الاختلافات الفقهية - الجزء الأول

  • الحلقة العاشرة
  • 2021-05-29

الاختلافات الفقهية - الجزء الأول

شابٌ التزم حديثاً وبدأ بأداء الصلاة، والتزم الفرائض، أرسل لي رسالة يقول فيها: إن في الدين اختلافاتٍ كثيرةً جعلتني في حِيرة من أمري، فلم أعد أعرف أين هو الحق وأيَّ قول من أقوال الفقهاء أتَّبع !!
حسناً أخي سأجيبك من خلال عدة نقاط فانتبه:
1- الدين شُرع ليوحد الناس لا ليفرّقهم، قال تعالى:

شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13)
(سورة الشورى)

وما تراه من تفرق ليس سببه الدين، وإنما الابتعاد عن جوهر الدين، وفهم الدين فهماً قاصراً.
2- قولك: إن في الدين اختلافات كثيرة، يعني أنك تنظر للدين نظرة ضيقة فتظنُّ أنه فقهٌ فحسب، أي مجموعة أحكام شرعية في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، ثم إنك نظرت إلى الفقه فوجدت فيه اختلافاً فنسبت هذا الاختلاف للدين كلِّه، والحقيقة أن الدين ليس أحكاماً فقهيةً فحسب!

الدين عقيدةٌ وشريعة:
الدين عقيدة وشريعة؛ أما العقيدة فهي مجموعة الأمور التي يجب التصديق بها وتكون يقينية لا يخالطها شك، وقد أوجزها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:

{ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ }

(صحيح مسلم)

والعقيدة هي الجانب الأهم في الإسلام وقد أمضى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة يبني الإيمان في النفوس ويرسخ فيها عقيدة التوحيد.
إن قضايا الإيمان متفق عليها بين المسلمين بالعموم، فهل هناك اختلاف على وجود الله ووحدانيته وكماله؟ وهل هناك اختلاف على أركان الإيمان؟ وهل هناك اختلاف على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ونبوة أنبياء الله جميعاً؟ وهل هناك اختلاف حول اليوم الآخر وتفاصيله؟ وحول وجوب الإيمان بالقضاء والقدر؟
لا ننكر أن هناك اختلافاً يعرفه طلاب العلم المتخصصون في بعض تفاصيل العقيدة ولكنه لا يذكر أمام حجم المتفق عليه، بل إن بعض الخلاف في العقيدة قد تم تضخيمه لأهداف سياسية فحسب.
وأما الشريعة فهي النُّظم التي شرعها الله تعالى لعباده وتشمل:
1- علاقة الإنسان بربه.
2- علاقته بالآخرين مسلمين كانوا أو غير مسلمين.
3- علاقته بالكون والحياة.

الربط بين الدين والشريعة:
والشريعة تنبثق عن العقيدة فهي صورتها في الواقع، وقد ربط الإسلام بين العقيدة والشريعة في نصوص كثيرة منها قوله تعالى:

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
(سورة الماعون)

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) فهذا من العقيدة، (فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) وهذا من الشريعة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:

{ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ }

(صحيح مسلم)

فقول الخير وإكرام الجار وإكرام الضيف من الشريعة والإيمان بالله واليوم الآخر عقيدة وهما مترابطان.

الشريعة تشمل احكاماً كثيرة:
والشريعة واسعة فهي تشمل أحكام العبادات التي تنظم علاقة الإنسان بربه وأحكام المعاملات التي تنظم علاقة الإنسان بإخوته، كما أنها تشمل النظام الاجتماعي في الإسلام كالخِطبة والزواج والطلاق وتحريم الزنا والخلوة إلى غير ذلك، وتشمل النظام الاقتصادي فتضع قواعد الملكية وقواعد البيع والشراء والمال، وتشمل نظام العقوبات القتل والزنا والقذف والسرقة وشرب الخمر والحرابة والبغي والردة، كما تشمل نظام الحكم في الإسلام والعلاقة بين الحاكم والمحكوم والأسس التي يقوم عليها الحكم وأهمها العدل، والشورى، كما تشمل الشريعة الأخلاق فتأمر بالصدق والأمانة وإكرام الضيف وتنهى عن الفحش والغيبة والنميمة.
إن هذه النظرة الشمولية للدين تضيق دائرة الاختلاف التي نحشر أنفسنا بها عندما يفهم بعض طلاب العلم أن الدين هو الفقه فقط بالمعنى الاصطلاحي للكلمة.
هل هناك اختلاف على الأخلاق؟ هل يماري مسلم في أن الكذب والغش والخداع والغيبة والنميمة من المحرمات!
هل يختلف مسلمان في أن صلة الرحم والكفَّ عن المحارم والدماء والصدقَ في الحديث والنصح لكل مسلم من الواجبات!

فقه الاختلاف:
ثم نأتي إلى الفقه بالمعنى الاصطلاحي وهو استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية وهو أوسع باب من أبواب الدين وقع فيه الاختلاف.
ولنأخذ أحكام الصلاة مثلاً: الصلوات المفروضة خمس، لها أوقات معلومة، وعدد ركعاتها معلوم، وكذلك سننها القبلية والبعدية، وكذلك هيئتها العامة من القيام إلى القراءة إلى الركوع إلى السجودين إلى القعود للتشهد وما يقرأ في الصلوات معلوم، وما يقال في الركوع والسجود والقعود معلوم.
إنك لو صورت من طائرة جمعاً من المصلين وهم يؤدون صلاة الفجر مثلاً جماعة لرأيتهم جميعاً يؤدون الصلاة نفسَها بالحركات نفسها ، ويصعب عليك أن تميز بين من رفع يديه فوق سرته أو رفعهما إلى صدره حال قيامه، كما يعسر عليك أن تفرق بين من حرَّك سبابته عند قوله: ( أشهد أن لا إله إلا الله ...) ثم خفضها ومن بقي رافعاً لها حتى سلم، ومن كان يحركها أثناء تشهده.

ملخص:
ما أريد تلخيصه هنا أن حجم المتفق عليه في ديننا واسع جداً بل هو الأصل، لكنَّ كثيراً من المسلمين توهموا أن الدين هو الأحكام الفقهية المتعلقة بالعبادات والمعاملات فحسب، ثم حصروا أنفسهم في التفاصيل الفقهية التي وقع الاختلاف فيها في حدود معقولة ولأسباب منطقية مفهومة..
وللحديث تتمة..