النذير العريان

  • خطبة جمعة
  • 2025-11-21
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

النذير العريان

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.

مقدمة:
وبعد فيا أيُّها الإخوة الكرام: يُروى أنَّ رجُلاً من العرب رأى عدوُّاً يقصِد قومه بسوء، يريد بهم شرَّاً، فما كان منه إلا أن ركضَ بسرعةٍ، ووقف بحيث يراه قومه، وخلع بعض ثيابه، وجعل يُلوُّح بثيابه في الأُفُق، يُنذِر قومه العدو المُتربِّص بهم.
ويُروى أنَّ آخَر لمّا عَلِم بقدوم العدوّ، خرج ليُنذِر قومه، فلم يجد وقتاً ليلبس ثيابه، فخرج عُرياناً، فاصطلح العرب بعد ذلك على تسميةٍ، هي النذيرُ العُريان، فكل من يُنذِر قومه ويستعجل في ذلك، يريد بهم خيراً، يريد أن يقيهُم شرَّاً، يُسمّونه النذيرُ العُريان.
وفي يومٍ من أيام النبوَّة، وفي جلسةٍ من جلسات رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، إذ به يقول لهم:

{ إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ ما بَعَثَنِيَ اللَّهُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ أتَى قَوْمَهُ، فقالَ: يا قَوْمِ إنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بعَيْنَيَّ، وإنِّي أنا النَّذِيرُ العُرْيانُ، فالنَّجاءَ، فأطاعَهُ طائِفَةٌ مِن قَوْمِهِ، فأدْلَجُوا فانْطَلَقُوا علَى مُهْلَتِهِمْ، وكَذَّبَتْ طائِفَةٌ منهمْ فأصْبَحُوا مَكانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فأهْلَكَهُمْ واجْتاحَهُمْ، فَذلكَ مَثَلُ مَن أطاعَنِي واتَّبَعَ ما جِئْتُ به، ومَثَلُ مَن عَصانِي وكَذَّبَ ما جِئْتُ به مِنَ الحَقِّ }

(أخرجه البخاري)

(فأدْلَجُوا) مشوا في أول الليل في الدُلجة (فانْطَلَقُوا علَى مُهْلَتِهِمْ) أي الوقت معهم (وكَذَّبَتْ طائِفَةٌ منهمْ فأصْبَحُوا مَكانَهُمْ) لم يُصدِّقوا الخبر فبقوا مكانهم.

الإنذار يقتضي وجود أربعة أشياء:
أيُّها الإخوة الكرام: الإنذار يقتضي وجود أربعة أشياء:
أولاً: نذير الذي يُنذِر المُنذِر أو النذير
ثانياً: مُنذَرين الذين يُنذِرهم النذير
ثالثاً: يقتضي مُنذَراً به
ورابعاً: يقتضي مُنذرَاً منه
أربعة أشياء: نذيرٌ، ومُنذَرون، ومُنذَرٌ به، ومُنذَرٌ منه الذي نخافه، النبي صلى الله عليه وسلم هو النذير، بمعنى المُنذِر الذي يُنذِر قومه، ونحن المُنذَرون، والمُنذَر به هو الوحي، يُنذِرنا صلى الله عليه وسلم بالوحي، والمُنذَر منه عذابٌ شديد.
أمّا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو النذير، فلقوله تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45)
(سورة الأحزاب)

وأمّا أنَّ المُنذَر به هو الوحي فلقوله تعالى:

قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ ۚ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ(45)
(سورة الأنبياء)

هناك من يصم أُذُنه عن سماع الإنذار.
ولقوله تعالى:

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ۚ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ ۚ قُل لَّا أَشْهَدُ ۚ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(19)
(سورة الأنعام)

المُنذَر به هو كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم المُبينةُ لما أُجمِل في كتاب الله.
وأمّا أنَّ المُنذَر منه عذابٌ شديد، فلقوله تعالى:

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ(46)
(سورة سبأ)


النقطة المفصلية في الإنذار هي أن تؤمن بالغيب:
أيُّها الكرام: المُنذَر به وحيٌ وهو غيب، الوحي غيبٌ، والمُنذَر منه عذابٌ شديد وهو غيب، من رأى عذاب الله الشديد في الآخرة؟ فالمُنذَر به غيب والمُنذَر منه غيب، والنبي صلى الله عليه وسلم يُنذِرُنا غيباً بغيب، وبقدر إيماننا بالغيب تكون استجابتنا.
النقطة المفصلية في الإنذار هي أن تؤمن بالغيب، فإن كنت تؤمن بالغيب حقَّاً نفعتك النذارة، الإنذار لا ينفع الذين لا يؤمنون بالغيب، تقرأ عليه القرآن يُحدِّثه عن الغيب، أين العذاب الشديد؟ أين الجنَّة؟ هي في نظره كلامٌ مكتوبٌ على ورق، هكذا يقرأُها، أمّا المؤمن فيتلقّاها وكأنه يراها، فيستجيب ويخاف وتنفعه النِذارة.
أيُّها الإخوة الكرام:

{ لمَّا نزَلتْ هذه الآيةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ورَهْطَك منهم المُخلَصينَ قال: وهنَّ في قراءةِ عبدِ اللهِ، خرَج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أتى الصَّفا فصعِد عليها ثمَّ نادى: يا صَبَاحاه، فاجتمَع النَّاسُ إليه فبيْنَ رجُلٍ يجيءُ وبيْنَ رجُلٍ يبعَثُ رسولَه فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا بني عبدِ المُطَّلبِ يا بني فِهْرٍ يا بني عبدِ مَنافٍ يا بني يا بني أرأَيْتُم لو أخبَرْتُكم أنَّ خَيلًا بسَفْحِ هذا الجبلِ تُريدُ أنْ تُغِيرَ عليكم أصدَّقْتُموني؟ قالوا: نَعم قال: فإنِّي {نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] فقال أبو لَهَبٍ: تبًّا لك سائرَ اليومِ أمَا دعَوْتُمونا إلَّا لهذا ثمَّ قام فنزَلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] وقد تَبَّ وقالوا: ما جرَّبْنا عليك كذِبًا }

(أخرجه البخاري ومسلم)

أيُّها الكرام: لمّا أخبرهم بشهادة صدَّقوه، قال لهم: (أرأَيْتُم لو أخبَرْتُكم أنَّ خَيلًا) رأيتها بعيني، وهو صادقٌ صدَّقوه، لمّا أخبرهم بالغيب (بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) قادمٍ، كذَّبه كثيرون، هذا هو الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، المؤمن يؤمن بالغيب.
جلس أحد التابعين يوماً فقال: إني رأيت الجنَّة والنار عياناً، فقال له القوم: يا هذا انظُر فيما تقول فوالله ما أحدٌ رأى الجنَّة والنار عياناً! قال: والله لقد رأيتهما بعينَي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لهما بعينَي رسول الله أصدق عندي من رؤيتي لهما بعيني، لأنَّ بصري قد يزيغ وقد يطغى، أمّا بصره:

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ(17)
(سورة النجم)


مرتبة الإيمان بالغيب أن تؤمن بأنَّ العذاب الشديد قادِم:
هذه هي مرتبة الإيمان بالغيب، أن تؤمن بأنَّ العذاب الشديد قادِم، عندها لا يمكن إلا أن نخاف العذاب، لمّا قال لهم: خيلٌ قادمة، قالوا: ما جرّبنا عليك كذباً، مع أنهم لم يروها لكنه رآها وأخبرهم، لمّا قال لهم: عذابٌ شديد يُنذِركم به خالقكم جلَّ جلاله، قال له: تباً لك، ما هذه النفوس التي تأبى أن تؤمن بالغيب الذي لا تراه بأعينها؟! أيكون حالنا كحال المخلوقات الأُخرى، لا نُصدِّق حتى نرى بأعيننا، الجنَّة قادمة والنار قادمة، والمؤمن بالغيب يرجو الجنَّة ويخشى النار حقَّاً بالعمل لا بالقول.

حال الأقوام السابقين الذين كانوا يعيشون عالَم الشهادة ولا يؤمنون بالغيب:
أيُّها الإخوة الكرام: انظروا إلى بعض السابقين من الأقوام، الذين كانوا يعيشون عالَم الشهادة ولا يؤمنون بالغيب، إلى الأقوام الذين قالوا يوماً أرِنا الله جهرةً.
الذين قالوا:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(55)
(سورة البقرة)

انظروا إلى حالهم إلى بني إسرائيل، قال تعالى:

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(171)
(سورة الأعراف)

نتق الجبل، اقتلعه من أصوله وجعله فوقهم كأنه ظُلَّةٌ تُظللهم، وقال لهم اعملوا بدينكم وبما في كتاب ربكم، وإلا سقط الجبل عليكم أيقنوا أنه واقعٌ بهم.
يكون عندك ولدان وبعضكم ربما عاش هذه التجربة، أحدهما لا يدرُس حتى تُمسِك العصا بيدك وتجلس أمامه، وتُلوِّح بها، تُهدِّده إن لم تحفظ القصيدة خلال خمس دقائق ضربتك، وكل ثانيةٍ تُلوِّح بها وهو يدرُس تحت وقع العصا، وعندك ولدُ ثانٍ تقول له: ادرُس فالمستقبل أمامك، فقط، فيفتح كتابه ويدرُس ويُنجِز ويتفوَّق، أيهما تحب أن تكون؟ أي ولدٍ أقرب إليك وأريح لبالك؟ الذي يدرُس عندما تُخبره بالنَص دون أن تُلجئه إلى العقوبة التي فوق رأسه، هذا ما حصل مع بني إسرائيل، الجبل فوقهم، التزموا كتاب ربِّكم، لا حلَّ معهم إلا هذا، حتى تستقيم حياتهم، لأنَّ الله يُحب أن يرحمهم.

نحن أمة الإسلام أمة الإيمان بالغيب وأمة الوحي:
لكن نحن أيُّها الكرام، نحن أمة الإسلام، أمة الإيمان بالغيب، نحن أمة الوحي، نحن أمة النصوص الشرعية، تُحركنا النصوص فنستجيب ولا ننتظر لنرى العذاب بأعيننا، لا ننتظر العذاب حتى نراه، هذا ليس شأن العُقلاء، يكفينا أن يأتي الإنذار من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم لنُصدِّق به، وتكفينا البِشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لنعمل لها.
انظروا في نَص الحديث الذي بدأنا به خُطبتنا، النذيرُ العُريان، ماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ قال: (فأطاعَهُ طائِفَةٌ مِن قَوْمِهِ، فأدْلَجُوا) مباشرةً، النذير صادق تحركوا فوراً لم ينتظروا، مشوا في أول الليل، قال: (علَى مُهْلَتِهِمْ) أي الوقت معنا فنجوا، بينما البقية الذين كذَّبوا بقوا في مكانهم حتى وصل العذاب، فانتهت أيامهم وانتهت حياتهم واجتاحهم الجيش، فأيهما نُحب أن نكون؟
فيلسوفٌ هندي ألَّف كتاباً، عرَّبه ابن المُقفَّع وهو فيلسوفٌ عربي، واسم الكتاب "كليلة ودِمنة" كتابٌ معروف، في كليلة ودِمنة قصةٌ يرويها الفيلسوف الهندي، ما هذه القصة؟
قال: كان هناك غديرٌ، أي فرعٌ من نهرٍ، وفيه ثلاث سمكات، فمرَّ صيادان من أمام الغدير فرأوا السمك فقالوا: نأتي غداً فنصطاد السمك الذي في الغدير، قال: السمكات الثلاثة هناك واحدةٌ عاقلة، وهناك أعقل منها، وهناك عاجزةٌ مُغفَّلة، كل واحدة لها صفة، قال: فلمّا مشى الصيادان وتواعدا أن يأتيا غداً، قالت العاقلة فوراً: العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، يجب أن أبدأ من الآن العمل، لا أؤخِّر أبداً، قال: فما زالت تُحاول حتى قفزت إلى النهر ونَجَت، هذا العقل، هذا ما يقتضيه الفهم العميق، قال: وأمّا الثانية الأقل عقلاً المتوسطة قالت: لا أعدم رأياً أحتال به عندما يأتون، أنتظر حتى أراهم ربما لن يأتوا، قال: فلمّا جاءا في اليوم التالي تظاهرت بالموت فجعلت تطفو على سطح الماء، فأخذها الصيادان فوضعاها على اليابسة فقفزت إلى النهر فنَجَت، قال: وأمّا العاجزة المُغفَّلة فما زالت بين إقبالٍ وإدبار، حتى صيدَت.

العاقل هو الذي يعمل فور أن يسمع النِذارة:
هذه القصة البسيطة تُمثِّل حال الناس مع وحي الله تعالى، العاقل هو الذي يعمل فور أن يسمع النِذارة، كلنا نعلم أنَّ هناك ناراً إذاً يجب أن نتقيها، الأقل عقلاً يقول لك: لعلّي أتوب عندما أتزوج، الآن ما زال في مرحلة الشباب، ومَن أدراك أنك ستعيش حتى تتزوج؟ أو يقول: إن شاء الله بعد الحج أعود وألتزِم، ومَن أدراك أن لا تموت قبل الحج؟ مغامرةٌ نتائجها غير مضمونة، ولا يُغامر الإنسان بمستقبله، وبجنَّةٍ يدوم نعيمها أو نارٌ لا ينفَذ عذابها، وللأسف معظم الناس كالسمكة العاجزة الغافلة، ما يزال بين إقبالٍ وإدبار، سأتوب، سأتوب، سأتوب، حتى يُغرغِر أو تطلُع الشمس من مغربها، فيقول له الله كما قال لفرعون:

آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91)
(سورة يونس)

انتهى الوقت، المسألة خطيرة أيُّها الكرام، أن نُبادر قبل فوات الأوان.
يُروى في السيرة، أنَّ عُتبة بن ربيعة وكان سيداً في قومه، وهذه القصة في بداية الدعوة الإسلامية، قال: << يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمدٍ فأُكلمه؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام إليه وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يا ابن أخي: إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، نحلُّ مشكلتك بالمال، وإن كنت تريد شرفاً، سوَّدناك علينا وجعلناك سيد القوم، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به مُلكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه، أي مسٌّ من الجن، أي مريض، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع له، انظروا إلى فن الإنصات! رجُلٌ يأتي إليك اليوم ويقول لكَ: كأنك ممسوسٌ أنت مريض دعني أُعالجك، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد القوم يسمع له، قال: وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرِّئك منه وتُشفى، حتى إذا فرغ عُتبة ورسول الله يستمع إليه قال: أَقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع منّي، الحديث مُناوبة وليس مُناهبة، استمعت لك فاستمع منّي، قال: أفعل، انظروا الآن ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما قال له لا أُريد مُلكاً، لا أُريد مالاً، لست مريضاً حتى تُداويني، الكلام لا يُرَدُّ عليه لأنك لا تفقه مَن أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم:

حم(1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ(2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ(5)
(سورة فصلت)

حتى إذا بلغ قوله تعالى:

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ(13)
(سورة فصلت)

فأمسك عُتبة على فم النبي صلى الله عليه وسلم، وضع يده على فمه وقال: أنشُدك الله والرحمة إلّا سكتت>> لم أعُد أستطع، هذا المُشرِك، ومات مُشرِكاً للأسف، غلبته مصالحه وهوى نفسه وعدم إيمانه بالغيب، وقال: أنشُدك الله والرحمة إلّا أن تسكُت، وفي روايةٍ أنه صلى الله عليه وسلم قرأ حتى بلغ آية السجدة في سورة فُصِّلَت، ثم قام فسجد، ثم قال له: قد سمعت ما قلت لك فأنت وذاك، أي انتهى الكلام، أنذرَه بالقرآن، أنذرَه بالوحي.
لمّا رجع عُتبة إلى أصحابه، قال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبا الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، تغيَّر وجهه بآياتٍ من كتاب الله فيها البِشارة والإنذار، فلمّا جلس إليهم انظروا ماذا قال، قال: <<قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشِعر، ولا بالسِحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأٌ عظيم، فإن تُصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب ينتصر، فملكه مُلككم، وعِزّه عِزّكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سَحرك بلسانه يا أبا الوليد، قال: هذا رأيي فانظروا ما بدا لكم>> أي أنتم لم تسمعوا ما سمعت، ولم تروا ما رأيت، هكذا يفعل نور الوحي في القلوب.

ما الذي نريده من هذه الخُطبة النذيرُ العُريان؟
أيُّها الإخوة الكرام: ما الذي نريده من هذه الخُطبة النذيرُ العُريان؟ نريد شيئين:

الأول: يجب أن يكون حالنا عندما ندعو الناس كحال النذيرُ العُريان:
الأول: من كل داعيةٍ وكلكم دعاةٌ إلى الله، كلٌّ في موقعه، أن يكون حاله في حرصه على هداية الناس كحال النذيرُ العُريان، كحاله صلى الله عليه وسلم يريد أن يُنذِرهم، حالك في حرصك على أولادك أن ينجوا من النار، لا أقول كحالك وأنت تريد أن ينجحوا في امتحان الدنيا، فلا يُقارن هذا بذاك، ينبغي أن يكون حرصك على دينهم أقوى، توقظ الأم أولادها وتدفعهم دفعاً إلى المدرسة صباحاً في كل يوم، حتى لا يخسروا درساً من الدروس، لكن بعض الأُمهات لا يوقظونهم قبل نصف ساعة لصلاة الفجر، وقد أصبح الولد في عُمر إحدى عشر، واثنا عشر، وثلاثة عشر سنة، كُن في حالك مع الجميع كحال النذيرُ العُريان الذي يريد الهداية لقومه، كحاله صلى الله عليه وسلم:

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(128)
(سورة التوبة)

كحاله صلى الله عليه وسلم:

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا(6)
(سورة الكهف)

أي مهلكٌ نفسك، فلا تُذهِب نفسك عليهم حسرات، ربّه جلَّ جلاله لحُبه له يقول له: تمهَّل قليلاً.

لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(272)
(سورة البقرة)

يجب أن يكون حالنا عندما ندعو الناس كحال النذيرُ العُريان، كأنه يقول: الجيش هناك وصل، انجوا بأنفسكم، هذا الأمر الأول.

الثاني: أن يكون حالنا عندما نُدعى إلى الجنَّة ونُرهَّب من النار أن نستجيب قبل أن يأتي العذاب:
والثاني: أن يكون حالنا عندما نُدعى إلى الجنَّة ونُرهَّب من النار، أن نستجيب قبل أن يأتي العذاب ويراه الكافرون بأعينهم، فنحن أُمة الوحي التي تستجيب لكتاب ربّها ولسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تنتظر أن ترى الشيء بعينيها، فنحن نؤمن بالخبَر، نحن أُمة الخبَر.
أيُّها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين.
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبُنا عليك اتكالنا.
اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخّرنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أنت أعلم به منّا، أنت المُقدِّم وأنت المؤخِّر وأنت على كل شيءٍ قدير.
اللهم أهلنا في فلسطين، أهلنا في غزَّة، أهلنا في السودان، أهلنا في كل مكانٍ يُذكَر فيه اسمك يا الله، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم ثبّتهم واربط على قلوبهم، أطعِم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مُصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا سبيلاً لنُصرتهم يا أرحم الراحمين.
اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، هازِم الأحزاب، سريع الحساب، اهزِم الصهاينة المُعتدين ومَن والاهم ومَن أيَّدَهم ومن وقف معهم في سرٍّ أو علن.
اللهم عليك بالصهاينة المُعتدين فإنهم لا يعجزونك.
اللهم يا أرحم الراحمين قد أريتنا مكرهم بنا فأرِنا مكرك بهم وأنتَ خير الماكرين.
اللهم يا أكرم الأكرمين لا تجعل لهم على بلادنا سطوةً ولا سلطاناً، واصرِف عنّا أذاهم ومكرهم وكيدهم يا أرحم الراحمين، واجعل هذه البلاد وبلاد المسلمين أمناً سخاءً رخاءً، ووفِّق القائمين عليها للعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله، والحمد لله ربِّ العالمين.