أذنٌ واعية

  • خطبة جمعة
  • 2025-07-25
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

أذنٌ واعية

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.

الخُطب نوعان رئيسيان خُطبٌ في الوعظ وخُطبٌ في الوعي:
وبعد فيا أيُّها الإخوة الأكارم: الخُطب نوعان رئيسيان، خُطبٌ في الوعظ وهذه كثيرة، وخُطبٌ في الوعي وهذه للأسف نادرة، وخُطب الوعظ مُهمةٌ ومطلوبة، تُحرِّك القلوب وتحضُّ على العمل الصالح وعلى الاستقامة على منهج الله تعالى، لكنها لا تكفي وحدها، فكم من سُلوكاتٍ أراد أصحابها بها خيراً، لكن بسبب ضعف الوعي والإدراك، أدَّت تلك السُلوكات إلى شرٍ مُستطير.
وأمّا خُطب الوعي، فهي قراءةٌ للتاريخ، وفهمٌ للواقع، واستشرافٌ للمستقبل، فهي تدفع إلى العمل في مُحصّلة الأمر، لكنه العمل الناشئ عن الوعي، وعندها يكون العمل أعمق أثراً، وأطوَل أمداً، وأعظم تأثيراً وفاعليةً و تغييراً.

خُطب الوعي ثقيلةٌ على النفس والفكر إلا أنه علاجٌ لا بُدَّ منه:
أيُّها الإخوة الكرام: لكن خُطب الوعي ثقيلةٌ على النفس والفكر، إلا أنه علاجٌ لا بُدَّ منه لا سيما في ظروفنا الراهنة، والعلاج كثيراً ما يكون مُرَّاً.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد مررنا في الأيام الماضية بظروفٍ صعبةٍ في بلدنا، ولقد ظهر على وسائل التواصل والإعلام، من الأخطاء الكارثية وحتى ممن يُسمَّون النُخَب، ولا أُحب هذه التسمية ولكن لتعلموا مَن أقصِد، وحتى ممن يُسمَّون النُخَب الدينية والسياسية والاقتصادية، ما لا حصرَ له من المُشكلات، وهذا يدل على ضعفٍ في الوعي العام، وهُنا لا أقول إنَّ كل امرئٍ يجب أن يكون واعياً مُلمّاً بالأحداث من حوله، سياسةً وديناً واقتصاداً، ولكن هناك خياراً اسمه الصمت، أن يصمُت الإنسان، إن تكلَّم تكلَّم بإدراكٍ ووعي أو فليصمُت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

خياران، أنت في بحبوحة وأنا في بحبوحة، إمّا أن أتكلم خيراً، وهناك خيارٌ اسمه الصمت، وفي الحديث الشريف:

{ مَنْ صَمَتَ نَجَا }

(أخرجه الترمذي وأحمد)

نَجَا من المسؤولية بين يدي الله تعالى، نَجَا من تعلُّق حقٍّ برقبته، نَجَا من اتهام بريءٍ بتُهمةٍ باطلة، نَجَا من دمٍ ربما اشتركَ به وهو لا يدري، نَجَا من فتنةٍ عظيمة تعلَّقت برقبته، قال تعالى:

إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ(11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ(12)
(سورة الحاقة)


الأُذُن الواعية تسمَع وتعقِل ثم تتكلم:
الأُذُن الواعية أيُّها الكرام، تسمَع وتعقِل ثم تتكلم، أو تكتُب منشوراً على وسائل التواصل، تسمَع تعقِل تنشُر، هذه هي التراتُبية، أمّا تسمَع وتنشُر مباشرةً، هذه ليست أُذُناً واعية، كل إنسانٍ يسمَع ويتكلَّم لا يملِك أُذُناً واعية، يملِك أُذُناً سامعة لكنها ليست أُذُناً واعية.
أيُّها الإخوة الكرام: الأُذُن الواعية لا تكتفي بالسماع، بل تُضيف إليه العقل، أي فهم المعلومة وربطها بمُحيطها، أمّا سماع المعلومة ثم نقلها، قبل التحقُّق منها ووعيها وفهم المُراد من نشرها، فقد يكون فيه إثمٌ كبير، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ كَفَى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بِكُلِّ ما سمِعَ }

(أخرجه مسلم وأبو داوود وابن حبان)

ما عنده أُذُنٌ واعية، يسمَع فيُحدِّث بما سمِع، قالوا لي، منقول، العُهد على الناشر أنا لا علاقة لي، ويظن أنه يُخلّي مسؤوليته، أنا كتبت بعد المنشور منقول وانتهى الأمر، منقول عن مَن؟ ومَن الناقل؟ وهل هو ثبت وهل هو ثقة؟!
أيُّها الإخوة الكرام: قد ذمَّ المولى جلَّ جلاله من لا يتحقَّقون من الخبَر، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(6)
(سورة الحجرات)


من أعظم ما يُعقَل به الخبر أن يُردَّ إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله وإلى العلماء القادرين على الاستنباط:
التبيُّن والتثبُّت، وذمَّ جلَّ جلاله من يُذيعون الخبَر دون عقله وفهمه، ومن أعظم ما يُعقَل به الخبر، أن يُردَّ إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى العلماء القادرين على الاستنباط، قال تعالى:

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا(83)
(سورة النساء)

إذاعة مباشرةً، أذاعَ بالأمر، ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)
ما الذي أورد أهل النار النار؟ أو قُل ما عذرهم الذي تعذَّروا به، أو قُل ما خطأُهم الاستراتيجي بالعبارة الحديثة.

وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10)
(سورة الملك)

إمّا أنهم عطَّلوا السمَع لا يريد أن يسمع، أو أنه سمِع لكنه لم يعقِل، فقط سمِع أُذُنه ليست واعية، فاستحقَّ النار، وفي الحالتين كأنه لم يسمَع، النتائج متشابهة، لو كنت أمام إنسانٍ ووجدت على كتفه عقرب، فقلت له: يا فلان على كتفك عقرب، لم يسمَع سمعه ضعيف فما تحرَّك، مشكلة.
الحالة الثانية: يا فلان على كتفك عقرب، سمِع والتفَتَ إليك قال لك: شكراً على هذه الملاحظة الجيدة، أنا أشكُر لكَ معروفك معي، هل سمِع ما قلته؟ لا والله! لو سمِع لاستجاب ولانتفضَ فوراً، وألقى اللباس من على كتفه، ونَجَا من العقرب ومن لدغته، لكنه لم يسمَع، قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) وقال تعالى:

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(21)
(سورة الأنفال)

لم يستجيبوا، يسمعون فقط دون استجابة.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد ساءنا جميعاً ما حصل، وأصدقكم القول، إنَّ من أعظم ما ساءني شخصياً في الحدَث، أنني كنت إذا تابعت ما يقوله الناس، لا سيما الطبقة المُثقَّفة، هالني انجرارهم نحو الكلام لمُجرد الكلام، والمسارعة إلى نقل الأخبار على صفحاتهم، والمسارعة إلى تلبية طلبات الجمهور، فبدلاً من أن يقودوا الناس بصوت الحكمة والتعقُّل، أصبحت الناس تقودهم إلى العواطف وإلى ردَّات الفعل المُخزية، قال تعالى:

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15)
(سورة النور)


الحكومات المُستبدة تقوم على إيديولوجيا كاذبة:
أيُّها الإخوة الكرام: ما يجري في بلدنا اليوم، لا يُقرأ منفصلاً عن سياقه العام، والوعي فيه مطلوب، معظم الحكومات لا سيما المُستبدة منها، تقوم على إيديولوجيا أو فكرٍ مُعيَّن، وتدَّعي أنها تضَّحي من أجل هذا الفكر وتقاتل من أجله، ليكون ذلك مُبرراً لاستمرار وجودها.
النظام البائد منذ ستين عاماً، كان يقوم على إيديولوجيا حزب البعث، ويرفع شعاراته ويدافع عن مبادئه بزعمه، رغم أنه متنصلٌ من كثيرٍ من مبادئه، وهو أول كافرٍ بها، " الوحدة والحرية والرسالة الخالدة"، وهو أول الكافرين بها، لكنه يدافع عنها لأنَّ وجوده مُرتبطٌ بها، فيدافع عنها بزعمه، لأنَّ زوالها يعني زواله، ولقد كان من ضمن فكر هذا الحزب، الحرب على الدين بطريقةٍ خبيثة، عن طريق حصره في المساجد مع رقابةٍ شديدة، ومنع امتداده إلى مفاصل القرار، وإلى الدوائر العامة، أو حتى إلى المجتمع.
ومن أجل ذلك حَصَرَ التعليم بيده وحده، تعليم الجيل بيده، وأنشأ لكل فئةٍ مُنظَّمة، الابتدائي طلائع البعث، الإعدادي والثانوي اتحاد شبيبة الثورة، الجامعي التدريب الجامعي، فكل مرحلة هو يتولَّى تثقيفها بما يريده هو، سورية الجديدة لا بُدَّ أن تقوم على إيديولوجيا، لا تقوم دولة إلا على فكر، لا يقوم نظام إلا على فكر، وتلك الإيديولوجيا لا تُرعب الغرب والصهاينة لو كانت عميلةً تابعةً لهم، تأتمر بأمرهم، قال تعالى:

وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ(120)
(سورة البقرة)

فإذا اتَّبعنا ملَّتِهم رضوا عنّا وأغرقونا بالخيرات كما يقال، والخير من الله وحده، ولا تُخيفهم أيضاً تلك الإيديولوجيا لو كانت تديُّناً مُشوّهاً، وأعني بالتشوُّه هُنا، إمّا التنازل عن الثوابت، التفلُّت بدعوى التشديد في الدين، أو التشدُّد الذي يُنفِّر الناس من الدين، هذه أيضاً لا تُخيفهم، إن كان هناك تفلُّتٌ مقرونٌ بالدين، الدين ليس فيه جهاد، ليس فيه حجاب للمرأة، هو مجرد صلاةٌ في المسجد لا يُخيفهم، أو كان تديُّناً مُشوُّهاً بطريق التنفير من الدين، إذا رأيت الصورة النمطية للمُتديِّن، رجُلٌ قاسي الطبع، جلف، يتعامل مع الناس بقسوةٍ، أيضاً لا تُخيفهم، قال تعالى:

وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا(73)
(سورة الإسراء)

إن شوَّهت الدين اتخذوك خليلاً، حبيباً، صديقاً، ما عندهم مشكلة معك، عندهم مشكلة مع الدين الحقّ، أمّا مع التديُّن المُشوَّه ما عندهم مشكلة.

التديُّن المغشوش:
التديُّن المغشوش أيُّها الكرام، لا يُخيف الغرب ولا يُخيف الطُغاة، بل يستخدمونه لإحكام السيطرة على الشعوب، من هُنا كان ماركس، وأنا لا أُحبّ الاستشهاد بهؤلاء على المنابر، ولكني مُضطرٌ هُنا، كان ماركس يقول: "الدين زفرة المخلوق المظلوم، قلب عالمٍ لا قلب له، كما أنه روح الأوضاع التي بلا روح، والدين أفيون الشعوب" أي مُخدِّر، كيف ذلك؟ هو يرى أنَّ الدين يُحقِّق شيئين مُتعارضين، إمّا أن يكون يُعزّي الناس، يُخفِّف مُصابهم وآلامهم، أو أن يكون نفسه مُخدِّراً للشعوب يمنعها من المطالبة بحقوقها.
نعم أيُّها الكرام: الدين الذي أنزله الله تعالى يُزيل البؤس، ويرفع الظلم، ويدفع إلى العمل، ويُشجِّع على التعاون، وينبُذ الطائفية والعصبية والقَبَلية، ويبني الأوطان، ويدفع العدوان، لكن التديُّن المغشوش يزرع العداوات، ويحارب التغيير، ويدفع إلى الفوضى، ويستخدمه الطُغاة لتخدير الشعوب، وثنيها عن المطالبة بحقوقها، ولتنفير الناس من الدين، هذا التديُّن المغشوش، الدين يجمعنا:

شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ(13)
(سورة الشورى)

الدين لا يُفرِّق، لكن التديُّن المغشوش يُفرِّق

وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ(14)
(سورة الشورى)

والمُصيبة هُنا أيُّها الكرام، وانظروا تماماً فيما أقول الآن: لئن كان النظام البائد، قد قام بكل ممارساته تحت ستار القومية والشعارات الفارغة، فكرهناه وكرهنا حزبه، فإنَّ أكثر ما نخشاه اليوم، أن نقوم نحن المُتدينين بالمُمارسة الخاطئة، لكن تحت مُسمّى الدين لا تحت مُسمّى الحزب، مما يدفع الناس البُسطاء إلى الإعراض عن الدين، ويدفع الخُبثاء لمُحاربة الدين، من هُنا كان صلى الله عليه وسلم يدعو دائماً فيقول:

{ اللهمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، و أَصْلِحْ لي دُنْيايَ التي فيها مَعَاشِي ، و اجعلِ الموتَ رحمةً لي من كلِّ سوءٍ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

(اللهمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي) فقد أكون مُتديّناً تديُّناً مغشوشاً غير صحيح، أسأل الله أن يُصلحه.

أحداث السويداء الأخيرة ليست نزاعاً داخلياً فحسب ولكنها حربٌ يشنّها العدو الصهيوني:
أيُّها الكرام: أحداث السويداء الأخيرة ليست نزاعاً داخلياً فحسب، وإن كانت لا تخلو من ذلك، فالعدو لا يدخل من حدودنا، لكنه يتسرَّب كالنمل من عيوننا، ولكنها حربٌ في حقيقتها، يشنّها العدو الصهيوني لأنه يستشعر الخطر، وفي ظل هذه الحرب ليس لنا ترف الخيارات، ما عندنا خيارات أحببنا أم كرهنا، خيارنا الوحيد أن نقف مع شعبنا، ومع دولتنا، وأن ننهض، وأن ننصح، وأن نُسارع لمُعاقبة ومُحاسبة كل من يُشوّه ديننا ومبادئنا وقيَّمنا.
أيُّها الكرام: الصورة متكاملة، دونكم حرب الكيان المجنونة التي يشنّها منذ عامين وأكثر، على مليوني إنسان في قطاع غزَّة، لأنهم يحملون فكراً، يخشى إن انتصروا أن ينتصر فكرهم معهم، فكر أن يقولوا للمشروع الغربي لا، لن نستسلم، هذا الفكر يُخيفهم، ويخشون أن يُزيل مشروعهم التوسّعي ويقضي عليه، الجوع ينهش أجساد الأطفال والنساء وجميع سكان القطاع.

وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(8)
(سورة البروج)

وعند وجود إغاثةٍ قليلة، تُقصَف الجموع التي تبحث عن لقمةٍ تأكلها، بل عن لقمةٍ تُطعمها لأطفالها، ليس هناك وقودٌ لتشغيل المستشفيات، المرضى يموتون على الأسِرَّة، هذا هو عدوّنا، وهذه حربه علينا، في بعض الأحيان تصل إلى نقطةٍ، تشعر معها أنَّ الكلمات عاجزةٌ عن التعبير، وأنَّ الصمت أَولى.
صمتاً أصيخي واسمعي يا أمتي مـا عدت أصبر أن يموت بياني ما عاد يحويني سكوتي والبكـاء أنا لست مجبولاً على الخـــذلانِ أنا مسلمٌ والمجـد يقطر كالنـــدى والعز كل العــــز في إيمـــــــاني أين الذين تشدقـــــــوا بعروبــــةٍ وغزة تصفـع وجـه كل جبـــــــانِ أين الحقوق وقد أُبيدت أمـــــــــةٌ وأنا المـلام إذا صرخـت كفانـــــي ســل مُدّعي حـفظ الحقوق لهــرةٍ هـل هرةٌ أولى من الإنســــــــــان؟ في كل يــومٍ تُستبـــــــاح مدينـــةٌ أين الذين تهزُّهـــــــم أحزانــــــي؟ كـل الحقـوق مصـانةٌ فـي عرفهــم إلا حقوقكِ أمــــــــــة القــــــــــرآنِ إني وإن يكـن البكـــــــــاء نقيصـةً أبكـي لـحـالك سائــــــــــر الأزمــان
{ محمد يوسف القرضاوي }

أحاديث نبوية تتحدث عن فضل بلاد الشام:
أيُّها الكرام: عندما نتحدث عن بلاد الشام عموماً، وفلسطين من بلاد الشام، بل إنَّ بركة بلاد الشام مُستمدةٌ من الأقصى الذي باركنا حوله، نتحدث عن دمشق على وجه الخصوص، فأنت تتحدث عن مدينةٍ انتشرت منها الفتوحات الإسلامية، شرقاً إلى آسيا الوسطى وبلاد ما وراء النهر، وغرباً إلى شمال إفريقيا والأندلس، وشمالاً إلى الأناضول، تتحدث عن بلادٍ بشَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم بفتحها، وذكرَ فضلها في أحاديثٍ كثيرة:

{ كُنَّا عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ نؤلِّفُ القرآنَ منَ الرقاعِ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: طوبى للشامِ فقلْنا لأيٍّ ذلك يا رسولَ اللهِ قال لأن ملائكةَ الرحمنِ باسطةٌ أجنحَتَها عليْها }

(أخرجه الترمذي وأحمد)

{ سيصيرُ الأمرُ إلى أن تَكونوا جُنودًا مجنَّدةً جُندٌ بالشَّامِ، وجندٌ باليمنِ وجُندٌ بالعراقِ قالَ ابنُ حوالةَ: خِر لي يا رسولَ اللَّهِ إن أدرَكْتُ ذلِكَ، فقالَ: عليكَ بالشَّامِ، فإنَّها خيرةُ اللَّهِ من أرضِهِ، يَجتبي إليها خيرتَهُ من عبادِهِ، فأمَّا إن أبيتُمْ، فعليكُم بيمنِكُم، واسقوا من غُدُرِكُم، فإنَّ اللَّهَ توَكَّلَ لي بالشَّامِ وأَهْلِهِ }

(الألباني صحيح أبي داوود)

ولأن غاب عنّا ذلك أو بعضه، فإنه لا يغيب عن أعدائنا، أنَّ نهوضنا وصحوتنا تعني هلاكهم، هُما مشروعان، إن نهضنا وصحونا انتهوا هُم، هُم يعون هذه الحرب تماماً، إمّا نحن أو هُم لا يمكن، الحقّ يُزاحم الباطل، يُدركون تماماً ما معنى أن تعود دمشق لأهلها وأن تنهض من كبوتها، ويُدركون النور الذي ستنشره الشام إن أخذت قرارها وأمسكت بزمام أمورها.

زُرع الكيان الصهيوني في أرض الشام تحديداً لكي يمنع نهوضنا:
أيُّها الكرام: بعد سقوط الخلافة العثمانية بما لها وما عليها، لكنها خلافةٌ كانت توحِّد المسلمين من أدناهُم إلى أقصاهُم، بعد سقوطها تمَّ تقسيم البلاد العربية والإسلامية وفق سايكس بيكو، ثم بعد عشرين سنة فقط زُرع الكيان المُجرم في أرض الشام تحديداً، لكي يمنع نهوضنا، ولكي يكون من أُولى مهامه الحيلولة دون تجمُّعنا من جديد، واليوم يتضِح بجلاءٍ أنَّ مشروعهم الجديد هو تقسيم المُقسَّم، وتجزيء المُجزأ، وإضعاف الضعيف أكثر وأكثر، ولن ننجو من هذه المكائد إلا بأُذُنٍ واعية، تسمَع وتعقِل وتنقُل الوعي، وتُربّي الجيل على معرفة عدوّنا وماذا يريد منّا، ولماذا يشنّ حربه علينا.
ثم إعداد أنفسنا وأولادنا لتحمُّل المسؤولية، والابتعاد عن المُساهمة في تحقيق مآرب عدوّنا دون شعورٍ منّا، عن طريق إثارة الخلافات ضمن أبناء الصفّ الواحد، فنتفرَّق في ديننا شيَعاً وأحزاباً، قال تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(159)
(سورة الأنعام)

حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين.
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبُنا عليك اتكالنا.
اللهم أهلنا في غزَّة، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مُصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً مُتقبَّلاً وسهماً صالحاً، وألهِمنا طريقاً لنصرتهم واغفر لنا تقصيرنا فإنك أعلم بحالنا.
اللهم قد تخلّى عنهم القريب والبعيد، وما لهم ناصرٌ إلا أنت سبحانك يا أرحم الراحمين، اللهم فكُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، هازِم الأحزاب، سريع الحساب، اهزِم الصهاينة المُعتدين ومَن والاهم ومَن أيَّدَهم ومن وقف معهم في سرٍّ أو علن.
واصرِف كيدهم عنّا يا أرحم الراحمين، واشغلهم بأنفسهم يا أكرم الأكرمين، يا ربّي قد أريتنا مكرهم بنا فأرِنا مكركَ بهم وأنتَ خير الماكرين.
اللهم إنهم يكيدون كيداً وتكيدُ كيداً، فيا أرحم الراحمين نجِّ عبادك المُستضعفين، في فلسطين وفي غزَّة وفي جميع بلاد المسلمين.
اللهم هيئ لهذه الأُمة أمر رُشد، يُعزّ فيه أهل طاعتك ويُهدى فيه أهل عصيانك، ويؤمَر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك وليُّ ذلك والقادر عليه.
اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا، حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا.
اللهم يا أرحم الراحمين اجعل بلادنا وبلاد المسلمين سخاءً رخاءً، ابسُط عليها نِعمك وأمنك وأمانك، يا أرحم الراحمين هيئ لهذه الأُمة من يقوم بأمرها، ومَن يرفع عنها الظلم والعدوان، إنك وليُّ ذلك والقادر عليه، وفِّق ولاة المسلمين لما فيه خير البلاد والعباد، يا أرحم الراحمين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله، والحمد لله رب العالمين.