الجسد الواحد
الجسد الواحد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين. |
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا عِلماً وعملاً مُتقبَّلاً يا ربَّ العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القُربات. |
أيُّها الإخوة الأكارم: مضى قريبٌ من عامين على مأساة أهلنا في غزَّة، والحقيقة أنَّ هذا الأمر يُقلقنا جميعاً، ويجعلنا نطرح تساؤلاتٍ مُستمرِّة: متى ينتهي هذا العدوان؟ متى يخرج المسلمون من هذا الواقع المُتردّي، لماذا هذا التخاذُل غير المسبوق عن نُصرتهم والوقوف معهم؟! لماذا أطال الله عُمر هذه الحرب وهو القادر على إنهائها في أي لحظةٍ؟ لماذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟ وهي أسئلةٌ مشروعة ويجب على الإنسان أن يُجيب نفسه عنها. |
الشيطان عداوته ظاهرة لكن الناس يتبعونه:
أيُّها الإخوة الكرام: الحقيقة أنَّ عدوّنا مفضوح وعداوته ظاهرة، ولكن الناس كثيراً ما يغترَّون بأعدائهم، الشيطان لا يختلف اثنان في أنه عدوّ، قال تعالى: |
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(6)(سورة فاطر)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(60) وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ(61)(سورة يس)
فعداوته ظاهرة، ومع ذلك تجد الناس يتَّبِعونه، ويغترَّون به، ويوالونه أحياناً، ثم يتبرأ منهم عند الحساب. |
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22)(سورة إبراهيم)
الشيطان عداوته ظاهرة لكن الناس يتَّبِعونه، وعدوّنا الذي يتفنَّن اليوم في الحرب علينا، ولم يترك صنفاً من الصنوف التي يمكن أن تُرتكب في الحروب إلا وقام بها، معروف ومنذ زمنٍ طويل، ليس وليد اللحظة، منذ أكثر من سبعين سنة وهو يعيث في الأرض فساداً، ويحتل أرضنا، وينهب خيراتنا، ويُدنِّس حُرماتنا، إلى آخره.. فهو معروف وعداوته ظاهرة. |
لكن كثيراً من المسلمين تحت مُسمّيات السلام، وتحت مُسمّيات نشر المحبة في الأرض كما يقولون، وتحت مُسمَّى أننا لا نريد أن نطرح كلمة الجهاد لأنها تُرعِب، يُسجِّل أعداؤنا في سجلاتنا أننا إرهابيون وغير ذلك، فاقتربنا منه، أو ظننا أنه يمكن أن يُسالِم، أو يمكن أن يُعطي حقّاً، أو أن يتنازل عن أرض، أو أن يمنحنا شيئاً، لكن الله تعالى يأبى، قبل أن يُظهِر الحقّ وقبل أن يتحقَّق النصر، يأبى إلا أن يفضح هذا العدو حتى يعرفه الناس جميعاً والأطفال قبل الكبار، والنساء قبل الرجال، فالله تعالى يغار، ومن غيرته على عباده ألا يتعلقوا بغيره، أو أن يظنوا أنَّ خيراً يمكن أن يأتي من عدوهم. |
وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ(120)(سورة البقرة)
كل حُكم وكل استبداد يقوم على فكر معيَّن:
يا كرام يا أحبابنا: كل حُكمٍ أو كل استبدادٍ إن صحَّ التعبير، يقوم على إيديولوجيا يعني فكر، دائماً أنت إذا أردت أن تجمع مجموعةً من الناس وتتحكم بهم، أن تقول فيسمعوا لك، أن تأمُر فتُطاع، يجب أن توضِّح فكرك، يعني إيديولوجيا مُعيَّنة، عندنا في سورية على سبيل المثال، حتى يتضِح المثال لأنني ابن البيئة السورية وأعرف تماماً كيف قامت. |
قام النظام البائد على إيديولوجيا حزب البعث، بمعنى أنني أنا الذي جئت من أجل الوحدة والحرية والاشتراكية، والأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، ومن أجل ذلك كنّا نُردِّد هذه الشعارات كل صباح، في المدارس، في الجامعات، في المعاهد، وأنشأ لكل مرحلةٍ زمنيةٍ في عُمر الدراسة منظَّمة خاصة لنشر هذا الفكر، فمن الصف الأول إلى الصف السادس كنّا مُنتسبون حُكماً لمنظمة طلائع البعث، نرتدي اللباس الخاص بطلائع البعث، ونسير ونُردِّد الأناشيد الحزبية ونحن منتمون جميعاً لطلائع البعث، ولا يُسمح أصلاً بالمدارس الخاصة حتى لا يوجِّه أحداً توجيهاً آخر، المدارس الخاصة للروضة أو الحضانة في أحسن الأحوال. |
لمّا انتقلنا للمرحلة الإعدادية في الصف السابع والثامن والتاسع، والمرحلة الثانوية الصف العاشر، والحادي عشر، والبكالوريا، التي اسمها هُنا التوجيهي، أصبحنا في اتحاد شبيبة الثورة والفتوة، والتدريب العسكري والاستعداد لمواجهة العدو الغاشم، ونردِّد الشعارات صباحاً ومساءً "عهدُنا أن نتصدَّى للإمبريالية والرجعية وأن نسحق أداتهم المُجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة"، ثم نردِّد " قائدنا إلى الأبد"، وغير ذلك، ثم لمّا دخلنا إلى الجامعة، أصبح عندنا مؤسَّسة التدريب الجامعي العسكري، في الإعداد والنضال وغير ذلك، والجميع يعلم أنه لا نضال، ولا إعداد، ولا تحرير، ولا أرض، ولا وحدة، ولا حرية، ولا اشتراكية، بل إنَّ النظام نفسه كان أشدَّ الكافرين بهذه الشعارات، لماذا كان يُدافع عنها ولا يسمح لأحدٍ أن ينال من عَلَم الحزب، أو من مبادئ الحزب، أو أن يتحرك، أو أن يرفّ له عينٌ وهو يُردِّد نشيد الحزب، أو هو يقول: " سبعة نيسان يا رفاق ميلاد الحزب العملاق"، لماذا كان يدافع عنها بزعمه وهو لا يؤمن بها؟ لأنه يعلم أنَّ استمرارها استمرارٌ له، وأنَّ زوالها زوالٌ له، فهو قام على هذا المبدأ. |
كيف يكون التديُّن مغشوش؟
نحن قيامنا بديننا، من هذا المبدأ نحن المسلمين قيامنا بديننا، منذ ألف وأربعمئة سنة تقوم قائمتُنا العالم الإسلامي، على الفكر الديني فكر الإسلام، هذا الفكر يُحاربونه، هذا الفكر لا يُرهبهم أبداً لو كان فيه اتباعٌ لهم (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) يعني إذا كنت تابعاً لهم لا يُرهبهم، الآن لا يُرهبهم لو كان تديُّناً مغشوشاً، كيف تديُّن مغشوش؟ بحالتين: |
الحالة الأولى: هي التنازل، تنازل تلو التنازل حتى يُصبح دين منزوع الأظافر لا يُطالب بحقّ، لا يسعى إلى تغيير، داخل المسجد فقط صلاة، وخارج المسجد نظام غربي بحت، رِبا مع الرِبا، حفلات ماجنة، والعياذ بالله شرب خمور لا مانع، هذا لا يُرهبهم لأنه أصبح أنا أُسمّيه تديُّناً مغشوشاً، بل إنهم يستخدمونه عندها، لإضعافنا وإفسادنا وإذلالنا، يستخدمون هذا التديُّن المغشوش، كارل ماركس، وأنا لا أُحب أن أستشهد بكلام البعيدين عن الدين، لكن أحياناً تجد فيه بُغيتك، كارل ماركس يقول: " الدين زخرة المظلوم، وهو روح عالمٍ لا روح فيه، والدين أفيون الشعوب"، يعني الدين يُلبّي دعوة المظلوم، يُهدِّئ من روعه، هذا الكلام جميل، الدين روح، هو لا يفقه الدين لكنه وجد نمَطين من أنماط التديُّن، أنَّ الدين نفسه يمكن أن يكون انتصاراً للمبادئ والقيَم وأخذٌ للحقّ للمظلوم من الظالم، ثم وجدَ أن التديّن نفسه يُخدِّر الناس، يمنعها من المُطالبة بحقوقها، ويُجلِسُها في المساجد، ويمنعها عن العمل. |
لو أردنا أن نوضِّح لماركس لقُلنا له: الدين الذي أنزله الله تعالى، الدين الحقّ، هو يُحرِّر الإنسان من العبودية للإنسان، يرفعه إلى ربِّه، يجعله قادراً على التغيير، على فعل شيءٍ، على ردِّ الظلم، على الدفاع عن النفس، لكنه إذا أصبح تديُّناً مغشوشاً، عبثَ به الطُغاة فأصبحوا يستخدمونه لتخدير الشعوب، يقول لك مثلاً: أنتَ ابقَ في المسجد، وقُم بالحَضَرات والذِكر، وفي النهاية كله عمل سيدك!! نعم هو كله من عمل سيدنا جلَّ جلاله، لكن إذا كان كله من فعل الله تعالى، فهذا لا يعني أن نترك العمل ونستسلم للواقع، فهذا التديُّن لا يُرعبهم. |
التديُّن الذي يُنفِّر الناس من الدين هو الذي يدعم أعداءنا:
نوعٌ آخر من التديُّن لا يُرعبهم، أن يُصبح التديُّن مُنفِّراً للناس من الدين، هذا يدعمونه، إذا صار هناك صورة نمطية عن المُتديِّن، بأنه شخصٌ كثير النقض، كل شيءٍ حرام، لا تفعل، يعني يُنفِّر الناس من الدين، فهذا لا يُرعبهم، لأنهم يريدون أن لا يتديَّن الناس وهذا يساعدهم في ذلك، بطريقة تديُّنه، بتمسُّكه ببعض الجزئيات وتركه لمقاصد الشريعة، بكلامه مع الناس القاسي، ربُّنا لمّا أرسل موسى إلى فرعون قال: |
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ(44)(سورة طه)
هو ليس لفرعون، بل لأخيه المسلم لا يقول له قولاً ليّناً، بل يقول له قولاً قاسياً، بدعوى أنه يريد أن ينصُر دين الله، وأن يقمَع البدعة، فهذا لا يُخيفهم أيضاً، المُنظَّمات التي خرجت تحت مُسمّياتٍ شتَّى، وهي مُنظَّماتٌ مأجورة بدعوى إقامة الدولة الإسلامية، هي بالعُمق لا تُخيفهم ولو حاربوها، عندما تُشكِّل أي شيء عليهم، لكن بالعُمق هو تديُّنٌ مغشوش لا يستمر، لأنه عندما يكون تديُّننا صحيحاً نُصبح أقوياء وهُم لا يريدوننا أقوياء، من أجل ذلك هُم يحاربون في فلسطين وفي غزَّة بكل ما أوتوا من قوةٍ، لأنهم يخشون إن انتصر هؤلاء، أن ينتصر معهم فِكرُهم الذي قاموا عليه، فتقول الشعوب: هؤلاء قاوموا وانتصروا، هذا سرّ الحرب في العُمق، أنهم لا يريدون لفكرٍ يقول لهم: لا، بأن ينتصر، لذلك قال تعالى مُخاطباً نبيَّه صلى الله عليه وسلم: |
وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا(73)(سورة الإسراء)
إن افتريت علينا غير دين الله تشدُّداً، أو تفلُّتاً، قسوةً وغِلظةً، أو تمييعاً للدين، فأنت خليلهم لست صديقاً فقط بل خليل، ما عندهم مشكلة معك، يستقبلونك ويُرحبّون بك، لأنك الآن ستُصبح معهم في عداوة الدين لكن بلبوس الدين. |
الحرب بين الحقّ والباطل مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها:
هذا الكلام هو في الوعي ليس في الوعظ السريع، لأنَّ الكلام الذي في الوعي يُثمِر، والكلام الذي في الوعي يجعلنا نعرف من هو عدوّنا ولماذا هو يستشرس بهذه الطريقة لحربنا؟ لا يريدون لدينٍ يدفع إلى التغيير، ويدفع إلى منع الظلم، ويدفع إلى بناء الإنسان، وإلى أن يُصبح الجيل جيل القرآن، لا يريدون له أن ينتصر، لذلك حربنا معهم مستمرةٌ وطويلة، ولا أدري إن كانت ستنتهي في أشهرٍ أم في سنوات، ولو انتهت في غزَّة فإنها لن تنتهي بشكلٍ عام، هذه طبيعة المعركة، طبيعة المعركة بين الحقِّ والباطل أنها مُستمرة لا تتوقف عند حدّ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالذي يقول: متى ننتهي؟ متى تقف؟ هي قد تقف إن شاء الله غداً نسأل الله أن يُفرِّج، لكن لا يعني أنها ستنتهي الحرب حتى يُظهِر الله الحقّ إن شاء الله، فالمعركة طويلة، وربُّنا جلَّ جلاله يقول في القرآن الكريم: |
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4)(سورة محمد)
لو أراد الله تعالى أن ينتصر من هؤلاء الصهاينة لانتصر منهم، قال: (وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) لا بُدَّ أن يُتمّ الله الاختبار والامتحان، وأن تتسع دائرة المُمتحنين إلى أقصى حدٍّ ممكن، أن يُمتَحن الجميع، حرب الإبادة التي يشُنّها العدو على غزَّة امتحنتنا جميعاً، امتحنت ملياري مسلمٍ في الأرض، لم يبقَ إنسان لم يُمتحَن لأنها طالت، أمّا لو لم تطُل لربما كان المُمتحنون أقل، لكن الفاتورة كبيرة، والدماء غالية، قال تعالى: |
ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ(5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ(6)(سورة محمد)
فأحبابنا الكرام: نحن في حرب وجود، شئنا أم أَبيّنا حرب وجود، بدؤوا بالقصف، ثم بالمستشفيات، وبتدمير المستشفيات ومراكز الإيواء، ثم انتقلوا إلى التجويع من أجل التهجير، يُجوعون الناس والعالم يقف صامتاً، ولا يغرّنكم بعض التصريحات، نعم الحمد لله اليوم تشكَّلت شبه جبهة ضد تصرفهم، لا نُصرةً لنا نحن المسلمين، ولكن لأنهم بدؤوا يشعرون أنَ خطر هؤلاء سيصل إليهم، لأنهم مفلتون من العقاب بشكلٍ كامل، لكن التصريحات الأمريكية لا تغرُّنا، هُم يمدُّونهم بالسلاح ولكن يُصرِّحوا بعض التصريحات من أجل شعوبهم الأمريكان، فبدؤوا بحرب التجويع، يعني أخوك أمامك جائعٌ ولا تستطيع أن تُمدَّه برغيف خبز، ما هذا الذُل الذي وصلنا إليه؟! الله تعالى يقول: |
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا(141)(سورة النساء)
لكن اليوم لهم سبيلٌ علينا، وحاشا الله أن لا يكون كلامه صدقاً ووعده حقّاً، لكن نحن هان أمر الله علينا فهُنَّا على الله، هذه هي الحقيقية. |
عند المِحّن يظهر الخير والشرّ في الناس:
فيا أحبابنا الكرام: المعركة وجودية، المعركة خطيرة جداً، وأظنُّها بعد مئة سنةٍ من التخاذُل أظنُّها في نهايتها، لكن المخاض كم سيأخذ من الوقت لا نعلم، لكن كل إنسانٍ سيُظهِر ما في داخله ولو بتصريحٍ ولو بكلمةٍ، سيُظهِر ما في داخله، ربُّنا جلَّ جلاله لا يقبِض عبده حتى يأخذ أبعاده، كما يقال في العُرف السياسي الحديث، حتى يُبيِّن كل ما في داخله، لأنَّ الإنسان أحياناً ينطوي على خيرٍ لا يُظهِره، ينطوي على شرٍّ لا يُظهِره، متى يظهر الخير والشرّ في الناس؟ عند المِحَن، المِحَن محك الرجال، الفِتن تفرز الناس فرزاً كبيراً، أمّا بالرخاء كل الناس يتعاملوا، أنت الآن أعطي ثلاثين شخصاً، أعطي كل واحدٍ منهم في الشهر عشرة آلاف دينار، رخاء، وما يحتاجه وكل ما يريده أعطه إيّاه، من المؤكَّد ستنخفض مُعدَّلات السرقة إلى واحد بالمئة، وستنخفض مُعدَّلات الجريمة لنصف بالمئة، لكن إذا وقعت أزمة وقلَّ الزاد وقلَّ المال بين يدي الناس، قد يأكل بعضهم بعضاً، فتظهَر أخلاقهم عند المِحَن، فالله تعالى قال: |
مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)(سورة آل عمران)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141)(سورة آل عمران)
فالله تعالى قرآنه شفاء، ويُبيِّن لنا هذه المعركة، ويُبيِّن طبيعتها، ويُبيِّن استمرارها، ويُبيِّن أنها قائمة، لكن نحن أحياناً لا ننتبه إلى الآيات القرآنية ونقرأُها بروح الواقع، بتمعُّنٍ وبروح الواقع وبالإسقاط على واقعنا لأنَّ القرآن حيٌّ وكريم، كلما زدته تدبُّراً زادك عطاءً وفهماً لما يجري حولك من الأمور. |
نحن أمة الجسد الواحد ولكننا عاجزون:
أحبابنا الكرام: نحن أُمة الجسد الواحد هكذا نوصَف، لأنَّ هذا التعبير النبوي العظيم، ربما لم يرِد إلا في ديننا، قال: |
{ مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى }
(أخرجه البخاري ومسلم)
فأين الجسد الواحد؟! أين الجسد الواحد وإخواننا على مرمى النظر لا نستطيع أن نصل إليهم؟! |
{ ما آمن بي من بات شبعانَ و جارُه جائعٌ إلى جنبِه و هو يعلم به }
(أخرجه الطبراني)
ونحن نعلم، ووسائل الإعلام تنقل لنا، ثم نقف عاجزين، أنا لا ألوم أحداً منكم، أنا الآن ألوم الأُمة التي تخاذلت بشكلٍ عام، لا نوجِّه النقض إلى جهةٍ بعينها، لكن لا بُدَّ من الحقيقة المُرة التي هي خيرٌ ألف مرة من الوهم المريح، كل واحدٍ فيكم أنا أعلم يقيناً، أنه إن شاء الله ما إن يجد باباً أو يجد طريقاً إلى الوصول ولو بدراهمٍ إلا وأرسلها، فأسأل الله أن يُعظِم الأجر ويبارك في الجميع، لكن أنا أتكلم كلاماً ليصل إلى الناس عبركُم وعبر وسائل التواصل، بأننا أُمة الجسد الواحد، ولا ينبغي أن نتخاذل إن وجدنا طريقاً للنُصرة، وكلٌّ بما يستطيعه ولو بالكلمة، لا تنسى سنتين من العُمر كان الناس يتحدثون، حتى الحديث أصبحوا يملّونه، يقول لك: ما فائدة الكلام؟ لا، أحياناً كثرة الكلام تفعل فعلها، وتحركهم قليلاً ولا أقول تُخجلهم لأنهم بلا حياء، الأعداء، لكن يخافون على أنفسهم من شعوبهم، ربما يفعلون شيئاً كما رأينا وإن كان نذراً يسيراً لا يكاد يكفي للجوعى، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: |
{ المؤمِنُ مرآةُ أخيهِ، المؤمنُ أخو المؤمنِ يَكُفُّ عليهِ ضَيْعَتَه ويحوطُه مِن ورائِهِ }
(أخرجه البخاري وأبو داوود)
أنا إذا نظرت إليك كأنني أنظُر في المرآة، والمرآة تعكس، فأنت مِرآتي وأنا مِرآتك، انظروا لهذا التعبير النبوي العظيم، فإذا كنت جائعاً فأنا جائع، وإذا كنت عارياً فأنا عارٍ، وإذا كنت مُحارَباً فأنا مُحارَبٌ مثلك، الحرب علينا جميعاً، وإذا كنت شبعان فأنا شبعان. |
ورَدَ في بعض السيَر أنَّ سيدنا أبو بكرٍ رضي الله عنه قال: " فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتويت" ارتوى لمّا شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا (المؤمِنُ مرآةُ أخيهِ) أحياناً أنت تأكل فتُسرّ بالطعام، لكن قد تُحضِر طعاماً طيِّباً فيُحبّه ابنك وهو قليل، فتُعرِض دون أن يشعُر عن أكل الكثير منه، حتى يشبع هو من الطعام، ثم يكون ذلك أحبَّ إليك مما لو أنك أكلت أنت، هذه تجري مع جميع الآباء والأجداد، فيُسرَ بأكل حفيده أو ابنه أكثر مما لو أكل هو، فيأكل فيشبع هو، هذا معنى (المؤمِنُ مرآةُ أخيهِ). |
فلو شبع أهل غزَّة فنحن في خير، ولو جاعوا فلسنا في خيرٍ ولو أكلنا أطايب الطعام، أنا لا أقول نتوقف عن الطعام، بعض الإخوة اجتهدوا اجتهاداً، إن شاء الله مقبولٌ عند الله لأنَّ النية تسبق العمل، فقالوا: نحن لن نأكل إلا النذر اليسير، وبعض الإخوة في مصر وضعوا الطعام في بعض الأوعية وأحكموا إغلاقها وأرسلوها عبر البحر، من ضعف حيلتنا كما يُقال، لكن نسأل الله أن يُثيبهم خيراً. |
أنا لا أقول أنه واجباً أن نترك الطعام ولا أنه واجباً أن أُعرِض عن إقامة حفلٍ لابني إذا تزوج، لأن أهل غزَّة وهُم في هذا الضنَك من العيش ما تركوا الحياة، وعدوّنا يُريدنا أن نترك الحياة ولكننا لن نتركها، لكن أنا أقول لا يُعقَل ولا يُقبَل أن نقترف المُحرَّمات، فعل المُحرَّمات لا يجوز في كل عصرٍ وفي كل مِصر، لكن من باب أَولى أن نتأدب مع الله وهُم جائعون، من أن نفعل المُحرَّمات والعياذ بالله، أو أن نُقيم الحفلات الصاخبة، أو ننشر ولائم الطعام عبر وسائل التواصل، أو أن يخرُج هؤلاء الذين يُسمّونهم المؤثِّرون وأنا أُسمّيهم التافهون، فيخرجوا على وسائل التواصل بحفلٍ بهيج ضمَّ كذا، ثم يخرجوا وهُم يتمايلون ويتراقصون وكأنَّ ما يجري في غزَّة لا يعنيهم بحال، وينقل ما في داخل بيته أو مع زوجته، بأشياءٍ تافهة، بتأثيرٍ سلبي، ثم يُسمّي نفسه مؤثِّر أو يوتيوبر، وهو عربيٌ مسلمٌ موجود في بلادٍ قريبةٍ جداً من فلسطين، أو بعيدة عنها والأمر سيان، فهذا لا يُقبَل، هذا لا يجوز في حالة الرخاء فكيف في حالة الشدَّة؟! " اعرِف الله في الرخاء يعرفك الله في الشدَّة "، فكيف إذا لم يعرفه وهو في الشدَّة؟ نسأل الله السلامة والعافية. |
من الودّ والرحمة أن نبقى نذكر إخواننا في غزَّة وأن نسعى لنكون عوناً لهم:
فيا أحبابنا الكرام: هذا اللقاء استثنائي عن ما نعِظ به بشكلٍ دائم، هدفه جزءٌ يسيرٌ بسيط، واحد بالمليون من إبراء الذمّة في الحديث أن لا ننسى إخواننا، أن لا نفتُر عن ذكرهم في مجالسنا، وفي كل مكانٍ (في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ) فمن الودّ والرحمة بيننا أن نبقى نذكرهم، وأن نبقى نُحيي مأساتهم العجيبة التي لم تُسبَق، لا أقول لم تُسبَق بمعنى أنه لم يجرِ مع المسلمين ذلك من قبل، بل جرى في المغول والتتار وربما أشدّ منه، لا أُريد أن أُقارِن لأنَّ الإجرام إجرام، وجرى حصار عندنا في سورية أيام الغوطة وأيام مضايا، صار هناك حصارٌ وجوع، لكن حجم التخاذُل الذي نشاهده هو المؤلم أكثر من الواقع، هؤلاء الذين قضوا قضوا إلى ربهم، لكن النساء والأطفال... |
النبي صلى الله عليه وسلم حوصِر في الشُعب حتى أكلوا أوراق الشجر، لكن قام بعدها من قال: "لا أقعد حتى تُشقّ هذه الصحيفة الظالمة"، وقام من قال: " أنأكل الطعام ونلبَس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يُبتاع منهم ولا يبيعون، ولا يأكلون، والله لا أقعُد حتى أشُقّ هذه الصحيفة الظالمة"، وشقّوا هذه الصحيفة الظالمة، فهل سيخرُج من أصحاب القرار، أو من أصحاب المروءات، من يقول: لا نقعُد حتى نفكَّ الحصار، أسأل الله أن يجعل في أُمتنا من يفعل ذلك، وأسأل الله أن نكون نحن في ذلك الوقت عوناً لمن يقوم بذلك، وأسأل الله تعالى أن يُلهمنا طريقاً لنُصرة أهلنا في غزَّة، وأن يفرِّج عنهم وعنّا، وأن يغفر لنا تقصيرنا بحقِّهم فإنه أعلم بحالنا، والحمد لله ربِّ العالمين. |