• محاضرة في الأردن
  • 2023-10-09
  • عمان
  • الأردن

سنن الله عز وجل

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.

تعريف القانون:
القانون علاقة ثابتة بين متغيرين
وبعد، أيها الإخوة الأكارم هناك مصطلح حديث يسمى "القانون" ويعرّفه العلماء بأنه: علاقة ثابتة بين متغيرين، يعني مثلاً: المعادن تتمدد بالحرارة، هذا قانون، علاقة ثابتة ليست علاقة طارئة، أو مؤقتة، ثابتة دائماً، بين متغيرين وهما المعادن والحرارة، فإذا وُجدت حرارة، ووُجد معدن فالمعدن يتمدد بالحرارة، فهذا يسمى قانون، علاقة ثابتة بين متغيرين.

القانون في القرآن هو سنة الله:
هذا الأمر له في القرآن الكريم مصطلح آخر غير القانون، يسميه الله تعالى "سنة"، سنة الله، وهذه السنة ثابتة، قال تعالى:

اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
(سورة فاطر)

وقال:

سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا(77)
(سورة الإسراء)


أمثلة من السنن القرآنية:
1. من يعمل صالحاً يحيا حياة طيبة:
سنة الله، لله تعالى في خلقه سنن، مثلاً من السنن القرآنية أن الله تعالى يقول:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
( سورة النحل)

سنة، الحياة الطيبة لا تعني لا المال الوفير، ولا المركبة الفارهة، ولا الحساب البنكي العظيم، وإنما تعني الهدوء والسكينة التي ينزلها الله على قلب من يعمل الأعمال الصالحة.

2. المُعرِض عن الله له معيشة ضنكاً:
وفي المقابل هناك سنة أخرى للمعرضين عن ذكر الله، قال تعالى:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ(124)
(سورة طه)

والضنك هو ضيق القلب، هذه سنة.

3. سنة النصر:
ومن السنن القرآنية مثلاً أن الله تعالى قال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)
(سورة محمد)

قانون ربنا عز وجل لا يوجد فيه استثناءات
سنة النصر؛ أنك إن نصرت الله بطاعته، نصرك على من هو أقوى منك بفضله، وثبّت قدمك في لقاء العدو ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ وهذه السنة لأنها قانون لا يتبدل ولا يتغير فإن الله لا يحابي بها أبداً حاشاه جل جلاله، عند ربنا لا يوجد محاباة، في القوانين الوضعية واضع القانون يضع قانوناً ثم بعد ذلك يحابي أقرباءه فيلغي مخالفة السير، أو يسمح له بالبناء المخالف مع أن القانون يمنع البناء، يوجد محاباة، بأي قانون إلا في الدول القوية جداً هناك محاباة، أي استثناءات، لكن قانون ربنا عز وجل لا يوجد فيه استثناءات، والدليل أن الصحابة الكرام على علوّ قدرهم، وعلى أنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد عصوا أمراً واحداً،أمراً تكتيكياً لا شرعياً، فهم حاشاهم لا شربوا الخمور، ولا ارتكبوا الموبقات أبداً، وإنما أمر معركة تكتيكي، لا تنزلوا من فوق الجبل ولو رأيتمونا تخطفنا الطير، أمر واضح، فحتى لو أصبحنا نقتل لا تنزلوا لتساعدونا، أنتم موقعكم على الجبل، فلما ظنوا أن المعركة انتهت، وبدأت الغنائم تُجمَع نزلوا، فالتف خالد بن الوليد وكان يومها مشركاً، وقلب نصر المؤمنين إلى هزيمة، أمر واحد خالفوه، سنن الله لا تحابي أحداً.
في حنين خالفوا أمراً من نوع آخر، وهو أمر التوحيد والإيمان بأن الله عز وجل أن النصر من عنده لا بقوة الإنسان ولا بالعدد الكثير، ولا بقوة العتاد، فقال تعالى:

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ(25)
(سورة التوبة)

فالمؤمن له سنة في الحياة، أنه في النصر حتى في النصر الشخصي إذا قال "الله" يتولاه الله، وإذا قال أنا وعدتي وعتادي وقوتي يتخلى الله عنه ويكله إلى عدوه.

شرطا النصر:
فسنة النصر أن الله تعالى جعل للمسلمين قانوناً للنصر؛ وهو أنه يجب أن يجتمع عند المؤمن شيئان اثنان:
• الإعداد الجيد.
• والإيمان القوي.
فإذا تحقق الشرطان تحقق النصر، الإعداد الجيد وليس الإعداد المكافئ، قال تعالى:

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
( سورة الأنفال)

ولم يقل: وأعدوا لهم ما يكافئ قوتهم، وإنما قال ﴿مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ لاستغراق كل أسباب القوة ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ وقال:

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(10)
(سورة الأنفال)

جعل الله تعالى للمسلمين قانوناً للنصر
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ فجعل للمسلمين قانوناً للنصر، وهو أنه يجب أن يجتمع عندكم إيمان بالله وتوحيد مع إعداد جيد وفق ما تستطيعون، أما كما قال بعض الصحابة، قال سيدنا عمر بن الخطاب: إنما تنصرون على عدوكم بإيمانكم، فإذا استويتم معهم في المعصية كانت القوة والغلبة للأقوى، في العدة والعتاد، بالقانون العام من غير إيمان البقاء للأقوى، الذي يملك القوة الأكبر ينتصر، والذي يملك القوة الأقل يهزم، هذا قانون، سنة من سنن الله، لكن من غير المؤمنين، أما عند وجود الإيمان:

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249)
(سورة البقرة)

فهذا ما يسمى قانون النصر، أو سنة الله تعالى في عباده في تحقيق النصر، وتحقيق الغلبة.

4. سنة التدافع بين الحق والباطل:
شاء الله تعالى من سننه أيضاً، من سنن الله تعالى سنة التدافع بين الحق والباطل، هذه سنة، أن يكون دائماً هناك تدافع بين الحق والباطل، يقوى الباطل فيستفيق أهل الحق، وينتبهون لأنفسهم فيغلبون أهل الباطل، ثم يعود الباطل للغلبة، ثم يعود الحق للغلبة، قال تعالى:

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140)
(سورة آل عمران)

هذه سنة من سنن الله تعالى أن هناك تدافع مستمر، يعني لن تجد في وقت من الأوقات في الحياة أن الحق يستفرد بالساحة وحده، لا يوجد باطل، ولا أعداء للحق أبداً، مستحيل، وبالمقابل يشاء الله تعالى بين الحين والآخر حتى لا نيأس أن يوضح لنا ببعض البشارات ولو كانت أحياناً جزئية بأن الباطل لا يستفرد بالساحة أبداً، فيظهر بين الحين والآخر أن الله تعالى يدعم أولياءه ويدعم الحق، فلا يستفرد الحق بالساحة، ولا يستفرد الباطل بالساحة، هذه سنة الله، لكن قد يقوى الباطل أحياناً لأن أهل الحق قد تخلوا عن حقهم، وقد يقوى الحق أحياناً لأن أهل الحق التزموا وثبتوا واجتمعوا على كلمة الحق، هذه أيضاً سنة، سنة التدافع بين الحق والباطل.

الفرق بين الحق والباطل:
الحق هو الشيء الثابت، حقَّ الشيء حقاً، إذا الماء حقَّ في قعر الإناء استقر، بينما الباطل هو الشيء الزاهق والزائل:

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)
(سورة الإسراء)

الحق هو الشيء الثابت
أي زائلاً، وزهوق اسم مبالغة من اسم الفاعل زاهق، بمعنى أنه كثير الزهوق، يعني يزول وأكبر باطل مهما كبر يزول، وفي التاريخ باطل كثير زال، الدولة التي كانت تطرح شعار "لا إله" زالت، أين هي الآن، ما كان أحد يتصور، لو كان بوقت قيام هذا الاتحاد الذي كان قائماً على الشرك، وعلى الإلحاد، لو قال إنسان وقتها سيزول لضحك منه الناس، قوة عظيمة جداً، بليلة وضحاها كبيت العنكبوت تهاوى وزال ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ لكن قد يطول الأمد، وقد يقصر هذا بحكمة الله تعالى وبعلمه، وليمتحن الله تعالى عباده.

5. الغلبة في النهاية لأهل الحق مهما طال الزمن:
ولأن سنة الله أن الباطل والحق يصطرعان دائماً كان من سنته أن الغلبة في نهاية المطاف لأهل الحق مهما طال الزمن، وكان من سنته جل جلاله في خلقه أن يكون لكل أمة أجل، قال تعالى:

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(34)
(سورة الأعراف)

كما أن لكل إنسان أجل لا يستأخر ولا يستقدم ، أيضاً لكل أمة أجل مهما عظمت ومهما قويت فلها أجلٌ عند الله عز وجل يهيئ الله له الظروف، يهيئ الله له الأقوياء بالحق، الذين يقومون به، ويجمعون الناس عليه، ثم يذهب الله تعالى أجل هذه الأمة مهما علا شأنها، ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾.
هذه كلها سنن في كتاب الله، والتاريخ يشهد على واقعيتها، ومعاذ الله أن نطلب شواهد على كلام ربنا، لكن كل شيء في الحياة يؤكد أن هذه السنن سنن ماضية فينا وفي غيرنا، وأن الله تعالى سنّ هذه السنن كقوانين تسري على جميع خلقه.

دورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان:
دورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان
الآن، قد لا يُتاح للإنسان أن يرى نُصرة الحق على الباطل، لماذا؟ لأن دورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان، يعني لو أن رمضان يأتي في شهر آب، سيُكرَّر في شهر آب كل 33 سنة تقريباً، يعني كل 33 سنة يأتي رمضان بشهر آب، فإذا إنسان جاء رمضان في شهر رمضان وهو صغير، ثم عاش فقط بعد ذلك 30 سنة هل سيتاح له أن يرى رمضان مرة ثانية في آب؟ لا يموت قبل أن يأتي رمضان، لأن دورة الحياة التي تغير الفصول، ودورة الأشهر القمرية أطول من عمره كانت، فما استطاع أن يرى مرة ثانية، وكذلك دورة الحق والباطل أحياناً تمتد جيلاً كاملاً مئة سنة، مئة وعشرين سنة كما هو التاريخ، فأحياناً إنسان يعيش سبعين سنة فيأتي عمره كاملاً أثناء غلبة الباطل لكن هذا لا يعني أن الحق لم ينتصر، لكن هو ما الذي يقلقه؟ لا يقلقه أنه سيرى أو لن يرى انتصار الحق، لكن يقلقه أنه في هذا العمر الذي عاشه هل عاش منتصراً للحق أم عاش منتصراً للباطل، هنا المصيبة، لذلك كان الشيخ الشعراوي رحمه الله يقول: "لا تقلق على دين الله، فإن الله تعالى ناصره، لكن اقلق على نفسك إن سمح الله لك أو لم يسمح أن تكون جندياً من جنوده"، القلق علينا نحن، نحن أين كنا يوم عشنا هذه الفترة، مع الحق أم مع الباطل؟ هذا هو، فدورة الحق والباطل طويلة، أحياناً قد تكون أطول من عمر الإنسان، ومن هنا فقد خاطب الله تعالى نبيه فقال:

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ(46)
(سورة يونس)

يعني قد ترى يا محمد صلى الله عليه وسلم نتائج الظالمين، ونتائج أفعالهم وطغيانهم وقد ترى بعضها، يعني جزئياً ترى انكسارهم، لكن لا ترى انكسارهم الكلي، تموت قبل ذلك، الله أعلم، وهذا نبيه، فلو كان هناك أحد من الخلق يمكن أن يقول له الله هذه ميزة لك لن تموت حتى ينتشر الإسلام ويصل إلى الخافقين لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صاحب الدعوة وصاحب الرسالة ومع ذلك خاطبه الله فقال:

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ(46)
(سورة يونس)

فإذاً نحن ليس من شأننا أن نحدد متى تنتهي الجولة، لكن من شأننا أن نحدد أين نحن في هذه الجولة فقط.

لماذا لا ينتصر الله لنا:
ومن هنا، ومن نفس السُّنة التي نتحدث عنها يقول تعالى، وهي سنة من سنن الله تعالى:

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
(سورة محمد)

ربنا عز وجل على كل شيء قدير
فربنا عز وجل على كل شيء قدير، نحن في عرفنا البشري نقول: فلان أقوى مني، لكن ربنا عز وجل أقوى منه ومني، لا قوة تعلو قوة الله، إذاً يستطيع أن ينتقم من أي عدو من أعدائه بمليون سبيل وسبيل، يرجف الأرض من تحته، ربنا بالريح نصر أولياءه، يزيلهم بلحظة، فربنا عز وجل قادر على كل شيء، لكن لماذا لا ينتصر منهم ويريحنا وانتهى الأمر؟ قال: ﴿وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾ فالحياة ابتلاء، وكيف يتحقق الابتلاء إن لم يكن لك عدو؟ قيل: إن موسى والقصة للعبرة ناجى ربه فقال: يارب لا تبقِ لي عدواً، فقال له يا موسى، هذه ليست لي، فحتى الله تعالى هناك من يعاديه، والعياذ بالله.

مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ(98)
(سورة البقرة)

على وجه المشاكلة، فإذاً لا يوجد بالحياة شيء اسمه لا يوجد عدو، طبيعة الحياة فيها عدو ﴿وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾ حتى يظهر من أنصار الحق وأنصار الباطل، كيف يظهرون؟ حتى يحاسبهم الله على أعمالهم ﴿وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾ وهنا يخطر في بالنا سؤال مباشرة، لكن يا رب هذا الابتلاء نتائجه كارثية، الفاتورة غالية جداً، فاقرأ تتمة الآية:

وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
(سورة محمد)

إذاً القضية أنك لست مسؤولاً عن نتائج الفاتورة، طبعاً حماية الأشخاص والأنفس أولوية في دين الله تعالى، لا أحد يقول غير ذلك، لكن لو أن حرباً فُرِضت عليك، أو لو أن إنساناً نال منك فيكفي أن تقول: قتلاهم في النار، وشهداؤنا في الجنة إن شاء الله ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ فلا تجعل التفكير بوجود شهداء بالمعركة أو فاتورة غالية يعيقك عن نصرة الحق ﴿فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ*سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ *وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾.

6. تحقيق الابتلاء والتدافع المستمر بين الحق والباطل:
فإذاً هذه أيضاً سنة من سنن الله وهي تحقيق الابتلاء والتدافع المستمر، التدافع لا ينقطع بين الحق والباطل، ما خلا الباطل بالساحة يوماً، ولا خلا الحق بالساحة يوماً، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم بالحديث الصحيح:

{ لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس. }

(أخرجه الطبراني)

(لا تزال طائفة من أمتي): يعني ما يخلو حتى في آخر الزمان مع كل قوة الباطل وجبروته ما تزال طائفة من أمتي قائمين بالحق، لا ينتهي أبداً وجود البقع المضيئة وسط الظلام الدامس.
هزائم الأمة كثيرة اليوم
الآن أعظم ما يواجه الأمة من هزائم، فالهزائم كثيرة، هناك هزيمة عسكرية في أرض المعركة، وهناك هزيمة اقتصادية، وهناك هزيمة ثقافية، الهزائم كثيرة، اليوم ما نواجهه من الأسرة، من إرادة تحطيم الأسرة إن استجابت له بعض الدول، أو استجاب له بعض الأشخاص فهذه أعظم هزيمة اجتماعية، لكن لا أبالغ إذا قلت إن أعظم هزيمة هي الهزيمة من الداخل، الهزيمة النفسية، لأن المهزوم من داخله لا يستطيع أن يواجه نملة، ويصبح محبطاً إلى أعلى مستوى، وكلما قلت له هناك بادرة لنصر أو بادرة لخير أو لعطاء أو ...إلخ يُيَئِّسُك ويقنطك ويقول لك: نحن أمة منتهية، ولن تقوم لنا قائمة فالمؤامرة كبيرة، وأين نحن منهم، واليوم هم يحكمون العالم، وكذا وكذا وكذا، فهو مهزوم من الداخل، فأعظم هزيمة أن تُهزم النفس، أما المؤمن قوي بإيمانه.

من أعظم الهزائم الهزيمة الداخلية:
النظرة الضيقة للزمان والمكان
من أعظم صور الهزيمة من الداخل أو أسباب الهزيمة من الداخل إن صح التعبير: النظرة الضيقة للزمان والمكان، فأحياناً الإنسان يضع ولا أبالغ على عينيه أسطوانة وينظر منها فقط، أفقه ضيق جداً، فينظر نظرة ضيقة للزمان والمكان، فيقول لك يا أخي انظر الوضع، انظر الحال، هل تتخيل أن تقوم لنا قائمة بعد ذلك؟ مستحيل، ينظر نظرة ضيقة لللزمان والمكان، لكن من يقرأ التاريخ، وينظر نظرة واسعة تتغير نظرته، ويدرك أن لكل أمة أجلاً عند الله تعالى.

صور من التاريخ:
التتار دخلوا العراق، وبلغ من هزيمة المسلمين في ذلك الزمن أربعين يوماً لم تُقم صلاة واحدة في بغداد، وكان التتري يقول للمسلم: ابقَ في مكانك سأذهب لأحضر آلة القتل وأعود إليك، فيبقى منتظراً له من شدة الهزيمة والخوف والذعر الذي أصاب المسلمين وقتها، ومع ذلك أين التتار اليوم؟ هيّأ الله تعالى للأمة نصراً وذهب التتار.
الصليبيون واحد وتسعون عاماً لم تُقم صلاة في المسجد الأقصى، حولوه إلى إسطبل، ثم هيّأ الله تعالى صلاح الدين الأيوبي الذي فتح القدس.
اليوم نحن تقام الصلوات حتى اليوم رغم أنفهم في المسجد الأقصى وبعشرات الألوف.
القرامطة هجموا على بيت الله الحرام، والمسلمون بثياب الإحرام، وهجم أبو طاهر القرمطي المجرم وانتزع الحجر الأسود من مكانه ورفع رأسه إلى السماء يتحدى قال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ وبقي الحجر الأسود عشرين سنة بعيداً عن الكعبة
لئن عرف الله التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج
النظرة الضيقة للزمان والمكان تجعلك دائماً في هزيمة نفسية عندما تنظر من الزاوية، عندما يقرأ الإنسان التاريخ هذا هو حال التاريخ، لكن نهوض وصعود هذه هي طبيعة الحياة، ربنا ما أراد أن يكون فقط صعود مستمر.

الاستخلاف والتمكين ليس مطلباً بل وعداً من الله:
الاستخلاف والتمكين هو وعد
الأمر الآخر وهو أمر مهم جداً؛ أن الاستخلاف والتمكين في القرآن الكريم ليس مطلباً، أنا أعني ما أقول، ما أخطأت بالكلام، ليس مطلباً يُطلَب منك، ولكنه وعدٌ وعدَ الله تعالى به، فلا تجد في كتاب الله تعالى آية تقول: أيها المسلم مكّن لنفسك في الأرض، كن مستخلفاً في الأرض، الاستخلاف والتمكين هو وعد، والمطلوب منك هو الشرط:

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
( سورة النور)

ولأنه قانون قال ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ﴾ أي دين؟ ﴿الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ المطلوب هو ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾.
فنحن عندما نقرأ الأمر بهذه الطريقة نسأل دائماً ما الذي تريده مني؟ ما المطلوب مني اليوم؟ إذا كان المطلوب التمكين والاستخلاف فأنا اليوم لا أملك أدواته، لكن أنا أملك الشرط الذي وضعه الله تعالى لي؛ أن أكون عابداً لله لا أشرك به شيئاً، أعين إخواني، أدفع عنهم الأذى، أنصر الحق ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فأنا أملك الشرط، وأنتظر الوعد، والوعد قادم لا محالة، سواء أدركته أو لم أدركه فإنه قادم لا محالة، فأنا أقدم الشرط الذي اشترطه الله تعالى عليّ، وهذا هو ما يبرئ ذمتي أمام الله تعالى إذا وقفت بين يديه؛ أنني يا رب فعلت ما أستطيع لنصرة دينك وخدمة الأمة المسلمة.

الألم اليوم ممزوج بالأمل:
أيها الإخوة الأكارم، أيها الأحباب، اليوم كما تشاهدون وتسمعون هناك ألم كبير، وهناك أمل كبير، كنا سابقاً نتألم دون أن نتأمل، اليوم أراد الله تعالى أن ينقلنا من حالة الألم فقط إلى حالة الألم مع الأمل، وذقنا قوله تعالى: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ وذقنا معنى قوله تعالى:

وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)
(سورة آل عمران)

الانتقال من حالة الألم فقط إلى حالة الألم مع الأمل
وذقنا معنى قوله تعالى: ﴿ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ﴾ لأن الله عز وجل يريد أن يتخذ شهداء، يريد ذلك، تخيل أن ربنا عز وجل يقول للأمة الإسلامية أريد أن أتخذ منكم شهداء، فهذه المعاني اليوم على الرغم مما في المشهد من ألم، ولكن فيه بوادر أمل، فهذه النقاط المضيئة أسميها جرعة منعشة أراد الله تعالى أن ينعش بها قلوب الناس؛ بأن الله تعالى مطّلع ونحن نعلم ذلك ومتيقنون منه، لكن بعض الناس قد يصيبهم اليأس والإحباط، فرأينا شيئاً أشبه بالمستحيل، أو أشبه بالمعجرة، فعلاً وحقيقة بكل المقاييس لا يستطيع أن ينكر إنسان ذلك.
نسأل الله تعالى أن تكون النتائج خيراً، نتأمل من الله تعالى أن نكون جنداً إن شاء الله للحق، ولأهل الحق، نرجو الله تعالى أن ينصر إخواننا، وأن يثبت أقدامهم، وأن يربط على قلوبهم، رأينا بطولات، رأينا أمهات، رأينا نساء
ولو كن النساء كمن فقدنا... لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
{ المتنبي }
رأينا كيف يستقبل المؤمنون الموت، وكيف يستقبله غير المؤمنين، رأينا أن الموت عندنا شيء المؤمن ينتظره، يا مرحباً بلقاء الله، أما هم لا ينتظرون شيئاً بعد الموت، فالموت عندهم مصيبة كبرى، أعادت لنا هذه الأحداث عزة الإيمان وقوة الإيمان، لعل الله عز وجل يجعل التمام لخير، وهذا ظننا بالله تعالى، ومهما كان الخَطْب جَلل، ومهما كانت الآلام كبيرة يكفي أننا إن شاء الله دائماً نأمل خيراً وننتظر خيراً وعندنا يقين لا حدود له بوعد الله تعالى، وبأن التمكين والاستخلاف وعد لا يُخلف من قِبَل ربنا جل جلاله.

دعاء الختام:
اللهم انصر أهلنا المستضعفين، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اجعل دائرة السَّوء تدور على أعدائهم، اجعل تدميرهم في تدبيرهم، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، واجعل النصرة والتمكين لعبادك المستضعفين يا أكرم الأكرمين، اللهم اجعلنا مع الحق وأهل الحق حتى نلقاك وأنت راض عنا يا كريم، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.