معركة الحق والباطل في غزة

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-10-23
  • عمان
  • الأردن

معركة الحق والباطل في غزة

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللَّهم علّمنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علّمتنا، وزدْنا علماً وعملاً مُتقبّلاً يا رب العالمين، وبعد:

أقسام الأحكام التي يصدرها العقل:
الله تعالى واجب الوجود
أيها الإخوة الكرام؛ هناك عند المناطقة (أصحاب المنطق) يقسّمون الحكم العقلي -وهذا موجود أيضاً في العقيدة الإسلامية- يقسمون الحكم العقلي؛ أي الأحكام التي يصدرها العقل إلى ثلاثة أحكام لا يعدو الحكم القولي أو يتجاوز واحداً منها؛ فيقولون: إما أن يحكم على الشيء بأنه واجب الوجود، أو أن يحكم على الشيء بأنه ممكن الوجود، أو مستحيل الوجود أو ممتنع الوجود بمعنى واحد، فالأحكام العقلية هي واحد من ثلاثة: 1-الله واجب الوجود: لأنه لا يمكن أن يوجد موجود بغير خالق، فالله وجوده واجب، ولا يمكن أن يستمر الكون من غير وجوده فهو قيّوم السماوات والأرض؛ فهو واجب الوجود.
2- أما ممكن الوجود فهو معظم الموجودات في الحياة، نحن المخلوقون كلنا ممكنو الوجود بمعنى أن وجودنا ليس واجباً وليس مستحيلاً، يمكن أن نوجد ويمكن ألا نوجد.

هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلْإِنسَٰنِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْـًٔا مَّذْكُورًا (1)
(سورة الإنسان)

لم نكن موجودين أصلاً وبعد حين لن نكون موجودين؛ فنحن ممكنو الوجود بمعنى أننا وجدنا لأن الله أراد أن نوجد، وممكن الوجود قد يوجد على الحالة التي هو عليها، أو على حالة أخرى، فأنا موجود اليوم على حالة محددة من طول، ووزن، وعرض، لون وكان من الممكن أن أكون بحالة مختلفة عن هذه الحالة، لكن قدّر الله أن أكون على هذه الحالة؛ هذا معنى ممكن الوجود.
من المستحيل أن يكون الجزء أكبر من الكل
3- وهناك مستحيل الوجود أو ممتنع الوجود: وهو الشيء الذي يستحيل وجوده، مثلاً أن يكون الجزء أكبر من الكل هذا من المستحيلات، من مستحيلات الوجود أن يكون الجزء من الشيء أكبر من الكل، هناك مستحيل لذاته وهناك مستحيل العادة جعلته مستحيلاً، مثلاً عادات الناس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت تجعل الانتقال من مكان إلى مكان في وقت قليل وبينهما 1000 كم أمراً مستحيلاً، لكن هو عقلاً غير مستحيل، والدليل اليوم أصبحنا ننتقل من مكان إلى مكان بسرعة خيالية، وقد يكون ما نعتقده اليوم مستحيل الوجود كأن يقول إنسان اليوم: مستحيل شخص يخرج من عمان يصبح بواشنطن بساعة، قد يصبح ذلك بعد سنوات ممكناً، فالمستحيل إما أن العقل يحيله حقاً كوجود الشيء وعدم وجوده في وقت واحد، فهذا لن يتغير هذا مستحيل، وبعد مئة عام لمئتي عام لن تصل إلى مرحلة أن الشيء موجود وغير موجود في الوقت نفسه، أو أن يصبح الجزء أكبر من الكل هذا هو المستحيل، أما الأشياء التي جعلتها العادة مستحيلة فيمكن أن تتحقق وهذا ما حصل في المعجزات، فالجذع بكى وسمع الصحابة أنينه، وقد يقول قائل: مستحيل، نقول له: ليس مستحيلاً، هو نفس وبكى، نحن ما نفقه بكاءه في لحظة معينة و لمعجزة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمعوا بكاءه، قد يقول إنسان: هذا الطعام لا يكفي لخمسين شخصاً قليل جداً، فإذا بهم قد أكلوا وشبعوا، إنه غير مستحيل أن يشبع الطعام القليل الأناس الكثيرين لكن العادة جعلت ذلك مستحيلاً، فعندما نقول مستحيل الوجود نقصد الأشياء المستحيلة التي يحيل العقل وجوده، مثلما قلنا: الجزء أكبر من الكل مستحيل، وجود المتناقضات مستحيل كأن يكون إنسان: أنا كنت موجوداً في الوقت نفسه في عمان وفي العقبة، في الوقت نفسه كنت موجوداً في المكانين وجود فيزيائي، نقول له: مستحيل ولن يصبح ممكناً هذا الأمر، أو أن يقول إنسان: قد اجتمع الليل والنهار، الضوء والظلام في وقت واحد، ليل ونهار بنفس الدقيقة بنفس المكان نقول: هذا مستحيل الوجود، فعلى كلٍّ هذا مبحث طويل، فالحكم العقلي إما أن يكون لواجب الوجود، أو جائز الوجود، أو مستحيل الوجود.

الحكمة من اجتماع أهل الحق مع أهل الباطل في الزمن نفسه وفي الأرض نفسها:
الحق لا يقوى إلا بالتحدي
لماذا قدمت بهذه المقدمة؟ لأقول: ما دام كل شيء أو معظم الأشياء التي خلقها الله غير المستحيلات، هي ممكنة الوجود، إذاً ألم يكن من الممكن أن يخلق الله تعالى أهل الحق في كوكب وأهل الباطل في كوكب؟ ممكن، كما أن الله أوجدنا في كوكب واحد ونحن ممكنو الوجود كان من الممكن أن يوجدنا على حالة أخرى؛ كوكب الأرض للأتقياء لأهل الحق، للمصلين، للذين يخافون الله، للذين يكرهون الظلم، وكوكب المريخ يضع عليه أهل الباطل ويهيئ لهم سبل الحياة، فإذاً لا يوجد معركة، ولا يوجد حزن، ولا يوجد فراق، ولا يوجد أشلاء، لا يوجد قصف انتهت المشكلة، أو كان من الممكن أن يضع الله أهل الحق في حقبة وأهل الباطل في حقبة أي من (1900 لـ2000) هذه المئة سنة لأهل الباطل يأتون يتقاتلون مع بعضهم بمصالحهم يموتون يذهبون، يبدأ 2000) لـ2100) أهل الحق يأتون يعيشون؛ لأن ربنا -عزَّ وجلَّ- علم ما كان، وما لم يكن، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهو يعلم -جلَّ جلاله- أهل الحق وأهل الباطل، فكان يأتي بأهل الحق في حقبة وأهل الباطل في حقبة، أيضاً انتهت المعركة، وانتهى الحزن والأسى ومتابعة المآسي على الشاشات وانتهت المشكلة، لكن أراد الله تعالى أن يجتمع أهل الحق مع أهل الباطل في الزمن نفسه وفي الأرض نفسها؛ لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي، الحق يحتاج تحدياً حتى أهل الحق يُحقّوا، أما إذا كانت الأمور ميسرة فالإنسان لم يعد هناك داعٍ أن يقوي نفسه لأنه لا يوجد عدو، العدو يحفّز في داخلك القوة على المواجهة، حتى الشيطان إذا كان -إن كان فيه خير- فهو أنه عندما يوسوس لك يدفعك إلى أن تقوي إيمانك حتى تواجهه، نحن ما الذي يدفعنا أن نلتجئ إلى الله؟ يأتي الشيطان يوسوس لك، تقول: والله أحس نفسي ضعيفاً في هذه الأيام ضعيف، فتلتجئ إلى الله -عزَّ وجلَّ- أكثر، فالعدو دائماً يجعلك في حال التحدي مع الآخر، فيقوى أهل الحق بالتحدي، والأمر الثاني لأن أهل الحق لا يستحقون جنة الله تعالى إلا بالبذل والتضحية لأن ربنا -عزَّ وجلَّ- أعد جنة عرضها السماوات والأرض:

قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ
(أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة)

فلا بد من أن نقدم سببها، وأحد أهم أسبابها هو ذلك الصراع بين الحق والباطل، أن تواجه أهل الباطل أن تثبت على الحق، ألا تخنع لهم، ألا تجاملهم، ألا تستسلم لجبروتهم ولطغيانهم، فأنت دائماً تريد أن تدفع أو أن تقدم سبباً لدخول الجنة، فتكون تلك المواجهة مع أهل الباطل هي سببك لدخول جنة الله تعالى.

الاستعجال في طلب النصر:
فإذاً أيها الكرام نحن قدرونا أننا في أرض واحدة وفي حقبة واحدة، فلا يقولن قائل: أنا مللت، أنا لم أعد أحتمل، أنا الوضع العام أحبطني، لماذا يفعلون ذلك؟ لماذا لا ينتقم الله تعالى منهم اليوم؟ مثل ما أنت تحب أن يصير، مثلما تذهب عند الطبيب وتقول له: أنا أريد أن أتخلص من الوجع، يقول لك: يلزم أول شيء أن تأخذ مساراً علاجياً، وتعال بعد أسبوع، تقول له: الآن خلصّني، يقول لك: لا يوجد الآن، هناك مسار ثم ترجع، فدائماً نحن نستعجل، قال تعالى:

خُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَٰتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
(سورة الأنبياء)

وَيَدْعُ ٱلْإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا (11)
(سورة الإسراء)

عجلتنا هي نقطة ضعف
نحن نستعجل، وعجلتنا هي نقطة ضعف في خلقنا لكنها تتحول إلى نقطة قوة، كل نقاط الضعف التي أودعها الله في الإنسان يمكن أن يستفيد منها فيحولها إلى نقطة قوة، تماماً كهذه القطعة المعدنية الصغيرة التي توضع في مدخل التيار الكهربائي لآلة غالية الثمن عظيمة النفع يسمونها الفيوز(فاصمة كهربائية) هذا الفيوز هو نقطة ضعف لأن أي مشكلة يسيح لكن هو نقطة قوة لأنه يحمي الآلة، هو ثمنه دينار لكن يحمي الألف دينار عندما يسيح، فنقطة ضعف لكنها نقطة قوة، وما فينا من نقاط ضعف كالعجلة والهلع والجزع والخوف، وما وصفنا الله تعالى به من نقاط ضعف خلقها فينا هي ضعف ولكن يمكن أن تتحول إلى نقاط القوة عندما نستثمرها، فالله تعالى قال: (خُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ مِنْ عَجَلٍ) وقال: ( وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا) لكن ماذا قال بعدها؟ قال: (سَأُوْرِيكُمْ ءَايَٰتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) فهذه نقطة الضعف التي هي أنك تريد الشيء السريع.

النصر مع الصبر:
الصبر هو حبس النفس
النصر الذي تحبه على النحو الذي تريده اليوم، عندما تصبر وتنتظر الآجل وتضحي بالعاجل إذاً الجنة موعدك، ما هو الصبر؟ الصبر هو حبس النفس، النفس تريد شيئاً الآن؛ مبلغ مالي توقيع مخالف لشريعة الله -عزَّ وجلَّ- تصبح مئة ألف في جيبك، الصبر أن تمتنع عنها، لا أوقّع شيئاً يخالف شرع الله -عزَّ وجلَّ- امتنعت، العجول يريدها الآن، المؤمن يريدها في الآخرة فامتنع الآن من أجل ما ينتظره في الآخرة، امتنع الآن من أجل ما ينتظره من خشوع في صلاته لأنه لم يأكل مالاً حراماً، امتنع لأنه يريد أن تبقى العلاقة مع الله -عزَّ وجلَّ- علاقة طيبة لا يريد أن يشوهها بمبلغ مالي حرام، فإذاً الصبر هو حبس النفس، والإنسان يريد العجلة، فلما يحبس نفسه يحول نقطة الضعف في العجلة إلى نقطة قوة بحيث يتمسك بالآجل ويترك العاجل؛ لذلك سمّى الله تعالى الدنيا عاجلة، قال:

كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ ٱلْءَاخِرَةَ (21)
(سورة القيامة)

(وَتَذَرُونَ ٱلْءَاخِرَةَ) التي هي آجلة وتريدون العاجلة؛ هذا غير المؤمن، المؤمن يذر العاجلة، يذرها لا يعني يتركها ولكن يعني لا يفعل الحرام من أجلها، ويتعلق بالآجلة فيوظف العاجلة لخدمة الآجلة؛ هذه هي، فاليوم نحن نعيش واقعاً مأساوياً كان -كما قلت سابقاً- عبارة عن كتلة من الآلام، وأصبح اليوم كتلة من الآلام فيها بذور الآمال، فأصبح الألم ممزوجاً بالأمل أو ببعض الأمل، لكن على كل حال وعلى كل وضع لا ينبغي أن نستعجل لأن الله تعالى له في خلقه سنن، وسنن الله لا تتبدل ولا تتغير، لا بد أن تنتهي العملية الجراحية على أحسن حال، أشبه ذلك بابن يحب أباه حباً لا حدود له، وقد اضطر والده إلى إجراء عملية قلب مفتوح تستغرق سبع ساعات ولا بد من فتح اللحم، ونشر العظم، والدخول إلى القلب وانتزاعه، وإجراء العملية وإعادته؛ أمر معقد جداً، والابن استطاع بطريقة أو بأخرى-وهذا صعب، لكن افتراضاً- أن يتسلل إلى غرفة العمليات فأمسك بالطبيب والمخدر، وقال له: أرجوك، أتوسل إليك لا تفعل ذلك بأبي، أُفُقه ضيق يظن أن المظهر فتح عظم وكذا، ما استوعب أن الطبيب يحاول أن يعالج مشكلة مزمنة بحل ناجع نهائي، فتمسك به وقال له: أرجوك، يستدعي بعض العمال ويقول لهم: أخرجوه، العملية يجب أن تتم و إلا يموت المريض، هذا المثل البسيط يشبه حالتنا وواقعنا اليوم عندما نستعجل العملية الجراحية التي تجري، نعم طال الأمد، نعم ولكنه لم يطل إلى الحد الذي يخالف سنن الله تعالى في الأرض، نحن اليوم إذا تكلمنا في قضيتنا وبوصلتنا قضية فلسطين، وهي بوصلتنا لأنها متعلقة بأقصانا بالمسجد الثالث بقبلتنا الأولى؛ فهي قضية دينية شئنا أم أبينا، وهم أعلنوها أنها قضية دينية، فجاء وزير خارجيتهم ليقول: أنا لم آتِ بصفة وزير خارجية وإنما جئت بصفة يهودي، وهذا غباء سياسي منقطع النظير، لأنه عندما تقول: أنا جئت من صبغة دينية، إذاً أنا سأواجهك بصبغة دينية؛ هذا غباء سياسي، لكن فلتة لسان أو غباء مقصود بالنتيجة هو غباء، فأنت تواجهني إذاً بالدين وتعلنها، وهذا حمية لي أن أقول لك: إذاً لم يعد شيء أخشاه، وأنا جئت بصفتي مسلم إذاً، فاليوم هذه الحرب المعلنة الشديدة التي يواجهوننا بها و القضية الفلسطينية- كما قلت- إذا نظرنا إليها بمقياس الزمان والمكان، فهي قضية مضى عليها تلك الخمس وسبعون سنة أو بهذا الحدود، وبعمر جيل، والتاريخ يعلمنا دائماً أن الأمم والأجيال من جيل إلى جيل يتغير الواقع ويتبدل الحال من مئة سنة إلى مئة سنة، فنحن شاء الله لنا أن نكون في صميم المعركة شبابنا وكهولتنا نعيشها الآن بصلب المعركة، لكن الله أعلم كم يكتب الله -عزَّ وجلَّ- لنا ولهم طبعاً قبلنا من الثواب العظيم ما دمنا ثابتين إن شاء الله على الحق.

مفهوم النصر الحقيقي:
أعظم أنواع النصر هو ألا تهزم في المعركة
من زاوية أخرى أيها الكرام هناك خلل عند بعض الناس في مفهوم النصر، النصر ليس دائماً هو الغلبة، وليس دائماً هو القهر، وليس دائماً هو الظفر، وليس دائماً هو الظهور على العدو، النصر أنواع لكن أعظم أنواع النصر هو ألا تهزم في المعركة، ولو مضيت إلى الله تعالى أن تمضي ثابتاً على مبدئك فأنت منتصر، اليوم عندما تسمع الأم التي تقول: رضينا بقضاء الله وقدره، ألتقيك إن شاء الله في الجنة يا بني، تودعه بهذه الكلمات في الصبر عند الصدمة الأولى؛ هذه أم منتصرة، اليوم عندما تسمع شبلاً يخاطب أخاه و يلقنه الشهادة وهو يقضي إلى الله، يقول له: قل أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول؛ هذا منتصر، أصحاب الأخدود شُق لهم الأخدود وألقوا فيه، وامتدحهم الله تعالى لأنهم انتصروا، ما أعظم نصر انتصروه؟ أنهم ماتوا ولم يغيروا، ولم يبدلوا.

مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا (23)
(سورة الأحزاب)

ما حادوا عن مبادئهم، ما خانوا العهد، ما خنعوا، ما طبّعوا، ما وافقوا المجرم على إجرامه، فالنصر المبدئي يعني أن ينتصر الإنسان على نفسه فيمنعها من معصية الله، وأن ينتصر عليها ثانياً فلا تتضعضع أمام الأقوياء، ولا تلين أمام الشدائد، وتبقى ثابتة حتى تلقى الله، آلاف المنتصرين اليوم في أرضنا المحتلة مضوا إلى ربهم، آلاف المنتصرين لأنهم ما بدلوا وما غيروا، فالظفر والغلبة هو جزء من النصر لكنه ليس كل النصر، الظفر والغلبة نصر لكن ليس كل النصر، والنصر مفرح والله تعالى يقول:

فِى بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ ٱلْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنۢ بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍۢ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ(4) بِنَصْرِ ٱللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (5)
(سورة الروم)

ويقول:

قَٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍۢ مُّؤْمِنِينَ (14)
(سورة التوبة)

والله تعالى لا ينصر أعداءه، كم من حرب خاضوها وقال البعض: قد انتصروا علينا، وهم في الحقيقة ما انتصروا، مُحال أن ينتصر المجرمون، قد تقوم لهم قائمة بسبب تقصيرنا، وقد ينتفش باطلهم بسبب بُعد أهل الحق عن حقهم لكنهم لا ينتصرون.

وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِۦ ۗ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ (126)
(سورة آل عمران)

فالله لا يمنح النصر لأعدائه.

وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)
(سورة آل عمران)

المقياس القرآني هو مقياس الإيمان
حسناً المعركة لم تكن في صالحنا (وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، أُحد ما كانت في صالح المسلمين في محصلتها، شهداء كثر فيخاطبهم الله يقول: (وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ) المقياس البشري ينظر نحن الأدنون، هم الأعلون اليوم في هذه اللحظة، المقياس القرآني: (وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ) بماذا؟ بإيمانكم، يكفي أنكم مؤمنون، كفاك نصراً على عدوك أنه في معصية الله، وأنك في طاعة الله، كفاك نصرا ًعلى عدوك أنه في معصية الله، وأنك في طاعة الله.

{ ...قُم يا عمرُ فأجِبْهُ فقُل: اللهُ أعلَى وأجَلُّ، لا سَواءَ قَتلانا في الجنَّةِ وقتلاكُم في النَّارِ.... }

(حديث صحيح) أخرجه الألباني عن عبد الله بن عباس

يكفي ذلك، أما يكفي أنه قُتل في المعركة فأصبح في نار جهنم وبدأ عذابه من لحظة موته في برزخه.

وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ۙ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ (50)
(سورة الأنفال )

إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِىٓ أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ قَالُوٓاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا (97)
(سورة النساء)

ظلموا أنفسهم، فلما توفتهم الملائكة يضربون وجوههم كما جاء في بعض الآيات.

ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوٓاْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ (46)
(سورة غافر)

هم من لحظة موتهم في عذاب، وشهداؤنا الذين نحتسبهم عند الله شهداء من لحظة قضائهم إلى الله في نعيم، فمن المنتصر؟!
أحبابنا الكرام مفهوم النصر مفهوم عميق جداً، نحن قد اختزلناه أحياناً في عمقنا ومع أولادنا ومع من نتكلم معهم، اختزلناه بالظفر على العدو، الظفر على العدو:

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ (140)
(سورة آل عمران)

النصر أن ينتصر الإنسان على نفسه لمبادئه ولقيمه
حكمة الله، متى يأتي؟ لا تشغل نفسك بمتى تأتي الغلبة والقهر وهي جزء كبير من النصر، لكن لا تشغل نفسك بمتى تأتي، اشغل نفسك بما أنت به الآن، هل أنت منتصر أم منهزم؟ وكفى هزيمة أن يكون المرء اليوم متضعضعاً، يقول لك: لماذا؟ أين الله مما يجري؟ لماذا لم ينتصر للمظلومين؟ كفى بالمرء هزيمة اليوم أن يتخلى عن دينه من أجل متغيرات (وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ) متغيرات، ويتركون ثوابتهم من أجل متغيرات، هم على ما هم فيه ونحسبهم كذلك وما نراه ونسمعه، ما سمعنا سخطاً، ما سمعنا عدم رضا، ما سمعنا متذمرين، ما سمعنا شاكين، ما سمعنا ساخطين على ربهم، سمعنا حامدين شاكرين، هذا ما رأيناه، ولو كان هناك غيره لكان هناك مئات بل آلاف من الطابور الخامس ممن سينشره ويروج له ليريك ضعفهم، ما رأينا ذلك، رأينا منتصرين، فالنصر أن ينتصر الإنسان على نفسه لمبادئه ولقيمه وعندها إن شاء الله ولو بعد حين يستحق الظفر والغلبة والنصر على عدوهم.

الدعاء:
اللهم انصر أهلنا المجاهدين في غزة، اللهم أعلِ رايتهم، اللهم وحد كلمتهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم وحد كلمتهم على أتقى رجل منهم، اللهم اجعل العز والتمكين و الغلبة والظفر والنصر لهم على عدوهم، اللهم شتت شمل عدوهم، واجعل الدائرة تدور عليه، واجعل تدميره في تدبيره، اللهم اجعلها سني عليهم كسني عاد، وكسني يوسف لا تبقي لا تذر يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل على أهلنا المستضعفين اللهم أنزل عليهم الخير والبركة، وأنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، ارحم شهداءهم، وداوِ جرحاهم، واشفِ مرضاهم، وعافِ مبتلاهم، واكسُ عريانهم، واسقِ عطشانهم، وأطعم جائعهم، واجعل لنا في كل ذلك سهماً متقبلاً، وعملاً صالحاً يا أكرم الأكرمين، اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم مُنزل الكتاب، هازم الأحزاب، مُجري السحاب انصرنا عليهم بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين، وصلِ إلهي وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله.