أين الله مما يجري؟ (الجزء الثاني)

  • الحلقة التاسعة
  • 2021-05-22

أين الله مما يجري؟ (الجزء الثاني)

نتابع في هذه الحلقة الإجابة عن شبهة ملخصها: أين الله مما يحدث في العالم من ظلم ولماذا لا ينتصر الله للمظلومين؟ وقد تكلمنا في الحلقة السابقة عن نقطتين الأولى تتعلق بالاستدلال على وجود الخالق من خلال خلقه، والثانية حول الربط بين عالم الشهادة وعالم الغيب.

قوانين الله عز وجل:
النقطة الثالثة: قبل أن تسأل هذا السؤال هل قرأت القوانين التي سنّها الملك جل جلاله في قرآنه؟
إذا نظرت في كتاب الله وجدت أن المولى جل جلاله قد بيَّن لك السنن التي وضعها للتعامل مع خلقه، ومن تلك السنن أنه جل جلاله لم يجعل الدنيا ثواباً، كما أنه لم يجعلها عقاباً، لأنها زائلة، والزائل لا يمكن أن يكون ثواباً من الكريم، فعطاء الكريم أبدي سرمدي، وعقاب الجبار مؤلم وقد يكون أبدياً.
أرأيت إلى إنسان قدّم روحه في سبيل الله فهل تقبل أن يكون ثوابه مثلاً عند الكريم أن تسمى مدرسة من مدارس البلد باسمه؟ هل هذا العطاء يليق بالكريم، ثم أرأيت إلى ظالم قتل ألوف البشر هل يعقل أن يكون جزاؤه عند الله أن يقتل كما قتلهم فحسب!
ومن سنن الله في تعامله مع خلقه أنه يملي للظالم يقول تعالى:

وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
(سورة الأعراف)

وفي الحديث:

{ إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} }

(صحيح البخاري)

إن القانون الذي يسميه الله في كتابه تعالى (سنة) يقتضي أن يترك الله الظالم إلى حين، حتى يظن أن بإمكانه أن يفعل ما يشاء وهذا هو الأصل أقصد الإمهال، أما الاستثناء فهو القصم المباشر.
أما لماذا يؤخر الله العقاب للظالم فهذا له حكم نعلم بعضها ويخفى عنا أكثرها، من الحكم الظاهرة تحقق الاختيار وتقرير المسؤولية فلو أن العقاب يأتي فور ارتكاب الخطأ لأعرض كثير من الناس عن ارتكاب الخطيئة خوفاً من العقاب المباشر إذاً ألغي الاختيار الذي هو أساس التكليف!
في سورة الكهف يذكر المولى جل جلاله قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح الذي آتاه الله تعالى طرفاً من علمه فقام ببعض الأعمال التي استنكرها موسى وفق علمه، فكان من هذه الأعمال قتل النفس الزكية، وكان منها إتلاف الممتلكات بخرق سفينة اليتامى، وكان منها بناء الجدار لقوم منعوهم الضيافة.

ثلاث أنماطٍ لأقدار الله تعالى:
هذه الأحداث الثلاثة تعرض أنماطاً ثلاثة من أقدار الله تعالى:
الأول قدرٌ نعلم لطف الله وحكمة الله فيه بعد وقت قصير، مثل خرق السفينة، فهؤلاء الأيتام علموا مساء أن خرق سفينتهم كان سبباً في نجاتها من غصب الملك الظالم، يشبه حالهم حال من يتأخر عن موعد إقلاع الطائرة فيُمنع من الصعود للطائرة فيعود مكسوراً حزيناً ثم يسمع خبراً أن الطائرة قد سقطت ومات جميع ركابها!
القدر الثاني: يجريه الله تعالى بحكمته لخيرنا ولمصلحتنا ولا نفهم هذه الحكمة إلا بعد سنوات وسنوات، مثال ذلك بناء الجدار فالغلامان لم يدريا أن بناء الجدار كان لحفظ مالهما ليستخرجاه عند بلوغهما، لكنهما لما بلغا أشدهما واستخرجا كنزهما علما بأن الله تعالى قد حفظ لهما المال وسخر لهما العبد الصالح لهذا الهدف.
القدر الثالث: نحيا ونموت ونمضي إلى ربنا دون أن نفهم حكمة الله منه وقد يكون مؤلماً قاسياً على النفس، ومثال هذا القدر قتل الغلام، فهذا الغلام الذي قُتل لا شك أنه كان حبيباً إلى والديه، ولربما قضيا الأيام والليالي حزناً على فراقه، وذهبا إلى ربهما دون أن يفهما الحكمة من قتله صغيراً، ويوم القيامة تكشف حكمة الله لهما فيما جرى فيقولان بلسان الحال والمقال: الحمد لله رب العالمين.
إن أي حدث يحدث معنا خلال حياتنا إنما هو قدر من أقدار الله، ربما نفهم حكمة الله منه على الفور، أو أننا نفهم الحكمة منه بعد حين، أو أننا لا نفهم حكمة الله فيه، لكن يجب أن نتيقن أن هناك حكمة من ورائه غابت عنا، وما أكثر الأقدار التي لا نعلم عنها شيئاً لكنه جل جلاله يسخرها لخدمتنا!
والمفلت للنظر أن هذه الأقدار بأنواعها الثلاثة جرى ما يشابهها مع موسى عليه السلام فيوم كان رضيعاً ألقي في اليم والظاهر أنه سيغرق وفي الحقيقة ألقي في اليم لينجو.
فرعون كان يقتل الذكور خوفاً على ملكه لكنه ربى موسى الذي سيقضي على ملكه في قصره وأحاطه برعايته.
ولقد ساق الله تعالى موسى للفتاتين ليسقي لهما دون أجر كما ساق العبد الصالح للغلامين ليبني لهما الجدار دون أجر.
كذلك هي أقدار الله تعالى تجري بنا وما علينا إلا نسلم الأمر لله تعالى فهو الأعلم بما يصلحنا وما يكون فيه فوزنا ونجاتنا.

أراد الله بنا وأراد منا:
ختاماً: إن الله تعالى أراد بنا وأراد منا فلا ينبغي أن نشغل أنفسنا بما أراده بنا عما أراده منا.
ما أراده بنا هي الأقدار التي تسيرنا وليس لنا بها خيار، ولكننا نسلم أن له جل جلاله حكمةً فيها، أما ما أراده منا فهو التكليف بالأمر والنهي وفي هذا نحن مخيرون وعنه نحن مسؤولون فلنشغل أنفسنا بما كلفنا به ولنترك الأمر له جل جلاله.