أربعة أحاديث من حفظها وحققها فقد جمع أصول الأخلاق والآداب

  • محاضرة في الأردن
  • 2021-03-15
  • عمان
  • الأردن

أربعة أحاديث من حفظها وحققها فقد جمع أصول الأخلاق والآداب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ، الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
أيها الإخوة الكرام: حياكم الله وأسعدكم في الدارين في الدنيا والآخرة ونسأل الله تعالى أن يكتب لكم جميعاً الصحة والعافية.

مقدمة:
أيها الكرام: قال بعض أهل العلم: أربعة أحاديث من حفظها وحققها جمع أصول الأخلاق والآداب.
الحديث الأول وهو حديثٌ متفقٌ عليه، أي هو في الصحيحين البخاري ومسلم:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ }

(صحيح مسلم)

الحديث الثاني، وهو حديثٌ أخرجه الترمذي بسندٍ حسنٍ:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَرْكَه ما لا يَعْنيه }

(أخرجه التِّرْمِذِيُّ بسندٍ حسنٍ)

الحديث الثالث وهو حديثٌ في البخاري:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لَا تَغْضَبْ» }

(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)

الحديث الرابع في الصحيحين:

{ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }

(رواه البخاري ومسلم)

قال أهل العلم: فالأول فيه ضبطُ اللسان (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ).
والثاني فيه ترك الفضول (إنَّ من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَرْكَه ما لا يَعْنيه).
والثالث فيه ضبط النفس (قَالَ: أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لَا تَغْضَبْ).
والرابع فيه سلامة القلب (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).
النبي الكريم أوتي جوامع الكلم
هذه الأحاديث الأربعة من جوامع الكلم، والنبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، وما معنى جوامع الكلم؟ أنه صلى الله عليه وسلم بكلماتٍ قليلةٍ يُعبِّرُ عن معانٍ كثيرةٍ، أحاديث السُنَّة ليست كثيرةً إذا كانت من دون الأسانيد وأخذنا فقط أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذفنا المكررات التي وردت من عدة طرق فالأحاديث ليست كثيرة، لكنها كنوز، كلُ حديثٍ بمفرده كنزٌ من الكنوز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أوتيَ جوامع الكلم بمعنى أنه يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة ببلاغةٍ عاليةٍ وبإيصال الفكرة بشكلٍ واضحٍ إلى المستمع أو إلى القارئ وهذا من جوامع الكلم، فهنا أربعة أحاديث عدَّها أهل العلم من أمهات الأحاديث التي تجمع أصول الأخلاق والآداب.

الحديث الأول: ضبط اللسان
الحديث الأول:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» }

(متفق عليه)

هذا لضبط اللسان.

الإسلام عقيدةٌ وشريعة
الإسلام عقيدةٌ وشريعةٌ، إذا أحببنا أن نُجمِلَ الإسلام كلَّه في كلمتين فهو عقيدةٌ وشريعةٌ، أو هو فكرٌ وسلوكٌ، أو بالمصطلح الحديث: منطلقاتٌ نظريةٌ وتطبيقاتٌ عمليةٌ، هذا هو الإسلام عقيدةٌ وشريعةٌ.

{ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ. قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ }

(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

العقيدة: هي مجموعة الإيمانيات، لخَّصها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) هذه العقيدة، الفكر، المنطلقات النظرية.
الإسلام كله عقيدةٌ وشريعةٌ
أما الممارسة، السلوك: مثل الكف عن الدماء والمحارم، الإحسان إلى الجار، القول الحسن، ترك الغيبة، ترك النميمة، الصدق، الأمانة، الإخلاص، الوفاء بالعهد، هذه كلها من الشريعة، والشريعة هي افعل ولا تفعل، فالإسلام كله عقيدةٌ وشريعةٌ، هذا الحديث ربط بين العقيدة والشريعة، بمعنى أن العقيدة ما تعتقده- وسميت عقيدةً لأنها تُعقد بالقلب فتصبح راسخةً في نفس الإنسان- هذه العقيدة التي تستقر في داخلك والتي يسميها الإسلام الإيمان، والإيمان هو التصديق والإقرار، هذه العقيدة التي في داخلك تنعكس سلوكاً ولو أنها فرضاً لا تنعكس سلوكاً لقِيل لك: اعتقد ما شئت، لو أن الإنسان يعتقد شيئاً لكنه يمارس خلافه فاعتقد ما شئت، لأن المعوَّل عليه هو السلوك، لكن يستحيل أن يعتقد الإنسان شيئاً إلا ويسلُك السبيل لتحقيق الفكرة التي يعتنقها ويعتقدها.
بأبسط الأمثلة: السارق لماذا يسرق؟ لأنه اعتقد أنه من خلال السرقة يمكن أن يصل إلى المال الكثير بالجهد القليل، عقيدةٌ فاسدةٌ لكنه اعتقدها فذهب إلى السرقة، المؤمن لما تأتيه رشوةٌ ويقول: لا أريد أن آخذ المال من حرام، لماذا امتنع عن الفعل؟ لأنه اعتقد أن هذا المال من حرامٍ سوف يكون سوءاً له في الدنيا وفي الآخرة فأعرض عنه، فلو لم تكن عقيدتك أيها الإنسان تنعكس على سلوكك لقِيل لك: يا أخي اعتقد ما شئت، لكن لأن العقيدة ينبثق عنها سلوك فقيل لك: ينبغي أن تعتقد الاعتقاد الصحيح حتى يأتي سلوكك صحيحاً وفق اعتقادك، فهذا الحديث: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) هذه عقيدة (فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) هذه شريعة، سلوك، يُشبه ذلك قوله تعالى:

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
(سورة الماعون)

هذه عقيدة، عقيدته التكذيب وليس الإيمان، هو (يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) لا يعتقد بالدين، تابع الآية قال:

فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
(سورة الماعون)

هذا هو نفسه الذي (يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) هو شخصٌ يأتيه إنسان يتيم يطلب حاجةً من حوائج الدنيا فلا يكتفي بأن يمنع عنه تلك الحاجة أو يرفضها وإنما يَدُعُّهُ، ينهَرُه، ويزجُره، ويُسيء له، من أين جاءت هذه الإساءة لليتيم؟ من أنه (يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) لو كان يؤمن بأن له موقفاً بين يدي الله تعالى لأكرم اليتيم.

الإيمان الحقيقي يقتضي التوازن بين العقيدة والشريعة
فالإسلام عقيدةٌ وشريعةٌ، وبهذا التوازن بين العقيدة والشريعة تكون مؤمناً حقاً، أما إذا قال إنسانٌ: أعتقد أن الشمس نافعة جداً للأمراض الجلدية، وهو مصابٌ بمرضٍ جلديٍّ ولم يخرج إلى الشمس، بل جلس في القبو في غرفةٍ مظلمةٍ، هل هذه العقيدة سليمة؟ لا والله، لو كانت عقيدته سليمةً لخرج إلى الشمس.
الترك فعل والفعل فعل
لو قال لك مُدخِّن: أعتقد يقيناً أن التدخين مضرٌ وقاتلٌ، ثم أخرج من جيبه سيجارته وبدأ يدخنها، فهل عقيدته راسخةٌ مئةً بالمئة؟ الجواب: لا، أو أن شهوته أعظم من عقيدته، أصبح عنده ما يسمى عند الأطباء إدمانٌ على المادة فلم يستطع أن يتغلب على ذلك، والدليل نسأل الله السلامة للجميع ونسأل الله السلامة للمدخنين وأن يُعينهم ربنا عزَّ وجلَّ على ترك هذه الآفة، لو أنه وصل إلى مرحلةٍ قال له الطبيب: الوضع صعب وهذه عملية قلبٍ مفتوح وإن استمريت في التدخين فهناك مشكلة، كثيرٌ من الناس يتوقف عندها، حيث تصبح عقيدته قويةً هنا لأنه رأى الخطر بعينه.
ملخص الموضوع: أنت تعتقد فتفعل، والإسلام عقيدةٌ وفعل، الترك فعل والفعل فعل، لو أن إنساناً ترك الغيبة فهذا بمعنى الفعل لأنه امتنع عن شيء، فالامتناع عن شيءٍ وفِعلُ شيء كلاهما قد يسميان فعلاً، فينبغي أن نحرص تماماً على العقيدة أحبابنا الكرام؛ لأنها تنعكس على سلوكنا.
(مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) إذا كان عندك إيمانٌ عميق بوجود الله، وبأن الله يُحاسب، وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأنت تؤمن أيضاً أنك ستقف بين يدي الله (الْيَوْمِ الْآخِرِ) وما من ركنين تلازما في القرآن الكريم بشكل دائم من أركان الإيمان كركني الإيمان بالله واليوم الآخر (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأن الإيمان بالله يحملك على طاعته، والإيمان باليوم الآخر يمنعك من أن تؤذي إنساناً ولو بكلمةٍ كما في هذا الحديث: ( فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) لأنه يؤمن بأنه سيقف بين يدي الله، وأنه إذا قال شراً سيحاسبه الله.
هذا الحديث أحبابنا الكرام فيه ضبط اللسان، إما أن تتكلم خيراً أو أن تصمت، الحل الثالث مرفوض، أمامك خياران؛ الأول: أن يتكلم خيراً، الكلمة الطيبة خير، الإحسان خير، أن تساعد إنساناً خير، أن تأمر بالمعروف خير، أن تنهى عن المنكر خير، أن تقرأ القرآن خير، أن تتلو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خير، أن تقرأ في كتابٍ نافعٍ خير، المهم أنك تنطِق بخير، أن تقول للمسلمين: السلام عليكم خير.

الصمت فضيلة:
السيطرة على شهوة الكلام
إذا كنت لا أجد ما أقوله: (فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) الصمت أحياناً فضيلة، كلنا عندنا هذه الشهوة لكن ينبغي أن نضبطها، هناك شهوة الكلام فإذا كنا في مجلسٍ وأُدير حديثٌ وتحدث الناس عن فلانٍ من الناس يجد نفسه مُندفعاً من غير أن يشعر لأن يخوض مع الخائضين هذه شهوة، كشهوة النساء أن يجد نفسه مندفعاً للنظر الحرام، أو شهوة المال؛ يجد نفسه مندفعاً إلى المال أيضاً، هناك شهوةٌ اسمها شهوة الكلام، هو يحب أن يتكلم وأن يُدلي بدلوه في كل مسألةٍ تُعرَض، إن تكلم الناس بأي مجالٍ يحب أن يتكلم فيه، لكن المشكلة عندما يكون في هذا الكلام إساءةٌ لإنسان أو يكون في هذا الكلام إنقاصٌ من قدر إنسان أو يكون في هذا الكلام تدخلٌ في شيءٍ يتكلم به بما لا يعرف فهنا المشكلة.
كان هناك رجل - هكذا يروى والعهدة على الراوي - يدَّعي بأنه يعرف كل شيء، في الطب، في الهندسة، في اللغة، في الحساب، في كل شيءٍ، هو يعلم كل شيءٍ فما إن يخض الناس في شيء حتى يخوض معهم، فمرةً تآمر عليه بعض أقرانه وقالوا: سنأتيه بكلمةٍ ليس لها وجود في اللغة أصلاً، نحن نخترعها، فقالوا: كل شخصٍ يضع حرفاً ونحن نطرح عليه الكلمة، قال الأول: (خ)، وقال الثاني: (ن)، وقال الثالث: (ف)، وقال الرابع: (ش)، وقال الخامس: (ا)، وقال السادس: (ر)، ستة أحرف، فجمعوها فأصبحت (خنفشار) فذهبوا إليه وقالوا: يا هذا كلمةٌ صَعُبَت علينا، قال: تفضلوا أنا أعرف كل شيءٍ إن شاء الله، قالوا: خنفشار، قال: نعم معروفة، هذا خنفشار هو نباتٌ ينبُت في الصحراء في مكان كذا وله كذا وأنشد بيتاً من الشعر عن الخنفشار، فضحكوا منه وسموه الرجل الخنفشاري، ومنذ ذلك الحين يقال هذا رجلٌ خنفشاريٌّ لأنه يتكلم بما يعلم وبما لا يعلم، هذه طُرفة.
(فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) شهوة الكلام موجودة.. لكن أنت أيها المؤمن أمام خيارين: إما أن تقول خيراً تُقَرِّبُ به إنساناً إلى الله، تُقَرِّبُ به زوجاً إلى زوجته، أو زوجةً إلى زوجها، إما أن تقول كلاماً تأمر به بالمعروف وتنهى به عن المنكر، إما أن تقول كلاماً تُحبِّب الناس بالقرآن وبدين الله، إما أن تقول كلاماً تتألَّف به قلب أولادك وقلب أهل بيتك، كلامٌ طيب، وإما أن تصمت عن الكلام والصمت فضيلةٌ عندها، هنا تأخذ أجر الصمت، هنا يأخذ الإنسان أجر الصمت لأنه ما أراد أن يخوض في شيءٍ يُغضِب الله، فهذا الحديث إخواننا الكرام؛ أصلٌ في ضبط اللسان (فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ).

الحديث الثاني: ترك الفضول
الحديث الثاني:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَرْكَه ما لا يَعْنيه }

(أخرجه التِّرْمِذِيُّ بسندٍ حسنٍ)

من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَرْكَه ما لا يَعْنيه
هذا الحديث أحبابنا الكرام؛ (إنَّ من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَرْكَه ما لا يَعْنيه) يربط ترك الفضول بحسن الإسلام وليس بالإيمان؛ بل مع أولى المراتب، أنت من حسن إسلامك أيها المسلم حتى يكون إسلامك حسناً؛ تمامُ الإسلام كمالُ الإسلام حتى يرى الناس الإسلام يمشي أمامهم أن تترك شيئاً لا يعنيك، وهذا أيها الكرام لا يُحسِنُه إلا ذوو النفوس والهمم العالية، قد يقول إنسانٌ: هذا سهل جداً شيءٌ لا يعنيني لا أتدخَّل به، تزوج ولم ينجب وتأخر في الإنجاب، سألوه أو سألوها هذه عند النساء أيضاً نسأل الله لهنَّ ولنا الهداية، سألوها: ألم تُنجبي؟ لا، ألم تحمِلي؟ لا، أين المشكلة هل هي منكِ أو من زوجكِ؟، يا أخي أكرمك الله هذه من خصوصيات البيت وهذا شيءٌ لا يعنيك (إنَّ من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَرْكَه ما لا يَعْنيه) سواءً كانت المشكلة في الإنجاب منها أو من زوجها فهذا أمرٌ بينهما لا ينبغي أن تقحم نفسك فيه، هذا يحدث في مجالس النساء وأحياناً مجالس الرجال.
شخصٌ توظف في وظيفة في العمل ويسَّر له الله رزقاً جلس وحمد الله أنه رُزق، وأنت شخصٌ بعيد عنه لست قريباً منه؛ كم الراتب؟ حاول أن يُفلت من السؤال، الحمد لله جيد، تسأله: كم ثلاثمئة، أربعئة، خمسمئة، كم هو الراتب؟ يعني هو لا يحب أن يقول ذلك يحب أن يكتُمه، دَعْهُ، هذا الأمر لا يعنيني سواءً كان راتبه كذا أو كذا..
سافر إلى مكانٍ كم أنفقت في السفر؟ سافر وانتهى الأمر، وهكذا.. فبعض الناس يتدخلون في الأشياء التي لا تعنيهم أي لا يترتب على معرفتها شيءٌ لهم أو شيءٌ لغيرهم، سواءً عرفتها أو لم تعرفها فهذا لا يقدم ولا يؤخر، فهذا (مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ).
مرَّت امرأةٌ وهي تضع طبقاً على رأسها وقد غطته، طبق طعامٍ وقد غطته، فقال لها أحدهم: ماذا في الطبق؟ قالت له: لو كنا نريد أن تعرف ما فيه لما غطيناه، نحن غطينا الطبق حتى لا تسأل ماذا في الطبق، لو كنا نريد أن تعرف لكشفناه، فلذلك أيها الكرام؛ ترك الفضول من حُسن الإسلام.

نتيجة التدخل في الخصوصيات
أحياناً الإنسان يدخل في شيءٍ لا يعنيه فيخرج منه بمشكلةٍ دون أن يدري، كنت ذكرت لكم سابقاً أن شخصاً زار أخته، وأخته زوجها فقير، الأخ غنيٌّ ما شاء الله وتاجر، هذا الرجل موظفٌ ودخله محدود، زارها في بيتها، وكيف تعيشون؟ وماذا طبختم الأمس؟ البيت صغير جداً وكيف تسعك هذه الغرفة أنتِ وأولادكِ؟ خرج من عندها، هذا لم يقُل خيراً وتدخَّل فيما لا يعنيه، فلما خرج من عندها بدأت هذه الأخت تفكر: فعلاً هذا البيت صغير، هي كانت تراه جنةً لأنها سعيدةٌ مع زوجها، وجدت البيت فعلاً صغيراً، ووجدت الطعام فعلاً قليلاً، وجدت الفقر فعلاً مسيطراً، والشمس لا تدخل البيت، عاد زوجها فبدأت تناقشه لماذا البيت صغير؟ ولماذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟ فاشتعلت خلافاتٌ بينهما، وأخوها في بيته ما شاء الله مع زوجته أو أخذها وخرج إلى مطعمٍ لتناول طعام العشاء!
قل خيراً أو اصمت
يا أخي، لماذا تدخلت في شيءٍ لا يعنيك؟ قل خيراً أو اصمت و(مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ..) هنا يجتمع الحديثان معاً، لو كنت تريد أن تتكلم كلاماً حسناً فقل لها: ما شاء الله، الحمد لله بيتٌ جميلٌ، صحيح أنه ربما صغيرٌ قليلاً لكن فيه حياةٌ فيه أُنسٌ أنا سررت بالدخول إليه، ما هذا الترتيب، زوجك ما شاء الله رجلٌ فاضلٌ رجلٌ صالحٌ احفظِي له دينه، ائتِ لها بهديةٍ، فتخرج من عندها فتعزز العلاقة بينها وبين زوجها أو على الأقل اترك ما لا يعنيك واصمت، فقالوا: هذا الحديث فيه ترك الفضول (إنَّ من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَرْكَه ما لا يَعْنيه) إذا كان شيءٌ لا يعنيك فلا تتدخل به.
إخواننا؛ أنا أوجه نفسي قبلكم كلنا ينبغي أن ننتبه إلى هذه القضية، أحياناً الإنسان من غير أن يشعر يتدخل في أشياء لا ينبغي أن يتدخل بها، هي خصوصياتٌ للناس لا ينبغي أن يخوض فيها، أو ربما يسأل فيجد من الآخرين صدوداً فينبغي أن يتوقف فوراً، يقول مثلاً: لماذا لم يُخبرنا؟ لماذا لم يتكلم أمامنا؟ وما المشكلة فيما لو أنه حدَّثنا ماذا فعل؟ يا أخي هو لا يريد أن يتكلم وهذا الأمر لا يعنينا لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، (إنَّ من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَرْكَه ما لا يَعْنيه) هذا الحديث الثاني.

الحديث الثالث: ضبط النفس
الحديث الثالث:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لَا تَغْضَبْ» }

(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)

وهو في ضبط النفس قال: (أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي) يريد وصيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا تَغْضَبْ) كلمتان فقط (لَا تَغْضَبْ) نهيٌ عن الغضب، (فَرَدَّدَ مِرَارًا) الرجل أراد وصايا أخرى، قال: يا رسول الله أَوْصِنِي، قَالَ: (لَا تَغْضَبْ)، قال: يا رسول الله أَوْصِنِي، قَالَ: (لَا تَغْضَبْ)، لعله رددها مرتين أو ثلاثاً وهو يطلب مزيداً من الوصية والنبي صلى الله عليه وسلم يركز على وصيةٍ واحدة وهي (لَا تَغْضَبْ).

وصايا من الحديث الشريف
قبل أن أتحدث عن الحديث، هناك أحاديثٌ كثيرةٌ فيها وصيةٌ من رسول الله، عشرات الأحاديث، مثلاً: أبو هريرة كان يقول:

أَوْصَانِي خَلِيلِي بثَلَاثٍ لا أدَعُهُنَّ حتَّى أمُوتَ: صَوْمِ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وصَلَاةِ الضُّحَى، ونَوْمٍ علَى وِتْرٍ
(صحيح البخاري)

وفي أحاديث أخرى أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما وضع رجله في الغرز يوم ذهب إلى اليمن قال له:

عَنْ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: آخِرُ مَا أَوْصَانِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ أَنْ قَالَ: "أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ"
(صحيح البخاري)

فالنبي صلى الله عليه وسلم له وصايا كثيرة، النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائد الأمة والحكيم الذي استمدَّ حكمته من صلته بخالقه العظيم الحكيم جلَّ جلاله، النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب كل سائلٍ عن السؤال نفسه بجوابٍ مختلفٍ، تماماً عندما كان يسأله بعض الناس أي الأعمال أفضل فيقول لأحدهم: الصلاة على وقتها، ويقول للآخر: صدقةٌ، ويقول، ويقول، وكأنه صلى الله عليه وسلم ينظر في حال السائل فيُجيبه على حاله، وقالوا: "البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى حال المخاطب"، وهذا درسٌ ينبغي أن نتعلَّمه لكل أبٍ ولكل أمٍ ولكل مُعلِّمٍ أنت انظر في حال السائل المستفتي الذي يطلب الوصية انظر في حاله وأجبه بناءً على حاله، فلعلَّ هذا الرجل الذي يطلب الوصية رجلٌ غضوب، أو علِمَ عنه سابقاً أنه يكثر الغضب فأجابه: (لَا تَغْضَبْ)، أجاب غيره بإجابة أخرى والثالث بثالثة والرابع برابعة، ونحن المسلمين من بعد ذلك تعلمنا كل هذه الوصايا فتناسب أحوال جميع الناس، فعلى كلٍّ هذه وصيةٌ عامة (لَا تَغْضَبْ).

من عواقب الغضب
الغضب جِمَاعُ كلِّ شر
أحبابنا الكرام: الغضب جِمَاعُ كلِّ شر، والحِلم جِمَاعُ كل خير، والحِلم سيد الأخلاق، وقالوا: كاد الحليم أن يكون نبياً، الحِلم والذي هو نقيض الغضب يجمع الخير كلَّه، لأن الإنسان إذا كان حليماً اتخذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح في المكان الصحيح، أنت بالحِلم سيد قرارك، أما بالغضب فأنت تفقد السيطرة على نفسك، الإنسان وهو غاضبٌ يتخذ أحياناً قراراتٍ يندم عليها طيلة حياته، والله أيها الإخوة؛ أنا أعلم من القصص التي حُدِّثْتُ عنها أو شهِدتها أن أناساً كثيرين دمروا حياتهم بلحظة غضب، إما أنه طلق زوجته الطلقة الثالثة وقال: والله كنت في لحظة غضب، ثم بحث عن فتوى فلم يجد لأنه كان في غضبٍ لا يُخرجه عن الإدراك فأُفتي له بوقوع الطلاق، وأعرف عن إنسانٍ والعياذ بالله ضرب ابنه ضربةً سببت له عاهةً؛ الولد مُتعِبٌ جداً والأب جاء بمفروشاتٍ لغرفة الضيوف، والولد صغير فدخل وخرَقَ المفروشات بالسكين، فجاء فوجده كذلك فضربه على يديه وسبب له عاهةً دائمةً، وعاش حياته يتألم للحظة غضبٍ غضبها، فهذا التوجيه النبوي العظيم: (لَا تَغْضَبْ) لأنك إن لم تغضب فقرارك صحيح، زوجتك لك، أولادك بين يديك، تتخذ قرارك بشكلٍ صحيح، القرار بين لحظة غضب وبعد خمس دقائق من الغضب يمكن أن يختلف مئةً بالمئة (لَا تَغْضَبْ)، الإنسان بعلاقته مع زوجته بلحظة غضب يدمر بيته لو أنه صبر قليلاً ثم اتخذ قراره بعيداً عن الغضب لاتخذ القرار الصحيح، دائماً يندم الناس لأنهم يتخذون قراراتهم في لحظات الغضب، فالنبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي وقد أوتي جوامع الكلم قال: (لَا تَغْضَبْ).

الغضب عملية إرادية
أحبابنا الكرام: أريد أن أسأل سؤالاً مهماً جداً: أنت تقول لإنسان: لا تأكل، هو بإمكانه أن يأكل أو لا يأكل، فقلت له: لا تأكل، إذا قلت لإنسانٍ مثلاً: لا تتنفس، حسناً توقف عن التنفس عشر أو عشرين ثانية، وبعد ذلك لا بد أن يبدأ بالتنفس لأن التنفس أمرٌ لا إرادي، إذا قلت لإنسانٍ: لا تنَم، يقول لك: الموضوع لم يعد ضمن سيطرتي، الذي أريد أن أقوله: النهي عن شيءٍ يقتضي أنه بإمكانك أن تنتهي عنه، وإلا لا معنى للكلام، سأعطيكم مثالاً: إذا كان إنسان يقود مركبةً وشخصٌ يجلس عن يمينه ليس معه لا دعسة البنزين ولا المقود يجلس على اليمين، وقال أحد الأشخاص الذين يجلسون في المركبة في الخلف قال للرجل الذي لا يملك المقود: أوقف السيارة، يقول له: لا أستطيع الموضوع ليس عندي، لو قال له: لا تُسرع، يقول له: قل للسائق: لا تسرع لأنه هو من يمسك المقود، فلذلك قالوا: دائماً أي أمرٍ في القرآن أو أي نهيٍ في القرآن دليلٌ على أن الإنسان مخير، وحدها الأوامر والنواهي دليل تخيير، وإلا هل يُعقل أن ربنا عزَّ وجلَّ يقول لنا: لا تفعلوا كذا وافعلوا كذا ونحن ليس بإمكاننا أن نتحرك، نحن مسيرون؟ مستحيل، الذي أريد أن أصل إليه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: (لَا تَغْضَبْ) أي أن الغضب عمليةٌ إرادية، فإذا قال لك إنسان: أنا لا أستطيع أن أضبط نفسي إذا غضبت، فقل له: توقف أنت تتكلم كلاماً غير صحيح شرعياً ولا علمياً، أنت تستطيع لو أردت لكن أنت علَّمت نفسك على الغضب السريع والانفعال، لا ننكر أبداً أن هناك بعض الناس طبيعتهم حادةٌ أكثر من أناسٍ آخرين مئة بالمئة، هناك إنسانٌ عنده الحِلم سجية، هو خُلِقَ لا يُستفز وآخر يُستفز أسرع، لكن هذا الذي يُستفز سريعاً هل بإمكانه أن يُهذِّب هذا الأمر ويُعيده إلى نصابه وأن يستخدمه في الحق فقط؟ الجواب: نعم، وإلا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَغْضَبْ)، فالنهي عن شيء دليل أنه بإمكانك أن تترك هذا الشيء لكنه يحتاج إلى جهد.

طرق علاج الغضب
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح:

{ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ" }

(أخرجه الطبراني في الأوسط)

إذا أراد الإنسان أن يُصبح عالماً ما الذي يحتاجه؟ أن يتعلَّم، فإذا أراد أن يصبح حليماً غير غضُوب ما الذي يحتاجه؟ قال: أن يتحلَّم، أن يُمارس الحلم، إذا دخل للبيت ووجد شيئاً يُثير غضبه أن يُعوِّد نفسه فوراً أن يدير ظهره ويخرج من الغرفة، يذهب إلى الحمام ويضع الماء فإن الماء يطْفِئ الغضب، كما قال صلى الله عليه وسلم:

{ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ }

(رواه الإمام أحمد)

المؤمن إذا شعر بالغضب
إذا كان واقفاً يشعر بالغضب بمجرد أن يجلس ينزل الغضب خمسين بالمئة، إذا كان جالساً فبمجرد أن يستلقي ينزل الغضب خمسة وسبعين بالمئة، إذا كان مضجعاً يستلقي وهكذا.. هذه من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً بإمكاننا أن نمارس التَّحَلُّم، أن نسعى إلى الحلم، أن نمارس مقاومة الغضب، ألا نزيد الغضب غضباً، هناك إنسانٌ على العكس تماماً يجد نفسه قد غضب فيضرب بيده على الطاولة فيكسر الزجاج وربما يجرح يده، هذا يمارس التَّغضُّب إن صح التعبير، يعني هو غضوب ويزيد غضبه بما يستطيع، أما المؤمن فإذا شعر بغضبٍ فوراً يُغمض عينيه، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، أَعُوذُ بِاللهِ، يخرج من المكان، يُغير الحالة التي هو عليها، يتوضأ، هي دقيقةٌ واحدةٌ فإما أن تملك نفسك في هذه الدقيقة أو أن تملكك نفسك في هذه الدقيقة، إن ملكت نفسك في هذه الدقيقة فأنت سيد نفسك وبعد قليلٍ تجلس وتحلُّ الموضوع بالحوار الهادئ، وإن تملَّكك الغضب في هذه اللحظة فقد أصبحت عبداً لذاتك، عبداً للغضب، فأي قرارٍ يُتَّخَذ في لحظة الغضب أنت تقول: ما كنت أريده، لكن وقع، انتهى، وقَّعْتَ أنت في لحظة غضبٍ أو ضربت في لحظة غضبٍ فأهنت إنساناً أو ضربت زوجتك نسأل الله السلامة فكسرت ما بينك وبينها، أو ضربت ولدك بلحظة الغضب، الطفل إخواننا الكرام؛ يشعر، يوم يكون الضرب بعقلانية يشعر الطفل أن الأب يُحبِّه لكن أنَّبه على ترك الصلاة ببعض ضرباتٍ خفيفةٍ على يده أو قَطَّبَ جَبِينَهُ في وجهه، أو، أو، إلخ.. يشعر الطفل بالمحبة أما في لحظة الغضب يشعر الطفل أن هذا انتقام، فيُكسر شيءٌ بينك وبينه قد لا تستطيع أن تُرممه إذا تكرر الموضوع مراتٍ ومرات فيصبح دخولك إلى البيت تشاؤماً وخوفاً في البيت بدل أن يكون دخول الأب إلى البيت عيداً.
إذاً أيها الكرام: هذا الحديث ضبط النفس، تضبط نفسك، كيف نضبط نفوسنا؟ بالابتعاد عن الغضب، والابتعاد عن الغضب كما قلنا له علاجات، العلاج الأول: تغيير الحالة التي أنت عليها، العلاج الثاني: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، العلاج الثالث: الوضوء أو الاغتسال لأن الماء يطْفِئ الْغَضَبَ، وهذه العلاجات كما هي علاجاتٌ شرعيةٌ فهي مثبتةٌ أيضاً علمياً وواقعياً، لكن يكفينا أنها علاجاتٌ نبوية ولا نحتاج إلى إثباتها وإنما الواقع يشهد لها بلا شك.

الحديث الرابع: سلامة القلب
الحديث الرابع وهو حديثٌ متفقٌ عليه في الصحيحين:

{ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }

(رواه البخاري ومسلم)

قالوا: هذا لسلامة القلب.
أحبابنا الكرام: الإنسان: عقل يدرك، قلبٌ يحب، جسمٌ يتحرك، ثلثه قلبٌ وثلثه جسمٌ وثلثه فكر، فالقلب يُمثل الثلث الرئيسي في الإنسان لأنه يبقى ويدوم:

يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
(سورة الشعراء)

لم يقل: من أتى الله بجسمٍ سليمٍ، ولم يقل: من أتى الله بفكرٍ سليمٍ، وإن كان الفكر السليم كما أسلفنا مهماً جداً للسلوك السليم لكن القلب السليم هو النتيجة النهائية، قلبك، قالوا: هذا قلب النفس وليس قلب الجسد، المضخة التي تضخ الدم، وفي بعض الدراسات الحديثة أنها ذاتها، فهذا القلب ليس مضخةً فقط هذا مركزٌ للشعور والله أعلم هذه دراساتٌ تجري الآن، والله تعالى قال:

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
(سورة الحج)

القلب السليم هو الذي تلقى الله به
(فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) القلوب تعقل أحياناً (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) هذه القلوب التي هي المضخة لكن يبدو أن لها أكثر من المضخة أو هو قلب النفس، المهم القلب السليم هو الذي تلقى الله به، هو الذي يُحب، هو الذي يُحب الله، هو الذي لا حقد ولا غلَّ ولا حسَد فيه، قلب الإنسان، أو هو الذي يمتلئ والعياذ بالله بالحقد والحسد والبغضاء والغلّ وتمني ما عند الآخرين والحسد على ما عندَهم، وهكذا..

الأخوة المقصودة في الحديث
فأحبابنا الكرام: سلامة القلب قالوا بهذا الحديث: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) فأنت تمتحن إيمانك وتمتحن قلبك بهذا الحديث، أنت اليوم أكرمك الله بعملٍ هل تُحب لأخيك؛ ليس أخاك النسبي بل أخاك في الإيمان، وقال بعضهم: بل أخاك في الإنسانية في بعض الحالات، هداك الله إلى الإسلام، إذا نظرت إلى إنسانٍ غير مسلم ألا تحب أن يهديه الله؟ قالوا: هذا مطلق، والمطلق على إطلاقه، تشمل الإخوة لك ولو لم يكونوا من المسلمين، لكن تتمنى لهم الهداية كما تتمناها لنفسك، لو قلنا: دائرة الإخوة الإيمانية وهي الدائرة الواسعة جداً التي حولنا، نحن نتمنى الخير لكل الناس إلا للمعادين، لا نستطيع أن نقول: المسلم يتمنى الخير للقتلة والظلمة، لا، المؤمن يقول: اللَّهُمَّ أحْصِهِمْ عَدَداً، واقْتُلْهُمْ بَدَداً، ولَا تُغادر منهمْ أحَداً، لكن غير المقاتلين غير المعادين الذين لم يقاتلوننا في ديننا لكن بعيدون عن الحق نتمنى لهم الخير والهداية، دائرة الإخوة الإيمانية هي الدائرة العظيمة التي قال تعالى فيها:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
(سورة الحجرات)


موقف المؤمن مما يصيب أخاه:
فأنت تمتحن إيمانك بأنه لو أكرمك الله بعمل هل يَسُرُّك لو أكرم الله أخاك بعملٍ مثله أو خيرٍ منه؟ إن قلت لي: نعم فهذا قلبٌ سليمٌ، أما إن كان يُزعجك؛ تقول: لماذا أخذ هذا المنصب؟ لماذا وصل إليه؟ أنا أفضل منه حالاً وهو أخوك وتعلم عنه الإيمان والتُقى والخير، فأنت لماذا لا تتمنى الخير للآخرين؟ إذا كان الإنسان لا يتمنى الخير للآخرين من المسلمين أو من بني جلدته عموماً فهناك مشكلةٌ في قلبه، فقالوا: هذا لسلامة القلب، طبعاً (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ) قال العلماء: أي الإيمان الكامل، يعني لا يُنفى عنه الإيمان، نقول: هو غير مؤمن، لا، معاذ الله، لكن لم يكتمل إيمانه (حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)، فأنت إذا كنت تحب لنفسك فأحب للآخرين ما تحب لنفسك.
وأحبابنا الكرام؛ من علامة المنافقين: قال تعالى:

إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
(سورة آل عمران)

هذه علامة نفاق، والعياذ بالله؛ مع أننا كلنا بعيدون عن هذه الأجواء ولله الحمد لكن نتعلم نسأل الله السلامة، إذا كان إنسانٌ يتألم إذا أصاب أخاه المسلم خيرٌ ويتمنى زواله عنه فهذه علامة نفاق، أما المؤمن فيتمنى الخير للجميع، ونحن نسأل الله تعالى أن يكرم الجميع وأن يُعافي الجميع وأن يشفي الجميع.

ملخص:
عودٌ على بدء؛ أربعة أحاديث من حفظها وحققها جمع أصول الأخلاق والآداب:

{ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ }

(حديثٌ متفقٌ عليه)

{ إنَّ من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَرْكَه ما لا يَعْنيه }

(أخرجه الترمذي بسندٍ حسنٍ)

وفي الحديث:

{ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لَا تَغْضَبْ }

(رَوَاهُ الْبُخَارِيّ)

{ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }

(متفقٌ عليه)

قالوا: ففي الأول: ضبط اللسان، وفي الثاني: ترك الفضول، وفي الثالث: ضبط النفس، وفي الرابع: سلامة القلب.
أسأل الله تعالى لي ولكم ضبطاً للسان وتركاً للفضول وضبطاً للنفوس وسلامةً للقلوب.