• محاضرة في الأردن
  • 2024-03-04
  • عمان
  • الأردن

على أبواب رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصلّي وأُسلِّم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، حيّاكم الله إخواني جميعاً بارك الله بكم.

العبادة هي أن تجعل حياتك خاضعة لمنهج الله وفي طاعة الله:
أيُّها الإخوة الأحباب، نحن على أبواب رمضان، ورمضان شهر العبادة، شهرٌ من أشهُر العام المُتميزة في عبادة الله تعالى، هذا أصله، والعبادة في مفهومها العام هي أن يُعبِّد الإنسان نفسه لخالقه، نحن نقول طريقٌ مُعبّدة يعني مُزلَّلة، حتى تطأها الأقدام أو حتى تمشي عليها الحافلات، مُعبّدة يعني مُزلَّلة، خاضعة، فالعبادة في الأصل هي أن يجعل الإنسان حياته خاضعةً لمنهج الله، في عصور الإسلام الزاهرة فَهِم المسلمون العبادة على هذا النحو، فجعلوا حياتهم في منهج الله، وفق منهج الله، في طاعة الله.
في العصور المُتأخرة فَهِم كثيرٌ من المسلمين العبادة على أنها الشعائر، والشعائر هي من أهم العبادات لكنها ليست العبادات كلها، الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، هذه الشعائر، التي بُنيَّ الإسلام عليها، لكن العبادة فيها صِلة أرحام، العبادة فيها صدق، فيها أمانة، فيها حُبّ، فيها إخلاص، فيها إيثار، فالعبادة شاملة لكل نشاط الإنسان، عمله عبادة، جهاده في سبيل الله عبادة، زواجه عبادة، تربية أولاده عبادة، إذا أتى زوجته عبادة، يعني إلى هذا الحد، فالعبادة هي مُجمل حياة الإنسان، بدءاً بدخوله إلى بيت الخَلاء، وانتهاءً بعلاقاته الدولية مع الأعداء، كلها ينبغي أن تَنضبط وفق منهج الله، هذه هي العبادة.
والعبادة تشمل شيئين، فهي تلك الطاعة والعبودية لله مع الحُبّ، فمن أطاع ولم يُحبّ ما عَبد الله، ومن أحبَّ ولم يُطِع ما عَبَد الله حقّاً، فالطاعة مع الحُبّ عبادة، يعني بالخدمة الإلّزامية، أو الخدمة العامة في الجيوش كلها، الجنود يُعبِّدون حركتهم لمنهج الجيش تعبيد كامل، يعني الاستيقاظ له موعد مُحدَّد، النظام المُنضّم له طريقة محدَّدة في حركة الأيدي، الطعام له وقتٌ مُحدَّد، إذا قال الضابط للجندي مُنبطِحاً، ما أن يُتِم كلامه حتى يكون الجندي قد انبطح على بطنه أرضاً استجابةً لأمر معلّمه، وقد يكون في داخله يدعو عليه لأنَّه ظَلمه، لكن هو في النتيجة يُعبِّد نفسه لمنهج الجيوش، لكن ليست هذه العبادة الحقيقية في الإسلام، وإذا قال إنسان أنا أُحِبّ جداً الله تعالى لكنَّني لا أُطيعه فيما أمر، أيضاً هذا نقصٌ كبير في العبودية لله تعالى، فالعبودية هي ذاك المزيج من طاعة الله تعالى مع حُبِّه، فهي طاعةٌ طوعيّةٌ اختيارية، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، فإذا اجتمعت الطاعة الطوعيّة الاختيارية مع الحُبّ المبني على معرفة الله، وعلى فضل الله علينا، وما يغذونا به من نِعمه وفضله، وأنه المربّي جلَّ جلاله، إذا اجتمعت الطاعة مع الحُبّ كانت العبادة الحقّ لله تعالى.
أيُّها الكرام لكن هناك عبادات ثلاث، هناك عبادة نُسمّيها عبادة الوقت، وهناك عبادة نُسمّيها عبادة الهوية، وهناك عبادة الظرف.

من أنواع العبادات أولاً: عبادة الوقت:
عبادة الوقت، كان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول:<< إنَّ لله عملاً بالليل لا يَقبله بالنهار، وإنَّ لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل>>، يعني ببساطة جداً صلاة الظهر والعصر للنهار لا تُقبل بالليل، إلا أن تكون قضاءً عن نسيانٍ أو نومٍ عنها، والمغرب والعشاء لليل لا تُقبل بالنهار، إلا أن تكون عن نسيانٍ أو سهوٍ بنومٍ أو نسيان، قِسّ على ذلك أبعد منه بكثير، مثلاً شخصٌ في النهار ترك عمله، وترك رزقه، وأوى إلى سجادته يُصلّي النفل، وأولاده لا يجدون ما يأكلون، وقال لك: أنا أعبُد الله تعالى، هذه عبادة الليل ليست عبادة النهار، فالوقت له عبادة، رمضان في نهاره عبادته الصيام، واحد شوال عبادته الإفطار، فلو أنَّ إنساناً استيقظ في واحد شوال وقال: سأبدأ صيام الست، نقول له: هذا صومٌ مُحرَّم، اليوم عبادتك أن تُفطِر.
الحُجّاج يقفون في عرفات يبتهلون إلى الله، يدعونه، ثم ينفرون إلى مُزدلفة، في مُزدلفة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "السكينة، السكينة"، ناموا الآن، العبادة النوم الاستراحة، تعبُد الله بأن تنام، أيام مِنى أيام أكلٍ وشُرب، عبادة الله في أيام مِنى الأكل والشُرب، فهُناك عبادة اسمها عبادة الوقت، هذا من فقه العبادة، أن لا يخلِط الإنسان في الوقت بين عبادتين، سيدنا عمر رضي الله عنه كان يقول: " إنّي إن نِمتُ ليلي كله أضعت ديني وأضعت ربي، علاقتي بربّي، وإن نِمتُ نهاري أضعت رعيتي".
النهار فيه عمل، إذا شخص موظف من أجل أن يُتابِع المراجعين، وأثناء المُتابعة أحبَّ أن يُتِم الختمة القرآنيّة، وأخذ زاويةً والمراجعون ينتظرون دورهم وهو يقرأ القرآن، قراءة القرآن في هذا الوقت ليست عبادة الوقت، هذا ليس وقته، إذا امرأة قضت الليل كُله وهي تُناجي ربها وتُصلّي القيام، ثم صلّت الفجر عند الأذان ونامت، فاستيقظ أولادها إلى المدرسة في الجو البارد، ولم تُكوى ملابسهم بَعد، وهُم صغار، ولم تتأكد من حقائبهم أنهم أخذوا الكُتب المطلوبة، ولم تودّعهم بابتسامةٍ على الباب، فهي عَبدت الله في غير ما أقامها الله به، لو أنها أوَت إلى فراشها بعد العشاء، واستيقظت قبل الفجر بنصف ساعة، وصلّت ركعتين قيام الليل، ودفَأت البيت، وأيقظت أولادها لكانت قامت بعبادة الوقت، فهذا الفهم للعبادة ينبغي أن يكون عند المسلمين جميعاً بأنَّ هناك عبادة للوقت.

ثانياً عبادة الهوية:
العبادة الثانية نُسمّيها عبادة الهوية، من أنت؟ كل إنسان يسأل نفسه من أنا؟ أنا تاجر، عندي مال كثير، هويتي تاجر، إذاً عندي عبادة خاصّة بي مهمة جداً، وهي عبادة إنفاق المال، فلا ينبغي أن أقول أنا أُصلّي وأصوم وأحُج، وكل سنة حجة، أنت عندك عبادة خاصّة، أنت أقامك الله تاجراً، الآخر أقامه الله مُعلِّماً، عبادته الأولى أن يُربّي الأجيال، أن يَعِظهم، أن يُنمّي فيهم جانب الخير، أن يُتابِع واجباتهم، له عبادة خاصّة، الأم لها عبادة خاصّة، الأب له عبادة خاصّة، في هويته غير العبادات العامة المطلوبة من الجميع، اليوم المُجاهد على الثغور في الرباط له عبادة خاصّة، أن يمنع الأعداء من الدخول، من الاقتحام، من ثَغره، فكلُّ إنسان في المكان الذي أقامه الله تعالى به، سواءً بشكلٍ عام أو في وقتٍ مُحدّد، له عبادة نُسمّيها عبادة الهوية، من أنت؟ تَعبُد الله فيما أقامك الله، فهناك أشخاص أعطاهم الله المال، هناك أشخاص أعطاهم العِلم، هناك أشخاص أعطاهم المنصِب، فعبادتهم من خلال هذا المنصِب أو المال أو العِلم، إلى آخره....

ثالثاً عبادة الظرف الذي أنت فيه:
العبادة الثالثة هي عبادة الظرف، الظرف الذي أنت فيه، هذه غير عبادة الوقت، الظرف الذي أنت فيه، في هذه اللحظة جاءك ضيف إلى البيت، عبادتك الأولى إكرام الضيف، أنت الآن في ظرف عبادتك الأولى إكرام الضيف، في مجلس عِلم عبادتك الأولى الاستماع للحقّ، في ليل رمضان وليالي القدر عبادتك الأولى القيام والدعاء، فهذه عبادة اسمها عبادة الظرف، الظرف الذي وضعك الله فيه، اليوم عندنا حَدث مُهم في غزَّة، المسلمون يُعانون ما يُعانون، ظرف هذه العبادة أن ندعوا لهم في كل صلاة، أن ندعوا لهم عَقِب كل صلاة، أن نُظهِر معهم التعاطف، والتآزر، أن لا نُظهِر فرَحَنا وهُم في حُزن، ثم بعد ذلك من يستطيع أن يُمدّهم بالمال يُمدّهم، من يستطيع أن يُمدّهم بدعائه يُمدّهم، كل إنسان بما يستطيع، بطعام، بشراب، بكساء، كل إنسانٍ يبحث عن مدخل أو مخرج من أجل أن يصل إليهم، هذه عبادة الظرف، نحن في ظرف خاص، له عبادة خاصّة.
فعندما نفهم العبادة على أنّها وقت، وهوية، وظرف، فهذا فقه العبادة، العبادات العامة معروفة، الصلاة، الصيام، الزكاة، الحج، صِلة الأرحام، إلى آخره، هذه تخصّ كل المسلمين، لكن هناك عبادات مخصوصة تكون لها الأولوية في حياة الأشخاص، الطالب عنده امتحان في اليوم الثاني، عبادة الظرف الآن أن يدرس، أن يُتابِع دروسه، وليس أن يُهملها ويجلس مثلاً يقول أنا أعبد الله بالأذكار مثلاً، مع أنَّ الأذكار مهمة جداً، لكن أنت الآن عندك غداً امتحان، فعبادتك الأولى أن تدرس لتُحقق علامات عالية في الامتحان لتكون سنداً لأمتك وعوناً، ثم تذكر الله بعض الوقت، تدعوه، تستغيث به، هذا مؤكد لا شكَّ فيه، فهذه العبادات على هذا الشكل.

لا تصح حركتك في الحياة حتى تكون متوافقة مع هدفك:
الأمر الآخر أيُّها الكرام، سأضرب مثلين مُنتزعين من الواقع، لأصِلَ من خلالهما إلى عبادة رمضان.
المثال الأول يقول: الإنسان أيُّها الكرام لا تصحّ حركته في الحياة حتى يعرف هدفه، أنت الآن انزل إلى الشارع تريد أن تتحرك، إذا كنت لم تُحدّد بعد إلى أين تريد أن تذهب فلن تصح حركتك، أول شيء تُحدّد الهدف ثم تسير إليه، إذاً ينزل إلى الشارع، يُحدّد الهدف، ثم يتحرك نحوه.
شخصٌ سافر إلى باريس، باريس عاصمة كبيرة، أوربية، مُترامية الأطراف، فيها المتاحف، فيها المنتزهات، فيها المتاجر، فيها كل شيء، نام في الفندق، نزل صباحاً إلى الاستقبال، قال له: إلى أين أذهب؟ كيف أذهب؟ قال له: أنت ما الذي تريده حتى أقول لك إلى أين تذهب؟ إن كنت جِئت سائحاً سأدّلك على المقاصف والمنتزهات، وإن جِئت طالباً سأدّلك على الجامعات والمدارس والمعاهد، وإن جِئت تاجراً سأدّلك على المعارض والمتاجر، فقُل لي ما الذي قد جاء بك حتى أقول لك كيف تتحرك؟ هذه طبيعية لا تصحّ حركة الإنسان حتى يعرف هدفه.
المثال الثاني: تتمة ذلك وهو أنَّه لا يسعد حتى تأتي حركته متوافقةً مع هدفه، لا يشعر بالطمأنينة الإنسان إذا كان يتحرك بخلاف هدفه، أوضح مثال على ذلك أنَّ طالباً في التوجيهي، الشهادة الثانوية، عنده غداً امتحان مهم، هو علمي وعنده غداً امتحان رياضيات، أهم مادة، والمادة الأحد، وزملائه ألحّوا عليه يوم السبت أن يذهب معهم في نُزهةٍ جميلةٍ إلى مكانٍ جميل، ماء، وخضرة، وطعام طيب نفيس، تحت إلحاحِهم ذهب، هم مُستمتعون هو ليس مستمتعاً، هو يشعر بكآبة، لا يُصدِّق متى سيعود إلى البيت ليأوي إلى كتابه ويُراجع دروسه، ما الذي جعله غير سعيد؟ أنَّ حركته لا تتوافق مع هدفه، الآن ليس وقت النُزهة، الآن وقت الدراسة.
مثال آخر، عندنا في الشام في محلات لبيع السجّاد، قديمة، فيها عُليّة وسُفليّة، والسجّاد مُتراكم فوق بعضه، لا يوجد مساحات كبيرة كما في بعض محلات السجاد، سهلة، فتُجّار السجّاد عملهم مُتّعِب جداً، فإذا كان هناك موسم، تاجر الألبسة يعرض الألبسة في خمس دقائق، ويرتبهم في خمس دقائق، تاجر السجّاد يُنزِل السجّاد ويفرده، ومن ثم ترتيب السجّاد يحتاج إلى ساعة كاملة، فكان يوم موسم، وباع أربعة أو خمس سجّادات، وأرباحه فيهم جيدة جداً، وقضى النهار وهو يفرِد السجّاد ويطوي السجّاد، عاد إلى بيته مُنهكاً لكنه سعيد، جلس في بيته، أخذ حمام، وهو سعيد مُبتسم، مع أنه مرهق و مُتعَب، لماذا؟ لأنَّ الحركة اليوم حقّقت الهدف وهو الربح، في أيام الكساد جلس على باب الدُكّان لا يوجد بيع، يوجد قهوة وشاي وزهورات ومتّة، طول النهار، وجلس على الطاولة يتفرج على الذاهبين والراجعين، لا يوجد شيء عنده، ورجِع إلى البيت وهو مرتاح كثيراً لكن مُنقبض، تقول له زوجته: ما شأنك؟ يقول لها: لستُ مسروراً أبداً، لا يوجد بيع أبداً، فهو لمّا أتعب جسده سَعِد لأنه حقّق هدفه، لكن لمّا أراح جسده انزعج لأنه لم يُحقّق هدفه، لذلك لا تصحّ حركتك حتى تعرف هدفك، ولا تسعد حتى تأتي حركتك موافقةً للهدف الذي أنت تسعى إليه.

الله خلقنا لعبادته وحده وخلقنا ليرحمنا:
لماذا خلقنا الله؟ قال:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
(سورة الذاريات)

العبادة ليست المقصودة بذاتها، يعني مثلاً لأنَّ بعض الناس يسألوا: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) يعني ربنا بحاجةٍ لعبادتنا؟ لا

{ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. }

(صحيح مسلم)

{ إنَّ اللهَ يقولُ: يا عِبادي، كلُّكم مُذنبٌ إلَّا مَن عافَيْتُ، فاستَغفِروني أغفِرْ لكم، ومَن علِمَ منكم أنِّي ذو قُدرةٍ على المَغفِرةِ فاستَغفَرَني بقُدْرَتي، غفَرْتُ له ولا أُبالي، وكلُّكم ضالٌّ إلَّا مَن هدَيْتُ، فسَلوني الهُدى أَهْدِكم، وكلُّكم فَقيرٌ إلَّا مَن أغنَيْتُ، فسَلوني أرْزُقْكم، ولو أنَّ حَيَّكم وميِّتَكم، وأُولاكم وأُخْراكم، ورَطْبَكم ويابِسَكم، اجتَمَعوا على قَلبِ أَتْقى عبدٍ من عِبادي لم يَزيدوا في مُلْكي جَناحَ بَعوضةٍ، ولو أنَّ حَيَّكم وميِّتَكم، وأوَّلَكم وآخِرَكم، ورَطْبَكم ويابِسَكم اجتَمَعوا، فسأَلَ كلُّ سائلٍ منهم ما بلَغَتْ أُمنِيَّتُه، وأَعْطيْتُ كلَّ سائلٍ ما سأَلَ، لم يَنْقُصني، إلَّا كما لو مرَّ أحَدُكم على شَفةِ البَحرِ، فغمَسَ إبرةً ثُم انتَزَعَها، ذلك لأنِّي جَوادٌ ماجدٌ واجدٌ، أفعَلُ ما أشاءُ، عَطائي كلامٌ، وعَذابي كلامٌ، إذا أرَدْتُ شيئًا فإنَّما أقولُ له: كُنْ، فيكونُ. }

(أخرجه ابن ماجه وأحمد)

فربُّنا ليس بحاجةٍ لعبادتنا، لكن ما معنى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) يعني أنا أقول لابني في المدرسة، أنا ما أرسلتك إلى المدرسة إلا لتدرس، أنا الهدف من إرساله للمدرسة هو فقط الدراسة؟ لا، هو أن يكون عضواً نافعاً في المجتمع، أن يسعد بزوجة وأولاد، وأن يكون مميز، وأن يُشار إليه بالبَنان، وأن يتفوّق، وأن يجد عملاً، وأن يؤسّس بيتاً، أنا هذه أهدافي، لكن هذه لا تتحقق إلا عن طريق واحد، وهو أن يدرس الآن، فقلت له: ما أرسلتك إلا لتدرس، وربنا جلَّ جلاله خلقنا ليرحمنا، قال:

إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
(سورة هود)


الطريق الوحيد لسعادة الإنسان أن تكون حياته وفق منهج الله:
لكن تلك الجنة لن نستطيع نيلها، ولا الدخول إليها، ولا السعادة فيها، إلا بطريقٍ واحدة، وهي أن نُعبِّد حياتنا لمنهجه، وإلا والعياذ بالله النار، فلذلك (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) لأنَّ الطريق الوحيد لسعادة الإنسان في الدنيا وفي الآخرة أن يجعل حركته وفق منهج الله.
إذاً ربنا جلَّ جلاله خلقنا ليُسعدنا، خلقنا لنعبده فيُسعدنا، الآن عندما تأتي حركتي في الحياة مُخالفة للهدف الذي خُلِقت من أجله هذا هو الشقاء.

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)
(سورة طه)

لماذا الناس يشعرون بالإحباط؟ بالاكتئاب؟ بالسوداوية؟ بالقلق؟ رُبما في مُقتبل العمر بلحظات مُعيّنة، يشعر أنه مستغنٍ عن الله والعياذ بالله.

كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)
(سورة العلق)

فتراه يفور ويهمُد، بلحظات مُعيّنة من التقدُّم في العمر يبدأ القلق، القلق لأنَّ الحركة في الحياة كانت مُناقضة للهدف واقترب اللقاء، وهو ما أعدَّ له شيئاً، مثل طالب التوجيهي، الوقت يمضي والامتحان يقترب وهو لم يُعدّ، فهو يكتئب كلما ازداد الوقت، فلذلك المؤمن يكون في أشدِّ ساعات حياته سروراً عند لقاء ربه، " غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه"، لأن الهدف الذي يسعى إليه وصل إليه، كرجلٌ ركب في سيارته، وذاهب نزهة إلى البحر، على مشارف البحر عندما يرى البحر يُسَرّ، انتهى العناء الذي عاناه في الرحلة، واقترب موعد الوصول والاستمتاع بالبحر.
فالمؤمن عندما يقترب من لقاء الله عز وجل، يُلقي الله في قلبه سعادة، وأمن، وطمأنينة، لأنَّه يَفِدُ على الكريم جلَّ جلاله، لأنَّه يَفِدُ على الله، قيل لأعرابي وهو على فراش الموت، قال: على من نَفِد؟ قالوا: على الله تعالى، قال: "الحمد لله إنَّ الكريم إذا حاسب تفضّل"، الحساب عند ربنا عز وجل، الكريم يتفضّل على عباده، فلن يسعد الإنسان إلا عندما تكون حياته وفق منهج الله، السعادة الحقيقية، أما لذائذ يُحققها، النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ الدُّنْيا سِجْنُ المُؤْمِنِ، وجَنَّةُ الكافِرِ. }

(صحيح مسلم)

نحن لا نُنكِر أنه يُحقِّق لذائذ في الدنيا، لكن:

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
(سورة هود)

السعادة في الجنَّة، الدنيا فيها لذائذ لكن فيها مُنغّصات، وفيها ضيق القلب

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)
(سورة طه)

وفي المقابل فيها الحياة الطيّبة.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
(سورة النحل)


سرّ السعادة والإنس بالله في رمضان:
فرمضان أيُّها الكرام ونحن على أبوابه، هو ذاك الشهر الذي نوجّه فيه طاقاتنا للهدف الذي خُلقنا من أجله، لذلك يقول لك رمضان جميل، جميل ليس بالتمر الهندي والعرقسوس، رمضان جميل لأنَّ نحن في عبادة، ونحن خُلقنا للعبادة، فنحن نُحقّق مهمتنا في الحياة، فربنا يُلقي في قلبنا السكينة، لأنّنا نشعر بأننا الآن نقوم بما خُلقنا من أجله، كالطالب الذي قبَع في بيته بالجو الحار، ولم يخرج إلى النزهة مع زملائه، وجلس بظروف صعبة، لكن أتمَّ الكتاب وحفظه وجاهز للامتحان، فيكون سروره عظيم جداً، رغم أنه أتعب نفسه، فنحن في رمضان، في النهار نجوع، وفي الليل نتعب، ورمضان النوم فيه قليل، والإنسان لا يستطيع أن يترك عمله، وعنده التزامات، وعنده صيام قد يطول في أيام الصيف، وقد يكون فيه حرارة، وقد يكون عمله مُتعِب، ثم بعد الإفطار فوراً، نصف ساعة تجده في المسجد، أو في البيت على قدميه قد بدأ بقيام الليل، في وقت السَحَر يستيقظ أيضاً ليغتنم هذه اللحظات المباركة.

{ تَسَحَّرُوا؛ فإنَّ في السَّحُورِ بَرَكَةً }

(صحيح البخاري)

فهو دائماً أربعة وعشرون ساعة مع الله، مستمر في الطاعة، لمّا ترك المُباحات، يخجل من الله أن ينطلق إلى المُحرّمات، فيغض بصره، يضبط لسانه" اللهم إني صائم"، يعفو عن الناس، يُسامح، هو في هذه الحالة الروحانية الآن، الآن يفعل ما خُلق من أجله، فيسعد بذلك، هذا سرّ السعادة في رمضان، سرّ الأُنس بالله في رمضان، سرّ السكينة التي تتنزل على قلوب الناس في رمضان.
رمضان أحبابنا الكرام فرصة نوعيّة، يعني رُبما أي واحد فينا الآن جالس، إذا فكّر بينه وبين ذاته في أقربائه أو معارفه، يعني يعد أربعة أو خمسة ممن يعرفهم، كانوا في رمضان الماضي معه وهذا رمضان لن يقضوه معه، هذا حال الدنيا، فلمَّا يُبلِّغ ربنا جلَّ جلاله الإنسان رمضان جديد، فهذا من نِعم الله تعالى، وتذكرة للإنسان بأنَّ ربنا مدَّ له في عمره عاماً جديداً، فلعلّه يُراجع حساباته، لعلّه يتوب إلى الله، فأنا أدعو جميع الإخوة الكرام الحاضرين والمتابعين، أن نُصفّي ونعمل جرد حسابات قبل رمضان، يعني الآن بقي سبعة أيام لرمضان أو ثمانية أيام، في هذه الأيام الثمانية نعمل صُلح مع الله، توبة، مراجعة حسابات، المشكلات المالية والعائلية العالقة، إما أن نَحُلها فوراً، أو نؤجلها ونُعلّقها إلى الرابع من شوال، لا نترك رمضان إلى الأشياء التي تستنفذ الوقت جداً، رمضان لا يسع غيره.

العمل عبادة في كل وقت إذا ابتغي به وجه الله تعالى:
هذا لا يعني أننا سنترك العمل في رمضان، العمل عبادة في كل وقت، مادام ابتُغي به وجه الله ووفق منهج الله، والمسلمون ما تركوا العمل في رمضان، الغزوات الأساسية كانت في رمضان، والجهاد في رمضان، والعمل في رمضان، لكن أنا أقصد أن لا نستنفذ طاقاتنا في رمضان بأشياء يمكن تأجيلها، فلنجعل رمضان شهر عبادة خالصة لله تعالى، ونحن في هذا رمضان تحديداً عندنا همّ كبير تعلمونه جميعاً

{ مَن أصبح وهَمُّه الدنيا، فليس من اللهِ في شيءٍ، ومَن لم يَهْتَمَّ بأمرِ المسلمينَ فليس منهم ، ومَن أَعْطَى الذِّلَّةَ من نفسِه طائعًا غيرَ مُكْرَهٍ ، فليس منا }

(أخرجه الطبراني)

ونحن إن شاء الله لا ننسى، ولا نألف، ولا نخون العهد إن شاء الله، لنا همّ كبير وهو همّ إخواننا في غزّة، نسأل الله أن يُفرِّج عنهم في رمضان وقبل رمضان، وفي كل وقت، وأن يُسعِدهم كما أسعدنا بدخول رمضان، وما ذلك على الله بعزيز.
اليوم قرأت لأخ من غزَّة على تويتر، يقول رجل في رفح يبحث عن التفسير السعدي للقرآن الكريم، إعارةً أو تَمليكاً، يعني وهو في مخيمات النزوح يريد مُصحفاً مُفسّراً للقرآن الكريم! ورأيت مشاهد لأطفال مجتمعين يقرؤون القرآن في رفح، ربنا إذا أراد أن يُسعِد إنسان، طبعاً المأساة كبيرة جداً لا نُنكِر ذلك، لكن يُسعِده في أصعب الظروف بالصِلة به، فلعلّ ربنا جلَّ جلاله يجبر خاطرنا بإخواننا في غزَّة في رمضان، وأن يُدخِل إليهم من السرور ما أدخله إلى قلوبنا، وكل عام وأنتم بخير، وأنتم الخير، والحمد لله ربِّ العالمين.