء آرائهم، فالذي يكون في المعركة غير الذي ينظر إليها من زاوية واحدة، أو من زاوية ضيقة.

الدكتور بلال نور الدين:
صحيح 100%، ينظّر هذا ما نسميه بالعرف الحديث(التنظير)، يجلس في برجه العاجي وفي بيته متكئاً على أريكته وينظّر على المجاهدين، وينظّر على من يبذلوا أرواحهم ومهجهم، فيقول: ليتهم فعلوا كذا وليتهم لم يفعلوا كذا، جميل جداً أن نسدي النصح، جميل جداً أن نتعاون، لكن أن يكون فعلنا هو فعل القاعدين بمعنى أن نقعد عن كل شيء، نقعد عن الكلمة، نقعد عن المال، نقعد عن النصرة بالحرف، بالكلمة الطيبة في مواطننا، هذا نقول له النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول:

{ مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ }

(أخرجه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة )

إما أن تتحدث بخير ولنصرة الحق وأهل الحق، أو يسعك السكوت والصمت فهذا خير لك من أن تقع في شيء لا ينبغي أن تقع فيها، أو أن تتكلم في غير فنك، وقيل: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، ومن تكلم وهو بعيد عن الواقع أتى بأعجب العجائب.

مفهوم الفوز والنصر:
المقدمة:
لا إله إلا الله، نعم صحيح، بارك الله فيكم ونفع الله بكم يا دكتور، ننتقل الآن للحديث عن أروع ملاحم النصر، الله تعالى يقول:

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍۢ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّىٓ إِلَّا مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةًۢ بِيَدِهِۦ ۚ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ ۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍۢ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةًۢ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ (249)
(سورة البقرة)

انتصرت غزة بكل أطيافها؛ من الأهل، من المرابطين، من المقاومة، انتصرت بكل المقاييس، وأول انتصار لهم أنهم قطعوا تعلقهم بكل أهل الأرض وجعلوا تعلقهم برب السماء والأرض، واعتصموا به سبحانه فنصرهم -جلَّ وعلا- وغيّر موازين القوى على الأرض، فما قبل 7 أكتوبر ليس كما بعده، الانتصار الثاني يتمثل بإفشال الدعاية الإعلامية في كل العالم، هنالك أسباب كثيرة للنصر لكن الحلقة ليس فيها الوقت الطويل حتى نشرح كل هذه على التفصيل، فسؤالي يا دكتور بدون إطالة وهو حديث ونقاط كثيرة تثبت النصر لا مجال لحصرها -كما قلت- نتحدث عن الفوز ثم نتحدث عن النصر، الفوز جاء على ثلاثة أنواع: فوز عظيم، فوز كبير، وفوز مبين ثم بعد الفوز جاء ذكر النصر وهذا ما جاء في الآية الكريمة في قوله تعالى في سورة الصف:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَٰرَةٍۢ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍۢ (10) تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّٰتِ عَدْنٍۢ ۚ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ(13)

لماذا تقدم الفوز على النصر يا دكتور؟ تفضل.

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أنني منذ أيام ببداية 7 أكتوبر وحتى اليوم كثيراً ما أُسأل في المجالس وعبر الهاتف، متى نصر الله؟ والناس -كما قلتِ- يستعجلون، وكنت أجيبهم فوراً: لقد تحقق نصر الله، فيستغربون كيف تحقق؟ وكم تحقق؟ كما تفضلتِ قبل قليل، فعندما ينتصر الإنسان على نفسه فقد تحقق النصر، وعندما يثبت على مبدئه فقد تحقق النصر، وعندما يعلّم الدنيا دروساً في العزة والشموخ فقد تحقق النصر، وعندما يقف في وجه رابع أقوى جيش في العالم فقد تحقق النصر، وعندما يحقق قوله تعالى:

وَلَا تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
(سورة النساء)

فقد تحقق النصر، وعندما يتحقق قوله تعالى:

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ (140)
(سورة آل عمران)

نحن انتصرنا وانتصرنا بأهل غزة
فقد تحقق النصر، وعندما نسمع أماً راضية بقضاء الله تعالى في غزة تودع ابنها وهي تحتفي بشهادته في سبيل الله فقد تحقق النصر، وعندما نرى أخاً يلقن أخاه الشهادة وهما جريحان على الأسرة ينازعان الموت فقط تحقق النصر، وعندما نرى رجلاً يقول لآخر: لا تبكِ هؤلاء شهداء في الجنة -إن شاء الله- فقد تحقق النصر، نحن انتصرنا وانتصرنا بأهل غزة، وانتصر أهل غزة بشموخهم وعزتهم، لكن بقي -إن شاء الله-الظهور والتمكين والغلبة، وهذا ننتظره بفضل الله تعالى ورحمته وموقنون منه لكن في الوقت الذي يريده الله، فكما تفضلت في سورة الصف الله تعالى يقول: (ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ) والحقيقة أنه لم يرد الفوز في القرآن إلا مع تحقيق الهدف الذي جئنا به إلى الدنيا وهو دخول الجنة، الفوز للجنة قال تعالى:

كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ (185)
(سورة آل عمران)

وما أعظم ما فاز به أهل غزة وأهل فلسطين وهم يودعون شهداءهم وتتلقفهم الملائكة، راضية نفوسهم بتقديم أرواحهم في سبيل الله تعالى! فالفوز هو أن يحقق الإنسان غايته التي وجد بها، ولم يأتِ الفوز في القرآن إلا مع تحقيق الهدف وهو دخول الجنة، ثم يقول تعالى: (وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا) أي الأمر الأساسي هو الفوز وقد حققته لكم، ومساكن طيبة وبجنة تجري من تحتها الأنهار، وبمغفرة الذنوب، ودخول الجنة قد تحقق لكم الفوز وهذا هو الأساس، ثم بعد ذلك (وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا) مطلوبة لكنها أخرى؛ أي هي شيء من شيء جزء من كل، الكل تحقق بقي جزء يسير وهو (وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصْرٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ)، وهذا ما أبشركم بتحقيقه سيأتي لا محالة، لكن الفوز قد تحقق وانتهى الأمر، لذلك أهل غزة فازوا، ومن وقف معهم فقد فاز، ومن دعا لهم بصدق فقد فاز، ومن قدم لهم ماله فقد فاز، ومن ناصر الحق بكلمة فقد فاز، لكن الخاسرون هم القاعدون الذين لم يفعلوا شيئاً، الخاسرون هم الذين خذّلوا و ثبّطوا هؤلاء هم الخاسرون، فهناك فائز وهناك خاسر وأهل غزة ومن ناصرهم فائزون، وبقي -إن شاء الله- تحقيق العزة والتمكين وقد تحقق جزء من ذلك، وننتظر- إن شاء الله -التمكين الأعظم والغلبة والقهر على أعداء الحق والخير.

فضل الرباط في عسقلان:
المقدمة:
اللهم آمين، نفع الله بكم يا دكتور، ننتقل الآن للحديث عن هدايات الحديث النبوي الشريف في فضل الرباط في عسقلان، يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-:

{ أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ إِمَارَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَتَكادَمُونَ عَلَيْهِ تَكادُمَ الْحُمُرِ فَعَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ جهادِكُمُ الرِّبَاطُ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رباطِكُمْ عَسْقَلَانُ }

(صححه العلامة الألباني، رواه الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)

عسقلان الكل يعلم جغرافياً أنها قريبة جداً من غزة لا تبعد أكثر من 20كم، فنود التوضيح لهذا الحديث؛ درجة صحته وتواتره وما الهدايات في هذا الحديث يا دكتور؟

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة الحديث قد صححه أهل العلم ومنهم الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال إسناده صحيح ورجاله ثقات، والألباني -رحمه الله- قد ذكره في السلسلة الصحيحة، وقال إسناده جيد، فهذا الحديث من الأحاديث الصحيحة التي رواها الطبراني في معجمه، وهو -كما تفضلتم- فيه بشارة عظيمة في آخر كلماته (وَإِنَّ أَفْضَلَ جهادِكُمُ الرِّبَاطُ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رباطِكُمْ عَسْقَلَانُ)، وعسقلان وغزة منذ الفتح الإسلامي حتى الغزو الصليبي كانت تابعة لعسقلان، وعُرفت بغزة عسقلان، وبينهما -كما تفضلت- أربعة فراسخ ما يعادل 20 كم تقريباً، حتى إن الإمام الشافعي ورد في كثير من الآثار أنه وُلد في عسقلان، و في أخرى أنه ولد في غزة لأنهما كانتا مدينة واحدة، فهذا الحديث الحقيقة من معجزات النبوة، ومن بشارات النبوة، ومن السبق النبوي في أنه يتحدث عما يكون أن يبين أنها نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ خِلَافَةً وَرَحْمَةً الخلافة راشدة وغيرها، (ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ إِمَارَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَتَكادَمُونَ عَلَيْهِ تَكادُمَ الْحُمُرِ) التكادم هو العض؛ يتناهشون هذه الأمة، وهذا ما نجده اليوم.

{ يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها، فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ. }

(أخرجه أبو داود عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم )

كما قال صلى الله عليه وسلم: (يَتَكادَمُونَ عَلَيْهِ تَكادُمَ الْحُمُرِ)، تجتمع عليكم الأمم يوم نراه من وقوف العالم بأسره -إلا من رحم ربي- من دول الغربية يقفون مع الغاصب، مع المحتل، مع القاتل، مع صاحب القوة والغطرسة والعنجهية، يقفون معهم بكل ما أوتوا، يقدمون لهم فروض الطاعة والولاء، فهذا الذي نجده هو (تَكادُمَ الْحُمُرِ) نحن في عصر تكادم الحمر، ثم يبين -صلى الله عليه وسلم- أن أفضل الجهاد الرباط، أي أن تبقى ثابتاً، أفضل الجهاد أن تبقى ثابتاً على مبدئك وقيمك وأن ترابط في مكانك، ألا تسمح بأن يهجرك أحد من أرضك، ألا تسمح أن يجعلك أحد ألعوبة بين يديه.
الرباط هو أن يقف الإنسان ثابتاً في مكانه
فالرباط هو أن يقف الإنسان ثابتاً في مكانه لا يتزحزح، لا يبدل، ولا يغير، اليوم غزة من عشرات السنين ترابط على هذه الثغور، تمنع أحداً من أن ينال منها؛ فهذا هو الرباط، الرباط: هو أن يربط الإنسان نفسه ويربط على قلبه في مكان لا يغادره ولا يتزحزح عنه رغم تكادم الحمر عليه، رغم تداعي الأكلة إلى قصعتها، فأفضل الجهاد الرباط ، قال: (وَإِنَّ أَفْضَلَ رباطِكُمْ عَسْقَلَانُ) فهؤلاء الذين يرابطون اليوم على ثغور غزة العزة، ويقفون شامخين صامدين إنما يحققون نبوءة النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- في أنهم من أفضل المجاهدين يومئذ، وأنهم -إن شاء الله -الطائفة المنصورة الغالبة التي ذكرها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ) هذا إعجاز نبوي أيضاً (لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ)، إذاً سيكون هناك من يخذلهم، بل سيكون كثير ممن يخذلهم، (حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ) وهم بالشام وأرض الشام.

المقدمة:
بارك الله فيكم، وبعد الحديث عن رباط عسقلان ننتقل ونذهب إلى سورة النمل إلى الآية (37)، كيف نتمثلها في الواقع الحالي يا دكتور ونسقطها على الوضع في غزة مع أن الآية تتحدث عن جيش سليمان وعن قصته مع ملكة سبأ؟ لكن القرآن يفسر بعضه بالقرآن، والآية تقول: بسم الله الرحمن الرحيم

ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍۢ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَٰغِرُونَ (37)


الدكتور بلال نور الدين:
القرآن الكريم فيه شفاء للنفوس
بارك الله بكم، الحقيقة الآية -كما تفضلتم- هي تتحدث عن سيدنا سليمان ومملكة سبأ، فيقول سيدنا سليمان: ارجع إليهم بهديتهم التي جاؤوا بها لعلهم يغترون بها (فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍۢ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا) أي لا طاقة لهم بها، لا يستطيعون ردها، (وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَٰغِرُونَ)، والحقيقة القرآن فيه شفاء للنفوس، و القرآن الكريم كلما زدته تدبراً زادك عطاء، فهو كريم لا يتوقف عطاؤه، فمن عطائه العظيم أن تقرأ هذه الآية اليوم وأنت في هذه الظروف، أن تقرأها فتسقطها على واقعك الذي تعيشه، فنقول لأهل غزة اليوم: (فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍۢ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا)، ونقول لهؤلاء الصهاينة المعتدين: لَنَأتِيَنَّكم بِجُنُود لا قِبَل لَكم بِهَا وَلَنخرِجَنَّكم منْها أَذِلَّة وَأنتم صاغِرُونَ إن شاء الله، ثم تمثل هذه الآية اليوم في الواقع، لماذا لا قِبل لكم بها؟ هل هي عتاد عظيم وعدة عظيم، نعم قد أعدوا العدة و لا ننكر ذلك وفاجأوا العدو قبل الصديق، فاجأوا العالم كله بما أعدوه لكن أعظم ما أعدوه هو قوة العقيدة لا قوة العتاد، فهم يحملون عقيدة في داخلهم، سيدنا خالد بن الوليد يوم بعث إلى ملوك فارس، قال لهم: "ولنأتينكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة"، المؤمن يحب الحياة لا نقول أنه لا يحب الحياة، لكن يحبها عندما يعيشها عزيزاً، يحبها عندنا يحقق غايته فيها وهي أن يكون رافع الرأس شامخاً بدينه، لكن عندما يأتيه الأعداء ويأتيه المغتصبون للأرض والمحتلون لها، والآخذون لثرواتها والعائشون فيها فساداً فإنه يؤثر الموت على الحياة، فقال:"جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم بالحياة، وقال تعالى يصفهم:

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٍۢ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍۢ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِۦ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَٱللَّهُ بَصِيرٌۢ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
(سورة البقرة)

فلما تكون العقيدة راسخة في النفوس، كما نجدها اليوم عند أهل غزة فإنهم يتحركون بدافع من عقيدتهم وهذه أعظم قوة، فالقوة ليست قوة العتاد فحسب وإن كانت مطلوبة، ولكنها قوة النفوس، قوة العقيدة، قوة الرباط، قوة الجها، فاليوم فعلاً الجنود الذين في غزة ومن يدعمهم، من يناصرهم فعلاً الأعداء لا قِبل لهم بهم، فهذه الآية نتمثلها اليوم في واقعنا عندما نتحدث عن القوة العظيمة التي يمتلكها أصحاب الأرض، والقوة العظيمة التي يمتلكها أصحاب القوة الحقيقية، فاليوم نتحدث -إن شاء الله- عن جنود لا قِبل للأعداء بهم، نسأل الله تعالى أن يتم نصره وأن يتم تمكينه لهم.

المقدمة:
دكتور في أسابيع خلت كنت أتحدث عن سورة التوبة نتلمس الطريق بهداياتها وألطافها، هذه السورة هي الكاشفة الفاضحة للمنافقين والكافرين، اليوم غزة وحرب غزة وكل ما يجري على الأرض كشفت هذه المعركة المنافقين، كشفت المترددين في نصرة الدين، نعود هنا لنعطف على الآية في سورة التوبة الآية (24) قوله تعالى:

قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ (24)

فنود التعليق على هذا الموضوع يا دكتور بارك الله فيكم.

الدكتور بلال نور الدين:
حياكم الله، الحقيقة سورة التوبة -كما ذكرتِ- هي الفاضحة، يقول سعيد بن جبير: سألت ابن عباس -رضي الله عنهما- عن سورة براءة (سورة التوبة) فقال: "تلك الفاضحة، ما زال ينزل: ومنهم... ومنهم... -يبين أصنافاً من الناس- حتى خفنا ألا تدع أحداً"، فسورة التوبة سورة الفاضحة، وأنا أقول اليوم إن غزة هي الفاضحة؛ لأنها فضحت تخاذل المتخاذلين، وتآمر المتآمرين، ونفاق المنافقين، وبينت في الوقت نفسه قوة المؤمنين وعز المسلمين ونصر المجاهدين فهي فضحت، فهي فاضحة اليوم ما في غزة، وقد سألني أحدهم قبل أيام، قال لي: لماذا لا يتحرك بعض القادرين؟ هناك البعض ممن يقدر بماله، بموقفه، بأي شيء ولا يتحرك؟ قلت له: ألم تقرأ قوله تعالى؟

وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُۥ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَٰعِدِينَ (46)
(سورة التوبة)

ألم تقرأ قوله تعالى؟

وَلَا يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ ۚ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْـًٔا ۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِى ٱلْءَاخِرَةِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
(سورة آل عمران)

الشرف لا يناله إلا أهله
والله هذه الآية تقشعر لها الأبدان أن يريد الله بإنسان ألا يكون له حظ في الآخرة، ألا يقف يوم القيامة بين يدي الله فيكون له حجة بين يدي الله بأن يقول: يا رب أنا قدمت كلمة، أنا قدمت ديناراً، يريد الله ألا يجعل له هذا الحظ لأنه ليس أهلاً له هذا شرف عظيم، وتمكين عظيم، وقوة عظيمة لا ينبغي أن تكون أنت أيها المنافق في مكان ما لك حجة عند الله تعالى فيها؛ لأن هذا الشرف لا يناله إلا أهله،-فكما تفضلتِ-في سورة التوبة في السورة التي فضحت نفاق المنافقين بيّن الله تعالى أن هناك أشخاصاَ آباؤهم وتجارتهم ومساكنهم أحب إليهم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، قال: (فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ)، انتظروا حتى يأتي أمر الله تعالى، فإذاً اليوم الحق منصور بنا أو بغيرنا هذا قانون إلهي و هذه سنة ماضية، لكن العبرة كما قيل: لا تقلق على هذا الدين إنه دين الله وهو ناصره، ولكن اقلق على نفسك فيما إذا سمح الله لك أو لم يسمح أن تكون جنداً له، فأنت إما أن تكون جندياً لنصرة الحق أو -لا قدر الله- يجدك في مكان آخر جندياً بالباطل أو ساكتاً أو قاعداً، فأنت اقلق على نفسك، وانظر أين موضعك أنت في تحقيق موعود الله تعالى وفي تحقيق نصر الله تعالى.

الحكمة من أحداث غزة:
المقدمة:
بارك الله فيكم يا دكتور، في آخر محاورنا نود إبراز الحكمة من أحداث غزة والتي يجب أن نتعلمها وخصوصاً -وأنا ذكرت هذا الموضوع- وجود المثبطين المتخاذلين كما ذكرنا في بداية الحلقة هؤلاء الذين ينظرون بعين واحدة لا يرون إلا أنهم يموتون بلا ذنب، وما ذنبهم؟ يصل بهم السؤال، وأين الله عن كل ما يحصل للمدنيين؟! ونسوا قول الله تعالى في سورة التوبة أيضاً الآية (14):

قَٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍۢ مُّؤْمِنِينَ (14)
(سورة التوبة)

نود التعليق على هذا الموضوع يا دكتور.

الدكتور بلال نور الدين:
قدرة الله تعالى مطلقة وخياراته مطلقة
الحقيقة أن هناك آية أقول هي جامعة مانعة للإجابة عن الأسئلة التي تدور في أذهان البعض ممن تفضلتِ بالحديث عنهم، وهذه الآية تجيب عن أسئلة في أعماق النفس قد يظهرها الإنسان وقد يخفيها، فالسؤال الأول الذي يدور اليوم في الأذهان، أليس الله تعالى قادراً على إيقاف هذه الحرب في تلك اللحظة ونصر المؤمنين وحفظهم وتمكينهم؟ الجواب بلى، إن الله تعالى على كل شيء قدير، قدرته مطلقة وخياراته مطلقة، أنا الإنسان قد تقول لي: أتستطيع أن تفعل كذا، أقول لك: لا، هذا خارج قدرتي، أما الله تعالى فلا يعجزه شيء، وجاء الجواب في الآية:

فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ (4)
(سورة محمد)

لا بد أن يبتلى أهل الحق بأهل الباطل
فقط، أي لو أراد الله تعالى أن يحقق النصر فوراً وينتصر من الظالمين للمظلومين لفعله فوراً، فيأتي السؤال الثاني من أعماق النفس، وإذاً لماذا لا يحصل ذلك؟ قال تعالى: (وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) نحن في دار ابتلاء، في دار امتحان، فلا بد أن يبتلى أهل الحق بأهل الباطل، وأهل الباطل بأهل الحق، حتى يستحق أهل الحق الجنة، ويستحق أهل الباطل النار، قال تعالى: (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) لا بد أن يتحقق الامتحان، وكيف يتحقق الامتحان لو لم تأتي هذه المعركة؟ لابد من الامتحان بمعنى أن الله تعالى هو واجب الوجود وما سواه ممكن الوجود، ما معنى ممكن الوجود؟ أي كان من الممكن أن يوجد أو ألا يوجد، وإذا وجد أن يوجد على الحالة التي هو عليها أو على خلاف الحالة التي هو عليها، إذاً لو أراد الله تعالى لجعل الكافرين في كوكب والمؤمنين في كوكب وانتهت المعركة، أو لجعل الكافرين في حقبة زمنية أخرى مختلفة عن حقبة المؤمنين، أي 1900 لـ2000 كفار و2000 لـ2100 مؤمنين وهكذا، ونتناوب وانتهى الأمر، أراد الله تعالى أن نجتمع على أرض واحدة وفي حقبة واحدة؛ لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي، و لأن أهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالبذل والتضحية، قال تعالى: (وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) فيأتي السؤال ثالث فوراً، ولكن الفاتورة كبيرة البيوت دُمرت، النفوس أُزهقت، الشهداء كثر، الأيتام، الأرامل، ماذا نفعل؟ يا رب ستأتي تتمة الآية (وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ)

سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
(سورة محمد)

فأما الذين ذهبوا إلى الله فهؤلاء ذهبوا إلى أجمل من المكان الذي هم فيه الآن، فأنت لا تقلق على نتائج المعركة، المعركة لها نتائج وفيها الخسائر هذه طبيعة الحياة، لكن أين ذهب هؤلاء؟ ذهبوا إلى ربهم، إلى مكان أجمل من المكان الذي كانوا فيه، إذاً هذه الآية تلخص وتجيب عن كل أسئلة الناس (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ).

المقدمة:
إن شاء الله، زمراً يدخلونها بإذن الله تعالى، إذاً في نهاية الحلقة يا دكتور نرى أن هذه الأحداث نراها تجلت في سورة الأنفال، في سورة التوبة، في سورة الأحزاب، وندعو الله بشرى الفتح والصف والنصر ومحمد، شكراً جزيلاً لكم الداعية بلال نور الدين عضو رابطة علماء الشام، مدرس مادة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، المشرف العام على الأعمال العلمية للدكتور والعالم الجليل محمد راتب النابلسي، نفع الله بكم يا دكتور وزادكم الله علماً وفضلاً، شكراً جزيلاً.

الدكتور بلال نور الدين:
عفواً، وبارك الله بكم وحفظكم.