• محاضرة في الأردن
  • 2023-11-06
  • عمان
  • الأردن

تجارة رابحة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.


التجارة وأركانها:
الأصل في التجارة الربح
وبعد أيها الإخوة الأكارم، فإن التجار يحبون الربح، وما من تاجر إلا يحب الربح، فالربح أساس التجارة، وقالوا: إن لم تربح فلست تاجراً، الأصل في التجارة الربح، وأي إنسان تدله على صفقة رابحة يبادر إليها فوراً، فلو افترضت الآن أنني قلت لشخص: هناك تجارة رابحة 100% الربح مضمون، مع أنه في التجارة يندر أن يكون الربح مضموناً، لكن قلت له هذه البضاعة أساسية، مطلوبة تماماً، وسعرها من المصدر منخفض، ومبيعها بسعر عالٍ، مباشرة لا يتردد، يقول: هاتِ البضاعة لأبيعها، كل تجارة يمكن أن تربح ويمكن أن تخسر إلا التجارة مع الله، فهي رابحة دوماً، في التجارة مع الله لا يوجد خسارة، لا يمكن لإنسان أن يتاجر مع الله ويخسر، التجارة لها أربعة أركان: بائع يقدم البضاعة، ومشترٍ يدفع الثمن، وسلعة تُباع، وثمن يُدفع، ونتائج التجارة ربح أو خسارة، هذه هي التجارة.

التجارة مع الله رابحة دائماً:
ربنا جل جلاله يدعونا إلى تجارة في كتابه الكريم في سورة الصف، يقول:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10)
(سورة الصف)

تجارة مع الله، بدأ الآية بالنداء، والنداء يلفت الأنظار، فأنت إذا كنت تحدث ابنك فقلت له: ادرس، قد لا ينتبه، لكن لو قلت له: يا أحمد سيعيرك سمعه فوراً فتقول له: ادرس، فالنداء يجذب الاهتمام للشخص الذي تخاطبه، وكان سيدنا عبد الله بن مسعود يقول: "إذا سمعت الله تعالى في كتابه يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فأصغِ لها سمعك، فإنه خيرٌ يُؤمَر به، أو شر يُنهى عنه" يعني يوجد شيء بعد ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إما أن يكون خيراً يأمرك الله به فيكون فيه فوزك وفلاحك في الدنيا والآخرة، أو يكون شرّ فيه هلاكك ينهاك الله عنه، فانتبه، أكثر من ثمانين آية في كتاب الله بدأت ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لا يقول لك ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ من أجل أن تكون متغافلاً، أو غافلاً، وإنما من أجل أن ترعه سمعك وتصغي له، حتى تسمع ما المطلوب:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ(12)
(سورة الحجرات)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
(سورة النساء)


كلما كان المنادي عظيماً كانت الاستجابة أعظم:
ينادينا الله تعالى لأمر جلل
فالنداء من الله عز وجل يحتاج اهتماماً كبيراً، المنادي عظيم، أنت في الدنيا إذا ناداك ابنك وأنت مشغول قد لا تلتفت إليه، لكن إذا ناداك والدك مهما يكن في يدك من عمل تتركه وتقول لبيك، فكلما كان المنادي عظيماً كانت الاستجابة أعظم، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ينادينا الله تعالى لأمر جلل، ثم يضيف إلى ذلك الاستفهام، الأسلوب الأول النداء، في اللغة العربية عندنا إنشاء وخبر، الإنشاء من أنواعه الاستفهام والنداء، فاستخدم أسلوبين إنشائيين، والإنشاء دائماً للفت النظر، الأسلوب الثاني استفهام ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ﴾ ما قال لك فوراً عندي تجارة لك رابحة، قال ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ﴾ حتى يقول أنت من أعماقك: نعم دلني يا رب، كما قلنا قبل قليل إذا قلت لمجمع من التجار: هل أدلكم على تجارة رابحة؟ يا أيها التجار هل أدلكم على بضاعة رابحة مضمونة النتائج؟ الكل يقول: نعم، يصغي سمعه ويقول: نعم، دلني، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ هذه التجارة أول ما فيها أنها تخلّص الإنسان من عذاب أليم واقع لمن يتركها.

الاستجابة للترك أو العطاء:
كل إنسان فينا يعرف نفسه
أحبابنا الكرام، عموم الناس، كل إنسان فينا يعرف نفسه، ويظهر هذا الأمر خاصة في الصغار أكثر من الكبار، بعض الناس يستجيبون للترك، وبعضهم يستجيبون للعطاء، يعني أولادك؛ عندك ولدان؛ ولد تقول: سبحان الله هذا الولد لا يأتي إلا بالإكرام، قل له: هناك مكافأة لك إن أتيت بـ 100 من 100 في الامتحان دراجة يأتي بها فوراً ويأخذ الدراجة، الولد الثاني لا تغريه هذه الأمور، أقول له لك مكافأة لا يستجيب، لكن إذا قلت له إن أتيت بـ 100 فإنني أعفيك من العقوبة، لا تُعاقَب يعمل، البعض يستجيب لأن تخلّي عنه شيئاً من الهموم، والبعض بأن تضيف له شيئاً من العطاء، هذه طبيعة الناس، كل الناس عندهم الجانبان معاً، لكن بعض الناس يطغى عندهم هذا على ذاك، والبعض ذاك على هذا، والقرآن الكريم يراعي صنفي الناس، والسنة تراعي، مثلاً: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

{ أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟ قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ فَذَلِكُمُ الرِّباطُ. }

(صحيح مسلم)

صنف كبير من الناس: نعم يارب نريد أن نتخلص من خطايانا، نريد أن نتخلى عن الذنوب، (ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟) هناك أناس عندهم طموح يحبون رفع الدرجات أكثر من محو الخطايا، فجاء بهذا وذاك ليشجع الطرفين؟
(قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ فَذَلِكُمُ الرِّباط).

التجارة مع الله تحتاج إيماناً وجهاداً:
فقال: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ما هذه التجارة؟ هنا من يعرض البضاعة هو الله، هو الذي يبيع جل جلاله، ونحن ينبغي أن نشتري، والبضاعة بين أيدينا التي يبيعنا الله إياها، وبقي أن ندفع الثمن، والبضاعة مضمونة، قال:

تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
(سورة الصف)

المطلوب منا: إيمان وجهاد؛ الإيمان: هو المنطلق النظري، العقيدة، الأيديولوجيا، والجهاد: هو السلوك، فمن آمن وجاهد فقد دفع الثمن، والربح مضمون، المطلوب إيمان وجهاد، الإيمان نظري في معظمه، والجهاد تطبيقي في معظمه، نظري وعملي، ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ولا يكون الجهاد في سبيل الله إلا إذا كان منبثقاً عن عقيدة وإيمان وإلا من أجل أن يقال جريء وشجاع ...إلخ ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ هذا هو المطلوب، الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله محقق، وأما الجهاد فقد قدم المال على النفس، وهذا التقديم له سببان:

سبب تقديم جهاد المال على النفس:
السبب الأول: الجهاد بالمال إمكانيته أوسع من الجهاد بالنفس:
التقديم والتأخير في القرآن الكريم له أهمية كبيرة
السبب الأول، وفي القرآن الكريم في كل المواضع إلا في موضع واحد جاء تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، والتقديم والتأخير بالقرآن له أهمية كبيرة، وطبعاً لا ينكر أحد أن الجود بالنفس أقصى غاية الجود، من يبذل روحه في سبيل الله، ولكن لماذا قدم الجهاد بالمال؟ لأن الجهاد بالمال دائرته أوسع من الجهاد بالنفس؛ فاليوم في العالم الإسلامي مليار ومئتا مليون مسلم أو أكثر، من يُتاح لهم اليوم الجهاد بالنفس في أرض المعركة ربما مئات الألوف فقط أو أقل، لا يصلون إلى مئات الألوف، لكن من يتاح له الجهاد بالمال كل شخص يملك ربما ديناراً فائضاً عن حاجته الأصلية، فقد يصلون إلى الملايين المملينة، فدائماً الجهاد بالمال إمكانيته أوسع من الجهاد بالنفس، لذلك قدمه.

السبب الثاني: المجاهد يحتاج إلى من يخلفه في أهله:
السبب الثاني؛ أن المجاهد بنفسه يحتاج إلى من يخلفه في أهله، ومن يقدم له المال ليعينه، فقدم الوسيلة على الغاية، فيبدأ الأمر بالمال، ثم ينتقل إلى النفس.
لذلك أبواب الجهاد مفتوحة أمامنا بالمال، وإن شاء الله تُتاح بالنفس، لأن:

{ ذروةُ سنامِ الإسلامِ الجهادُ في سبيلِ اللهِ لا ينالُه إلا أفضلُهم. }

(أخرجه الطبراني)


أنواع الجهاد:
والجهاد: هو بذل الجهد، واستفراغ الوُسع في تحقيق أمر من الأمور، فالذي يدرس للامتحان يجاهد في دراسته، يعني يُجهِد نفسه، ويستفرغ وُسعه لتحقيق أعلى درجة ممكنة.

أولاً_ جهاد النفس والهوى:
ومن هنا فقد سمي جهاد النفس والهوى جهاداً، قال تعالى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69)
(سورة العنكبوت)

غض البصر يحتاج إلى جهاد
قالوا جاهدوا فينا: أي حملوا أنفسهم على طاعة الله، وعلى ترك ما نهى الله عنه، جاهد في الله، صلاة الفجر بحاجة لجهاد، إنفاق المال يحتاج إلى جهاد، غض البصر يحتاج إلى جهاد، يعني مجاهدة، يعني بذل الوسع، واستفراغ الوسع، هذا جهاد، وكان بعض الصحابة يقولون عندما يعودون من بعض الغزوات: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" جهاد النفس والهوى؛ لأن المهزوم أمام نفسه لا يستطيع أن يواجه نملة في أرض المعركة.

ثانياً_ جهاد الدعوة إلى الله:
وبعد الجهاد الذي أسميه جهاد المرتبة الأساسية الذي لا يقوم جهاد دونها، يأتي جهاد الدعوة إلى الله عز وجل، قال تعالى:

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا(52)
(سورة الفرقان)

أي بالقرآن الكريم،﴿جِهَادًا كَبِيرًا﴾ بالقرآن، بتعليم العلم، بنشر العلم، بتعليم القرآن وتعلمه، بافتتاح المراكز القرآنية، بنشر الخير، هذا اليوم جهاد كبير.

ثالثاً_ الجهاد البنائي:
وهناك جهاد بنائي:

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(60)
( سورة الأنفال)

لمّا ندخل أرض المعركة، لكن الإعداد جهاد، فكل إنسان يساهم في إعداد أمته فهو يجاهد؛ سواء يقدم مالاً من أجل بناء مستشفى مثلاً، معهد، مدرسة لكن لها طابَع قِيَمي، أخلاقي، إسلامي، تثقيفي، تنشئ جيلاً، هذا إعداد ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم﴾.
إعلام، ينشئ قناة أو يساهم في دعم قناة على اليوتيوب تنشر الخير بدلاً ممن يدعمون ويروّجون لنشر التفاهة، فهذا اسمه الجهاد البنائي، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾.

رابعاً_ الجهاد القتالي:
وآخر شيء الجهاد القتالي وهو ذروة سنام الإسلام وهو أن يجاهد الإنسان في أرض المعركة عدوه فيقتل أو يُقتَل، فيأخذ إحدى الحُسنَيين النصر أو الشهادة.
إخواننا في غزة جاهدوا
إخواننا في غزة جاهدوا، ولو نظرنا في تاريخهم من سنوات نجد أنهم قد أعدوا الأنواع الثلاثة ق-بل أن يدخلوا أرض المعركة، فكنا نسمع عن دروس العلم، ونسمع عن جهاد النفس والهوى، وعن قوتهم في الحق، وكنا نجد بأنفسنا كيف يخرّجون دفعات الحُفّاظ لكتاب الله تعالى، والمتعلمين لكتاب الله تعالى، ثم رأينا اليوم بأعيننا كم كانوا في الجهاد البّنائي يعدّون للمعركة، فاستنفدوا الثلاثة فاستحقوا الرابعة، وشرف الرابعة، استحقوا شرفها بغض النظر عن النتائج، استحقوا شرفها لمجرد أنهم خاضوها بعد الإعداد.
فأحبابنا الكرام، ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ*تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾

نتيجة التجارة مع الله:
أحبابنا الكرام، النتيجة:

يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
(سورة الصف)

طبعاً بعد ينجيكم من عذاب أليم، ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ ما زلنا مع الصنف الذي يحب أن تُكفَّر عنه خطاياه، لا يوجد عذاب ولا ذنوب، الآن بدأنا بالصنف الثاني الذي فيه عطاء ﴿يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ المجاهد ترك مسكنه وخرج في سبيل الله تعالى، فما الذي عوضه الله إياه؟ مسكن طيب في جنات عدن، ختام الآية قال: ﴿ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الفوز تحقق.

أهل غزة قد فازوا بغض النظر عن النتائج:
كتبت منشوراً أمس، قلت: أهل غزة قد فازوا، الفوز انتهى، الآن بغض النظر عن النتائج الفوز تحقق، ما دام آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فقد فازوا، الفوز تحقق بإذن الله، لكل مَن حقّق الشرط، لأنه ومن أصدق من الله حديثاً ﴿ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ ليس الفوز العادي، العظيم، والعظيم يقول عن الفوز إنه عظيم، فما عساه يكون؟ طفل صغير يقول لك معي مبلغ عظيم، تقول معه مئة دينار، ومسؤول بسلطة عليا يقول أعددنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً فتقدره بمليار دولار، وكلاهما قال مبلغ عظيم، فقدرت المبلغ بمئة دينار، أو بمئة مليون دينار، فالفرق بالقائل، فعندما يقول تعالى: ﴿ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ فما عسى هذا الفوز أن يكون؟ انتهى، تحقق الفوز.

الجنة هي الفوز العظيم:
أحبابنا الكرام، ما هذا الفوز العظيم الذي تحقق في الجهاد في سبيل الله؟ لما النبي صلى الله عليه وسلم جاءه عبد الله بن رواحة في جمعٍ من أصحابه:

{ قال عبدُ اللهِ بنُ رَواحةَ: يا رسولَ اللهِ، اشترِطْ لربِّك ولنفسِك ما شِئْتَ. فقال: أشتَرِطُ لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترِطُ لنفسي أن تَمْنَعوني مما تمنعون منه أنفسَكم. قالوا: فما لنا إذا فعَلْنا ذلك؟ قال: الجنةُ. قالوا: رَبِحَ البيعُ، لا نقيلُ ولا نَسْتَقيلُ. }

(ابن حجر العسقلاني)

يعني تدافعون عني كما يدافع الواحد منكم عن نفسه وعن ماله. (قالوا: فما لنا إذا فعَلْنا ذلك؟) إذا قبلنا الشرط نريد النتيجة، كنت أقول لكم دائماً لا يوجد إنسان في الأرض يعمل بلا ثمن، الذي يقول لك: أنا لا أريد شيئاً، يكون يريد شيئاً ثانياً، قد يكون الذي يريده أهم بكثير من الدريهمات التي تريد أن تعطيه إياها، يريد عند الله، لا يريد منك:

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)
(سورة الإنسان)

ولكن يريد من الله جزاء وشكوراً، (قالوا: فما لنا إذا فعَلْنا ذلك؟ قال: الجنةُ. قالوا: رَبِحَ البيعُ، لا نقيلُ ولا نَسْتَقيلُ) البيع رابح، لا نقيل: الإقالة هي فسخ العقد، أقاله من العقد يعني فسخ العقد، وفي الحديث:

{ من أقالَ مُسلمًا أقالَه اللَّه عثرتَه يومَ القيامةِ }

(صحيح ابن ماجه)

مقابل الجنة أن نعبد الله
شخص اشترى منك سلعة، وقبل أن يفعل بها شيئاً أو يبيعها أو شيء، قال لك والله أنا ندمت، ليس لدي طريقة لتصريف هذه البضاعة، ظننت نفسي قادراً ولم أستطع، العدل أن تقول له: أنا بعت والعقد لازم، وانفض المجلس، والإحسان أن تقول له: هات البضاعة، وهذا ثمنها، والله معك، تُقيل عثرته فيُقيل الله عثرتك يوم القيامة، فقال: "ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل"، لا نفسخ العقد، ولا نطلب فسخه، عقد لازم لأن الجنة في مقابل أن نعبد الله، ولا نشرك به شيئاً، وندافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني الثمن بسيط في مقابل السلعة التي يبيعها الله.

{ مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، ومَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الجَنَّةُ }

(رواه الترمذي)

إذا جاء شخص وقال لك عندي هذه السيارة ثمنها الحقيقي 100 ألف دينار، موديل 2023 مرسيدس، تقول له كم تحتاج ثمنها؟ يقول لك: دينار، هل تفاصله؟ تقول له خفّض لنا من سعرها أم تعطيه دينار مباشرة؟ هي كذلك، وأعظم من هذا، جنة عرضها السماوات والأرض بمقابل بسيط، فقال: "ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل".
جابر بن عبد الله رضي الله عنه رآه النبي صلى الله عليه وسلم عقب غزوة أحد منكسراً مهموماً، فقال: "ما لي أراك منكسراً يا جابر؟ أو مكسوراً، هموم تركبه، فقال: قُتل أبي يوم أحد، وترك ديناً وعيالاً"، ترك ديناً لزمني أداؤه، وعيالاً يلزمني رعايتهم، "قُتِل أبي يوم أحد وترك ديناً وعيالاً، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أبشرك بما بشر الله والدك بعد موته؟ فقال: بلى يا رسول الله، فقال: ما كلّم الله تعالى أحداً كِفاحاً إلا والدك، ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب إلا والدك فإنه كلمه كِفاحاً"، يعني مباشرة، من غير حجاب، فقال: "تمنّ علي يا عبدي أعطك، فقال: لوددت أن أرجع إلى الدنيا فأُقتَل في سبيلك ثانية" أعجبته القصة، بيع رابح، من شدة ما رأى من إكرام الله تعالى له لا يريد شيئاً ثانياً، يريد أن يعيد الكرّة، فقال تعالى: "إنه سبق مني القول أنهم إليها لا يُرجعون" الذي يموت لا يرجع.

{ يا جابرُ ما لي أراكَ منكسِرًا؟ قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ استُشْهِدَ أبي قُتِلَ يومَ أُحُدٍ ، وترَكَ عيالًا ودَينًا، قالَ: أفلَا أبشِّرُكَ بما لقيَ اللَّهُ بِهِ أباكَ؟ قلتُ: بلَى يا رسولَ اللَّهِ قالَ: ما كلَّمَ اللَّهُ أحدًا قطُّ إلَّا من وراءِ حجابِه وأحيى أباكَ فَكَلَّمَهُ كِفاحًا فقالَ: يا عَبدي تَمنَّ عليَّ أُعْطِكَ قالَ: يا ربِّ تُحييني فأقتلَ فيكَ ثانيةً قالَ الرَّبُّ تبارك وتعالَى: إنَّهُ قد سبقَ منِّي أنَّهم إليها لَا يُرجَعونَ. }

(صحيح الترمذي)

فانظر إلى عظيم هذه المكانة:
هجرَ اللذائد وانبـــــرى ليثــاً بأدغال الثــــــــــرى باع الحياة رخيصـــــة للــــــــه، والله اشتـــــــرى قد عاف لِينَ فِراشِــــه وغدا لِيَفترش الثــــــــرى أنَّـــت لـــــــه أقدامُـــــــــه وبكـــــــت إليـــه تَفُطُّـــــرا وشكَـــت له أطرافــــــــه يكفي أسىً وتصبّــــــــــرا فأجابهــــــــا متجلـــــــّداً قد بِعتُ والله اشتــــــــرى

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111)
(سورة التوبة)


مرتبة الجهاد:
الجهاد في سبيل الله مرتبة عظيمة جداً
فأحبابنا الكرام الجهاد في سبيل الله مرتبة عظيمة جداً، هؤلاء الذين نودعهم لا نحزن عليهم، نحزن على أنفسنا، قد نحزن على الفراق، قد نحزن لضعف حالنا، قد نحزن لتقصيرنا، قد نحزن لهواننا على الناس، قد نحزن لعشرات السنوات التي مرّت ونحن نيام حتى تجرّؤوا علينا وتكالبوا علينا هذا التكالب، على ضعفنا، أما هم:

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
(سورة يس)

فأحبابنا الكرام ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والنصر؟:

وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
(سورة الصف)


النصر للدنيا والفوز للآخرة:
النصر أمام الفوز العظيم على عظمه استثنائي، النصر شيء عظيم جداً، لكن إذا وضعته أمام الفوز صار درجة ثانية، لأن النصر في المعركة للدنيا، أما الفوز العظيم للآخرة، وبالمناسبة ما جاء في القرآن الكريم الفوز إلا مع الجنة، الفوز للجنة:

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)
(سورة آل عمران)

الفوز أن تصل إلى دار السلام بسلام
فالفوز أن تصل إلى دار السلام بسلام، وهذا متحقق لمجرد أنك ثبتّ على الحق، أيّدت الحق وأهله، جاهدت في سبيل الله، جاهدت نفسك وهواك، بنيت أمتك، لم تخنْ، لم تقف مع المتآمرين، وقفت مع أصحاب الحق وأهل الحق بما تستطيع، أنت الآن حققت الفوز العظيم، الآن: ﴿وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا﴾ أنتم ترغبون بها ﴿نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾.

إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا(6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
(سورة المعارج)


الزمن يحكمنا ولا يحكم الله:
هو قريب، لكن الزمن بالنسبة لنا عمره بسيط، لأننا نربط الزمن بعمرنا، فأقول: كم سأعيش؟ ثمانين سنة؟ ترى هل ألحق أن أرى أم لن ألحق؟ لأننا ننظر نظرة ضيقة للزمن، لذلك نرى الأشياء القريبة بعيدة.
لكن يوم القيامة قريب:

{ رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ بإصْبَعَيْهِ هَكَذَا -بالوُسْطَى والَّتي تَلِي الإبْهَامَ:- بُعِثْتُ والسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ. }

(صحيح البخاري)

الزمن عند الله مخلوق
الزمن عند الله مخلوق، كن سيكون، لا يوجد زمن عند ربنا، نحن عندنا الزمن يحكمنا ولا يحكمه، لذلك قال: ﴿نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بشرهم بالنصر، لكن الفوز قال: ﴿ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ تحقق، والنصر بشرى قادمة إن شاء الله تعالى، يطول زمنها أو يقصر هذا بعلم الله تعالى، وبقوة الله تعالى، وبحكمة الله تعالى، لأنه لا يعلم ما يكون فيه الخير للأمة إلا الله تعالى، ويوم القيامة عندما تكتشف الحقائق يقول الخلائق كلهم بصوت واحد:

وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(75)
(سورة الزمر)

يحمدون الله على كل شيء، لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً، لو كُشف الغطاء لاخترتم الواقع، نحن لا نعلم لكن الله تعالى يعلم، ﴿وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
والحمد لله رب العالمين