• 2019-05-17
  • عمان
  • مسجد زياد العساف

لماذا نسعد في رمضان؟


الخطبة الأولى :

يا ربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض، ومِلء ما بينهما، ومِلء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكُلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذلُّ في عزك؟ وكيف نُضامُ في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك؟ وأشهدُ أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً و نذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً، عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).


الحكمة من السعادة في رمضان :
السعادة مرتبطة بالهدف الذي نسعى إليه
أيها الأخوة الكرام؛ سؤالٌ يَجولُ في خاطري منذ أسبوع، لماذا نسعد في رمضان؟ لماذا تجد الراحة في رمضان رغمَ ما نجدهُ من جوعٍ في النهار وسهرٍ في مرضاة الله في الليل؟ لماذا ترتاح نفوسنا في رمضان؟ لماذا نهنأ في رمضان؟
باختصار أيها الأحباب، سأضرب مثلاً يوضح جواباً عن هذا السؤال: طالبٌ في التوجيهي، وعنده امتحان مصيري يُحدد مستقبل حياته، وقبل الامتحان بيوم جاء أقرانهُ، وأخذوه معهم إلى مكان جميل، إلى نزهة، تنزه معهم طوال النهار مجاملةً لهم، لكنه طوال النهار يشعر بانقباضٍ في صدره، ويشعر بضيقٍ في قلبه، لأن هذا الذي يفعله طوال النهار يتناقض مع هدفه، لكن لو أنه جلسَ في غرفةٍ وحيداً في بيته، وفتح المقرر وقرأهُ، وأنجزهُ، وراجعهُ، وحل مسائله ومعضلاته، فإنه رغم تعب جسمه سيكون في أسعد حال، لأنه مشغول بالهدف الذي يريد أن يصل إليه، فالإنسان لا يسعدُ إلا عندما يُشغل بالهدف الذي هو في صدده، لماذا نحن نسعد في رمضان؟ لأننا مشغولونَ بما خُلقنا من أجلهِ، أما خارج رمضان فنحن مشغولون بالرزق، ونحن لم نخلق للرزق، فالله تكفل برزقنا، خارج رمضان نحن مشغولون بالأهل والولد، ونحن لم نخلق للشغل بالأهل والولد:

لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ
[سورة المنافقون: 9]

خارج رمضان نحن مشغولون بأشياء لا تقدم ولا تؤخر، أما في رمضان فقد توجهنا إلى ما خُلقنا من أجله وهي العبادة، فلذلك نحن سعداء، لأننا نعمل لما خُلقنا من أجله، فلو فعلنا ذلك في كل أشهر العام لأصبحت حياتنا كلها سعادةً، فالإنسان لا يسعد إلا إذا عبد الله، وكل ما تراه أعينكم من أناسٍ يتظاهرون بالسعادة فهذه ليست سعادة، إنها لذّةٌ طارئة تنتهي بانقضاء مسبباتها، فالمال مسببٌ للذة لكنه بعد حين يصبح المال عبئاً على صاحبه، والزوجة كذلك، وكل الشهوات كذلك، إلا إذا ارتبطت بالله فتصبح سعادة مستمرة، إذاً أيها الكرام؛ نحن سعداء في رمضان لأننا مشغولون بما خلقنا من أجلهِ.

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[ سورة الذاريات: 56]

حالنا كحال هذا الطالب الذي ترك الدراسة فأراح جسده لكنه أتعب نفسه، لكن لو أنه أتعب جسده بالدراسة لأراحَ نفسه، فعندما نقوم لله الليل، ونصوم له النهار ابتغاء وجهه نجد هذه السعادة التي ربما نفقد شيئاً كثيراً منها في باقي أشهر العام.

إسعاد الآخرين من مصادر السعادة في رمضان :
الصدقة تدخل السعادة إلى قلوب الفقراء
أيها الكرام؛ ومما ينبغي لفت النظر إليه أيضا أننا نسعد في رمضان لأن كثيراً منا ولله الحمد، وكل إنسان قادر على ذلك، يدخل السعادة إلى الآخرين، فالسعادة تعني أن تسعد الآخرين، قيل: من أسعدُ الناس؟ قال: من أسعدَ الناس، وإذا أردت أن تسعَد فأسعِد الآخرين، فما أعظم السعادة التي تدخل على قلب المؤمن حينما يدفع زكاة ماله في رمضان، أو حينما يدفع صدقته في رمضان وخارج رمضان، ما أعظم السعادة التي تملأ جوارحه عندما يرى أثر الصدقة في نفوس الفقراء وهم يلهجون له بالدعاء أن يحفظه الله، ويحفظ له أهله، وأن يدخله الجنة، هذا مصدرٌ أيضاً من مصادر السعادة أن تُسعِدَ الآخرين.

رمضان شهر العطاء :
أيها الكرام؛ رمضان شهر العطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في الصحيح:

{ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أجودَ الناسِ بالخيرِ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ }

[ صحيح عن ابن عباس]

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة يُدَارِسُهُ القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، كيف أن الريح المرسلة تجود علينا رسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة، وأجود ما يكون في رمضان، يقول أنس رضي الله عنه:

{ ما سُئِلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ علَى الإسْلَامِ شيئًا إلَّا أَعْطَاهُ، قالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فأعْطَاهُ غَنَمًا بيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إلى قَوْمِهِ، فَقالَ: يا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فإنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لا يَخْشَى الفَاقَةَ }

[صحيح مسلم]

يقول أنس رضي الله عنه: ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه.
ما قال لا قطُّ إلاّ في تَشَهُّدِهِ لَوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاؤهُ نَعَمُ ***
{ الفرزدق }
ما سُئل شيئاً إلا أعطاه، يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.

{ أنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ غَنَمًا بيْنَ جَبَلَيْنِ، فأعْطَاهُ إيَّاهُ، فأتَى قَوْمَهُ فَقالَ: أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَوَاللَّهِ إنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً ما يَخَافُ الفَقْرَ فَقالَ أَنَسٌ: إنْ كانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ ما يُرِيدُ إلَّا الدُّنْيَا، فَما يُسْلِمُ حتَّى يَكونَ الإسْلَامُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَما عَلَيْهَا }

[صحيح مسلم]

العطاء الحقيقي هو عطاء من لا يخشى الفقر
يقول أنس: جاءه رجلٌ فأعطاه غنماً بينَ جبلين، قال: لمن هذا الوادي؟ قال: هو لك، قال: تَهزأ بي! قال: لا والله هو لك، قال: أشهدُ أنك رسولُ الله، ورَجعَ إلى قومهِ وقال: يا قومِ أسلِموا، فإن محمداً يُعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.
ما الذي دفعه إلى الإسلام؟ هل تتصورون أنه المال الذي أخذه؟! ليس المال فحسب، ليست القصة في المال، لكنه وجد الكمال البشري متمثلاً في محمد صلى الله عليه وسلم، فلما عَلِمَ أنه يتنازل عن الدنيا كلها في مقابل دين الله فعلم أنه رسول الله حقاً، فإنه يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، فَالذي يخشى الفقر لا يُعطي، لكن رسول الله لا يخشى الفقر صلى الله عليه وسلم.

أعظم العطاء ابتسامة صادقة وكلمة حانية :
أيها الكرام؛ يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إِنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها من باطِنِها، وباطِنُها من ظَاهِرِها. فقال أبو موسى الأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه: لِمَنْ هيَ يا رسولَ اللهِ ؟ قال : لِمَنْ أَلانَ الكَلامَ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وباتَ لله قائِمًا والناسُ نِيامٌ }

[رواه أحمد وحسنه الألباني]

إن في الجنة غُرَفاً يُرى ظاهِرُها من باطِنها، وباطِنها من ظاهِرها، قالوا: لِمن هِيَ يا رسول الله؟ قالَ: لِمن ألانَ الكلام، وأطعمَ الطعام، وبدأ بلينِ الكلام، لأنه:

{ إنَّكم لن تسَعوا النَّاسَ بأموالِكم ولكن يسَعُهم منكم بسْطُ الوجهِ وحُسنُ الخُلقِ }

[صحيح الترغيب والترهيب]

العطاءُ ليس مالاً فحسب
فما أعظم العطاء عندما يكون هناك ابتسامة صادقة، وما أعظم العطاء عندما يكون هناك كلمة حانية، وما أعظم العطاء عندما يكون هناك كفّ تربت بها على كتف، أو على رأس يتيم، فالعطاءُ ليس مالاً فحسب أيها الأحباب، العطاء قبل أن يكون مالاً هو عطاء الروح للروح، وهو عطاء القلب للقلب، وهو عطاء السعادة، وعطاء الابتسامة، فبدأ بالكلام قال: (لمن ألانَ الكلام، وأطعمَ الطعام، وأدامَ الصيام، وصلى بالليل والناس نيام) وهذهِ تتحقق كُلها في رمضان، إطعام الطعام، وإلانة الكلام، وإدامة الصيام، والصلاة بالليل والناس نيام، هذهِ ثوابهَا جنةٌ عرضُها السماوات والأرض.

كيفية الوصول إلى الله عز و جل :
كيف تصل إلى الله؟
أيها الكرام؛ نحن جميعاً نحب أن نصل إلى الله، وكيف للمخلوق الضعيف الفاني أن يصل إلى الإله القوي العزيز المتعالِ؟ قالَ بعضُ السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصيام يوصلهُ إلى باب المَلكِ، لكن كيف يدخل على المَلك؟ قال: والصدقة تأخذه من يدهِ إلى أن تدخله على المَلكِ جلّ جلاله، فإذا أردت أن تصل إلى الله فصلاةً وصياماً وصدقةً.

{ يا عائِشةَ اسْتَتِرِي من النَّارِ ولو بِشِقِّ تمرَةٍ، فإنها تَسُدُّ من الجائِعِ مَسَدَّها من الشبعانِ }

[حسنه الألباني]

شق تمرة: نصف تمرة صدقة.

{ صنائع المعروف تقي مصارع السوء }

[صححه الألباني]

ألا يحب الإنسان خاتمة حسنة هي في صنائع المعروف.

{ صدقةُ السرِّ تطفئُ غضبَ الربِّ }

[حسن لغيره]

قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم:

{ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ }

[رواه البخاري ومسلم]

لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ: خطاب مباشر، أَشْأَمَ مِنْهُ: على شماله.

أوامر الله علينا أن نتلقاها بشعور التلقي للتنفيذ وليس للتبرك أو التعبد فقط :
إذاً الصدقة هي اِتِّقاءٌ من النار، ولو من تصدق بشيء يَسير، يقولُ تعالى :

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
[سورة آل عمران: 92]

هذه الآية لها قصةٌ مع صحابيٍ من صحابة رسول الله، اسمهُ أبو طلحة:

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه: كانَ أبو طَلْحَةَ أكْثَرَ الأنْصَارِ بالمَدِينَةِ مَالًا مِن نَخْلٍ، وكانَ أحَبُّ أمْوَالِهِ إلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدْخُلُهَا ويَشْرَبُ مِن مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هذِه الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا ممَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أبو طَلْحَةَ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى يقولُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا ممَّا تُحِبُّونَ} وإنَّ أحَبَّ أمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وإنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أرْجُو برَّهَا وذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يا رَسولَ اللَّهِ حَيْثُ أرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بَخٍ، ذلكَ مَالٌ رَابِحٌ، بَخٍ ذلكَ مَالٌ رَابِحٌ، وقدْ سَمِعْتُ ما قُلْتَ، وإنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَهَا في الأقْرَبِينَ فَقَالَ أبو طَلْحَةَ: أفْعَلُ يا رَسولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أبو طَلْحَةَ في أقَارِبِهِ وبَنِي عَمِّهِ }

[أخرجه البخاري ومسلم]

الشعور الأساسي اثناء قراءة القرآن
عن أنس رضي الله عنه: كان أبو طلحةَ أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، أموالهُ عبارة عن مزارع نخيل وهو أكثر الصحابةِ غنى من هذا النوع، وكان أحب أمواله إليهِ بيرُحاء، أي مزرعة تدعى بيرُحاء، وكانت مستقبلةَ المسجد، أي مكانها استراتيجي بالعرف الحالي، مكان جيد جداً مقابل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيب- فيها ماءٌ طيب- قال أنس : فلما أُنزلت هذه الآية: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قال أبو طلحةَ: يا رسول الله إن الله يقول: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} الآن انظروا إلى أبي طلحةَ كيف يتلقى القرآن، نحن في شهر القرآن، ونقرأ القرآن، لكن السؤال المُلح كيف نتلقى القرآن؟ هل نتلقاه بشعور التبرك والقرآن كلهُ بركة ونتبرك به لكن هل نقرؤه بشعور التبرك؟ هل نقرؤه بشعور التعبد؟ وينبغي أن نقرأه بشعور التعبد، لكن ما الشعور الأساسي الذي ينبغي أن نقرأ القرآن به؟ إنه شعور التَّلقي للتنفيذ الفوري، أسمعُ الآية لأنَفِّذَ مضمونها، كما تنتظرُ أمراً من مَلِكٍ من ملوكِ الأرض، فما إن يهمس به حتى تبادر إلى تنفيذه إرضاءً لِمَلكِ الأرض، فأنت حينما تسمع من ملك الأرض والسماء جلَّ جلاله أمراً في القرآن فينبغي أن تتلقاه بشعور التلقي للتنفيذ، وليس لمجرد التبرك أو للتعبد، بل أتلقى الأمر لأنفذهُ فوراً كما أراد الله، انظروا إلى أبي طلحةَ، قال أبو طلحةَ:
الأقربون أولَى بالمعروف
يا رسول الله إن الله تعالى يقول: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإنّ أحب أموالي إلي بيرحاء، هذا أحبُّ شيءٍ لي من أموالي، وإنها صدقةٌ لله، أرجو برها وأجرها عند الله فضعها يا رسول الله حيثُ أراد الله، قد تصدقت بها، خرجتُ بها، فقال صلى الله عليه وسلم : بخٍ بخٍ، وهذه كلمةٌ تُقال للتقليل وللتعظيم أحياناً هي مُشتركة، لكن هنا بخٍ بخٍ، قال: ذلك مالٌ رابح، أي ما أعظم ما فعلت، ذلك مالٌ رابح وقد سمعتُ ما قُلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، وهذا أيها الأخوة ملمحٌ لطيفٌ ومهمٌ جداً، أن الإنسان حينما يدفعُ صدقتهُ ينبغي أولاً أن يتفقد أقرباءه، فربما تُرَدُّ الصدقة على الإنسان إن دفع للغريب وفي أهله من هم من المحتاجين، انتبهوا أيها الأحباب، الأقربون أولَى بالمعروف، فتبدأ بمن يليكَ ثم بمن يليه، العَمَّات، والخالات، وأبناء العمومة، وأبناء العمات، تبدأ بالأقربينَ وتتفقدهم ثم تنتقل إلى الأبعدين، إن لم يكن في الأقربين محاويج، أو إن فضل شيءٌ من صدقة، لكن الأقربين أولى، وهذا هنا حكمٌ شرعي أيها الأحباب، الصدقات الأمر فيها واسع، تصدّق كيفما شئت، أما الزكاة فكل من تلزمك نفقتهُ لا تعطه من زكاتك، أي لا ينبغي لإنسان أن يقول: أعطيت زكاتي لزوجتي، زوجتك أنت مُلزمٌ بها، ولا لأولادي، فأولادك أنت مُلزمٌ بهم، ولا لوالدي ووالدتي فهؤلاء يُعْطَوْنَ من حر مالك، وهذا واجبٌ عليك، ولا لعمتي التي عندي في البيت أنفقُ عليها، التي في البيت! أما الأقربون الذين لا يلزمني نفقتهم خارج بيتي فهؤلاء أولى بزكاة مالي، وليس بصدقتي فقط، من الأبعدين.
أيها الأخوة الكرام؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال: أفعلُ، قال: فقسمها في أقاربه وبني عمه.

مالُك هو المال الذي تنفقه في حياتك فقط :
أيها الأخوة الكرام؛ آخر حديث، رائعٌ جداً، النبي صلى الله عليه وسلم يَسألُ أصحابهُ قال:

{ أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإنّ مالَه ما قَدم، ومالَ وارثه ما أخَّر }

[رواه البخاري]

المال الحقيقي هو المال الذي ننفقه
أيُّكم مالُ وارِثهِ أحبُ إليه من مالهِ؟، سؤالٌ غريب! أيُّكم مالُ وارثهِ أحبُ إليه من مالهِ؟ من منا يحبُ أموالَ وَرَثَتِهِ أكثر من أموالهِ، فقال الصحابة: يا رسول الله ما منا أحدٌ إلا مالهُ أحبُ إليهِ من مال وارِثه، كُلنا نحبُ مالنا، الإنسان يحبُ المالَ، قال: فإن مالهُ ما قّدم، ومالُ وارثهِ ما أخّر، أي المال الذي تنفقه في حياتك هو مالُك، لأن أجرهُ سيعود عليك عظيماً في الدنيا والآخرة، أما المال الذي تحبِسهُ في الصناديق فهذا مال الورثة، ليس لك فيه شيء، هم إما أن يتصدقوا به فيأخُذوا الأجرَ هُم، أو أن يحبسوه فيأخُذوا الوِزْرَ هُم، أما مالُك أنت فهو الذي تصدقت فأبقيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، والأكل يذهب، واللباس يفنى، ويبقى ما تصدقت به.
أيها الأخوة الكرام؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، و وزِنوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلَموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيَتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، أستغفر الله.

الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

مصارف الزكاة :
أيها الأخوة الكرام؛ وجّهت وزارة الأوقاف مشكورةً إلى مصرفين من مصارف الزكاة، الأول هو صندوق الزكاة التابع لوزارة الأوقاف، والثاني هو وصية خير الأردن، وهذان المصدران تزكّيهما وزارة الأوقاف لكم، وتبين أنهما ممن يجمع الأموال ويضعها في مُستحقيها في العائلات الفقيرة، هذا أمر.
الأمر الآخر عندنا في المسجد لجنة تجمع التبرعات لتعليم القرآن، وهذا أيضاً مصرفٌ من مصارف الصدقات، وهو مصرفٌ عظيم وهو لنشر العلم، وتعليم القرآن الكريم:

{ كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقتِه حتى يُفصَلَ بين الناسِ يوم القيامة }

[أخرجه أحمد]


الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذلُّ من واليت، ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أنعمت وأوليت، نستغفرك ونتوب إليك، نؤمن بك، ونتوكل عليك، هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، يا واصل المنقطعين صلنا برحمتك إليك، وارزُقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا، عليك اتكالنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، ووفق ولاة المسلمين لما فيه خيرٌ لهم في دينهم ودنياهم وآخِرتهم يا أكرم الأكرمين، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولِمشايخنا ولمن علمنا ولمن له حق علينا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا، ربنا ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم أحسن لهم كما أحسنوا إلينا، اللهم كن لهم عوناً ومعيناً وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً، اللهم اشف مرضاهم شفاءً لا يغادر سقماً، اللهم امنن عليهم بالعافية، وامسح عليهم بيمينك الشافية، وأنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، إنك وليُّ ذلك، والقادر عليه، اللهم بفضلك ورحمتك انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى، وفي القدس الشريف على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم فرج عن إخواننا في الشام، اللهم فرج عن إخواننا في إدلب يا أرحم الراحمين، اللهم ارحم شهداءهم، واشف جرحاهم، وعاف مبتلاهم، وانصرهم على أعدائهم يا أرحم الراحمين، وفِّق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، وأقم الصلاة، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.