• خطبة جمعة
  • 2025-11-14
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

سُنَن

يا ربّنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، يا ربّنا لك الحمد بجميع محامدك ما علمنا منها وما لم نعلم، على جميع آلائك ونعمائك ما علمنا منها وما لم نعلم، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ، أو سمعت أُذُنٌ بخبر.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، ومن تبعهم ومَن والاهم إلى يوم الدين.

مقدمة:
وبعد أيُّها الإخوة الكرام: ربما كنت موظفاً في شركةٍ ما، ومدير الشركة يتعامل مع الموظفين بشكلٍ مزاجي، دون قوانين، دون أُسُس، دون رؤيةٍ واضحة، فهذا أمرٌ متعب، لا تعرف ما الذي يزعجه وما الذي يُرضيه، لا تعرف متى يُكافئ ومتى يُعاقِب، ليس للشركة قوانين، وهذا أمرٌ مُتعبٌ لأي موظف.
قد يدخُل مُعلمٌ إلى صف، ولا يُحسِن إدارة صفِّه، فلا يضع نظاماً للمكافآت والعقوبات، ويحتار الطلاب معه، فلا يعلمون متى يغضب ومتى يرضى، وهذا أمرٌ مُتعبٌ للطلاب ولا يُنتِج تربيةً، التعامل دون أُسُس ودون قوانين أمرٌ مُتعب، نحن بحاجةٍ في أي مؤسَّسة حتى في مؤسَّسة البيت، إلى قوانينٍ تُنظِّم العمل، يعلم الأبناء أنَّ هناك شيئاً ممنوعاً وشيئاً مسموحاً، ومتى يُسمح بهذا ومتى يُمنع هذا، فيرتاح الجميع.
حتى في تعامل الزوج مع زوجته، يحتاج أن يقول لها ما الذي يُرضيه وما الذي يُغضبه، هذه قوانين بطريقةٍ أو بأُخرى تُسمّى قانوناً، أعظم المُديرين، وأفضل المُعلمين، وأفضل الأزواج، وأحسن الآباء، من يضع قواعد يسير عليها الجميع، ويضع نظاماً للمُكافآت وآخر للمُخالفات، يشمل الجميع دون تحيُّزٍ لفئةٍ أو إقصاءٍ لأُخرى، هذا ما يُسمّى بالعُرف الحديث سيادة القانون، القانون مُطبَّق وينطبق على الجميع.

جعل الله تعالى الحياة كلها والكون كله مبنياً على قوانين ثابتة:
خلق الله تعالى الكون والإنسان، وجعل الحياة كلها والكون كله، مبنياً على قوانين ثابتة، كما جعل النجاة في الآخرة، مبنيةً على قوانين ثابتة.

{ كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى }

(أخرجه البخاري)

قانون: (مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ) الحُب قوانين في كتاب الله:

بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(76)
(سورة آل عمران)

الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)
(سورة آل عمران)

وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(57)
(سورة آل عمران)

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(32)
(سورة آل عمران)


الله جلَّ جلاله يُعامل عباده وفق أُسُس:
قوانين، إن أردت محبة الله كُن مُحسناً يُحبّك الله وهكذا، هذه القوانين تُريح، ربُّنا جلَّ جلاله لا يتعامل مع عباده تعاملاً غير مبنيٍ على أُسُس، أو يُحابي أحداً حاشاه جلَّ جلاله، فليس بينه وبين أحدٍ من الخلق نسَب، يُعاملنا وفق أُسُس:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ(124)
(سورة طه)

قانون، من يُعرِض عن ذكر الله، ولو رأيته في قصره فمعيشته ضنك، وهي ضيق القلب والصدر.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)
(سورة النحل)

حياة الإيمان الطيِّبة.

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(3)
(سورة الطلاق)

هذا قانون الله تعالى، كل القرآن الكريم والسُنَّة النبوية فيها قوانين، لو بحث عنها الإنسان لوجدها، هذا ما يُسمّيه القرآن الكريم السُنَن، سُنَن الله تعالى في خلقه.
مثلاً: من سُنَنه أنه لا يُسوّي بين مسلمٍ ومجرم.

أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)
(سورة القلم)

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)
(سورة الجاثية)

المُربّي الفاشل، والأب غير الناجح، والمُعلِّم غير الموفَّق، هو من يُسوّي بين شخصين أحدهما مُحسنٌ والآخر مُسيء، ربُّنا يُعلِّمنا جلَّ جلاله لا تُسوِّ مُسلم بمُجرم، سواءً كنت حاكماً في قصرك إلى أبٍ في بيتك (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ(28)
(سورة ص)

لا يمكن أن يعامل الله هذا كهذا، كلٌّ له معاملةٌ عند الله.

اقرأ التاريخ تجد سُنَن الله ظاهرة فيه:
أيُّها الإخوة الكرام: هذه السُنَن ذكرها المولى في كتابه، قال تعالى:

قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(137)
(سورة آل عمران)

والله لو قرأ هذه الآية طاغيةٌ أو ظالمٌ قراءةً واعية، لما اتبع سُنَن من كان قبله، كل الطُغاة يسيرون على السُنَّة نفسها، ثم يبلغون أعلى منزلة، ثم يأخذهم الله وهُم في قمة علوِّهم، وانظُر إلى التاريخ من فرعون إلى يومنا هذا (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا) اقرأ التاريخ تجد سُنَن الله ظاهرة فيه، قال تعالى:

فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(85)
(سورة غافر)

القانون الثابت الذي مضى سيجري عليك لن يتغير، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهُم مَن هُم؟ قِمم البشر، أجرى الله عليهم قوانينه، في بدرٍ أجرى عليهم قانون النصر:

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249)
(سورة البقرة)

ثم في حُنين، قال كثيرٌ منهم: لن نُغلب من قلة، نحن كثُر اليوم لن نُغلب، قال تعالى:

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ(25)
(سورة التوبة)

الله تعالى حاشاه أن يُحابي أحداً، هؤلاء صحابة رسول الله، في أُحُد كان الخطأ من نوعٍ آخر، تركوا جبل الرُماة فهُزِموا، قانون (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ).

سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا(23)
(سورة الفتح)

اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا(43)
(سورة فاطر)


السُنَن عند الله والقوانين ثابتة لا تُغيَّر ولا تُبدَّل:
السُنَن عند الله والقوانين ثابتة لا تُغيَّر ولا تُبدَّل، من أجل صحابة رسول الله لم تُغيَّر، سُنَن ثابتة، من السُنَن ما يُسمّى السُنَن الكونية، الكون مبني على أساس القوانين والسُنَن الثابتة، قال تعالى:

وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ(37)
(سورة يس)

آية، سُنَّة ثابتة.

لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40)
(سورة يس)

هل أدركتْ الشمس القمر يوماً؟ مستحيل، هل سبق الليل النهار؟ كلٌّ في وقته، هل صحونا يوماً الساعة السادسة صباحاً، فوجدنا الليل ما زال مستمراً، وأصبحت الساعة الثانية عشر ظهراً، والليل ما زال مستمراً؟! أبداً سُنَّة، اليوم يمكن للعالم أن يُحدِّد موعد شروق الشمس يوم 29-08- 2040 في دمشق متى ستُشرق الشمس، لأنها سُنَّة، هكذا بنى الله الكون، سُنَن ثابتة، قال تعالى:

وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39)
(سورة يس)

سُنَّة.

وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38)
(سورة يس)

سُنَّة.

الله تعالى جعل اختلال القوانين علامةً على نهاية الحياة:
بل إنَّ الله تعالى جعل اختلال هذه القوانين علامةً على نهاية الحياة.

{ لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ مِن مغربِها، فإذا طلَعت ورآها النَّاسُ آمنَ مَن علَيها، فذاكَ حينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا }

(أخرجه البخاري ومسلم وأبو داوود)

كما قال صلى الله عليه وسلم، ما الذي حصل؟ انتهت الحياة.

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ(2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ(3)
(سورة التكوير)

اختلال الكون علامةٌ على قُرب أو حدوث يوم القيامة.

السُنَن في الكون تُبنى على أساس ارتباط السبب بالنتيجة:
أيُّها الإخوة الكرام: كيف تُبنى السُنَن في الكون؟ السُنَن في الكون تُبنى على أساس ارتباط السبب بالنتيجة، الأسباب تؤدّي إلى النتائج هذه هي السُنَن، الزواج النكاح يؤدّي إلى الأولاد في الغالب، الجراثيم والفيروسات في الأعم الأغلب تؤدّي إلى نقل الأمراض، العمل المبني على أُسُسٍ علميةٍ ثابتة في الأعم الأغلب يؤدّي إلى الرزق والمال، عندما يسعى الإنسان ويبذل جهده، ويدرُس السوق ويأتي بالبضاعة المناسبة ويبيع، في الأعم الأغلب يُحصِّل مالاً، هذه هي السُنَّة، أسباب تؤدّي إلى نتائج.

ما فرق المؤمن عن غير المؤمن في قضية السُنَن الكونية؟
لكن وهذه نقطةٌ مهمةٌ جداً هُنا أيُّها الكرام، ما فرق المؤمن عن غير المؤمن في قضية السُنَن الكونية؟ الناس والغرب عموماً والبعيدون عن الله في العموم، قد يتبادر إلى أذهانهم أنَّ السبب يخلق النتيجة، السبب دائماً هو الذي يؤدي إلى النتيجة، المؤمن يقول لا أبداً، السبب يؤدّي إلى النتيجة لكن بإذن الله، هذا المؤمن، يؤمن بالسُنَّة الكونية، ولكن يؤمن معها أنه لا يمكن للسبب أن يفعل فعله دون إذن الله تعالى.
لذلك الله تعالى في بعض الحالات النادرة، أوجد السبب ثم لم يوجِد النتيجة، النار لم تُحرِق إبراهيم، النار مُحرِقة لكنها لم تُحرِق إبراهيم! السكين تذبح، وجِدَت السكين لكن لم يُذبح إسماعيل! عطَّل الله الأسباب، حتى لا يتوهم إنسان أنَّ الأسباب تخلُق النتائج، الأسباب تؤدّي إلى النتائج بإذن الله فقط، سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وجِدَ من غير أبٍ، لا يوجد زواج وهناك ولد، إذاً الأسباب في عقيدة المؤمن لا يمكن أن تخلُق النتيجة، الخلَّاق هو الله، والفعَّال هو الله، لكنه جلَّ جلاله ربط السبب بالنتيجة وأمرك أن تأتي بالسبب.
للطُرفة: يروى أنَّ رجُلاً متعلقاً بأستار الكعبة، يدعو الله تعالى أن يرزقه الأولاد، رجُلٌ يعرفه يقف خلفه، ربتَ على كتفه يا فلان، قال: نعم، قال: أعلم أنك لم تتزوج؟ قال: نعم لم أتزوج، قال: كيف تسأل الله الولد وأنت لم تتزوج؟! الطُرفة مضحكة لكنها واقعٌ في حياة المؤمنين، عندما يطلب الطالب النجاح ولم يدرُس، وعندما نريد النصر ولم نتَّقِ الله ولم نُعِد العدة لأعدائنا، مشابهة تماماً، وإن كانت هذه طُرفة لكن حقيقة.

الله عزَّ وجل أمرنا أن نأخُذ بالأسباب لكن لا نعتقد أنَّ الأسباب هي التي تخلق النتائج:
فربُّنا عزَّ وجل أمرنا أن نأخُذ بالأسباب، نتعبَّد الله بذلك، نُطيع الله بذلك، نُثاب على ذلك من الله، لكن لا نعتقد للحظةٍ أنَّ الأسباب هي التي تخلق النتائج، الخلّاق هو الله، والفعَّال هو الله، يحصُل في واقعنا أن يتزوج رجُلٌ بامرأة، وهذه سألت عنها أطباءٌ مُتخصصين، يتزوج رجُلٌ بامرأة ثم لا يحصُل الإنجاب، سنة وسنتين وثلاث وعشر، ثم يُطلِّقها لسببٍ أو لآخر، فتتزوج من غيره وتُنجِب، ويتزوج من غيرها ويُنجِب، حالةٌ موجودة يعرفها الأطباء، ما الذي حصل؟ السبب موجود لكن النتيجة لم توجد، لأنَّ الله لم يأذَن هكذا يؤمن المؤمن، هذه عقيدتنا التي ندين الله بها.
لمّا ثبَّت الله الكون بنظام السببية أيُّها الكرام عمرنا الأرض، الطب أساسه القوانين، الهندسة أساسها القوانين، قانون بسيط المعادن تتمدَّد بالحرارة، سُنَّةٌ سنَّها الله تعالى في الكون، لو أنها مُتغيِّرة، في دمشق تتمدَّد بالحرارة، في عمَّان تتقلص بالحرارة، كيف نعمُر الأرض؟ دون أن نضع فواصل تمدُّد مثلاً أو نضعها، لمّا ثبَّت الله القوانين عَمرنا الأرض، الطب والهندسة والإعمار كلها مبينةٌ على أساس السُنَن على أساس القوانين.

الله جلَّ جلاله جعل لبعض الأمور أسباباً مادية وأُخرى شرعية:
لكن الله جلَّ جلاله وهذا بيت القصيد أيُّها الكرام، جعل لبعض الأمور أسباباً مادية وأُخرى شرعية، ومن خلالها يختبر الله عباده، ويُنبههم إلى تقصيرهم، ويرفع درجات من يصبر بصبره، ويُكفِّر سيئات مَن عصى بفضله، من ذلك المطر وغيث السماء، أماكن تغرق فيضانات، وأماكن قحطٌ جفاف، هل هناك سُنَّةٌ كونية؟ نعم، قال تعالى:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ(43)
(سورة النور)

سُنَّة، لكن هل هناك سُنَن شرعية مع هذه السُنَّة الكونية؟ يؤدِّبنا الله تعالى؟ يُنبِّهُنا إلى تقصيرنا؟ نعم قال تعالى:

وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا(16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا(17)
(سورة الجن)

قال تعالى:

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)
(سورة الأعراف)

قال تعالى على لسان نوحٍ:

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا(12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا(13)
(سورة نوح)

قال تعالى:

وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ(52)
(سورة هود)


السُنَن الكونية لا تتعارض مع السُنَن الشرعية:
هناك سُنَّةٌ كونية، سحاب، وتراكُم، وبَرَد، وأمطار، وريح، سُنَّةٌ كونية جعلها الله، لكن هناك سُنَّةٌ شرعية ولا تعارُض بينهما، لا تتعارض السُنَن الكونية مع السُنَن الشرعية، السُنَّة الشرعية يريد الله أن يؤدِّب عباده، لو شاء الله تعالى لأنزل المطر دائماً، كيف يؤدِّبنا؟ كيف يلفِت نظرنا؟ لأنه مُربّي جلَّ جلاله، الأب المُربّي ولله المَثَل الأعلى يؤدِّب أولاده، يحرِم أولاده من مصروفهم ليعودا إلى جادة الصواب، الله تعالى خالق المُربّين وهو ربُّ العالمين، كيف يُربّينا؟ يمنع عنّا بعض الرزق.

وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27)
(سورة الشورى)

يمنع بعض المطر، عودوا يا عبادي إلي، صِلوا أرحامكم، استغفروا ربَّكم، ردّوا المظالم إلى أهلها، من كان عليه مَظلَمة فليذهب إلى أخيه ويستحلل منه، يُعلِّمنا الله يؤدِّبنا، لأنه يريد أن يقبضنا وقد كفَّرَ سيئاتنا ورفع درجاتنا.

احمدوا الله تعالى أننا في العناية المُركَّزة أنَّ الله يؤدِّبنا قبل أن نلقاه:
والآن يخطر في بال بعضكم سؤال، يا شيخ وماذا عن بلاد الغرب؟ لماذا تنزل الأمطار في ديارهم؟ وهُم أكثر معاصٍ منّا وأكثر استحلالاً للحُرُمات، بل انتقلوا من الزِنا إلى الشذوذ، لماذا؟! أيضاً سُنَّةٌ من سُنَن الله تعالى، لكن مختلفة عن سُنَّتنا، احمدوا الله تعالى أننا في العناية المُركَّزة، أنَّ الله يؤدِّبنا قبل أن نلقاه، هؤلاء لهم سُنَّةٌ من سُنَن الله لكن غير سُنَّتنا، ما هي سُنَّتهم؟ قال صلى الله عليه وسلم:

{ إذا رأيتَ اللهَ تعالى يُعطي العبدَ من الدنيا ما يُحبُّ، و هو مقيمٌ على معاصِيه، فإنَّما ذلك منه استدراجٌ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾[الأنعام: 44] }

(الألباني صحيح الجامع)

ما قال باب قال أبواب، وما قال شيء قال كل شيء، هل نريد أن نكون مثلهم؟ سُنَّتنا كسُنّة الشاردين عن الله؟ لا نريد، نريد أن نبقى في المعالجة، قحط وجفاف واستغفار، وعودة إلى الله، ويا ربّ، وأن يسمع صوتنا، لأنه يُحب أن يسمع صوتنا، فنحن ضمن المعالجة، سُنَّتنا شيء وسُنَّتهم شيء، وإيّاك أن تشتهي سُنَّتهم لأنهم ميؤوسٌ من حالتهم، حالهم يشبه مريضاً دخل إلى الطبيب فقال له: ماذا آكل؟ قال له: افعل ما شئت، لأنَّ الطبيب شعر أنَّ هذا المريض قد دنا أجله، فلا ينفعه شيء ولا يضره شيء، أمّا حالنا إن شاء الله، ففيه أملٌ كبيرٌ بالشفاء والتعافي، فلذلك يؤدِّبنا الله تعالى أكثر، بأصناف الابتلاءات والامتحانات ومنها القحط والجفاف.

سَنَّن النبي صلى الله عليه وسلم عند القحط صلاة الاستسقاء:
أيُّها الإخوة الكرام: سَنَّن النبي صلى الله عليه وسلم عند القحط صلاة الاستسقاء، من أجل أن يسمع الله صوتنا، وأن نلجأ إليه، وأن نَعلَم أنه جلَّ جلاله:

وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ(28)
(سورة الشورى)

وهي سُنَّة الأنبياء.

وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(60)
(سورة البقرة)

قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما:

{ عن إسحاق بن عبد الله بن كنانة، قال: أرسلني أميرٌ من الأُمراءِ إلى ابنِ عباسٍ أسأَلُهُ عن الصلاةِ في الاستسقاءِ فقال ابنُ عباسٍ: ما منعَه أن يَسألَني؟ خرج النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ متواضعًا مُتَبَذِّلًا مُتَخَشِّعًا مُتَرَسِّلًا مُتَضَرِّعًا فصلَّى ركعتينِ كما يُصلِّي في العيدِ لم يَخطبْ خطبتَكم هذه }

(أخرجه النسائي وابن ماجه وأحمد)

ونحن إن شاء الله تعالى نُصلّي اليوم، في عموم مُصلَّيات ومساجد سورية صلاة الاستسقاء، عملاً بسُنّة الأنبياء، واستمطاراً لرحمة الله تعالى من السماء.
أيُّها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين.
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبُنا عليك اتكالنا.
اللهم اسقِنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تُعاملنا بفعل المُسيئين، وعاملنا بما أنت له أهل، أنت أهل التقوى وأهل المغفرة.
اللهم إنّا نسألك لبلادنا وبلاد المسلمين، أمناً سخاءً رخاءً يا أرحم الراحمين، ووفِّق القائمين على أمورنا لما فيه مرضاتك، وللعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، وفرِّج عن إخواننا في فلسطين، وفي السودان، وفي غزَّة، ما أصابهم، وما أهمَّهم، وما أغمَّهم، إنك وليُّ ذلك والقادر عليه، أقول ما تسمعون وأستغفر الله، والحمد لله ربِّ العالمين.