التفكير خارج الصندوق

  • محاضرة بعنوان
  • 2025-05-12
  • الأردن - عمان

التفكير خارج الصندوق

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا علماً وعملاً مُتقبَّلاً يا رب العالمين.

أصل عبارة فكَّر خارج الصندوق:
أحبابنا الكرام: هناك مصطلحٌ حديث أصبح مَضرِب المَثَل، يقولون: يُفكِّر خارج الصندوق، طبعاً أصل هذه العبارة هو تحدي بسيط، أنهم يضعون تسع نقاط على شكل مُربَّع، ويطلبون من الشخص أن يرسم بأربع قطعٍ مستقيمة دون أن يترك القلم، أن يرسم المربع ويُمرِّره من النقاط التسع، فيعجز الجميع عن فعل ذلك، لأنهم يضعون الخطة دائماً بأنهم يريدون أن يرسموا ضمن الصندوق ضمن المُربَّع، والحل يكون في الخروج خارج المُربَّع ثم العودة إليه فيُرسَم المُربَّع، فمن يفعل ذلك يقولون فكَّر خارج الصندوق، من هنا أصبحت هذه العبارة مّضرِب المَثَل، فيمن يأتي بحلولٍ غير متوقعة، غير واردة على الأذهان، فيأتي بحل مُعضلة، أو بفكرةٍ جديدة، أو باكتشافٍ جديد يحل به مُشكلةً مُعيَّنة، يفكِّر خارج الصندوق، أي بخلاف المتوقع، بخلاف المألوف، بخلاف ما اعتاد عليه الناس، يضربون بذلك أمثلةً، مثلاً أنَّ حمل الأمتعة في المطارات كان صعباً جداً، إلى أن قال أحدهم لماذا لا نضع عجلات للحقيبة وتنتهي مشكلة رفع الحقيبة.
في الإعلانات بعض الشركات جعلت الجمهور هو المُعلِن، وضعت أسماء على المنتجات، تَشارَك هذا الطعام مع فلان، فأصبح فلان يُعلِن للشركة لأن اسمه موجود على العبوة التي تُنتجها الشركة، يقول هذا يُفكِّر خارج الصندوق، أي بطريقةٍ غير متوقعة، غير مألوفة.

أم سُليم امرأة تُفكِّر خارج الصندوق بطريقةٍ عجيبة:
الحقيقة بغض النظر عن العبارة وأصلها، وتطبيقاتها المتنوعة والمتعددة، كنت أقرأ في سيرة صحابية من صحابيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أم سُليم الغُميصاء أو الرُميصاء -هناك خلاف في الروايات- بنت ملحان الأنصارية من بني النجار، هذه الامرأة حقيقةً تُفكِّر خارج الصندوق بطريقةٍ عجيبة قبل الصندوق كله، عندها طريقة عجيبة في التفكير خارج الصندوق، فلنتعلم منها، نتعلم من هذه الصحابية كيف نُفكِّر خارج الصندوق، هذه الصحابية كما قلت اسمها الغُميصاء أو الرُميصاء، الرمص أو الغمص، هو ما يتشكل في موق العين، فكلاهما بالمعنى نفسه، فتُطلَق عليها الرُميصاء والغُميصاء، وهي أم سُليم، هذه المرأة كانت زوجةً لمالك بن النضر، وهو والد أنس بن مالك رضي الله عنه، وهذه المرأة تزوجت مالكاً وأسلمت، وبقي هو على الشرك، ومات مشركاً وعانت معه، امرأة مسلمة ورجُل مشرك، إلى أن تركها وذهب ومات بعيداً عنها، وكان لها هذا الغلام أنس بن مالك رضي الله عنه، فكانت تُربّيه تربيةً صعبةً جداً، في حِجر مُشرِكٍ، هي تعيش مع زوجها المُشرك الذي كان ينهاها عن تلقينه الشهادة، تقول له: قل لا إله إلا الله، وهو في عُمر الخمس أو الست سنوات، تُعلِّمه الإسلام والتوحيد وهو بعُمرٍ صغير، وزوجها ينهاها عن ذلك، كثيرٌ اليوم من النساء تقول الواحدة منهُنّ أنا تبع لزوجي، زوجي ما سمح لي بكذا، زوجي ما أذِن لي بالحجاب، زوجي لم يأذن لي بالصلاة، زوجي لم يأذن لي بالصيام، إلى آخره... تتحجج بزوجها بأنها تبعاً له.

أول تفكير خارج الصندوق فكَّرت به الغُميصاء:
الغُميصاء زوجها مشرك ومع ذلك ربَّت ابنها على التوحيد، فأول تفكير خارج الصندوق فكَّرت به الغُميصاء، بعد أن ذهب زوجها وتوفي وهي مسلمة، جاء النبي صلى الله عليه وسلم مُهاجراً إلى المدينة، فبدأ الأنصار يُتحفونه بالتحف بالهدايا، والهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليست هديةً لشخصه بقدر ما هي هديةً لإعانته في الدعوة إلى الله عزَّ وجل، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل منهم يعينه على الدعوة بشيء، هذا يُقدِّم له بيتاً، هذا يُقدِّم له مالاً لينفقه على من جاء معه من المهاجرين، كل رجُلٍ يبحث عن طريقةٍ لإتحاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، هنا الغُميصاء فكَّرت خارج الصندوق، فنظرت هي لا تملِك شيئاً، زوجها مشركٌ ومتوفى، تعيش مع ابنها ليس هناك شيءٌ تُقدِّمه، لا تجد إلا قوت يومها، فأخذت ابنها أنس بن مالك وكان عمره عشر سنوات، وجاءت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم:

{ قدِمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ المدينةَ وأنا ابنُ ثمانِ سنينَ، فأخذَت أمِّي بيدي فانطلقَت بي إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فقالَت: يا رسولَ اللَّهِ إنَّهُ لم يبقَ رجلٌ ولا امرأةٌ منَ الأنصارِ إلَّا وقد أتحفَكَ بتُحفةٍ، وإنِّي لا أقدرُ على ما أتحِفُكَ بِهِ إلَّا ابني هذا فخذْهُ فليخدُمْكَ ما بدا لَكَ . فخدمتُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ عَشرَ سنينَ فما ضربني ولا سبَّني سَبَّةً ولا عبسَ في وجْهي }

(سنن الترمذي)

كيف فكَّرت هذه المرأة بطريقةٍ ما يُفكِّر بها إنسان؟! أي إنسان يقول أنا عاجز لا أستطيع أن أُقدِّم شيء، ما عندي شيء، أنا فقير، الناس يُقدِّمون أموالهم أنا لا أملِك مالاً، يُقدِّمون جاهَهم أنا رجُلٌ ضعيف مُستضعَف، يُقدِّمون علمهم أنا لا استطيع ما عندي علم أُقدِّمه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحض الناس على التفكير في التقديم أيضاً خارج الصندوق، لمّا جاءه الرجُل قال:

{ قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الأعْمالِ أفْضَلُ؟ قالَ: الإيمانُ باللَّهِ والْجِهادُ في سَبيلِهِ قالَ: قُلتُ: أيُّ الرِّقابِ أفْضَلُ؟ قالَ: أنْفَسُها عِنْدَ أهْلِها وأَكْثَرُها ثَمَنًا قالَ: قُلتُ: فإنْ لَمْ أفْعَلْ؟ قالَ: تُعِينُ صانِعًا، أوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأَيْتَ إنْ ضَعُفْتُ عن بَعْضِ العَمَلِ؟ قالَ: تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فإنَّها صَدَقَةٌ مِنْكَ علَى نَفْسِكَ. وفي رواية: فَتُعِينُ الصَّانِعَ، أوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

تفكير خارج الصندوق، أنت وصلت لمكانٍ ما عندك ما تُقدِّمه، فكُفّ أذاك عن الناس، ذلك لك صدقة، فقط امتنع عن إيذاء الناس قدَّمت صدقة، فهذه الغُميصاء قالت: (ابني هذا فخذْهُ فليخدُمْكَ ما بدا لَكَ).
الآن في التاريخ كله يفخَر أنس بن مالك الذي عُمِّر وعاش ما عاش، عاش مئة سنة، هذا الصحابي الجليل يفخَر بلقبه بأنه خادم رسول الله صلى الله عيه وسلم، إلى قيام الساعة، سببه أنَّ هذه المرأة الغُميصاء فكَّرت خارج الصندوق، فقدَّمت ابنها، يقول أنس: (فخدمتُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ عَشرَ سنينَ فما ضربني ولا سبَّني سَبَّةً ولا عبسَ في وجْهي) تعامُل النبي صلى الله عليه وسلم مع خادمه، كان من أرقى أنواع التعامُل.
المرحلة الثانية لأم سُليم: أنَّ هذه المرأة جاءها خاطب بعد وفاة زوجها، بعد أن ربَّت ابنها وكبر أنس، جاءها خاطب في المدينة، هذا الخاطب هو أبو طلحة الأنصاري، وهو رجُلٌ عنده مال، وعنده جاه، عنده ما عنده ما يكون عند الرجال من الخير، ولكنه مُشرك جاء إلى أم سُليم يطلبها للزواج، الآن أي امرأة بمكان أم سُليم بالنسبة لها الرفض سهل جداً، أعتذر دون إبداء الأسباب، أو أعتذر مع إبداء الأسباب دون فتح طريق للخير، إمّا أن تقول أعتذر، أو أعتذر أنت رجُلٌ مُشرك، لا يجوز لي أن أتزوج مشركاً، عندي حُكم شرعي.

أم سُليم تُفكِّر خارج الصندوق كيف تغتنم الفُرَص وكيف تنتقي العبارات:
أم سُليم تُفكِّر خارج الصندوق، هذا الرجُل أبو طلحة إذا كسبه الإسلام كسب خيراً كثيراً، سيُعلَن بعد ذلك كيف شارك بالغزوات، وكيف كان له خير، وكيف كان له أولاد كلهم كانوا من حفظة كتاب الله.
الآن أم سُليم اعتذرت، انظروا الآن كيف كانت تُفكِّر خارج الصندوق، كيف تغتنم الفُرَص، وكيف تنتقي العبارات، قالت له والله يا أبا طلحة ما مثلك من يُرَد، لا يُعيبُك شيء، يعني أعطته مكانته، أنا أعلم مكانتك، ولكنك رجُلٌ كافر وأنا امرأةٌ مسلمة، هنا حزم، اليوم أحدهم يقول لك: لا تقل له كافر، لفظ كافر ليس مسبَّةً، هو لفظ توصيف، مَن لا يؤمن بما أؤمن به فهو كافرٌ به، يرفضه وأنا أكفُر بما جاء به.

وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ(4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6)
(سورة الكافرون)

فبحزم وأنت رجُلٌ كافر وأنا امرأةٌ مسلمة، ولا يحل لي، قدَّمت الاعتذار، الآن فتحت له الباب، استثمار الفُرَص، قالت له: فإن أسلمت فذاك مهري لا أُريد منك شيئاً غيره.
هو رجُلٌ غني وثري، وتطمع به النساء بمهرٍ كبيرٍ جداً، أبرزت له أنني لست بحاجةٍ لمالِك، أنا لست بحاجةٍ لمالِك، أنا بحاجةٍ لإسلامك، وأجعله مهراً، قال: أنظريني، أعطني مهلة، هؤلاء العرب عندهم مكارم الأخلاق، من مكارم الأخلاق ليس هناك إسلام مصلحة، في العموم كان الإسلام قناعات، اليوم عند الغرب، امرأةٌ مسلمة إذا جاءها خاطب تقول له أسلِم، يقول لها: ماذا أقول؟ فهذا نُسمّيه إسلام صوري! الإسلام يجب أن يكون حقيقي، نابع عن قناعة، لا أقول في اليوم الثاني يجب أن يُصلّي ويصوم ويُزكّي، لكن على الأقل أن يعرف ما هو الإسلام.

أم سُليم المرأة الأولى أو الوحيدة في تاريخ الدعوة التي كان مهرها الإسلام:
فقال لها أنظريني، أعطني وقتاً، فلمّا رجع قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالت لابنها: يا أنس قُم فزوّجه، هو وليُّها، قُم فأنكِح أبا طلحة، وتزوجته وجعلت مهرها الإسلام، فكانت المرأة الأولى أو الوحيدة في تاريخ الدعوة التي كان مهرها الإسلام، أعظم مهر، طبعاً ربما سُمّيَ لها شيءٌ يسير من باب الفقه، لكن جعلت مهرها الإسلام، قالت لا أُريد منك شيئاً، هذا تفكيرٌ خارج الصندوق، أي امرأة أُخرى لا تُفكِّر بهذه الطريقة، لكنها كسبت رجُلٌ للإسلام اسمه أبو طلحة، كل أعمال أبو طلحة، وكل أولاد أبي طلحة منها إلى يوم القيامة في صحيفة أم سُليم.
هذه المرأة ولِدَ لها أولاد، أحد أولادها توعَّك واشتكى ومرِض، وكان طفلاً صغيراً:

{ عن أنس رضي الله عنهم قال: ماتَ ابنٌ لأبي طلحة من أم سُليم، فقالت لأهلها: لا تُحدِّثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أُحدِّثه، قال: فجاء فقربتْ إليه عشاءً، فأكل وشرب، فقال: ثُمَّ تصنَّعَتْ له أحسن ما كان تصنَّعُ قبل ذلك، فوقع بها، فلما رأتْ أنه قد شبعَ وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعارُوا عاريتَهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، أَلَهُم أنْ يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسِب ابنك، قال: فغضب! وقال: تركتِني حتى تلطَّختُ، ثم أخبرتِني بابني، فانطلَقَ حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بارك الله لكما في غابر ليلتِكما))، قال: فَحَمَلَتْ، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي معه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المدينة من سفر لا يَطرقها طروقًا، فدنوا من المدينة فضرَبَها المخاض؛ فاحتبس عليها أبو طلحة، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يا ربِّ أنه يُعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، وقد احتبست بما ترى، قال: تقول أم سليم: يا أبا طلحة، ما أَجِدُ الذي كنتُ أجد، انطلقْ فانطلقْنا، قال: وضربها المخاض حين قَدِما فولدت غلامًا، فقالت لي أمي: يا أنس، لا يُرضعه أحدٌ حتى تَغدو به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح احتملتُه فانطلقتُ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فصادفتُه ومعه مِيسَم، فلمَّا رآني قال: ((لعلَّ أم سليم ولدَت؟))، قلت: نعم، فوضع المِيسَم، قال: وجئتُ به فوضعته في حجره، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجوة من عجوة المدينة فلاكَها في فيه، حتى ذابتْ ثمَّ قذَفها في فِي الصبيِّ، فجعل الصبيُّ يتلمَّظُها، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظروا إلى حُبِّ الأنصار التمر، قال: فمسَح وجهه وسماه عبدالله وفي رواية البخاري: "قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيتُ لهما تسعةَ أولاد كلهم قد قرأ القرآن" }

(صحيح البخاري ومسلم)

أي امرأة بمكانها ستقوم بالبكاء، وتستقبل زوجها على الباب، وتقول له توفي الصبي، فيشاركها أحزانها وبعد شهر أو شهرين حزنٌ مستمر، وربما أكثر، نسأل الله السلامة، فقد الولد ما هو بالشيء السهل أبداً، هو شيءٌ صعبٌ جداً، ويمكن فعل أُم سُليم لا يستطيع أحدٌ تقليدها به، هي ليس فقط تفكير خارج الصندوق، لكنها تفرَّدت به ولن يستطيع أحدٌ أن يُجاريها.
أُم سُليم اختارت طريقةً مختلفة خارج الصندوق، يقول أنس بن مالك راوي القصة كما في صحيح مسلم: (فانطلَقَ حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لكما في غابر ليلتِكما)، فلمّا ولدت له عبد الله، حملت في هذه الليلة (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجوة من عجوة المدينة فلاكَها في فيه).
وفي رواية البخاري: (قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيتُ لهما تسعةَ أولاد كلهم قد قرأ القرآن) ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.

ليس هناك أُمٌّ لا تحزن على ابنها لكن أم سُليم كان عندها رضا عجيب بقضاء الله وقدره:
فهنا أُم سُليم أيضاً فكَّرت خارج الصندوق، طريقة مُبتكرة عجيبة، أكيد أُم سُليم كانت حزينةً مئةً بالمئة، ليس هناك أُمٌّ لا تحزن على ابنها، لكن كان عندها رضا عجيب بقضاء الله وقدره، وفهم عميق لهدفها من الحياة، نحن لا نريد الولد من أجل أن نستمتع به، نريد ولداً من أجل يكون زادنا إلى الله، نربّيه على فعل الخير على الطاعة، إذاً فليكن في هذه الليلة ولدٌ آخر، خارج الصندوق تماماً، فليكن في هذه الليلة ولدٌ آخر أحمل به، يكون إن شاء الله عوضاً لي عن هذا الولد، وزاداً لي إلى الله، وفعلاً هذا ما كان.
النبي صلى الله عليه وسلم كان هناك رجُلٌ يجلس في مجلسه دائماً، وعنده طفلٌ يُحبُّه كثيراً، فكان دائماً يأتي به إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن دائماً نواجه هكذا أشخاص في حياتنا، يكون مولعاً بابنه ولعاً شديداً، فيأتي به إلى المجالس وهو صغير، وأنا أُسرّ إذا رأيت ذلك ربنا عزَّ وجل قال:

وَبَنِينَ شُهُودًا(13)
(سورة المدثر)

من معاني هذه الآية أن يشهدوا المجالس مع أهلهم، ما يقال للغلام لا تدخُل، جاء ضيوف ادخُل وألقِ السلام على الضيوف، ليتعلم الولد الحياة الاجتماعية، فكان يأتي معه وأحياناً يضعه على رقبته ويلعب معه داخل مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم مازحه يوماً قال:

{ عن معاويةَ بنِ قُرَّةَ، عن أبيه، أنَّ رجلًا جاء بابنِه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : أتُحبُّه ؟ فقال : أحبَّك اللهُ كما أُحبُّه يا رسولَ اللهِ، فتُوفِّي الصَّبيُّ، ففقده النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال أين فلانٌ؟ فقالوا: يا رسولَ اللهِ ! تُوفِّي ابنُه، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : أما ترضَى ألَّا تأتيَ بابًا من أبوابِ الجنَّةِ، إلَّا جاء حتَّى يفتَحَه لك ؟ فقالوا : يا رسولَ اللهِ، أله وحدَه أم لكُلِّنا ؟ فقال : لا بل لكُلِّكم }

(صحيح النسائي)

الولد مُتعة.

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)
(سورة الكهف)


حلاوة الفقد:
أحياناً هناك شيء أنا أُسمّيه تجاوزاً حلاوة الفقد، الفقد ليس له حلاوة، الفقد مؤلم، عندما نحزن نحزن للفقد، لكن عندما نُفكِّر في المآل، يصبح الفقد المؤلم مع ألمه فيه شيءٌ من الحلاوة، كما لو أنَّ رجُلاً توفى فحزنت على فراقه، تأملت في حاله، رجُلٌ صائم، مُصلّي، طائع، كل الناس يُحبونه، أعمال الخير كثيرةٌ بين يديه، مع ألم الفقد تستشعر حلاوة، بأنه الآن في مكانٍ أجمل، لأنه أصبح عند ربنا عزَّ وجل.

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(27)
(سورة يس)

{ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ }

(رواه البخاري)

حبيبتيه أي العينين.
دخلت مرةً على رجُلٍ توفي الآن رحمه الله، من خيرة الناس، رجُل صالح وطيِّب، بخريف العُمر وبسبب مرض السكري وعدم ضبطه بالشكل الأمثل فقَدَ بصره، فدخلت عليه وألهمني الله الحديث عن حلاوة الفقد، والله أصابه من السرور ما شعرت به وشعر به كل الموجودين في الحديث (إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ).
ممكن أن يكون هناك حلاوة للفقد، إذا استشعر الإنسان أنَّ من يفقده أو الشيء الذي يفقده، من مال، من صحة أحياناً، له ثواب عند الله يوم القيامة، لأنه كما ورد في الحديث:

{ عن جابر رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ }

(رواه الترمذي وحسَّنه الألباني في" صحيح الترمذي)

انظروا الأجر العظيم! فالإنسان في الدنيا يرى ما أعدَّ الله لهؤلاء، قبل أن يراه بعينه يراه بعقله، لأنَّ الله أخبره به:

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا(87)
(سورة النساء)

لذلك ونحن نرى ما يتعرَّض له أهلنا في غزَّة، نسأل الله أن يُفرِّج في القريب إن شاء الله، لعلَّ ربنا عزَّ وجل يجعل لذلك فرجاً ومخرجاً قريباً، مع ما نجده في قلوبنا من حسرةٍ وألم، لربما استشعرنا هذه المعاني في المآل الذي أعدَّه الله تعالى لهم إن شاء الله.
فهم أهل البلاء، وإنَّ الله يُنزِّل من الصبر والنصر والتمكين إن شاء الله، أضعاف ما يُنزِّل من البلاء.

أم سُليم تُعلِّم الرجال والنساء معاً دروساً في اغتنام الفُرَص واقتناص المواقف:
إذاً عَودٌ على بدء: هذه أم سُليم كما قال المتنبي:
ولــو أنَّ الـنسـاء كـمـن رأيـنـا لفُضِّلت النساء على الرجالِ وما التأنيث لاسمِ الشمسِ عيبٌ ولا الـتذكـيـرُ فـخـر للـهـلالِ
{ المتنبي }
هذه المرأة حقيقةً تُعلِّم الرجال والنساء معاً، دروساً في اغتنام الفُرَص واقتناص المواقف، والتفكير خارج الصندوق في فعل شيءٍ يُقدِّمه الإنسان للإسلام، ما نقتدي به من أم سُليم أن يكون تفكيرنا دائماً في ما نُقدِّمه بخارج الصندوق، دائماً أن نُفكِّر بما نستطيع أن نُقدِّمه، ما يوجد إنسان إلا عنده شيءٌ يُقدِّمه من ماله، من علمه، من جاهه، من خبرته، نتفنَّن في فعل شيءٍ لخدمة الدين.
الحياة قصيرة والعمر قصير، وكل إنسان فينا سيُغادر، وكل يوم نفقد أحباباً وأقرباء ما نظن أنهم يموتون، نتفاجأ بنعيهم، هذه طبيعة الحياة الدنيا، فلنغتنم الفُرصة في أن نُفكِّر بشيءٍ نُقدِّمه لديننا ولأُمتنا ولأهلنا، والحمد لله رب العالمين.