المحبة والاتباع

  • الحلقة الثانية
  • 2021-04-14

المحبة والاتباع


مقدمة:
الدكتور بلال نور الدين:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أخوتي الأكارم؛ أخواتي الكريمات؛ أينما كنتم أسعد الله أوقاتكم بكل خير، نحن معاً في حلقة جديدة من برنامجنا: "مع الرسول صلى الله عليه وسلم"، نسعد دائماً بفضيلة شيخنا الدكتور محمد راتب النابلسي في حلقات هذا البرنامج.
السلام عليكم ورحمة الله سيدي.

الدكتور محمد راتب النابلسي:
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بارك الله بكم، ونفع بكم.

الدكتور بلال نور الدين:
أكرمكم الله سيدي؛ في الحلقة الماضية سيدي بدأنا بالحديث عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعريف المحدثين ؛ أقواله، أفعاله، إقراره، صفاته، ثم بينتم أن تعلم السنة فرض عين على كل مسلم حتى يأتمر بما أمر النبي، وينتهي عما ينتهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فكلامه وحي غير متلو.
لو نتابع هذه المقدمات اللطيفة سيدي، ونتحدث عن أمر آخر سنته تعلمها فرض، ومحبته سيدي؟

محبة النبي فرض عين على كل مسلم:
الدكتور محمد راتب النابلسي:
كلام دقيق جداً بارك الله بك، لا بد من تفصيل ؛ الله عز خلقنا، حياتنا بيده، موتنا بيده، رزقنا بيده، الفقر بيده، الصحة بيده، المرض بيده، القوة بيده، الضعف بيده، ومع كل ذلك ما قبل أن نعبده إكراهاً، فقال:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
[سورة البقرة]

بل أراد أن نعبده بدافع من الحب، لذلك قال تعالى :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
[سورة المائدة]

فالحب في الله واسع جداً، أن تحب الله، أن تحب أنبياءه جميعاً، أن تحب الرسل جميعاً، أن تحب سيد الأنبياء والمرسلين، أن تحب العلماء الربانيين، أن تحب أهلك، زوجتك، أولادك، والديك، من حولك، المؤمنين الصادقين، المساجد، الأعمال الصالحة، كل شيء ينتمي إلى الدين ينبغي أن تحبه.
كان عندنا دكتور في الجامعة من كبار علماء النفس، أُقيم له حفل وداع يفوق حدّ الخيال، قال كلمة بالحفل لا أنساها، قال : أي إنسان لا يجد في نفسه حاجة إلى أن يُحِب أو إلى أن يُحَب ليس من بني البشر، فالحب أصل في الحياة، والله أراد الحب، ولم يرد الإكراه، مثلاً:

وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
[سورة السجدة]

ألم يكن من الممكن جامعة توزع أوراق الامتحان، وهذه الأوراق مكتوب عليها الإجابة كاملة، والعلامة بالأحمر مئة من مئة، اكتب اسمك فقط، هذا النجاح له قيمة ؟ أبداً، عند صاحبه، عند أهله في المجتمع صفر، (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) هذا الهدى القسري لا جدوى منه، لا يُسعد، شيء دقيق جداً، فالهدى القسري لا يُسعد، أما أنت حينما تأتي إلى الدنيا بإمكانك أن تعصي الله، لكنك أطعته، بإمكانك أن تغش في البيع والشراء لكنك أخلصت في البيع والشراء، ما دام عندك خيارات أنت مخير، والخيار يرقى بالإنسان، يثمن عمله، يعليه عند الله عز وجل، تعالَ إعرابه : فعل أمر مبني على الفتح، مرة خطر ببالي ما معنى تعالَ؟

الدكتور بلال نور الدين:

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
[سورة الأنعام ]


الدكتور محمد راتب النابلسي:
ارتفع إلينا، تحرر من وحل الأرض إلى وحي السماء، تعالَ، فعل أمر مبني على الفتح، غير أن إعرابه مبني على الفتح، الأصل أن الإنسان إذا عرف الله ارتفع من وحل الأرض إلى وحي السماء، من المصالح والشهوات إلى المبادئ والقيم، من معاينة أهل الدنيا إلى معاينة الملائكة والمقربين.

الدكتور بلال نور الدين:
إذاً كما أن اتباع سنته، وفهم سنته فرض عين، كذلك محبته فرض عين.

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه : قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : حتى أكونَ أحبَّ إليه من ماله وأهله والناس أجمعين }

[أخرجه البخاري ومسلم والنسائي]


الدكتور محمد راتب النابلسي:
ما قبل الله أن نعبده إكراهاً (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، وكل إنسان لا يجد في نفسه حاجة إلى أن يُحِب، أو إلى أن يُحَب ليس من بني البشر.

الدكتور بلال نور الدين:
سيدي العلاقة بين المحبة وبين الاتباع، هناك من يقول : أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي عسى أن تنفعه تلك المحبة، لكنه ليس متبعاً؟

العلاقة بين المحبة والاتباع:
الدكتور محمد راتب النابلسي:
لو فرضنا إنساناً معه مرض معين، مرض جلدي، علاجه الوحيد أن يتعرض لأشعة الشمس، جلس في غرفة قميئة، باردة، غير مضيئة، لا تدخلها الشمس إطلاقاً، وقال : يا لها من شمس ساطعة ! إن هذه الشمس شافية، هذا كله كلام لا قيمة له، إن لم يتعرض إلى هذه الأشعة لا قيمة لكلامه إطلاقاً.
فالبطولة أن نطبق، القرآن هناك من يتلوه أحياناً، لكن يا ترى بيته إسلامي؟ دخله إسلامي؟ إنفاقه إسلامي؟ علاقاته إسلامية؟ سهراته إسلامية؟ سياحته إسلامية؟ علاقته بالمرأة التي لا تحل له إسلامية؟ المنهج الإسلامي يبدأ من فراش الزوجية وهو أخص خصوصيات الإنسان، وينتهي بالعلاقات الدولية، منهج تفصيلي.

الدكتور بلال نور الدين:
جميل ! إذاً سيدي المحبة ينبغي أن يرافقها الاتباع، قال تعالى :

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
[سورة آل عمران ]

لما كثُر مدعو المحبة طولبوا بالدليل، المحبة مع الاتباع سيدي معاً على خط واحد ؟

المحبة ميل و الاتباع حركة:
الدكتور محمد راتب النابلسي:
عفواً ؛ كلام دقيق : عندنا أسطوانة غاز، وعندنا رأس غاز، لا قيمة لهذه الأسطوانة بلا رأس، والرأس لا قيمة له بلا اسطوانة، شرطان لازمان غير كافيين، فالمحبة محبة، والاتباع اتباع، الاتباع حركة، عفواً ؛ المحبة ميل، الاتباع حركة، الاتباع كسب مالك، إنفاق مالك، علاقتك بزوجتك، بأولادك، ببناتك، بأصهارك، بكنائنك، بجيرانك، بوالديك، بحرفتك، مع الزبائن، بالبيع، بالشراء، هذا منهج تفصيلي، خمسة آلاف بند، يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، هذا الاتباع، يجب أن تتبع منهجاً تفصيلياً.

الدكتور بلال نور الدين:
سيدي لو انتقلنا إلى موضوع قريب جداً من هذا الموضوع، وهو الأسوة الحسنة، الله تعالى يقول:

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)
[سورة الأحزاب]

كيف تتحقق هذه الأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

النبي الكريم أسوة حسنة لنا:
الدكتور محمد راتب النابلسي:
لأن الناس لا يتعلمون بآذانهم فحسب، بل لا بد من التعلم بالعين، القرآن الكريم كون ناطق، والكون قرآن صامت، والنبي الكريم قرآن يمشي، ما لم يرَ الناس اليوم إسلاماً يمشي أمامهم، إن حدثوه فهو صادق، إن عاملهم هذا الإنسان فهو أمين، إن استثيرت شهواته فهو عفيف، الآن لا يقنع الناس بالإسلام إلا من إنسان مسلم أمامهم، أما كمعلومات، كقراءات، كنصوص، كعروض معينة لا تقدم ولا تؤخر، القدوة قبل الدعوة، الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم.
مثلاً : لو أن أباً لم يتكلم أية كلمة لا تليق بمكانته أمام أولاده، الأم زارت بيت الجيران، والمدة طالت، والأكل تأخر، ومعها ابنتها، فلما الأب غضب حينما عاد قال : أين كنتم ؟ أجابته : لم نخرج من البيت، البنت الصغيرة شربت الكذب من أمها، أنا لي رأي لعله لا يعجب بعض الناس ؛ أكثر أخطاء أولادنا وبناتنا من خطأ الآباء والمعلمين، أي إذا كان المعلم يدخن مثلاً هناك مشكلة، أكثر أخطاء أولادنا من الآباء والمعلمين.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم سيدي؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

الدكتور محمد راتب النابلسي:
كلامه تشريع، حركته تشريع، الحركة أي علاقته مع أخوانه، مع أصحابه، في القوة، في الضعف، في الصحة، في المرض، في الغنى، في الفقر.

الدكتور بلال نور الدين:
هو ذاق كل هذا صلى الله عليه وسلم.

الدكتور محمد راتب النابلسي:
هو قدوة، ما دام قدوة عامة لكل المسلمين يجب أن يذوق الفقر والغنى معاً، كل صفة بطرفيها الحادين، القوة والضعف معاً، الصحة والمرض معاً.

{ عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم : يا عائشةُ، هل عِنْدَكم شيء ؟ قالتْ : فقلتُ : يا رسولَ الله، ما عندنا شيء، قال : فإني صائم }

[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي]

هل يوجد بيت بالأرض لا يوجد به شيء يؤكل؟ ألا يوجد قطعة خبز وكأس شاي؟ لا :

{ قال : فإني صائم }

لما صار غنياً : لمن هذا الوادي؟ قال : هو لك، قال له : أتهزأ بي؟ قال : لا، هو لك، فهو ذاق الفقر والغنى معاً، والقوة والضعف معاً، والصحة والمرض معاً، والجمهور حوله وما معه أحد معاً، وأذاقه الله عز وجل كل صفة بطرفيها الحادين، فهو قدوة للأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، والأصحاء والمرضى.

الدكتور بلال نور الدين:
بذلك تتحقق الأسوة.

الدكتور محمد راتب النابلسي:
القدوة قبل الدعوة.

خاتمة وتوديع:
الدكتور بلال نور الدين:
جزاكم الله خيراً سيدي، وأحسن إليكم، وشكراً لهذه الإفادة الطيبة.
أخوتي الأكارم ؛ أخواتي الكريمات ؛ لم يبقَ في ختام هذا اللقاء الذي سعدت فيه بصحبتكم وقبلاً بصحبة شيخنا جزاه الله عنا خير الجزاء، إلا أن أشكر لكم طيب المتابعة سائلاً المولى جلّ جلاله أن تكونوا دائماً في أحسن حال مع الله، ومع خلقه، إلى الملتقى أستودعكم الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.