• محاضرة في الأردن
  • 2024-02-12
  • عمان
  • الأردن

المعراج

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
ما زلنا في الحديث عن الإسراء والمعراج، وقد تكلمنا في اللقاء السابق عن إسرائه صلى الله عليه وسلم، وعن مُفتتح سورة الإسراء وما فيها من دروسٍ وعِبَر، ومن ربطٍ بواقعٍ أليمٍ نعيشه اليوم، لكننا نستشرف من خلاله وعد الله:

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5)
(سورة الإسراء)

وتواعدنا أن نتحدث عن مِعراجه صلى الله عليه وسلم في هذا اللقاء، والمِعراج أيُّها الكرام هو عروج النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء السابعة، وقد ذكره الله تعالى في كتابه في مُفتَتح سورة النجم فقال تعالى:

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2)
(سورة النجم)

يُقسِم الله تعالى بالنجم، والنجم هي تلك النجوم التي نراها في السماء، المُتألقة التي يهتدي بها الناس قال تعالى:

وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
(سورة النحل)


النبي صلى الله عليه وسلم هدايته مُستمرة لا تنطفئ:
فالنجوم يهتدي بها السائرون ويعرفون بها طُرقاتهم (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ) النَّجم يهوي، فيسقط، يغيب، فإذا سقط وغاب لم يعد هناك هدايةٌ به، فالهداية به متوقفةٌ على سطوعه، فإذا هوى، غاب، سقط، فالناس لن يهتدوا به، جواب القسَم: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ)، أمّا الهداية برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها لا تغيب أبداً، لأنَّ الهداية برسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنطفئ ولا ينقضي نورها، هذه هي العلاقة بين القسَم وجواب القسَم، (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2)) النبي صلى الله عليه وسلم هِدايته مُستمرة، الهِداية بالنجوم مؤقتة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم الاهتداء بمنهجه إلى قيام الساعة، ونحن اليوم بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة، نهتدي بهديّه صلى الله عليه وسلم، فهو نجمٌ لا يَغيب ولا يَهوي، صلى الله عليه وسلم.

النبي صلى الله عليه وسلم ما حاد عن طريق الحقّ، ولم يخرج عن سبيل الرشاد:
(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ)، يُسمّيه صاحبهم ليُذكّرهم بالصادق الأمين، فهو صاحبكم، الذي تعرفونه، وتعرفون صِدقه وأمانته، وعفافه، ونسبه، فاليوم لمّا جاءكم من هذه الرحلة وحدّثكم عنها، تُمارونه وتجادلونه فيها! ألا تعرفونه؟! إنَّه صاحبكم، اليوم لو كان لك صاحب تُحبُّه وتثق به، وأخبَرك خبراً، تُصدّقه فوراً، لكن لو جاءك شخصٌ لا تعرفه أبداً، ولا تعرف ماضيه، وأخبَرك خبراً، فإنك تتردد في قبوله حتى تتوثق من هذا الرجل الذي يُخبرك، فلذلك قال صاحبكم هنا، يُذكّرهم بأنَّ هذا الرجل قد صحبتموه في مكَّة، وتعرفون صدقه وأمانته، بل قد سميتموه بالصادق الأمين، فكيف تتهمونه الآن بالضلال؟! وبالغواية؟ حاشاه.
الضلال هو الحياد عن الطريق المستقيم، ضلَّ الطريق أي أخذ طريقاً غير صحيح، والغواية هي ما يكون في داخل النفس بأن يعتقد الإنسان اعتقاداً فاسداً، العقيدة الفاسدة غواية، الطريق واضح، ثم ذهب عنه، ضلَّ عنه، ذهب في طريقٍ آخر، والغواية أن يعتقد الإنسان اعتقاداً فاسداً، (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ)، فهو صلى الله عليه وسلم ما حادَ عن طريق الحقّ، وما خرج عن سبيل الرشاد، فما يُخبركم به حقٌّ من الله تعالى.

وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)
(سورة النجم)

الناس يتكلمون، ينطقون، لكن هذا النطق كثيراً ما يكون عن الهوى، يعني ينطق عن هوى في نفسه، يعني حتى أوضّح الموضوع بقصةٍ طريفة، شيخنا الشيخ راتب حَفِظه الله، قال مرةً: والله ذهبت لشراء ستائر لبيتي، أخذ بيت جديد وأراد أن يأخذ ستائر له، فأعطاه صاحب المحل أعطاه قاعدة، قال له: كم عرض الحائط عندك؟ قال له: متر مثلاً، قال له: القاعدة عندنا متر ضرب اثنان، متران ونضيف له نصف، يعني مترين ونصف، يعني إذا الحائط متر يجب أن تأخذ الستارة مترين ونصف حتى تأتي بشكل جميل، أنيق، فبعد أن بحث في الأقمشة الموجودة أعجبه قماش، فلمّا قاسه له إذا به ينقص عن القاعدة التي وضعها، فأنشأ قاعدةً جديدةً فوراً، قال له: نوع هذا القماش إذا كان مفروداً سيكون أجمل، فهذا نطَق عن الهوى، هذا ليس حقّاً الذي قاله، لكن مصلحته أن يبيع، فغيَّر القاعدة خلال دقائق إلى قاعدة جديدة تناسب البيع، فهذا نطَق عن الهوى، عن رغبة في داخل النفس، كثيراً ما ينطق الناس عن الهوى.
يعني مثلاً سَرَت شائعةٌ في البلد بأنَّ الدولة تعتزم تخفيض الجمارك على السيارات خمسون بالمئة، إذاً ستنخفض أسعار السيارات، هناك شخصان جالسان، أحدهُما قد اشترى سيارة قبل أيام، يعني أخذَ بالسعر الغالي فمباشرةً ينطق عن الهوى من غير أن يشعر، بالعقل الباطن، ويقول لك: غير صحيح مستحيل، باب رزق للدولة تُخفضّه مستحيل! والثاني يعتزم أن يشتري سيارة في الشهر القادم، ولم يشتري بعد يقول لك: والله سمعت بذلك غالباً سيُخفضّون، فالاثنان لم ينطِقا عن حقيقة واقعية وإنما نطَقا عن الهوى، والإنسان كلما ارتقى يُفكّر في كلامه، طبعاً لا أتكلم عن هذه القضية، هذا عقل باطن، من غير أن يشعر الإنسان، لكن بشكل عام إذا أراد أن يحلّ خصومة، يعني إذا جاءت ابنته وعندها إشكال مع زوجها، فإنَّه لا ينبغِ أن ينطِق عن الهوى، لأنها ابنته.

{ أمَرَني خَليلي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بسَبعٍ: أمَرَني بحُبِّ المَساكينِ، والدُّنُوِّ منهم، وأمَرَني أنْ أنظُرَ إلى مَن هو دوني، ولا أنظُرَ إلى مَن هو فَوْقي، وأمَرَني أنْ أصِلَ الرحِمَ وإنْ أدبَرَتْ، وأمَرَني ألَّا أسأَلَ أحَدًا شيئًا، وأمَرَني أنْ أقولَ بالحقِّ، وإنْ كان مُرًّا، وأمَرَني ألَّا أخافَ في اللهِ لَومةَ لائمٍ، وأمَرَني أنْ أُكثِرَ من قولِ: لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ؛ فإنَّهُنَّ من كَنزٍ تحتَ العَرشِ. }

(أخرجه أحمد وابن حبان)


النبي صلى الله عليه وسلم ما نطق عن الهوى أبداً:
فالإنسان كلمّا ارتقى يكون موضوعيّاً، يعني ينطق بالحقيقة ولو كان الحقُّ عليه، فيلزِمه بشيء يقول لا والله أنا أخطأت، هذا يكون أبعد عن النطق بالهوى، رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نطَق عن الهوى أبداً، ما تكلّم كلمة، كان يَمزح ولا يَمزح إلا حقَّاً، يعني في المُزاح لا يَمزح مُزاح باطل، يمزح حقَّاً، فصلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، قال: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) (إلا)هذا حصر، يعني ما هو إلا وحيٌ يوحى، يعني كلامه وحيٌ، لذلك قال العلماء الوحي وحيان، وحيٌ مَتلوّ، وهو ما نطَق به الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل مباشرةً وهو كتاب الله وكلام الله، تماماً كما أخبره جبريل به، ووحيٌ غير متلوّ، وهو كلامه صلى الله عليه وسلم:

{ من غَشَّنا فليس منَّا }

(أخرجه الترمذي والطبراني وابن ماجه)

هذا ليس وحياً متلوّاً، لم يأتِ هكذا من جبريل، لكنه وحيٌ غير متلوّ، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قاله، فمعناه وحيٌ من الله، ولفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)) الوحي لا يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا مِن خلفه، أما كلام البشر، يأتيه الباطل لأنَّه كثيراً ما يكون بخطأٍ مقصودٍ أو غير مقصود، عن هوى نفس، أو عن رغبةٍ في الداخل من غير أن يشعر بها الإنسان.

صفات جبريل عليه السلام:

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5)
(سورة النجم)

شديد القوى هو جبريل عليه السلام، والقوى جمع قوّة، والمَلَك الموكّل بنقل الوحي يجب أن يكون شديد القوى، قوة في الذكاء، في الانتباه، في الملاحظة، في النقل، حتى لا يُخطئ في النقل، يعني الملائكة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
(سورة التحريم)

شديد القوى.

ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6)
(سورة النجم)

(ذُو مِرَّةٍ) يعني ذو مظهر حسن، فلان ذُو مِرَّةٍ يعني ذو مظهرٍ حسن، (فَاسْتَوَىٰ) يعني ظهر على صورته الحقيقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، لمّا كان ينزل إلى الأرض، كان يأتي أحياناً على شكل رَجُل، لمّا جاءه بحديث علم الدين المعروف، الإيمان، أخبرني عن الإسلام، عن الإيمان، عن الإحسان، عن الساعة، جاءه على شكل رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه مِنّا أحد، والصحابة الكرام رضوان ربي عليهم ظنّوه رجلاً، ما عَرفوه أنه مَلَك حتى انصرف، فسألوه من هذا؟ قال: ذاكَ جبريل أتاكم يُعلّمكم دينكم.

{ بينما نحن عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم ذاتَ يومٍ إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثيابِ شديدُ سوادِ الشعرِ ، لا نرَى عليه أثرَ السفرِ ولا نعرفُه ، حتَّى جلس إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم فأسند ركبتَه إلى ركبتِه ووضع كفَّيهِ على فخذِه ثمَّ قال : يا محمدُ أخبرْني عن الإسلامِ ، ما الإسلامُ ؟ قال : أنْ تشهدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهَ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ وتقيمَ الصلاةِ وتؤتيَ الزكاةَ وتصومَ رمضانَ وتحجَّ البيتَ إنِ استطعتَ إليه سبيلًا . قال : صدقتَ : قال عمرُ : فعجِبنا له يسألهُ ويصدقُه . فقال : يا محمدُ أخبرني عن الإيمانِ ما الإيمانُ ؟ قال : الإيمانُ أنْ تؤمنَ باللهِ وملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليومِ الآخرِ والقدرِ كلِّه خيرِه وشرِّه . قال : صدقتَ . قال : فأخبرني عن الإحسانِ ما الإحسانُ ؟ قال : أنْ تعبدَ اللهَ كأنك تراهُ فإن لم تكنْ تراهُ فإنه يراكَ . فقال : أخبرني عن الساعةِ متى الساعةُ ؟ قال : ما المسئولُ عنها بأعلمَ من السائلِ . فقال : أخبرني عن أماراتِها . قال : أنْ تلدَ الأمةُ ربَّتها وأنْ ترَى الحفاةَ العراةَ العالةَ رعاءَ الشَّاءِ يتطاولونَ في البناءِ ، قال : ثمَّ انطلقَ الرجلُ ، قال عمرُ : فلبثتُ ثلاثًا ثمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم : يا عمرُ أتدري من السائلُ ؟ قلتُ : اللهُ ورسولُه أعلمُ . قال : فإنه جبريلُ عليه السلامُ أتاكم يعلِّمَكم دينَكم }

(أخرجه مسلم)

لكن في المعراج، استوى بمعنى أنه رآه على صورته الحقيقية، بأجنحته، مِئات الأجنحة، ستمائة جناح كما ورد في الأحاديث، (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ).

وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7)
(سورة النجم)

هنا اختلف المفسّرون، منهم من قال: (وهو) أي رسول الله، وجمهور المُفسّرين قالوا: هو جبريل عليه السلام، والمعنيان يحتملان، يعني إن قلنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَلغ الأُفق الأعلى عند الله تعالى، صحيح، وكذلك هو جبريل عليه السلام،

ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8)
(سورة النجم)

إما أنَّ رسول الله اقترب، أو أنَّ جبريل عليه السلام دنا، (فَتَدَلَّىٰ) اقترب أكثر، يعني أنت تجلس تحت الدالية.

قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
(سورة الحاقة)

تجلس تحت الدالية، يسمّونها دالية، تدنو منك قِطف الأعناب ثم يتدلى، دالية يتدلى إليك، (دَنَا فَتَدَلَّىٰ) أي اقترب وازداد قُرباً في هذه الليلة.

فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9)
(سورة النجم)

يعني بحدود ارتفاع قوسين، كانت العرب تتكلم بالقوسين، يعني صلاة الضُحى عند ارتفاع الشمس في السماء بمقدار قوسين، (قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ) يعني بمقدار قوسين أو أقل حتى من قوسين، ما هو مقدار القوس؟

الله تعالى أوحى إلى نبيه في السماء السابعة وهو في أعلى مقام العبودية:

فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10)
(سورة النجم)

هناك في هذه النقطة القريبة جداً جداً من جلال الله تعالى، ومن وذاته العليَّة جلَّ جلاله، أوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، وهنا نلتقي من جديد مع قوله:

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1(
(سورة الإسراء)

وهو في أعلى مقام كان بالعبودية، وهو الآن في أعلى مرتبة في السماء السابعة قال: (فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ) ولم يقُل إلى رسوله، مع أنه قد يُتوهم من السياق مادام وحي، فإنَّ الوحي يكون إلى الرُسل، لكن يريد أن يُخبرك جلَّ جلاله، عن عبوديته صلى الله عليه وسلم وهو في هذا المقام العالي، (فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ).

النبي صلى الله عليه وسلم رأى بقلبه ورأى ببصره آيات ربه:

مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11)
(سورة النجم)

يعني ما كَذب قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره، أحياناً الإنسان يرى ببصره ويُكذّب بقلبه، يرى الشيء ببصره لكن يُكذّبه بداخله، يقول لك: أنا لا أُصدّق، يقول لك: هل فلان يفعلها، فيُكذّب الخبر بقلبه، لكن هنا توافق كامل قال: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) فقد رأى ببصره ورأى بقلبه، نحن عندنا رؤية قلبية، ورؤية بصرية، رأى البصرية تأخذ مفعول به واحد، رأيت القمر هذه رأى البصرية، رأيت الله أكبَّر كل شيءٍ، تحتاج مفعول به ثاني، أو رأيت العِلم، العِلم لا يُرى، نافعاً، فهذه رأى القلب، فهناك رأى البصر، ورأى القلب، فعندما يتوافق القلب مع البصر هذه أعلى درجات الرؤية، قال: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى).

أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12)
(سورة النجم)

مريت الدابة، يعني حلبتها حتى آخر شيء ممكن، فالمِراء هو حالة جدال تشتدُّ بشكل شديد جداً، يعني زائدة عن الحد المعقول، مِراء، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ أنا زعيمٌ ببيتِ في رَبَضِ الجنةِ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا،وببيتِ في وسطِ الجنةِ لمَن تركَ الكذبَ و إن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنةِ لمَن حَسُنَ خُلُقُه. }

( صحيح أبي داوود)

يعني يتناقش مع زميله في قضيةٍ، ووصلت إلى حد المِراء، يعني جدال عقيم لا يوجد نتيجة، فقال له: كما تُحبّ، ليست قضية عُقدية دينية، يعني مثلاً أسعار الدولار ترتفع وتنخفض، (لِمَن تَرَكَ المِراء وإنْ كان مُحقَّاً) يعني يعلم أنَّ الحقَّ معه.
(أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ) بعد كل ذلك تشتدّون في جداله في شيءٍ رآه وما كذَّبه فؤاده، قال:

وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13)
(سورة النجم)

أي رأى محمدٌ صلى الله عليه وسلم جبريل، (نَزْلَةً أُخْرَىٰ) أي مرةً أُخرى.

عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ (14)
(سورة النجم)

رآه مرتين في هذه الليلة، الثانية عند سِدرة المُنتهى، والسِدرة شجرةٌ في السماء السابعة، وهذه الشجرة كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، ثمارها قِلال هَجَر، يعني الأوعية الكبيرة التي يطهون بها في هَجَر، كقلال هَجَر، وأوراقها آذان الفيَلة، حجمها كآذان الفيَلة، هذه الشجرة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي هي أدنى ما تكون من العرش في السماء السابعة.

عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15)
(سورة النجم)

الجنَّة التي أعدّها الله مأوى لعباده المتّقين هناك في السماء السابعة، عند سِدرة المنتهى، أقصى ما يصلهُ إنسان قبل بلوغ عرش الرحمن جلَّ جلاله، (عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ)

إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (16)
(سورة النجم)

يعني يغشاها من الله عز وجل شيءٌ عظيمٌ يصعب وصفه، (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ) ما قال لك، يعني يغشاها من جلال لله، من هيبة الله، من رحمة الله، (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ).

النبي صلى الله عليه وسلم كان مُتأدباً مع الله فما زاغ بصره ولم يطغى:

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17)
(سورة النجم)

أحياناً بصر الإنسان يزيغ، يَمنةً أو يَسرةً، يعني :

يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
(سورة النجم)

يعلم خائنة الأعيُن جلَّ جلاله، فيزيغ البصر، فيتوهم أحياناً شيء رآه وهو لم يراه، وقد يطغى البصر بأن يتجاوز حدَّه، يطغى البصر، إذا إنسان جلس في بيت محترم، لا ينبغِ أن يطغى نظره، فينظر إلى مكان لا ينبغِ النظر إليه، لذلك من آداب المجالس أن يجلس الضيف حيث يأمره المُضيف، حتى يكون بمكان لا يكشف أهله، وحتى الصلاة، الرجل لا يُؤمُّ في بيته، إلا أن يأذن، فالإنسان يعرف كيف يقف وهو أدرى ببيته، فالبصَر لا ينبغِ أن يطغى، لكن قد يطغى بَصر الإنسان، يعني يتجاوز حدَّه، النبي صلى الله عليه وسلم، ما طغى بَصره في هذا المقام، وإنما له حدوده، وما زاغ لا يَمنةً ولا يَسرةً، كان مُتأدباً مع الله جلَّ جلاله فهو عبد الله، قال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ)

الآيات الكُبرى التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في معراجه:

لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ (18)
(سورة النجم)

هكذا وصفها الله، آيات، علامات دالّة على الله تعالى، رآها النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الرحلة، هذه الآيات، والآيات الكُبرى هي من الغيب الذي لم نراه، ولن نراه، لكننا نحن المؤمنين نؤمن به إخباراً، لأنَّ الله تعالى أخبرنا به، ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا ببعض تفاصيله، فنؤمن به، ماذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم من آيات ربه الكُبرى؟ طبعاً تعلمون أنه التقى بالأنبياء في كل سماء، بَدءاً من آدم عليه السلام إلى أن بلغ السماء السابعة، والتقى بإبراهيم الخليل عليه صلاة ربي وسلامه، وعلى جميع الأنبياء، إدريس ويحيى وموسى ويوسُف، في كل سماء كان يلتقي بنبي من أنبياء الله ويُفتَح له، فيستقبله أهلاً بالأخ، أهلاً بابن الخالة، أهلاً بالولد كما قال سيدنا آدم، بالابن الصالح، بالنبي الصالح، إلى آخره...
فهذه من آيات الله التي رآها في السماوات، ومن آيات الله التي رآها أنه رأى الجنَّة والنار، هل رآهما بمعنى أنهما مخلوقتان ورآهما؟ رُبما هذا كلام بعض أهل العِلم، أو أنه رآهما بإراءة الله له للمستقبل، لأنه نحن الماضي والحاضر والمستقبل أزمانٌ تحكُمنا، أما عند الله فالزمن مُعطّل، هو عطَّل له الزمن كله، فقضى الرحلة كلها وعاد وفراشه دافئ، فالزمن كله مُعطّل الآن، خلق الزمان مسحوب، لأنَّ الرحلة خلاف العادات، غير مألوفة، فلعلَّ الله عز وجل أطلعه على ما سيكون، هذا شيء ممكن، أو أنهما موجودتان هذا أمره إلى الله، غيب، لكنه رأى الجنَّة والنار.
حتى قال بعض السلف الصالح:" لقد رأيت الجنَّة والنار، قالوا له: كيف رأيتهما؟! قال: لقد رأيتهما بعينَي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لهما بعينَي رسول الله أصدق عندي من رؤيتي لهما بعينيّ، لأنَّ بصري قد يزيغ وقد يطغى أما بصرُه صلى الله عليه وسلم (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ)".
فنحن الآن نرى الجنَّة والنار برؤية رسول الله لهما، ونؤمن بوجودهما، بإخبار الله لنا وبإخبار رسول الله لنا، فأصبحت رؤيتنا له ما ليست رؤيةً غيبيَّةً فحسب، إخباريّة، وإنما بصريةً لأنَّ من نثق به أعظم ثقة، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أراه الله الجنَّة والنار عياناً، فرأى الجنَّة وأخبره موسى عليه السلام فقال له: << يا محمد أقرِأْ أُمّتك مني السلام، موسى عليه السلام يُسلّم عليكم، قال: السلام عليكم، ويقول لكم، وأخبرهم: أنَّ الجنَّة طيّبةُ التربة، سيدنا موسى يُرغّبُنا بالجنَّة ويقول له: أخبر قومك، أُمّتك، الأُمَّة وليس القوم، أُمّتك وإلى قيام الساعة، أنَّ الجنَّة طيّبةُ التربة، عَذبةُ الماء، وأنها قيعان، وأنَّ غِراسَها سبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلهَ إلَّا اللَّهُ واللَّهُ أكبرُ>>

{ لقيتُ إبراهيمَ ليلةَ أسريَ بي فقالَ يا محمَّدُ أقرئ أمَّتَكَ منِّي السَّلامَ وأخبرْهم أنَّ الجنَّةَ طيِّبةُ التُّربةِ عذبةُ الماءِ وأنَّها قِيعانٌ وأنَّ غِراسَها سبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلهَ إلَّا اللَّهُ واللَّهُ أكبرُ }

( أخرجه الترمذي والطبراني)

هذه غِراس الجنَّة، فمن أراد أن يغرس له غرساً في الجنَّة، فليُكثر من هذه التسبيحات، التي نقولها عَقِب كل صلاة، وقبل النوم، وفي أذكار الصباح والمساء، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى الجنَّة ونعيمها، ورأى نهر الكوثر الذي أعطاه الله تعالى لنبيّه، وقيعانه اللؤلؤ، قعره اللؤلؤ، وتربته المِسك، ورأى صلى الله عليه وسلم في المقابل النار، فرأى أقواماً لهم أظفارٌ من نُحاس، يجرحون بها وجوههم وصدورهم والعياذ بالله، فلمّا سأل جبريل عن ذلك قال: هؤلاء يأكلون لحوم الناس ويخوضوا في أعراضهم، يخوض في أعراض الناس، يتكلّم على عِرض فلانة وفلان، ويخوض في الأعراض والعياذ بالله، ويأكل لحم أخيه:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)
(سورة الحجرات)

ورأى آكِلي الرِبا وما يفعلون بأنفسهم، ورأى صلى الله عليه وسلم أصنافاً من الناس يُعذَبون في النار بأفعالهم، وهذا من آيات الله الكُبرى، ورأى قوماً تُقطَّع ألسِنتهم وتُقرَّض شِفاههُم، والعياذ بالله، فسأل جبريل عليه السلام عنهم فقال له، والحديث مُخيف جداً قال: هؤلاء خُطباء أُمّتك من أهل الدنيا، الذين يأمرون الناس بالبرِّ وينسون أنفسهم

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
(سورة البقرة)

{ مررْتُ ليلةَ أُسرِيَ بي بأقوامٍ تُقرضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ من نارٍ ، قُلْتُ : من هؤلاءِ يا جبريلُ ؟ قال : خُطَباءُ أمتِكَ الذينَ يقولونَ ما لا يفعلونَ ويقرؤونَ كتابَ اللهِ ولا يعملونَ بِه }

(أخرجه أحمد والبزار)

خُطباء! يعتلون المنابر، ويأمرون الناس بالبِرّ ثم هُم من أهل الدنيا يريدوا أن يبيعوا دينهم بِعَرضٍ من الدنيا قليل، ليُرضوا فُلاناً أو فُلاناً من أهل الدنيا، فيلوون ألسِنتهم بالكتاب والعياذ بالله، ويأمرون الناس بالبِرّ، ثم إذا كان موقفٌ يجب أن يقفوا منه الموقف الشرعي الصحيح، إذا بهم ينسون أنفسهم وينساقون وراء شهواتهم، أو وراء ما يُحقِّق لهم الرِفعة في الدنيا على حساب دينهم والعياذ بالله، فهذا كله من ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءه جبريل في هذه الرحلة بثلاث أواني مملوءة، واحدٌ مُلئ خمراً، وواحدٌ مُلئ عسلاً، وواحدٌ مُلئ لبناً، فاختار النبي اللبن، فقال له: قد أصبت الفِطرة، الفِطرة التي فطر الله الناس عليها بيضاء نقيّة كاللبن، وطعام طيب حلال، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم، ما أكل طعاماً إلا حَمَد الله عليه، إلا اللبن كان يقول اللهم زِدنا منه، يسأل الله الزيادة من اللبن، فهو طعام الفِطرة التي فطر الله الناس عليها.
وفي تلك الليلة شمَّ النبي صلى الله عليه وسلم رائحةً لم يشم مثلها قطّ، رائحة جميلة جداً، فقال: يا جبريل رائحة مَن هذه؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون، قال له مَن هذه؟ وما شأنها؟ حدثني عنها، قال له: كانت تُمشّط شعر بنت فرعون، الماشطة وكانت مؤمنة، فسقط المِدرا من يدها، يعني المِشط، فنزلت لتأخذه فقالت: بسم الله، فقالت لها بنت فرعون أبي؟ هل تريدِ أن تأخذي المشط باسم أبي، سمعت بسم الله، قالت لها : لا، في قصر فرعون! قالت لها: بل ربّي وربُّكِ وربُّ أبيكِ الله، قالت: ألكِ ربٌ سوى أبي، قالت لها: نعم، ربّي وربُّكِ الله، فأخبرت أباها، فأمر ببقرةٍ من نحاس فحُميَّت، ووضع فيها الزيت يغلي، ثم جاء بها وبأبنائها، ليُلقيها في الزيت، فسألها من ربُّكِ؟ فقالت: رَبّي ورَبُّك الله، فأراد أن يُلقيها، فقالت له: إني لي عندك حاجة، إذا مُتّ أنا وأولادي فاجمع عظامي وعظامهم في قبرٍ واحد، فقال لها: هذا لكِ علينا من الحقّ، نُعطيكِ إياه، هذا الطلب الأخير، فلمّا بلغ الرضيع قبل أن يُلقيها وقد ألقى أولادها، وبلغ الرضيع، يقول جبريل: فكأنها تقاعست، عند الرضيع، الرضيع مُتعلّق بأمه، فقال الرضيع: مّه كُفِّ، قال: اثبتي يا أُمّاه فأنتِ على حقّ، فإنَّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقوّاها، فألقاها في الزيت المغلي، فشمَّ النبي رائحة المِسك منها في ليلة المعراج.
وهذه العبارة إنَّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، نُهديها اليوم لإخواننا في غزَّة، في فلسطين، الذين يجدون ما يجدون من عذاب الدنيا، نُهديها لكل إنسان يجد اليوم من ضيق العيش، ويجد ما يجده من تكالب الناس عليه، وقد تركه الأخ والصديق والحبيب، والناس انشغلوا عنه باحتفالاتهم وبلهوهم وببعدهم عنه، نقول له: إنَّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهذا لا يُعفِ أحداً من تقصيره، ولكنه بشارةٌ لهم، لأنَّ الله عز وجل لا تساوي الدنيا عنده جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عنده جناح بعوضة، ما سقى كافر منها شربة ماء

{ لو كانت الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ }

(أخرجه الترمذي وابن ماجه)

قال مَن آمن منهم، قال ومَن كفر.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
(سورة البقرة)

سيدنا إبراهيم رأى أنَّ الرِزق نريده فقط للمؤمنين، فأجابه الله قال: (قَالَ وَمَن كَفَر) لكن ومَن كفر (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا) يأخذ الدنيا (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
يوم القيامة عندما يُغمَس أشقى وأتعس أهل الأرض، غمسةً واحدةً في الجنَّة، وهو أشدّ أهل الأرض بؤساً، فيُغمَس غمسةً في الجنَّة فيقول: لم أرَ بؤساً قط! ما رأيت بؤساً قط، ينسى بؤس الدنيا كلها، نومه في العراء، وتحت القصف، وفَقَد من فَقَد من أحبابه، والجرح، والمرض، والشعور بالوحدة مع تخلي الناس عنه، كل هذه ينساها بغَمسةٍ في الجنَّة، وفي المقابل يؤتى بأنعم أهل الأرض، يعني الذين عاشوا في القصور، وأكلوا من أطايب الطعام، وناموا على السُرُر الوثيرة، ووجدوا من الدنيا ما وجدوا، يؤتى بأنعم أهل الأرض فيُغمَس غَمسةً في النار، ممن استحق النار طبعاً، فيقول: لم أرَ نعيماً قط! غَمسةٌ واحدةٌ تُنسي آلام الدنيا كلها، وغَمسةٌ واحدةٌ في المقابل تُنسي أفراح الدنيا كلها.
فالدنيا لا تساوي عند الله تعالى شيئاً، هذه حقيقة، لأنها زمنٌ يسير في مقابل الأبد، وما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غُمَس في مياه البحر، فلينظر أحدكم بما يرجع.

{ واللهِ ما الدنيا في الآخرةِ إلا مثلُ ما يجعلُ أحدُكم إصبعَه في اليمِّ ، فلينظر بم يرجعُ }

(صحيح مسلم)

أحضِر إبرة واغمسها بالمحيط الأطلسي وارفعها، هذه الدنيا من الآخرة، فقال لها هذا الرضيع يا أُمَّاه: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، هذه الكلمة والله، وحدها بلسم لصدور كل إنسان يُعاني في الدنيا ما يُعانيه، لأنَّ ما ينتظره عند الله عز وجل أعظم بكثير، وفي المقابل هي تهديدٌ ووعيد لكل من تخلّى وترك دينه وتنازل عن مبدأه، وعن قيمه، وعن قضيته، بأنَّ عذاب الآخرة عظيم، ونعيم الدنيا لا يساوِ شيئاً أمام نعيم الآخرة.
فأسأل الله تعالى في ذكرى الإسراء والمعراج، أن يجعلنا دائماً بأرواحٍ تعرج إليه، العروج هو الصعود، والصلاة معراج المؤمن، والصلاة فُرِضت في المعراج، خمسين صلاة، ثم أمضى الله فريضته خمس صلوات، وخفّف على عباده فجعلها بأجر خمسين، وما فرضها خمسين ثم خفّفها إلى خمس، إلا ليُبيّن هذا المعنى رحمةً بنا، بأنّ الصلوات ضمن حدود الوسع والطاقة، وأنَّ الأجر أعظم بكثير من الفعل، فجعل الخمس بخمسين جلَّ جلاله رحمةً منه، ففُرِضت الصلاة في المعراج، كلُّ الفرائض فُرِضت بوحيٍ يوحى من الله، إلا المعراج أتى الله بنبيه إليه وفرض عليه الصلاة.
يعني ملِك من ملوك الأرض يُرسِل رسائل للوزير إذا يوجد أمرٌ مهم، ولله المثل الأعلى، يقول له تعال إلي، تعال إلى القصر، إذا أراد أن يُخبره بشيءٍ مهم، فالملِك جلَّ جلاله ملِك الملوك في الصلاة قال له: تعال إلي، اعرج إلي، لأنَّ الصلاة هي معراج أُمَّتك من بعدك إلي، فإذا أردت أن تعرج إلى الله فعليكم بالصلاة، فهي معراج المؤمن إلى ربِّ الأرض والسماوات، ففي ذكرى المعراج نتعلّم دائماً أن نحرص على صلواتنا، وعلى أداءها، وعلى أداءها في جماعات ما أمكن، وعلى أن نُتقِنها في أداءها وفي خشوعها، لعلَّ الله عز وجل يرقى من خلال الصلاة بنا إليه جلَّ جلاله، فالصلاة معراج المؤمن، هذا والله تعالى أجلُّ وأعلم، والحمد لله ربِّ العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.