التهيئة الروحية لشهر الروح

  • لقاء مع أكاديمية تطوير التعليم
  • 2023-03-21
  • عمان
  • الأردن

التهيئة الروحية لشهر الروح

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا أكرم الأكرمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات وبعد:
نتحدث عن تهيئة الروح لاستقبال هذا الشهر الكريم، بادئ ذي بدء إن الله تعالى فرض الصيام علينا فقال جلّ من قائل:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184)
(سورة البقرة)


مخففات الصيام:
وفي آيات الصيام خمس مخففات، لما أراد الله تعالى أن يفرض الصيام على عباده خفّف عليهم، فجعل في فرضيته خمسة مخففات:

المخفف الأول: قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾:
بيننا وبين الله تعالى عقد إيماني
المخفف الأول أنه خاطبهم فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهذا المخفف يتعلق بالعقد الإيماني الذي يكون بين العبد وربه، فكأن الله تعالى يقول لعباده: يا من آمنتم بي، آمنتم بوجودي، آمنتم بوحدانيتي، آمنتم بكمالي، آمنتم بعدلي، آمنتم بحكمتي، إنني آمركم بصيام شهر رمضان، وفي هذا تخفيف على النفس؛ لأن الإنسان عندما يوقع عقداً مع جهة ما، فإنه يلتزم ببنود هذا العقد، ويشعر أن التزامه واجب عليه لا مِنّةٌ منه، والله تعالى بيننا وبينه عقد إيماني إن صحّ التعبير مفاده أنكم آمنتم، وما دمتم آمنتم بي فيجب أن تستقيموا على أمري، ويجب أن تؤدوا ما آمركم به، وأن تنتهوا عما أنهاكم عنه، فالمخفف الأول في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.

المخفف الثاني: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾:
المخفف الثاني في قوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ فالإنسان بفطرته يهون عليه الأمر، يهون عليه تنفيذ الأمر عندما يكون من قبله قد وقع عليه الأمر نفسه، أو أن هناك كثير من الناس يشاركونه بهذا الأمر، هكذا هي طبيعة النفس، فإذا قلت لإنسان يجب أن تسافر، يقول لك: السفر صعب، فإذا قلت له سافِر مع شخص آخر يهون عليه، وإذا قلت له سافر مع مجموعة يهون عليه أكثر وهكذا، حتى في موضوع المعصية –نسأل الله السلامة- الناس عموماً يحبون أو يشعرون بأنهم ناجون من العقوبة إذا كان معهم غيرهم في المعصية، لذلك قال تعالى:

وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
(سورة الزخرف)

فمن يعصِ الله تعالى لا ينفعه أن يكون العاصون كُثُر، وهذا يفعله بعض الناس في العقل الباطن كما يقال، فإذا قلت لإنسان لماذا لا تصلي؟ قال لك: كل الناس لا يصلون، وإذا قلت له: لماذا تتعامل بالربا؟ قال لك: كل من حولي يعمل بالربا، كل التجار يُرَابون، فطبيعة الإنسان أنه إذا وقع في معصية فإنه يحب أن يشمل الآخرين معه، وإذا أراد أن يفعل طاعة فيسعده أن يكون الآخرون مشتركين معه في تلك الطاعة، فيسعده أن يكون كل الناس مشتركين معه في الطاعة.
فلذلك الله تعالى لما قال: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ خفّف على عباده، فإنما كُتب على مَن كان قبلنا كُتِب علينا، رمضان شهر الصيام في شريعتنا، وقيل إنه كان في كل الشرائع شهر الصيام، فحتى في شرائع مَن قبلنا كان الصيام شريعة وحتى في رمضان نفسه، حتى إن الكتب السماوية كلها أُنزِلت في شهر رمضان، فصُحف إبراهيم أُنزلت لستة أيام من شهر رمضان، والتوراة بعدها والإنجيل، والقرآن أُنزِل لأربع وعشرين خلت من شهر رمضان وهكذا، كما ورد في الصحيح، فالكتب السماوية أُنزِلت في رمضان، والصيام كما هو في قول كثير من المفسرين كان في رمضان وهكذا، فـ ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ هذا مخفف ثانٍ.

المخفف الثالث: قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾:
قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وهذا هو المخفف الثالث، فالتقوى وتحصيل التقوى هو الحكمة من الصيام، نحن نصوم لأن الله أمرنا، لكنه يذكر لنا الحِكم ليعيننا على الصيام، وهذا يعلمنا درساً في التربية، أنت إذا أمرت بأمر، وأنت أيتها الأخت الفاضلة إذا أمرت ابنك أو طالبة عندك، أو أحداً ممن تحت يده أمرت بأمر فإن تبيان الحكمة منه يساعد المُكلَّف على الالتزام بما أُمِر به، بيان الحكمة يساعده على الالتزام بما أُمِر به، فلو قلت لابنك ادرس، وبينت له عواقب الدراسة لكان ذلك أدعى إلى التزامه، ولو قلت له لا تسرع بالسيارة وأريته فيلماً مُصوَّراً لحوادث السرعة، وما ينجم عنها من أضرار في الأجساد، والأنفس، والممتلكات، لكان ذلك أدعى إلى التزامه بالسرعة المقررة وهكذا.

حكم الصيام:
أولاً_ تحصيل التقوى:
فعموماً ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ هذه الحكمة من الصيام، والله تعالى يبين الحكمة، ولو كان هناك جهة لها ألّا تبيّن الحكمة فهي ربنا جل جلاله، فالله تعالى يأمر و:

لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
(سورة الأنبياء)


بيان الحكمة من العبادات:
مع ذلك أراد جل جلاله أن يعلمنا هذا الدرس التربوي؛ أنه عندما يأمرنا بأمر يبين لنا لماذا أمرنا به، فقال:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
(سورة العنكبوت)

وقال:

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103)
(سورة التوبة)

وقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وهكذا، فالله تعالى يبين لعباده الحكم التي شرع من أجلها العبادات، لذلك قالوا: "العبادات مُعلَّلة بمصالح الخلق" كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله، العبادات لها مصلحة للخلق، مصلحة حقيقية، لا مصلحة متوهمة، قد يتوهم إنسان مثلاً أن مصلحته في الفطر، أن مصلحته في أن يأكل ويشرب، لكن المصلحة الحقيقية هي التي يقررها شرع الله -عز وجل-، التي يقررها الإسلام، التي يقررها المنهج، التي يقررها الله ورسوله، فمصلحتنا فيما أمر الله به، فعند شهر الصيام مصلحتنا في ترك الطعام، لا في الطعام، وفي 1 شوال مصلحتنا في الطعام لا في ترك الطعام، فالذي يصوم في 1 شوال عاصٍ لله تعالى، والذي يفطر في 1 رمضان عاصٍ لله تعالى.

مدرسة التسليم لأمر الله:
من ترك الصيام بغير عذر أَثمَ
انظروا إلى هذه المدرسة التربوية، هي مدرسة التسليم لأمر الله، 1 رمضان صيام، المفطر بغير عذر آثم، 1 شوال فطر، الصائم آثم، إذاً نحن نتعبّد الله وفق المصلحة التي يقررها الله تعالى، فالله تعالى يقول لنا إن مصلحتكم من 1 رمضان إلى 29 أو 30 رمضان هي الصيام، فمن ترك الصيام بغير عذر أَثمَ؛ لأنه ترك شيئاً يُصلحه، فلا بد أن يُعاقَب على ذلك، كالطفل تماماً يعني قد يصف له الطبيب دواء، فمصلحته في الدواء، لكن الطفل يرى أن مصلحته في ترك أخذ الدواء؛ لأنه يراه مرَّ الطعم، فيجبره والداه على أخذ الدواء؛ لأنهما يعلمان أن في الدواء مصلحة، لكن هو يظن أن مصلحته في ترك أخذ الدواء، لِمَا يرى من مرارته في فمه، في أفقه البسيط الضيق الذي يتناسب مع عمره، والإنسان مصلحته في شرع الله تعالى، فعندما نقول إن العبادات شُرعت لمصالح الخلق، فنقصد بالمصالح المصالح الحقيقية، لا المصالح المُتوهَّمة، كل إنسان يتوهم مصلحته في شيء، فقد يتوهم إنسان مصلحته في الزنا، وآخر في الربا، وآخر في الغش، وآخر في الاحتكار، لكن كل ذلك ليس مصلحة، هذا مفسدة ولكنه ظنها مصلحة له.
فالصيام له مصلحة للخلق، من أهم مصالحه، من أهم حكمه التقوى، أن يحصّل الإنسان التقوى؛ لأن الإنسان في حالة الضعف يشعر بضعفه، في حالة الجوع والعطش يشعر بضعفه، الله تعالى قال:

كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)
(سورة العلق)

متى يطغى الإنسان؟ إذا ظن نفسه مستغنياً عن الله تعالى، عندما يعتقد أنه مستغنٍ عن الله يطغى في الأرض، الإنسان عندما يملك مالاً كثيراً وفيراً، ويكون بعيداً عن الله، يعتقد أنه بماله يحل أي مشكلة، فيطغى في الأرض، ويمنع الزكاة، ويمنع المال عن عباد الله، صاحب المنصب عندما يصل إلى منصب يجعله يأمر فيُطاع، يُنَفَّذ أمره في البلاد كلها قد يطغى؛ لأنه يشعر أنه مستغنٍ عن الله، لكن في نهار رمضان الذي يحصل لهذه الروح، لهذه النفس أنها تشعر بضعفها، لا سيما في دقائق قبل الغروب، لذلك هناك دعوة للصائم عند فطره لا ترد؛ لأنه في منتهى ضعفه في تلك اللحظة، ويشعر أنه مفتقر إلى شربة ماء، كل حجمه المالي، وكل حجمه التجاري، وكل حجمه المكاني في المجتمع كله متعلق بشربة ماء، فوصل إلى هذه النقطة، فعندما يشعر بهذا الضعف هذا ما يريده الله تعالى أن تشعر بضعفك، فعندما يشعر الإنسان بضعفه يلتجئ إلى خالقه فيتحقق من التقوى، يتقي الله، يخاف عذابه، يخشى عذابه، يرجو رحمته.

ثانياً_ الصبر:
إذاً من حكم الصيام التقوى، ومن حكم الصيام الصبر، والصبر جزء من التقوى، قال تعالى:

إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
(سورة آل عمران)

الصبر والتقوى متلازمان
فالصبر والتقوى متلازمان، فالصيام مدرسة للروح في الصبر، نحن عندما نترك الطعام والشراب في نهار رمضان إنما نترك ذلك مختارين، لكننا نعلم أن هناك من ترك الطعام والشراب في رمضان وغيره مضطراً لا مختاراً؛ لأنه لا يجد ما يأكله، فنشعر بالفقراء، ونتعلم في مدرسة الصبر أن نصبر على كل شيء، "الصبر مطية لا تكبو" كان عمر رضي الله عنه يقول: "وجدنا خير عيشنا في الصبر" لم يقل في حالة الرخاء، وإنما في حالة الشدة، عندما كانوا يُسامون سوء العذاب في مكة كانوا يجدون خير عيشهم؛ لأن الصبر مرتبة راقية جداً، لا يعرفها إلا المخلصون العالمون:

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
(سورة الزمر)

فالصيام مدرسة في الصبر، يعلم الإنسان على الصبر، فالطعام والشراب مباح، الشهوة مباحة في الحلال في غير نهار رمضان، في نهار رمضان الآن يجب أن تمتنع، هكذا تنفيذاً لأمر الله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فتتعلّم التسليم لأمر الله، تتعلم الصبر، تتحقق فيك تقوى الله تعالى، الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد للموت قبل الرحيل، كما ورد في تعريف التقوى عند السلف الصالح، تتحقق فيك ذلك، تسعر بضعفك، تشعر أنك مفتقر إلى الله تعالى في كل لحظة من لحظات حياتك، فعندها لا يطغى الإنسان على عباد الله، لا يبني مجده على أنقاضهم، لا يبني غناه على فقرهم، لا يبني عزه على ذلهم، لا يبني حياته على موتهم، وإنما يتعاون ويتكاتف مع عباد الله تعالى:

{ أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس. }

(رواه الطبراني)

إذاً: الصيام مدرسة، بيّن الله تعالى الحكمة في قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لأن أعظم ما في الصيام هو تحصيل التقوى، فإذا حصّل الإنسان تقوى الله تعالى فإنه قد حصّل الصبر، وحصّل المصابرة.

ثالثاً_ تحقيق الرشاد:
وحقق الرشاد، عندما قال تعالى في نهاية الآيات:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
(سورة البقرة)


رابعاً_ تحقيق الشكر:
وتحقق من الشكر:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
(سورة البقرة)

المؤمن يشعر بالنعمة في كل وقت
إذاً في آيات الصيام هناك تقوى، وهناك رشاد، وهناك شكر، تحقق من التقوى، تحقق من الرشد يقولون: فلان بالغ عاقل راشد، يعني يفهم طريق الله تعالى، ونتحقق من شكر الله على نعمه؛ لأننا نشعر بأهمية النِّعم، الإنسان متى يشعر بالنعمة؟ عندما يفقدها، المؤمن يشعر بالنعمة في كل وقت، لكن لا بد أن يُذكَّر بين الحين والآخر، لذلك نقول: اللهم أرنا نعمك بدوامها لا بزوالها كما ندعو الله تعالى، أن نرى نعم الله بدوامهاـ فكيف يشعر بها أكثر؟ عندما لا يجدها في نهار رمضان، يشعر بكم هي أهمية الشراب، كم هي أهمية الطعام، هارون الرشيد -أمير المؤمنين- سأله أحدهم قال له: بكم تشتري كأس الماء هذا إن مُنِع عنك؟ قال بنصف ملكي، قال إن مُنع عنك إخراجه قال بنصف ملكي الآخر، قال: إذاً ملكك لا يساوي شربة ماء وإخراجها، فنحن مغمورون، غارقون بنعم الله تعالى ولكننا غافلون، لذلك قال تعالى في نهاية آيات الصيام ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ﴾ هداكم إلى التقوى في رمضان، هداكم إلى الصبر، هداكم إلى الشكر ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
إذا مقاصد الصيام تحقيق التقوى، تحقيق الشكر، تحقيق الرشد، هذه من مقاصد الصيام العظمى.

تهيئة النفس لرمضان:
الصيام مدرسة روحية، يجب أن يهيئ النفس لاستقبالها، أنا كما قلت تفصلنا ساعات، لكن هذه الساعات مهمة ومفصلية، فمن فاته الاستعداد في كل شعبان لا بأس أن يستعد الآن لقيام هذه الليلة بركعات، بالاستيقاظ قبل الفجر، بدعوات أن يتقبل الله منه الصيام، وأن يبلغه رمضان، بعمل صالح، بصدقة ينويها الآن إن كان مستطيعاً لها، إن لم يكن مستطيعاً لصدقة بالمال، فصدقة بالمعروف، بمساعدة إنسان، بأي شيء، كلٌّ بما يستطيعه، يستطيع أن ينوي صدقة في هذه الليلة قبل أن نبلغ معاً شهر رمضان إن شاء الله وأنتم جميعاً بخير وعافية وستر.

رمضان فرصة لا تُفوّت:
رمضان أيها الكريمات وأيها الكرام، فرصة ربما لا تتكرر، الآن لو قلت لواحدة منكن، أو لواحد منكم ارجع إلى رمضان الماضي وعدد لي من أقاربك وأصدقائك ومعارفك ثلاثة أشخاص أو أربعة أشخاص أو كذا، كانوا معك في رمضان الماضي لكن الآن لم يكونوا معك في رمضان، كلنا يعدد بعض الأشخاص، كلنا، فإذا كان الله تعالى قد سمح لنا –ونسأل الله أن يبلغنا رمضان؛ لأننا ما زلنا خارج رمضان حتى اللحظة، والموت يأتي بأي وقت، لكن نسأل الله أن يبلغنا رمضان- فإذا كنت قد بلغنا رمضان إن شاء الله بعافية وستر من الله فهذه نعمة فاتت كثيراً من الناس، فلنشكر الله تعالى عليها ولنستعد لها.
إخواننا الكرام، أخواتنا الكريمات، لو أن تاجراً قد أثقلته الديون، وأثقلته القضايا المرفوعة عليه في المحاكم، وبلغ اليأس منه مبلغاً من أن يتخلص منها، ثم جاءه رجل قال له: هناك أعمال بسيطة تقوم بها، وبعدها تأخذ عفواً عاماً عن كل الجرائم المرتكبة قبل ذلك، وحتى ديونك تسقط عنك، وتعود صفحة بيضاء بعد شهر تماماً، فماذا يكون حاله؟ يطير فرحاً، هذا ما يحصل في رمضان:

{ مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ. }

(صحيح البخاري)

{ مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ. }

(صحيح البخاري)

إذاً فرص، الصيام فرصة، والقيام فرصة، وليلة القدر فرصة، يأتي 1 شوال والصفحة بيضاء، لا شيء فيها من الآثام، لا شيء فيها من الذنوب السابقة، هذا من نعم الله تعالى العظمى على الإنسان أن يبلغه رمضان.

قضية الكم والكيف:
نحن نعظّم الكم على حساب الكيف
كان أحد المحاور التي وضعتها الأستاذة أسماء جزاها الله خيراً، واطّلعت عليه في الإعلام هو الحديث عن قضية الكم والكيف، الكم والنوع، هذه القضية موجودة في مجتمعنا بشكل كبير، نحن عموماً أكثر الناس يعتنون بالكم بكل شيء، الآن لو زرت مدرسة، أو أكاديمية، أو جامعة، أول شيء يُقال لك قبل أن تسأل: جامعتنا فيها ألف طالب، أول شيء يتكلمون على العدد، على الكم، وأنت إن أحببت أن تسأل من غير شعور تسأل كم طالب عندكم؟ يقولون ألفاً، ما شاء الله! ألف طالب، فإذا قيل لك هذه المدرسة فيها عشرون طالباً مثلاً تصغر في عينك من غير أن تشعر، في عقلك الباطن، نحن نعظّم الكم على حساب الكيف، نعظّم الكم على حساب النوع، هذا أسلوبنا، حتى إذا جاء متبرع قلت له: نقوم بتبرع لجمعية خيرية، فيسأل أنتم تنفقون على كم عائلة؟ تقول له: نحن متكفلون عشر عوائل، يقول لك: فقط عشر عوائل! يذهب إلى الجمعية التي لديها ألف عائلة، يقول لك: عندهم ألف عائلة، وربما تكون الجمعية التي عندها عشرة عوائل تقوم عليهم بشكل أفضل، وعندها نوعية أفضل، وتربي الأولاد وتعلمهم، فنحن عموماً نهتم بعقلنا الباطن من غير أن نشعر بالكم قبل الكيف، وهذا ينسحب على عبادتنا، يعني بمعنى إذا ذهب الناس إلى العمرة، عندما يرجعون أول شيء يقول لك: قمت بست عمرات، والثاني يقول: والله قمت بسبع عمرات، بيوم واحد قمت بعمرتين، ذهبت إلى التنعيم حرمت وعدت، وبعدها طلعت حرمت ورجعت.
هكذا نحن، لا أتكلم أنا إن كان هذا صواب أو خطأ ابتداء، ولكن هذه طبيعتنا، كم حجة حججت؟ ما شاء الله، أنا والله من سنة 80 إلى الآن كل سنة أطلع، لكن في أيام الكورونا لم أطلع، 30 حجة، كل سنة أطلع على الحج.
نأتي لرمضان؛ كم ختمة ختمت؟ ختمة واحدة كل رمضان؟ أنا كل عشرة أيام أختم ختمة، أنا كل ثلاثة أيام أختم ختمة، كم ركعة تصلي التراويح؟ فقط ثمانية؟! أنا أصلي عشرين ركعة، يوجد على المالكية 40 كانوا يصلون في مسجد المدينة، فطبيعتنا نسأل عن الكم، لا أحد يسأل: كم سورة تدبّرت في رمضان؟ كم صفحة فهمت في رمضان؟ لا، كم ختمة قرأت، كم استغرقت الركعات التي صليتها؟ هل أطلت الركوع والسجود؟ يعني هناك من يصلي عشرين ركعة بنصف ساعة، ومنهم من يصلي ثمانية بساعة، نحن بالنسبة لنا نقول لا، الحمد لله عشرين، المهم عشرين لا ثمانية ولو كانوا سريعات جداً، وما صار فيهم اطمئنان، المهم أننا أدينا عشرين ركعة.

الاستزادة من الطاعات على حساب النوع:
الاستزادة من الطاعات شيء فيه خير
هذه طبيعة النفس، هل هذه الطبيعة صحيحة؟ هي من زاوية معينة يمكن أن يكون فيها خير، لأن كل شيء حيادي، الاستزادة من الطاعات شيء فيه خير، يعني بالإنفاق مثلاً أكيد إذا أنفق أحدهم مئة، إذا أنفق مئتين أفضل، بالظاهر الذي ينفق مئة فالمئة تشتري 10 كيلو لحمة مثلاً، مئة دينار هنا في الأردن تشتري 10 كيلو لحمة، المئتين تشتري 20 كيلو لحمة للفقير، فالمئة أفضل أم المئتان؟ أكيد المئتان أفضل، هذا بالظاهر لنا نحن، فمن زاوية معينة ربما يكون الاستزادة من الطاعات شيء جيد، ولكن هل هذا صحيح إذا كان على حساب النوع؟ بالتأكيد لا، هل هذا صحيح إذا كان على حساب الكيف؟ بالتأكيد لا، بمعنى إذا إنسان دفع مئة دينار مخلصاً لوجه الله تعالى، وآخر دفع ألفين يرائي بها ليقال فلان منفق، فأيهما أفضل؟ بلا شك المئة، مئة دينار أفضل من ألفين، لذلك

{ سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ }

(صحيح النسائي)

إذا شخص أنفق ألفي دينار بإخلاص، والثاني مئة دينار بإخلاص، الإخلاص نفسه هنا وهناك، عندها الألفين أفضل، فإذاً: الكمية جيدة إذا رافقها النوعية، أما إذا كانت على حساب النوعية فلا حسنة بالكم.
إذا عندي ألف طالب، وأعتني بهم عناية كاملة على الرحب والسعة، أما إذا ما عندي قدرة ألف طالب، فدعني أرعى مئة طالب رعاية جيدة أفضل من ألف بغير رعاية جيدة، هذه الموازنة بين الكمية والنوعية.
إذا كان يصلي عشرين ركعة ويطيل الركوع، وأنا أحقق الخوف من الله وأحقق الخشوع في الصلاة فصلِّ عشرين وصلّ أربعين، أما إذا كنت أريد وهدفي يعني عبء علي، فأسرع بالعشرين ركعة وسجود وركوع وآية آية، وأنزل وأطلع من أجل أن أنهي الصلاة، لا، الأفضل أن تصلي ثماني ركعات، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم

{ كانَ عَمَلُهُ دِيمَةً }

(صحيح البخاري)

ديمة: هي الغيمة التي يطول هطول المطر فيها من غير انقطاع ولو كان قليلاً.

{ أحَبُّ الأعْمالِ إلى اللهِ تَعالَى أدْوَمُها، وإنْ قَلَّ. }

(صحيح مسلم)


صور من عبادات السلف الصالح:
• سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تعلّم سورة البقرة في عشر سنوات، فلما ختمها نحر جزوراً، عشر سنوات لتعلم البقرة، نحن بعد أربعة أيام يقرأ سورة البقرة يعتقد أنه أصبح شيخ الإسلام، سيدنا عمر ظل عشر سنوات يتعلم سورة البقرة.
• كان يقال عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه: "ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه" ما هو الشيء؟ قال هو الخوف من الله.
• فاطمة زوجة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وعنها كانت تقول: والله ما كان عمر بن عبد العزيز بأكثر الناس صلاة، ولا بأكثرهم صياماً، ولكن والله ما رأيت أحداً أخوف لله من عمر" خوف من الله سيدنا عمر بن عبد العزيز، الناس كانوا يصلون، وهو كان يصلي، يصلي قيام الليل، كان معروف أنه يقوم بالمسجد ويصلي، ليس أنه ترك الكمية، لكن هل التميز كان بالكمية؟ لا، كان من الخوف من الله.
• كان بعض السلف: "ما بلغ من بلغ عندنا -يعني الذي نعطيه منزلة كبيرة عندنا- بكثرة صلاة ولا بكثرة الصيام ولكن بسخاوة النفوس، وسلامة الصدور" نفس سخية يعطي مما أعطاه الله، وصدر سليم لا يحقد على أحد، هذا ما بلغ به الناس المبالغ في عصر السلف.
• أبو الدرداء رضي الله عنه الصحابي المعروف كان يقول: "يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يسبق سهر الجاهلين وصيامهم"

مرافقة النوع للكم في العبادات:
أرجع وأقول: معاذ الله، معاذ الله، معاذ الله، ثلاثاً أن أكون أخفف من أهمية الإكثار من العبادات والنوافل والطاعات، ولا سيما في شهر الخير، ولكنني أريد مع الكمية نوعاً، فإذا كانت الكمية ستؤثر على النوع، أو ستجعلك مهتماً فقط بكم ختمة ختمت، لا، نعود للنوع، إذا كنت تستطيع أن تكثر من الكم مترافقاً مع النوع فعلى العين والرأس، هذا ما نريده.
الخروج من شهر رمضان بنوعية
ولكن إذا كانت -وغالباً ما يكون ذلك- الكميات ستؤثر على النوعيات، فأنا أريد أن أخرج من شهر رمضان بنوعية، أريد أن أخرج من شهر رمضان بعادة جديدة اكتسبتها من غير الممكن أن أتركها، قيام الليل صار ركعتين ركعتين من رمضان إلى رمضان القادم، لن أتركه، ليس عشرين ركعة باليوم، ركعتين، لكن كل يوم قبل الفجر يوجد ركعتين، أو بعد العشاء ركعتين، دائماً، غض البصر التزمته لآخر العام، أريد أن ألتزم بعبادة وأحولها لعادة، لا أقصد أن أحولها لعادة من أجل أن يذهب أجرها، والعادات لا أجر فيها، لا، لكن تصبح روتين حياة مستحضراً فيها الإخلاص لوجه الله، لا أريدها عادة بمعنى العادة، لكن أقول عادة بمعنى التعود عليها، يعني ألا تصبح ثقلاً لا أستطيع القيام به، أو أجد صعوبة في القيام به.
الكم على العين والرأس ولكن أن يرافقه النوع، فإذا كان على حساب النوع فدعونا نرجع إلى الكم القليل مع المداومة، الكم القليل مع التدبر، نقرأ ختمة في رمضان جيد، كل يوم جزء، هذا يعني ربما أكثر الناس يفعلونه، لا أقدر أن أقرأ أكثر، مثلاً امرأة لديها بيتها، وأولادها وعندهم مدارس، الآن وقت المدارس، وعندها واجبات أخرى، وعندها واجبات الطعام، وعندها التبعل للزوج، عندها رعاية البيت، عندها عبادات راقية جداً لا يُنتبَه لها وهي بيتها، الرجل عنده عبادة العمل، الخروج إلى العمل وإحضار الرزق، فيوجد عبادات أخرى.
اكتفيت بالجزء جيد، دعني أقوم مع جزء جزء كل يوم ختمة كاملة هذه كمية، قرأت فيها جزءاً بشكل متقن بنصف ساعة بتلاوة جيدة مرتبة، إضافة لهذا الجزء أريد أن أقرأ سورة الحديد أربع صفحات، أستطيع أكثر الأنعام مثلاً، أستطيع أكثر البقرة مثلاً، أقرأ بتدبر، الصفحة تأخذ نصف ساعة قراءة، المصحف مفسر، الكلمات الصعبة، حفظت شرح بعض الكلمات وزدتهم للمعاني التي لدي، فهمت المعنى وتدبرت، وحاولت أن أفهم هل أنا مطبق لهذه الآية أم لا، ماذا ينقصني؟ وماذا عليّ أن أفعل، هكذا اعتنيت مع الكم بالنوع.

الفرض كميته محددة ونرفع النوعية:
صمت، طبعاً هذا فرض، نحن نتكلم عن النوافل، الفرض لا يوجد فيه كم ونوع، انتبه الفرض كميته محددة ولكن أرفع بالنوعية، لا أستطيع أن أخفف بالكمية في الفروض، لا يوجد إنسان يقول –طبعاً مضحك، ولكن للطرفة- سأجعل العصر ركعتين ولكن بأداء متقن، لا، أنا أتكلم عن النوافل، لكن الفروض واضحة، وهي ليست كثيرة، لذلك أنا عندما تحدثت عن المخففات قبل قليل، المخفف الأول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾
المخفف الثاني: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾
المخفف الثالث: الحكمة ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
الرابع: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾ يعني ربنا عز وجل ما قال لك أريد أن تصوم نصف السنة، أو ثلاثة شهور أو أربعة شهور، قال لك شهر واحد، شهر من اثني عشر شهراً، يعني 8% تقريباً، ما قال لك أريد أن تصلي خمس ساعات من أربع وعشرين، قال لك ساعة من أربع وعشرين، خمس فروض بحاجة لساعة على أكثر تقدير مع الرواتب، ساعة ونصف بهذه الحدود.
فإذاً: الفروض محدودة بوقت طلوع الفجر لغروب الشمس الصيام، لكن أنا هنا أريد أن أحرص على رفع النوعية، بالنوافل أنا مخير بالكم، وأحاول قدر الإمكان تعليل النوع بما يتناسب، فإذا وجدت الكم سيؤثر على النوع فأخفف الكم وأرفع النوعية، بالفرائض الكم محدد وأنا جهدي أن أرفع النوعية، فأريد الصيام أن يحقق التقوى، وأريد الصيام أن يحقق الحكمة منه، وأريد الصيام أن يحقق أفضل نتائج ممكنة، القيام مسنون وليس مفروضاً، وفيه أيضاً قضية الكم والنوع التي تحدثت عنها.

بشرى النبي صلى الله عليه وسلم بشهر رمضان:
أريد أن أختم، كبشرى النبي -صلى الله عليه وسلم- بشهر رمضان فقد كان يبشّر أصحابه صلى الله عليه وسلم فيقول:

{ أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ. }

(صحيح النسائي)

والنبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه يقول:

{ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به. }

(صحيح البخاري)


الصيام عبادة الإخلاص:
العبادات كلها لها جانب الفعل لا جانب الترك
وقد كنت أتأمل في هذا الكلام، فأقول في نفسي كل العبادات لله تعالى، فلماذا اختص الصيام لمزية، فقال: (إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به). ثم وقعت على ما شفى غليلي في هذه المسألة؛ هو أن العبادات كلها لها جانب الفعل لا جانب الترك بشكل أساسي.
• فالصلاة: هي أفعال وأقوال مفتتحة بالتكبير ومنتهية بالتسليم، كتعريف فقهي.
• والحج: عبادة بدنية، ومالية.
• والزكاة: عطاء، أن تعطي من مالك.
• لكن الصيام إذا قلنا ما هو الصيام؟ الامتناع، الإمساك، الترك، فالصيام فيه جانب الترك ،ولما كان جانب الترك هو الواضح فيه، فإنه يكون الإخلاص فيه أعظم وأظهر؛ لأنه لو جاء إنسان إلى بيته متعباً من عمله، عطشان في شهر حار من الصيف، ودخل إلى بيته، وليس في البيت أحد، وأراد أن يأخذ كأساً من الماء البارد في هذا الصيف الحار لأخذه، وما علم به أحد، وأتم صومه أمام الناس، وجلس معهم على المائدة مساء، ودعا بدعاء الإفطار وأفطر مع أهله، ولا أحد في الأرض يعلم أنه فعل ذلك؛ لأن الامتناع ممكن أن يكون أمام الناس، ثم تترك الأمر في خلوتك، فلأن الامتناع فيه هو الركن الأساسي، فغالب من يصومون يصومون لله تعالى، فقال: (إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي) وقد وضح ذلك في حديث آخر:

{ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ وشَهْوَتَهُ مِن أجْلِي الصِّيَامُ لِي، وأَنَا أجْزِي به والحَسَنَةُ بعَشْرِ أمْثَالِهَا. }

(صحيح البخاري)

فإذاً: الصيام فيه جانب الترك، لذلك هو عبادة الإخلاص بشكل أوضح من العبادات الأخرى.

دعاء:
فأسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان، وأن يبلغكم رمضان غير فاقدين ولا مفقودين، وكل عام وأنتم بخير، وأنتم الخير لمن حولكم، وأسأل الله أن أكون قد قدمت بعض النصائح والكلمات لتهيئة الروح لشهر الروح، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أسئلة:
مديرة الحوار:
السلام عليكم ورحمة الله.

الدكتور بلال نور الدين:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

مديرة الحوار:
هل الصوت واضح دكتور؟

الدكتور بلال نور الدين:
نعم، الآن واضح.

مديرة الحوار:
فتح الله عليكم، أعطاكم الله الخير والعافية وجزاكم الخير يارب، صراحة أنا لدي ثلاث أسئلة كنت قد حضرتها للجلسة، فإذا كان وقتك يسمح فيها نكون ممنونين لك.

الدكتور بلال نور الدين:
ممكن إن شاء الله، 5 أو 7 دقائق ممكن إن شاء الله.

مديرة الحوار:
تمام، دكتور لدينا ظاهرة أن هناك بعض الأشخاص يخافون أو يقلقون من شهر رمضان، تعرف حضرتك الناس قبل رمضان تضع مجموعة من التصورات، أو البرامج وتقول أنها تريد أن تفعل كذا وكذا، فيبدأ بهمة أول فترة برمضان، وبعدها تأتيه المشاغل، وتأخذه الضغوط والمشاكل، ولا يحقق شيئاً مما كان بباله، فيخرج من رمضان كما دخل، فالتصور الذي كان راسمه عن العبادة برمضان لا يحققه، فلما يحول الحول عليه مرة ثانية يكون عنده خوف من رمضان، أنه لم ينجز شيئاً رمضان الماضي، وسأخرج من رمضان بعدم الإنجاز أيضاً، هؤلاء الناس الذين لديهم نوع من القنوط، أو الرهبة من هذا الشهر، كيف ممكن أن نشجعهم أو نحفّزهم أن رمضان يحتوي الجميع حتى لو كنت مقصراً لا مانع من أن تعمل القليل؟

الدكتور بلال نور الدين:

مداخل الشيطان على الإنسان:
جزاكم الله خيراً، الحقيقة الشيطان له مداخل على الإنسان، والله تعالى قال:

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
(سورة الأعراف)

فمن مداخله على الإنسان هو هذا المدخل الذي تفضلت به،
﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ﴾ الشمائل المعصية؛ يغريه بالزنا، بالربا، بأكل أموال الناس، هذه ﴿وَعَن شَمَائِلِهِمْ﴾ لكن ماذا ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِم﴾.
من أمامهم الحداثة والتطور، ونحن جيل جديد.
﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الآبائية والأجداد ونحن كنا هكذا وربينا هكذا، وهكذا وجدنا آباءنا.
بقي اليمين، ما هو اليمين؟ ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ يأتي من باب الطاعات، هو لا يقول له اذهب للمعصية، لكنه يقنّطه من إمكانية التوبة مثلاً، يوسوس له بالصلاة، يوسوس له بالصيام، يقول له: أنت لا فائدة منك، لا يُرجى منك خير، دائماً تقول كذا، انتهى اترك الموضوع، كل مرة تقول هذه المرة سأعدّل، وهذه المرة سأصبح شيخ الإسلام وبعد ذلك لا تفعل شيئاً، فالشيطان هذا مدخل من مداخله أنه يأتي من اليمين، يعني من باب الطاعة وليس من باب المعصية.
الحسن البصري شبيه من ذلك أنه جاءه من قال له: يا إمام نعصي ونتوب، نعصي ونتوب كالمستهزئ بربه، فقال: "ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه" يعني الشيطان يريد أن يصل لهذه المرحلة؛ أن يقول لك لا أمل منك، فتترك العبادة، لا، نحن نقول أننا أول شيء دعونا نضع تصور واقعي وصحيح وبالإمكان، قابل للتطبيق، هذا بكل حياتك، أول شيء أن يكون التصور الذي تضعه واقعي وتستطيع تطبيقه، أنا اليوم أريد أن أصوم، هذا الصيام فرض، ما الذي ممكن أن أفعل أيضاً برمضان؟ القيام، إن كنت أستطيع ركعتين فركعتين، أو ثمانية فثمانية، أو عشرين فعشرين، لكن ليكونوا من 1 رمضان إلى 30 رمضان يعني لا نترك المساجد من بعد 15 رمضان، أو نترك القيام، لندعه كعمل ضمن استطاعتي وأن يكون العمل ديمة ولو كان قليلاً.
ممكن أن أقوم بزيارة أو زيارتين صلة رحم للأقارب الذين لا أصلهم بالعادة لبعد بيوتهم كأختي، صهري...إلخ.
ضع أهدافاً قابلة للتطبيق
مغترب أقوم باتصالين أو ثلاثة أهنئهم بشهر رمضان وأتواصل وأرى ما حاجاتهم، إن كان لدي إمكانية أن أدفع طيلة الشهر 100 دينار ممكن أن أجزئها وأخرجها صدقة، ضع أهدافاً قابلة للتطبيق، لا تبدأ ب1 رمضان إلى 7 رمضان وهمتنا في أوجها، وفي 8 رمضان نعود للتراجع ونذهب للأسواق للتسوق للعيد، دع الأهداف واقعية وقابلة للتطبيق، ولو كانت قليلة ولكن جانب الإخلاص فيها عال، كما تكلمنا قبل قليل عن الكم والكيف.
ولو حصل، ورأيت أتك قصّرت بشيء فإياك أن يستزلّك الشيطان أو يقول لك أنت قصرت، لا تكمل، لا، يكفي إذا صام الإنسان رمضان إيماناً واحتساباً وقامه فيكفي إن شاء الله ذلك لمغفرة ذنوبه، وهذا أعظم ما يكون.
الآن كل ما يأتي من جديد من نوافل فهي زيادة في الخير إن شاء الله تعالى.

مديرة الحوار:
جزاك الله خيراً دكتور، السؤال الثاني: تعرف حضرتك نحن خرجنا من نصف شعبان ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن تكون رُفعت أعمالنا جميعاً، لكن عندي أخت كانت تسأل: في حياتها علاقة مع أشخاص من أهلها ما استطاعت أن تسامحهم أبداً، هل تُقبَل صلاتها وعباداتها؟ هي مظلومة، وأُكل حقها، ومتأذّية جداً، وكلما تسأل أحداً من المشايخ يقول لها: يجب عليك التسامح، لا تُقبل عبادتك أو صيامك أو صلاتك بعد نصف شعبان، وما رُفع عملك، وكل هذه الأمور، كيف نتعامل مع موضوع التسامح حقيقة، ونحن مقبلون على شهر الصيام؟

الدكتور بلال نور الدين:
هناك فهم أحياناً غير صحيح لموضوع التسامح أن الله يغفر إلا لمشرك أو مشاحن، يوجد مشاحن ويوجد الحقوق، والحقوق لا علاقة لها بالشحناء، يعني أنا لا أقول للمظلوم لن يُقبَل صيامك، ولن يرفع عملك، أنا أقول للظالم لن يُقبَل صيامك ولن يُرفع عملك، لا أتكلم مع المظلوم غير القادر على المسامحة لأن حقه ذهب وأقول له لن يُقبل عملك ولن ترفع، الظالم لن يقبل عمله ولن يرفع عمله، أنا لا أستطيع أن أجبر إنساناً على المسامحة، إن كان هناك حقوق، الشحناء إذا لم يكن هناك حقوق، العمدة في ذلك أن الله تعالى يقول:

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
(سورة الشورى)

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ (126)
(سورة النحل)

﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ ثم يقول:

وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41)
(سورة الشورى)

الشحناء ليست موضوع حقوق
لا أحد يستطيع أن يتكلم معه، يعني أنا أخي مظلوم، وأنا حقي بالميراث أكلوه، ويعرفون أنهم آكلوه، ومعهم إياه ولا يريدون إعطائي إياه، فأنا لا أقدر على مسامحتهم، ولا أريد أن أعينهم على ظلمهم وأقول لهم سامحتكم وعفوت عنكم، وهم يتنعمون بالمال الذي هو مالي، والمفروض أن أكون مسروراً، أكيد لا، أنا حقي أن أنتصر بعد ظلمي، لكن إذا كان هناك حالة أعرف شخص لي معه مبلغ وهو مُعسِر ولا يستطيع تأديته، ويقول لي سامحني والله لا يوجد معي، وأنا أستطيع أن أسامحه ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ أعرف شخصاً إذا عفوت عنه يعود للحق، طبيعته نفسه كبيرة نوعاً ما، فإذا قلت له عفوت عنك فذلك يصلحه، فالأَولى أن أصلح هذا الرجل ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ يعني عفوه أصلح الخصم، أما أنا يجب أن أعفو عنه وحقي معه وهو لا يسأل عني، وسيزداد بغيّه مع الناس الآخرين ويقول فعلت ما أريد، لا، أنا تُرفَع أعمالي، ولست مسامحاً بحقي، فالشحناء أن يكون مثلاً فلانة عندما كنا بالحفلة نظرت إلى إحداهن، وقالت عنها قصيرة، فأنا حقدت عليها، هذه الشحناء، الشحناء ليست موضوع حقوق، الشحناء أخ لا يتكلم مع أخيه لأن منذ زمن كانوا بمجلس فالأخ تقدم عليه وهو الأخ الكبير فحمل عليه في نفسه، ولا يريد مسامحته، هذه الشحناء، عندما يكون هناك حقوق، وهناك ظلم حقيقي، أنا لي مظلمة عند فلان، فأنا إن شاء الله لو ما سامحت فالعمل مرفوع بإذن الله.

مديرة الحوار:
جزاك الله خيراً سيدي، السؤال الأخير: نحن نعرف أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يدخرون أدعيتهم وأمورهم ويشعرون أن الله سبحانه وتعالى سيحققها لهم في رمضان، وكانوا لا يخرجون من رمضان في شوال إلا ويجدون أن دعاءهم قد استُجيب بإذن الله تعالى، كيف بإمكاننا نحن ندعو ولكن هناك دعوات لا تتحقق ولا تتم، نحن نعرف أن هناك شروط لاستجابة الدعاء، كيف نستثمر شهر رمضان فعلاً حتى نحصّل على دعائنا، أن يكون دعاؤنا مستجاباً؟

الدكتور بلال نور الدين:
أولاً لا شك أن شهر رمضان هو شهر الدعاء، ودليل ذلك أن الله تعالى أدرج ضمن آيات الصيام قوله:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
(سورة البقرة)

ثم تابع آيات الصيام:

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
(سورة البقرة)

الدعاء مطلب ومقصد من مقاصد الصيام
فهو أدرجَ آية الدعاء ضمن آيات الصيام؛ ليبين أن الدعاء مطلب ومقصد من مقاصد الصيام، وكأنه يقول ما إن ينقضي وما أن يكون عبادي في رمضان حتى يسألوك عني ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ لكن نحن نفهم إجابة الدعاء على أنها شيء واحد متعلق بما نريد، فأنا أقول أريد ألفاً يأتيني ألف، أقول أريد منصباً يأتيني المنصب، أقول شفى الله فلان، فيشفيه الله من أقربائي أو من أحبابي، فأنا أفهم استجابة الدعاء على أنها تحقيق ما أريده، لكن الاستجابة في المفهوم الشرعي ليس أن يُحقق مراد العبد منها، وإنما أن يستجيب الله تعالى له بحكمته وبما يصلحه لا بما يريده هو، وفي الوقت الدي يريده الله لا في الوقت الذي أريده، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم:

{ ما مِن رجلٍ يَدعو اللَّهَ بدعاءٍ إلَّا استُجيبَ لَهُ، فإمَّا أن يعجَّلَ له في الدُّنيا، وإمَّا أن يُدَّخرَ لَهُ في الآخرةِ، وإمَّا أن يُكَفَّرَ عنهُ من ذنوبِهِ بقدرِ ما دعا، ما لم يَدعُ بإثمٍ أو قَطيعةِ رحمٍ أو يستعجِلْ. قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ يستَعجلُ؟ قالَ: يقولُ: دعوتُ ربِّي فما استجابَ لي. }

(صحيح الترمذي)

(ما مِن رجلٍ يَدعو اللَّهَ بدعاءٍ إلَّا استُجيبَ لَهُ، فإمَّا أن يعجَّلَ له في الدُّنيا) وهذه الحالة التي نحبها كلنا، وحقنا أن نحبها.
(وإمَّا أن يُدَّخرَ لَهُ في الآخرةِ) يعني هو يريد شيئاً، ولكن هذا الشيء الآن يفسده، ويظن أنه يصلحه فيؤخره الله له للآخرة.
(وإمَّا أن يُكَفَّرَ عنهُ من ذنوبِهِ بقدرِ ما دعا)، الحالة الثالثة هي الحالة التي تفضلت بها، أنا غير متحقق من شروط الدعاء عندي معاصٍ، وعندي ذنوب، وعندي كذا ودعوت، هل راح الدعاء؟ لا ما راح، ولكن أخذت عوضاً عنه مغفرة ذنوب، فربنا عز وجل كريم جل جلاله إذا ما كنت أهلاً لاستجابة الدعاء في الدنيا أو في الآخرة، الآن أو بعد حين فإذاً يُغفر لي بقدر ما دعوت، فليتيقن كل من يدعو الله عز وجل أن الدعاء يُجاب بإحدى الطرق الثلاث وكلها ربح، الثلاثة ربح، ليس هناك طريقة خاسرة، نحن نحب الحالة الأولى لأننا نستعجل، قال تعالى:

خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
(سورة الأنبياء)

فلأننا نستعجل نحب الحالة الأولى التي هي غداً، أو ليس غداً الآن عندما أنتهي أريد المال، هكذا نحب لأن هذه طبيعة البشر، لكن ما هو التكليف قال: ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ تتمة الحديث: (وإمَّا أن يُكَفَّرَ عنهُ من ذنوبِهِ بقدرِ ما دعا، ما لم يَدعُ بإثمٍ أو قَطيعةِ رحمٍ أو يستعجِلْ. قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ يستَعجلُ؟ قالَ: يقولُ: دعوتُ ربِّي فما استجابَ لي).
لما ربنا عز وجل قال لموسى وهارون:

قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
(سورة يونس)

متى أُجيبت الدعوة؟ بعد أربعين سنة، فالدعاء مطلوب، والدعاء مُجاب، لكن بالطريقة التي يريدها الله، وفي الوقت الذي يريده الله، ونحن عباد مستسلمون لله، ندعو لأن الدعاء عبودية لله، ومنتهى العبودية، وننتظر أن يجيبنا في الوقت الذي يريد، وبالطريقة التي يريد.

مديرة الحوار:
سيدي بعد إذنك هناك سؤال آخير وصلني الآن، إحدى الأخوات تقول: في رمضانات سابقة بذلت جهداً لتحصل على الخشوع في الصلاة، لكنها ما حاذت عليه، هل هناك توصيات أو نصائح أو أشياء يجب أن يفعلها المرء حتى يصل إلى الخشوع في صلاته، وخاصة في رمضان؟

الدكتور بلال نور الدين:
مفهوم الخشوع يختلف من شخص لآخر، قد يكون إنسان خاشعاً في صلاته ويعتبرها غير كافية في خشوعه، وشخص آخر أقل خشوعاً من الأول، ويرى أنه وصل لأعلى درجات الخشوع، الخشوع هو السكون، قال تعالى:

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ۚ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۚ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
(سورة فصلت)

فالخشوع هو السكون، سكون القلب، ولا بأس أن ينعكس سكون القلب على الجوارح، من التوصيات التي يمكن أن تزيد الخشوع في الصلاة؛ هناك أشياء متعلقة بحيثيات الصلاة.

توصيات لزيادة الخشوع في الصلاة:
1. يعني الذي يصلي وأمامه شاشة مفتوحة من الصعب أن يخشع بصلاته، الذي يصلي وأمامه الأولاد يلعبون صعب أن يخشع بصلاته، فلما يتخذ الإنسان مكاناً أو محراباً من أول رمضان هادئاً جداً لا يوجد فيه مشوشات متعلقة بخارج البيت، ولا بزخرفات البيت، أن يتخذ محراباً له في البيت هذا ما يعينه على الخشوع، وهذا المعنى فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:

{ لا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ }

(صحيح مسلم)

إذا كان مشغولاً بشيء لا يستطيع أن يحقق الخشوع.
التنويع في القراءة من أسباب الخشوع الأساسية
2. من أسباب الخشوع الأساسية أن ينوّع في القراءة التي يقرؤها، الذي يقرأ دائماً المعوذات فقط يتعوّدهم فلا ينتبه للمعاني، أما لو قرأ من مصحف إذا كان لا يحفظ، ممكن أن يقرأ من المصحف وهذا ما هو الصحيح في المسألة: جواز القراءة من المصحف في الفرض والنفل أو في النفل على قول بعض أهل العلم، يعني هناك سعة إن شاء الله، فلو قرأ من المصحف كل يوم صفحة بتأنٍّ وتأمل في المعاني، فهذا مما يعينه أيضاً على الخشوع في صلاته.
3. مما يعين على الخشوع في الصلاة يقول صلى الله عليه وسلم:

{ اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسن صلاته. }

(أخرجه البيهقي)

فالإنسان يحسن صلاته إذا ذكر الموت فيها، لذلك كان من الأدعية: "وجهوا قلوبكم إلى الله صلوا صلاة مودع" كما كان يقول صلى الله عليه وسلم، فلو استحضر الإنسان أنه سيلاقي ربه، وأن هذه الصلاة هي آخر صلاة له، أو ربما تكون هذه آخر صلاة له إن أذن الله بذلك وأراده فإنه يحسن صلاته، لو كان على وجه الحقيقة أن الموت معروف، وقيل للإنسان هذا الظهر آخر صلاة عندك، وبعدها ستنتهي الحياة، فيصلي الظهر بأروع صلاة لأنه سيغادر، فلو استحضر هذا المعنى في كل صلاة أيضاً هذا مما يعينه على الخشوع في صلاته، هذا والله أعلم.

مديرة الحوار:
سيدي هناك أخت تسأل: هل يجوز الدعاء على من ظلمنا في رمضان؟

الدكتور بلال نور الدين:
هناك يجوز، وهناك ماذا نفعل، يجوز برمضان وبغير رمضان، فالإنسان المظلوم:

لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
(سورة النساء)

فهو يجوز برمضان وغيره، والدعاء على الظالمين في القنوت بالوتر ندعو على الظالمين، فالذين ظلمونا كثر، الذين ظلموا عموم الناس، وهناك أناس لهم مظلمة خاصة عند أحد معين، فإذا قلت يجوز إذا كان هناك مظلمة حقيقية متحققة، غير متوهمة، حقيقية، فيجوز، لكن أنا أقول هذا من باب النصيحة: أن ينشغل الإنسان في رمضان لأن القلب إذا امتلأ لن أقول الغل، لكن يعني شبه الغل، سبحان الله قلب الإنسان:

مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ۚ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ۚ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ(4)
(سورة الأحزاب)

ليكن القلب نقياً صافياً في رمضان
يعني إما أن يحمل هكذا أو يحمل هكذا، لا يوجد قلب يحمل الاثنين معاً، يمتلئ القلب بالقصة، فإذا شخص هناك قصة تشغله كثيراً؛ أن شخصاً أكل عليه ألف دينار، ولا يعطيه إياهم فتأخذ القصة حيزاً كبيراً من تفكيره، فكّر أن هناك جنة ونار، وهناك أولادك، وهناك زوجتك، وهناك حياتك، وهناك أسرتك، وهناك مئة دعوة تدعوها، فكل همه يصبح أن يدعو على هذا الإنسان، فأنا أظن أنه يحجّر واسع، ويضيق على نفسه، دعونا نستغل بالدعاء للناس بالهداية بالدعاء بالخير، بالدعاء لنفسي، بالدعاء للآخرين، بكلمات طيبة، ليكن القلب نقي صافٍ برمضان، هذا لا يعني أن يسامح، المسامحة شيء آخر، الإنسان له أن يسامح أو لا يسامح هذا حقه، وبالمناسبة الله جل جلاله في الأمس كنت أتكلم مع مجموعة من الإخوة، هو ذاته، الله رب الوجود الذي لا يُسأل عما يفعل لم يعطِ نفسه أن يسامح إنسان ظلم عن إنسان آخر، يعني لا يقول له أنا سامحتك، يقول له: اذهب وأدِّ الحق، حتى برمضان تُغفَر كل الذنوب ولكن إذا عليك ديون يجب أن تؤديها، إذا هناك شخص ظلمته، وتكلمت عليه، ونفسيته منهارة بسبب كلامك يجب أن تذهب لتستسمحه، أنا لا أسامحك عنه، جل جلاله لو قال له أسامح لا أحد يقول له لا، جل جلاله لا يسأل عما يفعل، لو أحب أن يسامح الخلق بالخلق، فهو خالق الجميع والكل عباده، ومع ذلك ترك حقوق العباد مبنية على المشاححة لا على المسامحة، هو حقه يسامح به جل جلاله لكن حقوق العباد يتركها للعباد، لا أقول يسامح أو لا يسامح، لكن أن يشغل قلبه بشكل دائم أنه يريد أن يدعو على فلان، وقلبه ممتلئ، لا، ليكن في رمضان فرصة للدعاء بالخير لأنفسنا، وأهلينا وأقربائنا من خيري الدنيا والآخرة يكون أفضل وأريح للنفس.

مديرة الحوار:
جزاك الله كل خير دكتور، بارك الله بك وتقبل منك، شكراً جزيلاً لوقتك، لمشاركتنا هذه الأمسية الصراحة كنا بحاجتها، بارك الله بك يارب.
متابعينا نحن ما كنا معكم في البداية سبحان الله، ما استطعت أن أقدم الدكتور كما يجب، بارك الله بك دكتور، كما هو معروف دكتورنا الدكتور بلال نور الدين معه دكتوراه في الفقه المقارن والمشرف العلمي على موقع الدكتور محمد راتب النابلسي، والسيرة الذاتية بسم الله ما شاء الله يطول الحديث عنها، بارك الله بعلمك، ويتقبل منك جهودك، ومساعيك دائماً.
شرفتنا وشرُفنا بتواجدك معنا دكتور، ولنا بإذن الله تعالى لقاءات قادمة إذا كان يسمح وقتك في رمضان بإذن الله تعالى.
بارك الله بكم، وجزاكم الله عنا كل خير، شرفتنا وأهلاً وسهلاً بكم.

الدكتور بلال نور الدين:
أهلا ً بكم، وبارك الله بكم، سلام الله عليكم.

مديرة الحوار:
وعليكم السلام ورحمة الله بركاته.