نحن في قاربٍ واحد

  • خطبة جمعة
  • 2025-09-12
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

نحن في قاربٍ واحد

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.

مقدمة:
وبعد أيُّها الإخوة الأحباب: ربما كنت أباً في أسرةٍ، أساء يوماً أحد أبنائك إساءةً بالغة، ولمّا نبَّهته على إساءته قال لك: إنما أُسيء لنفسي وليس لأُسرتي، فقلت له: إساءتُك تطالنا جميعاً نحن في قاربٍ واحد.
ربما كنت مُعلِّماً في صفٍّ، فيه طالبٌ كثير الشغَب، لا يتعلَّم ولا يُفسِح المجال لغيره كي يتعلَّم، ولمّا عاقبته على فعله قال لك: هذه حريتي لا أُريد أن أتعلَّم، فقلت له: لكنك تُسيء إلى زملائك نحن في قاربٍ واحد.
لربما كنت مديراً لشركةٍ، وأحد الموظفين يتأخر كل يومٍ عن موعد دوامه، ويُهمِل أداء واجباته، تأثَّرت الشركة كلها بأفعاله وبتقصيره، ولمّا عاتبته على ما يفعل قال لك: احسِم لي من راتبي بقدر تأخُّري، فقلت له: أنت تُعطِّل عمل الشركة، ليس الموضوع موضوع حسمٍ من الراتب، أنت تُعطِّل عمل الشركة، نحن في قاربٍ واحد.

معنى عبارة" نحن في قاربٍ واحد":
نحن في قاربٍ واحد، عبارةٌ يُردِّدها الكثيرون، بمعنى أنَّ الإحسان إذا وقع يعمّ الجميع، وأنَّ الإساءة إذا وقعت تشمل الجميع، وخطأ الواحد يضرُّ وينعكس على المجتمع بأسره، دعكم من هذه العبارة، وهلمّوا إلى بستان البلاغة النبوية، ولنستمع معاً إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:

{ مَثَلُ القائِمِ علَى حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا }

(صحيح البخاري)

يضربُ مثلاً صلى الله عليه وسلم، لرجُلٍ قائمٍ على حدود الله، مُدافعٍ عنها، لا يقع بها، ويحمي غيره من أن يقع بها، قائمٌ على حدود الله، ليس ملتزماً فحسب، وإنما يقوم على هذه الحدود وعلى المُحرَّمات، فهو حارسٌ أمين، لا يقع بها ولا يسمح لأحدٍ في أُسرته أن يقع بها، لا يقع بها ولا يسمح أن يقع شيءٌ ضمن شركته من مُحرَّمات الله.
(مَثَلُ القائِمِ علَى حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها) الذي يقع في مُحرَّمات الله ولا يأبه لذلك (مَثَلُ القائِمِ علَى حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ) سفينة فيها طابقان، طابقٌ عُلوي وآخرٌ سُفلي، مَن يجلس في الأعلى ومَن يجلس في الأسفل؟ الحل الأفضل والشرعي القُرعة (اسْتَهَمُوا) أي اقترعوا، فمن يخرُج اسمه للطابق العُلوي يجلس في الأعلى، ومَن يخرُج اسمه للسفلي يجلس في الأسفل.
(اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ) الدلاء تنزل من سطح السفينة لأخذ الماء من البحر، فلا بُدَّ للذين في أسفل السفينة، إذا أرادوا أن يستقوا، أن يمرّوا من الطابق العُلوي (مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا) نُحدِث ثُقباً في أسفل السفينة، ولن نؤذي مَن فوقنا، كل ما نخرُج وننزِل يتأذى الذين في الطابق العُلوي، ونحن الآن سنخرِق ثُقباً في نصيبنا حصراً، ونأخذ الماء من غير أن نُزعج أنفسنا ونزعج مَن هُم في الطابق العُلوي (لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا).
وهُنا يتوقف المشهد النبوي العظيم لنهاياتٍ، ما هي النهايات؟ قال: (فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا) منعوهم من ثَقب الثُقب في السفينة، نحن في قاربٍ واحد.

الله عزَّ وجل سخَّر الناس بعضهم للبعض الآخر:
أيُّها الإخوة الكرام: هذه السفينة ليست مجرد سفينةٍ من خشبٍ ومسامير، إنها سفينة الحياة، سفينة المجتمع التي تحملنا على ظهرها جميعاً، سفينة المجتمع الذي يعيش فيه البَرُّ والفاجر، والقائم على حدود الله والمُنتهك لها، السفينة التي توحِّد مصير من يركبها، سواءً كان في أعلاها أم في أسفلها، ويرتبط البعض بالآخرين أينما جلسوا، فمَن في الأعلى مرتبطون حتماً بمَن في الأسفل، ومَن في الأسفل بحاجةٍ حتماً إلى مَن هُم في الأعلى.

أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ(32)
(سورة الزخرف)

فسخَّر بعضنا للبعض الآخر، فالارتفاع ليس ارتفاع مكانةٍ لكنه ارتفاع مكان، فمَن هو في سُدة الحُكم، مكانهُ مرتفع لكن مكانته ليست مرتفعة، ترتفع مكانته بقدر ما يُقدِّمه من خدماتٍ لمن هُم دونه، فنحن عندما نرتفع في الدنيا، نرتفع مكاناً لا مكانةً.

انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا(21)
(سورة الإسراء)

هناك الدرجات، وهناك المكانة عند الله تعالى، أمّا في الدنيا، فشاء الله تعالى أن يكون مَن هُم في الأعلى ومَن هُم في الأسفل، لكن هو مكانٌ فقط وليست مكانةً، فقد يكون من هو في الأسفل خيراً ممَن هو في الأعلى بمكانته عند الله.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)
(سورة الحجرات)

{ لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ، إلَّا بالتَّقوَى، النَّاسُ من آدمَ، وآدمُ من ترابٍ }

(الألباني شرح الطحاوية)

فنحن نريد المكانة لا المكان، فأينما وضَعَنا الله تعالى، في أي مكانٍ في الدنيا، قَبِلنا به وعَمِلنا فيه لنُصرة ديننا، والمكانة عند الله.

من بلاغة المُصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق عدة دروس:
أيُّها الإخوة الكرام: هذا الحديث العظيم من بلاغة المُصطفى صلى الله عليه وسلم، فيه عدة دروس نأتي على بعضها:

الدرس الأول:
المجتمعات البشرية أي مجتمع، صغيراً أو كبيراً، مصيرها مشترك، والهلاك يعمُّ الجميع والنجاة تشمَل الجميع، ثم يكون الحساب الفردي يوم القيامة.

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)
(سورة الأنعام)

هذه يوم القيامة، أمّا في الدنيا فنحن في قاربٍ واحد، السفينة تحملنا، إذا هلَكَ بعضنا هلكنا وإذا نجا بعضنا نجونا جميعاً، هذه سُنَّةٌ من سُنَن الله تعالى في خلقه، بمعنى السُنَّة في العُرف الحديث هي القانون، القانون أي لا يتبدَّل ولا يتغيَّر، سُنَّة الله:

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
(سورة الأحزاب)

اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا(43)
(سورة فاطر)

قانونٌ إلهي، سُنَّةٌ من سُنَن الله تعالى، نبَّهت لهذه السُنَّة الإلهية النصوص الشرعية، قال تعالى:

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(25)
(سورة الأنفال)

بل تُصيب الجميع، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يقولُ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ! ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه، وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ الإبْهَامِ والَّتي تَلِيهَا، قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: نَعَمْ، إذَا كَثُرَ الخَبَثُ }

(صحيح البخاري)


الخَبثُ لا يكثُر إلا إذا سكتَ عنه الصالحون وتركوه يثبُت وينبُت:
والخَبثُ لا يكثُر إلا إذا سكتَ عنه الصالحون، وتركوه يثبُت وينبُت، الخَبث إذا سكتَ عنه الصالحون، ثبتَ أكثر وأكثر ثم نبتَ وانتشر، يثبُت وينبُت، ووضَّح حديثٌ آخر هذا الحديث: (أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: نَعَمْ، إذَا كَثُرَ الخَبَثُ) الحديث مُخيف وضَّحه حديثٌ آخر، عن أُمنا عائشة رضي الله عنها، قال صلى الله عليه وسلم:

{ قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ إنَّ اللهَ إذا أنزَل سَطوتَه بأهلِ الأرضِ وفيهم الصَّالحونَ فيهلِكونَ بهلاكِهم؟ فقال: يا عائشةُ إنَّ اللهَ إذا أنزَل سَطوتَه بأهلِ نِقمَتِه وفيهم الصَّالحونَ فيُصابونَ معهم ثمَّ يُبعَثونَ على نيَّاتِهم وأعمالِهم }

(صحيح ابن حبان)

يُصابون بالسطوة (لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً) ثم يُبشّرُنا المُصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول: (ثمَّ يُبعَثونَ على نيَّاتِهم وأعمالِهم) لا يضيع عند الله أجرهم، ولكن الخَبَث إذا انتشر فالفساد يعمُّ الجميع، والفتنة تشمَل الجميع، هذه سُنَّةٌ من سُنَن الله، فمَن خَرقوا في نصيبهم خَرقاً ستغرق السفينة كلها، لن يغرقوا وحدهم، هذه سُنَّةٌ من سُنَن الله، إمّا أن ننجو جميعاً أو أن نغرق جميعاً.
وحديث السفينة يُقسِّم الناس إلى مُصلحين وصالحين ومُفسدين، فهناك صالحون لكنهم لا يتحركون، لا يُبالون، هذه فئة، لكنه صالحٌ في نفسه، وهناك مُصلحٌ يأخذ على يد المُفسِد، يمنعه فينجو الجميع، وهناك مُفسِدٌ يريد أن يخرق السفينة، قال تعالى:

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)
(سورة هود)

لو كانوا صالحين يعمُّهم الهلاك، أمّا إذا كانوا مُصلحين، فلا يُهلِك الله الجميع وينجو الجميع، هذه سُنَّةٌ من سُنَن الله.

الدرس الثاني:
الحياد، أنا لا علاقة لي، بالعامية "يصطفلوا أنا لا دخل لي، فليفعلوا ما شاءوا، حريتهم".
الحياد كثيراً ما يكون مشاركةً في الجريمة، والنجاة من المُفسدين لا تتم بمجرد اعتزالهم أن تتركهم، بل لا بُدَّ من مزاحمتهم، والأخذ على أيديهم ومنعهم، أنشأوا جمعيةً لتغرير المرأة تحت ستار حقوق المرأة، فلا بُدَّ أن نُزاحمهم، وأن نَعُفّ نساءنا وأن نُعلِّمهم الدين الحقّ، لا نتركهم وشأنهم، دعوهم المجتمع فيه حُريات، هُم لهم حريتهم ونحن لنا حريتنا، لا، لا بُدَّ أن تزاحمهم، أن تدخل إليهم، أن تُقيم شرع الله تعالى، يُفسدون الشباب علينا أن نُصلِح الشباب، لا بُدَّ من مزاحمة الباطل، وإلا نَمَت دوائره وتضيَّقَت دوائر الحق، فالحياد قد يكون جريمةً، قال صلى الله عليه وسلم:

{ عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضوانُ اللهِ عليه أنَّه قال: أيُّها النَّاسُ إنَّكم تقرؤُون هذه الآيةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنِّي سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: إنَّ النَّاسَ إذا رأَوْا ظالمًا فلم يأخُذوا على يدَيْه أوشك أن يعُمَّهم اللهُ بعقابٍ }

(أخرجه أبو داوود والترمذي وأحمد وابن ماجه)

ووصف الله الذين كفروا من بني إسرائيل، قال:

كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)
(سورة المائدة)

رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا(68)
(سورة الأحزاب)

لأنهم لم يتناهوا عن منكرٍ فعلوه فوقعوا جميعاً في الإثم، فليس هناك حياد، دعه فليخرِق في السفينة ما شاء، لا أسمح له أن يخرِق السفينة، لأن ضرره سيُصيبني ويصيب الجميع.

الدرس الثالث:
يجب منع المُفسدين حتى وإن تصرفوا ضمن دائرتهم، ما دام فسادهم سيتسرَّب إلى الجميع ولو بعد حين، ماذا قالوا؟ قالوا: (لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا) هذه دائرتنا، هذا مُلكنا نفعل به ما نشاء، لا، لا تفعل في دائرتك ما تشاء، ما تفعله سيُصيبني وسيؤذيني وسيؤذي المجتمع، هل يسمح ربُّ الأُسرة في البيت لابنٍ في غرفته الخاصة، أن يُتابع أشياء لا ترضي الله تعالى؟! لا يسمح لأنَّ هذا الضرر سيُصيب أهل البيت جميعاً، يقول له: قف عندك.
مدير الشركة لا ينبغي أن يسمح في شركته بتجاوزٍ شرعي، ويقول لك هذه حُريته هو موظفٌ عندي فقط، أنا لي علاقة بدوامه فقط، يأتي الساعة الثامنة ويغادر الساعة الثانية، ويلتزم بالتعليمات فقط، أمّا في حُريته الشخصية تكلَّم مع فلانة أو تكلمت معه، كيف ذلك؟! هذا فسادٌ يعمُّ الجميع، لن أسمح لك.
الحُرية المُطلقة وهمٌ خطير، مَن يظن أنَّ هناك حُريةً مُطلقة فهو واهم، ليس هناك حُريةً مُطلقة يا كرام، كل الأرض، كل دول العالَم عندها قيود بالحُرية، نحن قيود حُريتنا هي شرع الله، أن نقوم على حدود الله، هذه حدود حُريتنا، لا تتصور دولةً في العالَم ليس فيها حدود للحُرية.
يقولون: تنتهي حُريتك عندما تبدأ حُرية الآخرين، مسموح كل شيء ما عدا المساس بالدستور، بالمَلِك، يضعون لك شروطاً، كل الدول هناك أشياءٌ يحرُم المساس بها، نحن ما يحرُم المساس به ديننا، أن تعبَث بدين الناس هذا لا يُسمح به، أن تعبَث بعقيدتهم، أن يُسخَّر الإعلام من أجل أن يُفسِد أبنائي، وأنا أقول: هُم يعملون ضمن دائرة وزارة الإعلام، أنا لا علاقة لي، كيف لا علاقة لك؟! سيُعلِّمون ابني وابنك، فلا بُدَّ أن يؤخَذ على يد الظالم.
الحُرية المُطلقة وهمٌ خطير، يظن بعض الناس أنَّ له الحقّ، في أن يفعل في مساحته الخاصة ما يشاء، كما ظنَّ أهل الطابق السفلي، والحقيقةُ ليست كذلك، ليس لكَ أن تفعل شيئاً في مُلكك وفي دائرتك، يتسرَّب خطره إلى الآخرين.

الدرس الرابع:
إن حُسن المقصِد لا يُسوُّغ الإفساد ولا يُبرره، حُسن المقصِد والنية لا يُبرر الفساد، هُم كان مقصدهم حسنناً في السفينة، أصحاب الطابق السفلي، أرادوا أن يصلوا إلى الماء بأسرع سبيل، وألّا يؤذوا مَن هُم فوقهم، المقصِد جيد لكن هذا لا يُبرر الفساد، أن يُفسِد إنسانٌ بزعم أنه له مقصِدٌ نبيل، هذا لا يصح شرعاً، الوسائل والغايات في الإسلام كلها يجب أن تكون نبيلة، الوسيلة نبيلة والغاية نبيلة، وتغليف الفساد لمفهوم الإصلاح لا يُغيِّر من أنه إفساد، قال تعالى:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)
(سورة البقرة)

كل إنسان يفعل إفساداً يُغلِّفه بالإصلاح، لا تُصدِّق أنَّ إنساناً يُفسِد في الأرض ثم يقول لك: أنا أُريد أن أُفسِد في الأرض أبداً، كل الناس يبحثون عن مقصدٍ إيجابيٍ لأفعالهم، ولو كانت أخسَّ الأفعال، مهما كانت الأفعال خسيسةً يبحث لها عن مقصِدٍ إيجابي يوهم الناس بها، النظام البائد هل قال يوماً كنت أُفسِد في سورية؟ أبداً ولا يوم سمعنا منه يقول أنا أُفسِد، كان يقول أنا أُريد الإصلاح، أُريد توحيد سورية، أُريد مُحاربة الإرهاب.
هذا النتِن الذي يقصف أهلنا في غزَّة، المُجرم الذي تعدَّى إجرامه كل حدّ، وأصبح يُهدِّد العالَم بأسره بضرباته وبجيشه، هل يظن نفسه مُفسِداً؟ هو مُفسِد ويعلم في قرارة نفسه أنه مُفسِد، ولكن كيف يظهَر للناس؟ يظهَر على أنه يريد السلام والاستقرار والأمن، لا يوجد إنسانٌ يفعل الفساد إلا ويبحث عن مقصِدٍ إيجابيٍ يُبرر به إفساده، لكن هذا لا يُغيِّر من حقيقة الأمر شيئاً، هؤلاء الذين في السفينة مقصدهم كان إيجابياً، ولكن فعلهم كان سيئاً ومُفسِداً فلا بُدَّ من الأخذ على أيديهم.

الدرس الخامس:
الفساد يبدأ صغيراً ثم يكبُر ويكبُر ويكبُر، لم يكن خرق السفينة إلا فكرةً عابرة في ذهن البعض، فكرةٌ بسيطة ثُقب، لكن هذا الثُقب سيُغرِق السفينة بأكملها بعد ساعةٍ من الزمن، ولا يمكن السيطرة عليه بعد ذلك أبداً، فلا تقُل الأمر بسيطٌ يسير، هذا إفسادٌ سيكبُر، فلا بُدَّ من مكافحته قبل أن يكبُر، خرقُ السفينة كان فكرةً عابرةً في أذهان بعض الرُكَّاب، ولكن لا بُدَّ من الوقوف في وجه الفساد من بدايته.

الدرس السادس:
أيُّها الكرام: وهذه دقيقةٌ جداً، قد يكون الإفساد حلّاً عند المُفسدين لمُشكلةٍ وقعوا بها، هل نُنكِر أن مَن أرادوا خرق السفينة، إنما كانوا يحلّون مُشكلةً صارت معهم؟ يريدون أن يحلّوا المُشكلة فكان حلُّها إفساداً، فقد يكون الإفساد حلّاً عند المُفسدين لمُشكلةٍ وقعوا بها، كانوا يحلّون مشكلتهم ويريدون الوصول إلى الماء، فعندها لا يكفي منعهم فقط والأخذ على أيديهم، بل ربما يكون جزءاً من الحل أن نوصل الماء إليهم، جزءٌ من الحل أن يصل الماء إليهم بيُسرٍ، ربما بفتح نوافذٍ في الطابق السفلي، يُدلون دلاءُهم ويأخذون الماء، ربما، لكن جزءٌ من الحل أن تبحث للمُفسِد عن حلٍّ لمُشكلته، إن كان هناك مشكلة طبعاً.
مدير شركة يشتكي من تأخُّر الموظف، ربما كان الحل أن تؤمِّن له واسطة النقل، النقل صعب وهو يتأخَّر كل يوم، يقضي ساعات ليصل إليك، ابحث عن حلٍّ له يتوقف إفساده.
الأب في البيت يشكو من إعراض أولاده، هل جلست معهم كل يوم نصف ساعة، وحاورتهم واستمعت إلى مشكلاتهم، فيُحبّوك ويُقبِلوا عليك ويُحبّوا البيت.
نشكو من تفلُّت بعض شبابنا، وجزءٌ من الحل أن نسعى إلى تزويجهم، عدم زواجهم ليس مُبرِراً لتفلُّتهم، ولكن جزءاً من الحل عند المجتمع ومن بيدهم الأمر، أن يسّعوا في تزويجهم، وأن لا يُغالوا بالمهور، وأن يطلبوا الشاب المؤمن الطيِّب.
نشكو من موظفٍ يرتشي، ربما كان جزءاً من الحل، أن نؤمِّن له راتباً يكفيه حياةً كريمةً، حتى لا يمُد يده إلى الرشوة، ولو لم نؤمِّن له الحياة الكريمة، فليس مُبرِراً له أن يرتشي، هو مُفسِدٌ بطبيعة الحال، ولكن المجتمع يجب أن يحل مشكلته، وأن يُقدِّم له البديل.
هذه دروسٌ أسعفنا بها الوقت والدروس كثيرةٌ، من حديث السفينة نحن في قاربٍ واحد، والمجتمع سفينةٌ واحدة، ولا بُدَّ أن نأخُذ على يد المُفسدين، وأن نُنمّيَ جانب المُصلحين، وأن لا نكتفي بالصلاح بل أن نتحول إلى مُصلحين، كلٌّ في بيئته، بدأً من الأُسرة الصغيرة وانتهاءً بإدارة المجتمع بأكمله.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

صندوق التنمية السوري جاء لإعمار سورية وبنائها:
أيُّها الإخوة الكرام: لأننا في سفينةٍ واحدة، وفي قاربٍ واحد، فنحن في سورية اليوم في مرحلةٍ بالغة الخطورة، والنجاة فيها وتجاوز هذه المرحلة في البناء، سيعمُّ خيره لا أقول على السوريين فقط، وإنما على المنطقة بأسرها، والفشل فيها لا قدَّر الله، سيكون وبالاً على الجميع، على السوريين ومن حولهم، وهذه حقيقةٌ لا يمكن إنكارها، وقد أُنشئ في بلدنا الطيِّب صندوق التنمية السوري، وهذا الصندوق كما بيَّن القائمون عليه، ورأيتم جميعاً إشهاره، جاء لإعمار سورية وبنائها، ولترميم البُنية التحتية فيها، وما تهدَّم من المدارس والمشافي، وإعادة النازحين من خيمهم إلى ديارهم عودة عز إن شاء الله.
وهذه وزارة الأوقاف مشكورةً، قد ارتأت أن يكون هذا اليوم، يوم دعمٍ لهذا الصندوق، صندوق التنمية السوري، ليُساهم الجميع من تبرعاتهم ومن صدقاتهم في إعمار بلدهم، في جميع مساجد سورية، وتنطلق الحملة إن شاء الله من بعد صلاة الجمعة وتنتهي بعد صلاة العشاء في كل المساجد، ووزارة الأوقاف مشكورةً وجَّهت أن ندعو الناس جميعاً إلى المساهمة في هذا الصندوق، وفي عملية إعادة البناء إن شاء الله، ولعلَّ دِرهماً تنفقه اليوم يكون سنداً في بناء بلدك إن شاء الله.

{ الرَّجلُ في ظلِّ صدقتِه حتَّى يُقضَى بين النَّاسِ }

(أخرجه أحمد وأبو يعلى وابن خزيمة)

فجودوا بما جادَ الله عليكم.

الدعاء:
اللهم اهدِنا فيمن هديت، وعافِنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن تولَّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أنعمت وأوليت، نستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بكَ ونتوكل عليك، اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يُقرِّبُنا إليك.
اللهم يا واصل المُنقطعين صِلنا برحمتك إليك، اللهم إنَّا نسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل.
اللهم أهلنا في غزَّة، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم أطعِم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مُصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً مُتقبَّلاً واغفر لنا تقصيرنا بحقِّهم فأنتَ أعلم بحالنا.
اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، هازِم الأحزاب، سريع الحساب، اهزِم الصهاينة المُعتدين ومَن والاهم ومَن أيَّدَهم ومن وقف معهم في سرٍّ أو علن.
اللهم قد أريتنا مكرهم بنا فأرِنا مكرك بهم وأنت خير الماكرين.
اللهم أنزِل على أهلنا في فلسطين، أضعاف أضعاف ما نزل بهم من البلاء، من الصبر يا أرحم الراحمين.
اللهم صبِّر قلوبهم وارحم شهداءهم، اللهم ارحم من قضى إليك واشفِ الجرحى يا أرحم الراحمين، وأطعِم الجوعى يا كريم.
اللهم إنَّ أعداءنا قد طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فصُبَّ عليهم سوطاً من عذاب إنك لهم بالمرصاد.
اللهم اجعلنا أهلاً لأن ندعوك فتستجيب لنا، اللهم انصُرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لك، فتنصرنا على عدوُّنا إنك وليُّ ذلك والقادر عليه.
اللهم إنّا نسألك لبلادنا ولبلاد المسلمين أمناً ورخاءً وخيراً وبركة، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، ووفِّق القائمين على بلادنا لما فيه مرضاتك، وللعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله، والحمد لله ربّ العالمين.