• خطبة جمعة
  • 2025-12-26
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

كيف نقرأ التاريخ - معركة اليرموك نموذجاً

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.

مقدمة:
وبعد أيُّها الإخوة الكرام: مما لا شكَّ فيه أنَّ قراءة التاريخ قراءةً واعيةً منضبطةً أمرٌ مهمٌ جداً، فالأُمة التي تقرأ تاريخها تُحسِن كتابة حاضرها وتُحسِن استشراف مستقبلها، تقرأ تاريخها فتكتُب حاضرها وتستطيع أن تستشرف مُستقبلها، بينما الأُمة التي يغيب تاريخها عنها، فهي أُمةٌ غائبةٌ في الحاضر ولا تمتلِك رؤيةً متكاملةً للمستقبل.

قراءة التاريخ على أنواعٍ ثلاثة:
أيُّها الإخوة الكرام: لكن قراءة التاريخ على أنواعٍ ثلاثة، فأيُّ القراءات التي ينبغي أن يُقرأ التاريخ وفقها؟

القراءة الأولى قراءة الحمقى والمُغفَّلين:
القراءة الأولى سمّيتُها قراءة الحمقى والمُغفَّلين، وهذه القراءة قراءة الحمقى، هدفها أن يستحضِر القارئ خلافات الماضي، ثم يبني عليها، ثم يتشاحن مع الآخرين بناءً عليها، وقد يصل الأمر إلى الاقتتال بسببها، هذه القراءة التي تستحضِر خلافات الماضي، وتسيل الدماء من أجلها، هذه قراءةٌ يُمليها الأعداء، أعداء الدين أو أدعياء الدين، وكلاهما خَطَر، أعداء الدين خَطَر وأدعياؤه الذين يدَّعون أنهم على دينٍ خَطَرٌ آخر، يُمليها الأعداء والأدعياء، ويقرأُها الحمقى والمغفَّلون، ثم تقوم الحروب من أجلها، وفي مثل هذه القراءة السيئة للتاريخ قال تعالى:

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(134)
(سورة البقرة)

دماءٌ سالت في بلادنا وغيرها، وما تزال تسيلُ من أجل قراءة الحمقى، الذين يقرأون التاريخ لاستحضار الخلافات ولتكبيرها، ولنسج رواياتٍ خياليةٍ حولها، ثم الاقتتال من أجلها، هذه قراءة الحمقى والمغفَّلين.

القراءة الثانية قراءة المُحبَطين:
أمّا القراءة الثانية فهي قراءة المُحبَطين، وهي هروبٌ من الواقع الأليم، الواقع سيء، المسلمون مُستضعفون، ديارهم مُستباحة، بعض أراضيهم مُحتلة، لأعدائهم عليهم ألفُ سبيلٍ وسبيل، فيُحبَط البعض مما يرى فيترنَّم بالماضي، فيقرأ التاريخ هروباً من الواقع، وهذه قراءة الإحباط أيضاً لا تليق بالمؤمن، هدفها دغدغة العواطف، دعني أروي لك شيئاً من الماضي المجيد، دعني أوضِّح لك ما كان عليه سلفنا في معاركهم وفي بطولاتهم، وهذه القراءة أحياناً تكتنفها بعض المُبالغات غير المُثبتة في الكتُب الصحيحة، هدفها دغدغة العواطف، وهذه قراءةٌ ينتُج عنها إحباطٌ أشدّ، بحيث ينتهي القارئ فيقول: أين نحن من هؤلاء؟ ماذا نفعل؟ أين كانوا وأين صرنا؟! فينزوي على نفسه ويترك العمل، ويكتفي بالترنُّم بالأمجاد الماضية، هذه قراءة المُحبَطين.

رواية التاريخ تتبَع دائماً طريقة من يرويها والحالة السياسية الراهنة:
بالمناسبة أيُّها الإخوة الكرام: قبل أن آتي على القراءة الثالثة، التاريخ عندما يُعرَض في كتبنا ومناهجنا، وحتى فيما يُعرَض غالباً في الدراما والمُسلسلات، فضلاً عن أنه مشوّهٌ مزورٌ في كثيرٍ منه، وفضلاً عن أنه يخدِم أجندات، بمعنى أنه يُروى بطريقةٍ تُناسب مَن يريد أن يرويه، فما يُكتَب من حلقاتٍ في بلاد الشام مثلاً عن العثمانيين في الفترة السابقة، خلال الأربعة عشر عاماً، يختلف عمّا كُتِب قبل عشرين عاماً، يوم كان هناك تقاربٌ مع جارنا الشمالي الصديق، كُتِب التاريخ بطريقةٍ مختلفة، فانتُقيَ أجمل ما فيه عن السلطنة العثمانية، ورويَ بطريقةٍ أقرب إلى الصحة من الطريقة الماضية، لمّا اقتتلت معهم الدولة في الفترة الماضية وليس الشعب، الشعوب مُتفاهمة، روَت التاريخ روايات مُزوَّرة، وشوَّهت السلطنة العثمانية وجعلتها سلطنة نساء وخمور وغير ذلك، وتشرَّب الجيل التاريخ خطأً.
فرواية التاريخ تتبَع دائماً طريقة من يرويها، والحالة السياسية الراهنة، فمَن أراد أن يقرأ التاريخ، فلا يستقيه من مُسلسلاتٍ موجهة، ولا من محطاتٍ آثمة، ولا من كُتبٍ من طرفٍ مُعيَّن كما في كتُب بعض الفُرس ممن يروون تاريخ بني أُمية، وإنما يقرؤه من مصادره الموثوقة، ومن علماء ثقات أقرب ما يكونون إلى التاريخ الحقيقي.

القراءة الثالثة قراءة المُعتبرين المُتَّعظين:
أيُّها الإخوة الكرام: القراءة الثالثة وهي القراءة التي نُريدها، هي قراءة المُعتبرين المُتَّعظين، نقرأ التاريخ لنستلهم منه الدروس والعِبَر، لا نقرأهُ لنختلف، ولا نقرأهُ لنترنَّم، وإنما نقرأهُ لنأخُذ منه الدروس والعِبَر، وفي مثل هذه القراءة الواعية قال تعالى:

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(111)
(سورة يوسف)

ثم انظروا إلى ختام الآية: (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ) الضابط ألّا يكون حديثاً يُفترى، عندما تقرأ تاريخ الأُمم من كتاب الله تعالى، فهو موثوقٌ مئة بالمئة (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ) عندما تقرأ قصة يوسف عليه السلام، من كتاب الله تعالى ومما صحَّ من سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذاً (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ) فيمكن أن تأخُذ العِبَر والدروس، لكن عندما تقرأ قصة يوسف عليه السلام من كتُب الإسرائيليات فقد يكون حديثاً يُفترى، وقد يُنال من أنبياء الله في الكتُب، وقد يُتحدَّث عن أشياءٍ عن أنبياء الله لا تقبلها اليوم على مسلمٍ في هذا العصر، يُتَّهم بها الأنبياء، فالضابط (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ)، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ) هذه هي النقطة الجوهرية في قراءة التاريخ.
أيُّها الإخوة الكرام: هذه القراءة قراءة المُعتبرين المُتَّعظين بالتاريخ، يقرؤها المؤمن، يقرؤها العاقل، فيعي التاريخ جيداً، يفهم الحاضر، يستشرِف المُستقبل بشكلٍ صحيح.

المنتصر في المعارك هو مَن يكتُب التاريخ:
بالمناسبة أيُّها الإخوة الكرام: وهذه أيضاً نقطةٌ مهمةٌ جداً في قراءة التاريخ وفي مناهجنا، أنَّ التاريخ دائماً وغالباً إن لم أقُل دائماً، يكتبه المنتصرون، المنتصر في المعارك هو مَن يكتُب التاريخ، وكان أملنا بالله وما زال، أنَّ الله لا يُسلِّط علينا أعداءه إلى ما لا نهاية، لكن لنستحضِر نعمة الله علينا، هَبّ أنَّ الحزب البائد والنظام الفاجر، قد انتصروا وعادوا إلى المجتمع الدولي، وعادوا إلى المناهج، وعادوا إلى كل شيء، كيف كانوا سيكتبون الأربعة عشر سنة التي خَلَت؟ بروايتهم، نحن شهدناها سنعلم مواطن الضعف والخَلَل عندنا، وسنعلم إجرامهم غير المُتناهي، لكن لو كتبوا التاريخ هُم، كان أحفادُنا سيقرؤون فعلاً أنَّ ثُلَّةً من الإرهابيين واجهوا دولتهم العتيدة، القائمة بأمر الله، الحاكمة بشرع الله، وقاموا ضدها، وأنَّ الله تعالى قدَّر هلاكهم والقضاء عليهم، وعادت سورية لمجدها التليد، سيقرأ أحفادنا التاريخ مُزوَّراً لأنَّ التاريخ يكتُبه المُنتصِر.
أمّا عندما يكون المُنتصِر صاحب مبدأ، فيكتُب التاريخ بحذافيره، لا يُقصي فئةً ولا يُظهِر بطولةً في غير موضعها، ولا يُبيِّن شيئاً لم يكن، ولا يُخفي شيئاً، يُظهِر كل الأشياء، يُظهِر الحقيقة كاملةً، عندها يُكتَب التاريخ صحيحاً.

التاريخ كلٌّ متكامل لا ينفصل:
أيُّها الإخوة الكرام: الأمر الآخر، اليوم في مدارسنا وفي مناهجنا، التاريخ للأسف وهذه نقطةٌ مهمة يجب أن تصل إلى أولي الأمر في كتابة التاريخ، التاريخ اليوم يُكتَب تاريخاً سياسياً فقط، فإذا فتحت لتقرأ عن الدولة الأُموية، لم تجد فيها إلا صراعاً على النفوذ، وما داخل القصر، وما الذي جرى بين الخليفة الفُلاني والفُلاني، وكذلك العبَّاسية وكذلك العُثمانية، تجد التاريخ مكتوباً بروحٍ سياسيةٍ بحتة، رغم أنَّ التاريخ هو الحضارة.
تاريخ الأمويين مثلاً هو المسجد الأموي، هو الدواوين، هو المشافي، هو التأمين الصحي الذي شمل الجميع، هو الجُرن الذي وضِع في المسجد الأموي، حتى كاد يوضَع به المال فلا يقبَل أن يأخذه أحد لأنه لم يبقَ فقير، هو الحضارة، هو القيَم التي عاشها الناس، هو التآلف المُجتمعي، هو الخلو من الجريمة، هو المساجد التي امتلأت بطلبة العِلم، هي المؤلَّفات التي انتشرت، هو العِلم الذي ذاع صيته وبلغ الآفاق، هُم طلاب العِلم الذين أصبحوا يأتون من أطراف الدنيا إلى دمشق، هذا هو التاريخ، فإذا فتحت الكتاب المدرسي تقرأ الخليفة الفُلاني، ثم جاء فُلان وتناوبا على الحُكم، وهذا قتل هذا، وهذا أراد من هذا، وهذا كان ينظُر كيف يأخُذ حُكم هذا، هذه الزوجة وتلك الجارية، تقرأ سياسةً لا تقرأ تاريخاً، التاريخ كلٌّ متكامل لا ينفصل.

معركة اليرموك أهم معركة في تاريخ المسلمين:
أيُّها الإخوة الكرام: نموذجٌ: نحن اليوم في الخامس أو السادس من رجب، في السنة الخامسة للهجرة، قبل أكثر من ألفٍ وأربعمئة سنة، وفي الخامس من رجب في مثل هذه الأيام، كانت معركة اليرموك على الحدود السورية الأردنية اليوم، في سهل حوران في حوض اليرموك، هذه المعركة انطلق فيها جيش المسلمين بقيادة سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه، إلى أرض الشام لقتال الروم، ومعركة اليرموك هي أهم معركةٍ في تاريخ المسلمين، بل تُصنَّف عالمياً بأنها من أهم المعارك في التاريخ كله، لأنها كانت أول معركةٍ يخرُج بها المسلمون خارج الجزيرة العربية، ويُكتَب لهم فيها نصرٌ مُبين.
كان جيش المسلمين بحدود أربعين ألفاً، بينما جمع المشركون وجمع الروم والبيزنطيون ومن معهم، ما يُقارِب ربع مليون شخص لحرب المسلمين، واجتمع الجيشان على ثرى هذه الأرض المُباركة، أرض الشام الطيِّبة، وقامت معركةٌ امتدَّت لستة أيامٍ، وانتهت بنصرٍ عظيمٍ مؤزَّرٍ للمسلمين نعيش اليوم ببركته، بعد تقاعُسٍ دام أكثر من ألف سنة نعيش اليوم ببركة هذا النصر.
فنحن في بلاد الشام نعيش ببركة نصر معركة اليرموك، ونُقيم الصلوات ونعتلي المنابر، ولكل ركعةٍ نُصلّيها، أو خُطبةٍ نُلقيها حسنةٌ في صحائف أبي بكرٍ وعُمر وخالد وأبي عُبيدة بن الجراح، وكل جنديٍ شارك في هذه المعركة، هذه المعركة أحداثها معروفة ومتشعبة، لكن لها دروساً وعِبراً حتى نقرأ التاريخ كما ينبغي أن يُقرأ، الدرس الأول في كل معارك المسلمين وفي معركة اليرموك: أنَّ النصر لا يكون إلا من عند الله، النصر مفهومٌ شرعي وهو بالتالي مرتبطٌ بالشريعة:

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(126)

لا يأتي النصر لا من شرق الأرض ولا من غربها، لا من دول التحالف ولا من عدم التحالف، لا من الأُمم المتحدة ولا من مجلس الأمن، النصر يأتي من الله، ورأينا كيف منَّ الله تعالى على بلادنا، بهذا النصر الذي أُزيحت به قوى الطُغيان والطائفية الحاقدة المقيتة، النصر من الله وحده.

شروط النصر:
أولاً: أن ننصُر الله تعالى:
شروطه: أولاً أن ننصر الله:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)
(سورة محمد)

الجزاء من جنس العمل، ننصُر الله بطاعته فينصرنا بقهر أعدائنا، وينصرنا بتمكيننا في بلدنا، وينصرنا ببناء بلدنا، كل واحدٍ منّا مطلوبٌ منه أن ينصُر الله، قبل أن تقول: ينصرني الله، قُل: هل نصرتُ الله؟ قبل أن تقول: هل يذكُرني الله؟ قل: هل أذكُر الله؟ نحن عباد، والعبد ينظُر فيما هو مطلوبٌ منه، ولا يسأل عن ما هو من شأن سيده، نحن مطلوبٌ منّا أن ننصُر الله، فإذا لقيناه وقد نصرناه فلا علينا بعد ذلك، "إذا أدَّيت ما عليك فلا عليك" النتائج من عند الله تعالى، ننصُره بطاعته.

ثانياً: أن نُعِدَّ العُدة:
الشرط الثاني للنصر أن نُعِدَّ العُدة:

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(60)
(سورة الأنفال)

أعدَّ أبو بكرٍ قبل وفاته، وعُمر رضي الله عنه بعد توليه الحُكُم لليرموك، وخالد بن الوليد، وأبو عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسن، وغيرهم كثير، أعدّوا العُدَّة المُتاحة، وجمعوا كل الجيوش وهذا شأننا أربعون ألفاً، فنصرهم الله لأنهم أعدّوا العُدَّة.

ثالثاً: أن نُمتِّن جبهتنا الداخلية:
الشرط الثالث المهم جداً: أن نُمتِّن جبهتنا الداخلية، قلت لكم سابقاً وأقولها الآن: المعركة لمَّا تنتهي، لا تضعوا أسلحتكم، ما زالت قوى الشرّ من شرقٍ وغرب، وعلى رأسها الصهاينة المعتدون يتربصون ببلادنا وببلاد المسلمين، ونحن كُلٌّ متكاملٌ لا يقبَل التجزئة، وأرضُنا مُغتصبة.
أن نُمتِّن جبهتنا الداخلية، التعليم الشرعي تمتينٌ للجبهة الداخلية، نصر الضُعفاء والفُقراء تمتينٌ للجبهة الداخلية، قال صلى الله عليه وسلم:

{ رَأَى سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عنْه أنَّ له فَضْلًا علَى مَن دُونَهُ، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلَّا بضُعَفَائِكُمْ؟! }

(صحيح البخاري)

هذا الضعيف إن دعمناه، وأطعمناه، وعالجناه، وكسيناه، سيُكافئُنا الله تعالى إن شاء بنصرٍ من عنده، فينصُرنا على مَن هو أقوى منّا ومن الضعيف.

لا ينبغي أن تتعلق القلوب إلا بالله تعالى وحده:
أيُّها الإخوة الكرام: الأمر الثاني لا ينبغي أن تتعلق القلوب إلا بالله تعالى وحده، نحن لا نتعلق بالأشخاص نتعلق بالله فقط، لذلك لمّا توفي سيدنا أبو بكر والجيش في أرض الشام بإمرة خالد بن الوليد، كان أول أمرٍ عسكري قام به عُمر رضي الله عنه، أنه عَزَل خالد بن الوليد من القيادة وأمَّرَ أبا عُبيدة بن الجراح، كانت الخطوة مفاجئةً جداً في العِلم العسكري، المعركة على الأبواب وسيدنا عُمر يُرسِل كتاباً إلى أبي عُبيدة، إذا جاءك كتابي فأبلِغ خالداً أنّي قد عزلته وتولى أنت قيادة الجيش، ويُبلغه بوفاة أبي بكرٍ رضي الله عنه في هذه الرسالة.
مفاجأة كبيرة جداً أن يُغيَّر القائد قبل أيامٍ من بدء المعركة، لماذا عزله؟ قُل إن شئت وهذا واضحٌ في كثيرٍ من النصوص، أنَّ قيادة سيدنا أبي بكر غير قيادة سيدنا عُمر، كل واحدٍ منهما له نظريةٌ في القيادة، وهذا تنوع غِنى، سيدنا أبو بكر يؤمن في القيادة بنظرية أنك تُكلِّف إنساناً بمهمةٍ وتترك له العمل والخيارات، هذا موجودٌ في الشركات اليوم، مدير يقول لك: أنا كلَّفت فُلاناً، وثقت به، أُعطيه صلاحيات واسعة، لاسيما مع بُعد الاتصالات، ليس هناك جوال ليتصل به ويقول له: ماذا أفعل؟ أنت قائد الجيش، وزِّع الغنائم، تصرَف كما شئت، هذه نظرية سيدنا أبو بكرٍ في القيادة.
أمّا نظرية سيدنا عُمر مختلفة ومعروفة في حُكمه، يعني إن شئت سمِّها المركزية، يُحب أن يكون القرار عنده، وهذا موجودٌ أيضاً في نظريات القيادة، فلا تفعل شيئاً حتى تُخبرني ولو كنت قائداً، تواصل معي، نظريتان، سيدنا خالد كان مع سيدنا أبي بكر كما يُحب أبو بكر، سيدنا عُمر أراد أن يُغيِّر القائد، لكن مما هو أكثر صحةً من غيره بكثير، أنَّ سيدنا عُمر في الأساس عزل خالداً انتصاراً للتوحيد، لأنَّ الناس صاروا يقولون: إنما نُنصَر بخالد، يقول ابن كثير: "ما خاض خالد بن الوليد معركةً في جاهليةٍ ولا في إسلامٍ إلا انتصر فيها"، فصار الناس يتعلقون بالأشخاص، فأراد عُمر أن لا يُفتَتنوا بخالدٍ في هذه اللحظة الحاسمة، لأنه يُدرِك أنَّ تعلُّق القلوب بالله هو الشرط الرئيسي للنصر، بل الشرط الرئيسي لدخول الجنَّة التي هي أهم نصرٍ، فقال له: "ما عزلتك لسخطةٍ ولا عزلتك لخيانة، ولكن الناس فُتِنوا بك، فأردت أن يعلموا أنَّ الله هو الصانع انتصاراً للتوحيد" هذا الأساس في العزل.
ما الذي حصل بعد ذلك؟ هل أخذ خالد بن الوليد جُزءاً من الجيش وقال سأعمل وحدي؟! هل قال كيف يعزلني وأنا خالد بن الوليد سيف الله المسلول؟ ولا كلمة، انضمَّ تحت إمرة أبو عبيدة فوراً، وقاتل واستبسل حتى حقَّق النصر مع أبي عُبيدة وغيره.
ضعني في الموضِع الذي تريد، أنا جاهزٌ لخدمة الإسلام، لا يهمني المناصب المنصِب تكليفٌ وليس تشريفاً، ضعني حيث شئت وسأكون كما يُحب الله ورسوله، هل هذه أخلاقنا اليوم؟ ضعني حيث تريد؟ أنا خادمٌ لدين الله تعالى، هكذا كان خالدٌ رضي الله عنه وأرضاه.

العِبرة أن نؤدّي ما نحن فيه في أي موقعٍ كنّا:
أيُّها الإخوة الكرام: من لا يقبَل أن يعمل إلا إذا أخذ منصِباً، أو وضِع في صدر المجلس، أو نظر إليه الناس نظرة احترامٍ وتقدير، هذا لا يعمل لوجه الله تعالى، هذا يعمل لنفسه، أمّا الذي يقبَل أن يعمل في أي موضعٍ فهو يعمل لله.
العِبرة أن نؤدّي ما نحن فيه في أي موقعٍ كنّا، قد يكون موظفٌ في شركةٍ، مُستخدمٌ يُنظِّف الشركة خيراً من مدير الشركة، إذا كان يؤدّي المهمة التي أوكِلت به، قد يكون خادم المسجد أعلى وأقدر وأفضل قدراً عند الله وعند الناس ممن يعتلي المِنبر ويُلقي الخُطبة، إذا كان مخلصاً في عمله، وكان الصاعد على المنبر نسأل الله العافية غير مخلصٍ في عمله، فالعِبرة في الإخلاص وليست في العمل أو مكان العمل.

{ أنَّ رَجُلًا أسْوَدَ أوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كانَ يَقُمُّ المَسْجِدَ فَمَاتَ، فَسَأَلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنْه، فَقالوا: مَاتَ، قالَ: أفلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي به دُلُّونِي علَى قَبْرِهِ - أوْ قالَ قَبْرِهَا - فأتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا }

(صحيح البخاري)

استثناءاً من الحُكُم العام، من أجل أن يُعلِم الناس جميعاً أنَّ هذه المرأة لها مكانتها مهما كانت المهمة التي تقوم بها.

الإنسان أينما وضِع يجب أن يعمل لله:
أيُّها الإخوة الكرام: اسمعوا لهذا الحديث وبه أختِم، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إنْ كانَ في الحِرَاسَةِ، كانَ في الحِرَاسَةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقَةِ، إنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ له، وإنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ }

(صحيح البخاري)

عبد المال تعيس همُّه المال تَعِس (تعس عبدُ الخميصةِ) عبد ثيابه، من أي ماركة (تعس عبدُ الخميصةِ) يعبد ثيابه (إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ،) تُعطيه فيرضى، تمنع عنه فيسخَط (تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ)، (شيكَ) أي أصابته شوكة (فلا انتقشَ) أي لا وجد مَن يزيل له الشوكة بالمِنقاش، أي بملقط الشوكة اليوم (وإذا شيكَ فلا انتقشَ) ليس له قيمة لأنه عبد شهوته.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم وهُنا موطن الشاهد: (طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ) في المعركة لا يجد ما يُمشِّط به شعره (أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إنْ كانَ في الحِرَاسَةِ، كانَ في الحِرَاسَةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقَةِ) السَّاقة مؤخِّرة الجيش، أي وضعوه في مؤخِّرة الجيش ليحمي الجيش، لا أحد يراه (إنْ كانَ في الحِرَاسَةِ، كانَ في الحِرَاسَةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقَةِ) لا يُبالي، ضعني حيث أردت المهم أني أعمل لله (إنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ له، وإنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ) إذا قيل فلان يريد أن يدخُل على الخليفة قال: لا تُدخِلوه، وإذا قال: جئت أشفع، لم يُشفَّع لأنه لا قيمة له كبيرة عند الناس ليُشفِّعوه، ينظرون إلى أصحاب الوجاهات، هذا الذي نريده، الرجُل الذي إن كان في الحراسة في الحراسة، وإن كان في السَّاقة كان في السَّاقة، وإن كان في القيادة في القيادة، جُندي جُندي، اليوم كثيرٌ من الدورات الحديثة عنوانها "صناعة القائد"، تمنّيت مرةً لو يُجرون دورةً بعنوان "صناعة الجُندي".
أيُّها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم اسقِنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تُهلكنا بالسنين، ولا تُعاملنا بفعل المُسيئين.
اللهم اسقِنا الغيث واجعلنا من الشاكرين الحامدين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصُر الإسلام وأعز المسلمين.
اللهم من أراد بالإسلام ودياره وأهله خيراً فوفِّقه لكل خير، ومَن أراد بهم غير ذلك فخذه أخذ عزيزٍ مُقتدر، واجعله عِبرة لمن يعتبر.
اللهم أهلنا في فلسطين، أهلنا في غزَّة، أهلنا في السودان، أهلنا في كل مكانٍ يُذكَر فيه اسمك يا الله، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم عليك بأعدائهم فإنهم لا يُعجزونك.
اللهم إنّا نسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، وفِّق القائمين على بلادنا لما فيه الخير وللعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، والحمد لله ربِّ العالمين.