رحمة النبي صلى الله عليه وسلم
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم
مقدمة :
الدكتور بلال نور الدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . |
أخوتي ؛ أخواتي ؛ أينما كنتم أسعد الله أوقاتكم بكل خير ، في مستهل حلقة جديدة من برنامجنا : "مع الرسول صلى الله عليه وسلم" ، هذه الرحلة الماتعة ، اللطيفة ، التي نستشف فيها معانٍ راقية من سيرة وشمائل نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم ، نحاور في هذه الحلقات فضيلة شيخنا الدكتور محمد راتب النابلسي . |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . |
الدكتور محمد راتب النابلسي :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، بارك الله بكم ، ونفع بكم ، وأعلى قدركم . |
الدكتور بلال نور الدين
وبكم سيدي أكرمكم الله . |
سيدي ، نتحدث اليوم عن مفهوم ، عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ، عن رحمته صلى الله عليه وسلم ، هذه الرحمة العظيمة التي لخص الله تعالى بعثته صلى الله عليه وسلم فقال : |
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)[سورة الأنبياء]
وقال صلى الله عليه وسلم : |
{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة }
[أخرجه الحاكم]
لماذا لخص الله بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها رحمة ؟ |
الإنسان هو المخلوق الأول عند الله المكرم والمكلف :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
الإنسان المخلوق الأول عند الله ، المكرم ، المكلف ، خلق لجنة عرضها السماوات والأرض . |
{ عن سهل بن سعد رضي الله عنه : قال : شَهِدْتُ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَجْلسا وصفَ فيه الجنة ، حتى انتهى ، ثم قال في آخر حديثه : (( فيها مالا عين رأتْ ولا أذن سَمِعتْ ، ولا خطر على قلب بشر )) }
[أخرجه البخاري]
خلق للآخرة ، الآخرة الأبد ، أنا كنت أقول دائماً : واحد بالأرض وأصفار إلى الشمس ، مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر ، كل ميلي صفر ، هذا الرقم إذا نسب إلى اللانهاية صفر ، نحن خلقنا للانهاية ، أعددت لعبادي الصالحين : |
{ فيها ما لا عين رأتْ ، ولا أذن سَمِعتْ ، ولا خطر على قلب بشر }
[أخرجه البخاري]
الرؤية تبقى محدودة ، فلان زار كراتشي ، زار هونولولو ، زار بريطانيا ، أما السماع فأنت سمعت بمئات المدن ، وأما الخواطر فقد يأتيك خاطر إنسان طوله مليون كيلو متر، هذا خاطر ، أعددت لعبادي الصالحين : |
{ فيها ما لا عين رأتْ ، ولا أذن سَمِعتْ ، ولا خطر على قلب بشر }
[أخرجه البخاري]
لكن يوجد نقطة دقيقة ، ملمح دقيق : الإنسان أحياناً عندما يسمع كلمة ، هي مقطع صوتي ، بحر ، باء ، حاء ، راء ، لو شخص فرضاً ولد بمكان مظلم ، وما رأى الشمس إطلاقاً. |
الدكتور بلال نور الدين
ما رأى البحر . |
الدكتور محمد راتب النابلسي :
إطلاقاً ، قلت له : بحر ، ليس لها معنى ، الكلمة باللغة تحتاج لمرتكز مادي ، لو رأى البحر ، زرقته ، هيجانه ، أمواجه ، أسماكه ، وقلت له : بحر ، هذه الكلمة تثير عنده كل التصورات السابقة . |
لذلك الله جعل أماكن جميلة في الأرض ، غابات ، أنهار ، بحار ، سماء زرقاء ، أطيار ، طاووس مثلاً ، هذا الجمال الأرضي لولاه ما فهمنا الجنة إطلاقاً ، لا معنى للجنة إطلاقاً بلا هذا الجمال ، هذا الجمال مرتكز لكلمة الجنة في القرآن ، أعددت لعبادي الصالحين: |
{ فيها ما لا عين رأتْ ، ولا أذن سَمِعتْ ، ولا خطر على قلب بشر }
[أخرجه البخاري]
محبة الإنسان للكمال والجمال والنوال وهذه فطرة فيه :
الإنسان يحب الجمال ، والكمال ، والنوال ، يحب الكمال موقف أخلاقي ، كريم ، حليم ، والجمال ، والنوال ، الكمال أخلاقي ، والجمال شكلي ، والنوال عطاء ، هذه فطرة الإنسان. |
والنقطة الدقيقة : |
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)[سورة الروم]
أي أمر أُمرنا به الله عز وجل حببه إلينا ، وأي نهي نهينا عنه كرهه إلينا . |
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)[سورة الحجرات]
إذاً نحن كل الأوامر الإلهية برمجنا على محبتها ، وكل النواهي برمجنا على بغضها ، هذه الفطرة السليمة ، لكن أحياناً مع كثرة المعاصي والآثام تنطمس هذه الفطرة ، حقيقة مرةّ ، وأنا أراها أفضل ألف مرة من الوهم المريح . |
الدكتور بلال نور الدين
إذاً سيدي : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) كأني أستشف من كلامكم أن الله تعالى خلقنا للجنة ، أرسل نبيه رحمة لنا ، من أجل أن نصل إليها . |
أعمالنا مهما عظمت لا يمكن أن تكون ثمن الجنة :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
كي نستحقها . |
الدكتور بلال نور الدين
هذه رحمة الله . |
الدكتور محمد راتب النابلسي :
وبالمناسبة يجب أن نفهم يقيناً نحن بكل أعمالنا ، بكل أعمالنا مهما عظمت لا يمكن أن تكون ثمن الجنة ، ثمن مفتاح الجنة ، سبب فقط ، مفتاحها ، أما هي فبرحمته فقط . |
الدكتور بلال نور الدين
جل جلاله ، إذاً سيدي أيضاً كلمة : ( إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) لم يقل رحمة للمسلمين ، قال : ( إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) . |
قبول الإنسان حمل الأمانة في عالم الأزل :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
ركب الملك من عقل بلا شهوة ، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل ، وركب الإنسان من كليهما ، فإذا سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان ، هي نفوس ، الدليل هذا الخشب . |
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)[ سورة الإسراء]
كل المخلوقات تسبح ، الإنسان قبِل حمل الأمانة في عالم الأزل : |
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)[ سورة الأحزاب]
والسماوات والأرض مصطلح قرآني ، والكون ما سوى الله ( فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ) هنا يوجد معنى دقيق ؛ ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) استفهام إنكاري ، وممكن أن تقرأها : ( إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) ، فإذا اختاره الله ليكون المخلوق الأول ، أي هل هذا الإنسان الذي اختار أن يكون مسؤولاً عن أعماله ، حمله الله الأمانة فقبلها ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) لا ، كان طموحاً ، بطلاً ، فإذا جاء إلى الدنيا ونسي هذا العهد ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) تقريراً ، تقرأ الآية قراءتين ؛ قراءة استفهامية ، وقراءة تقريرية . |
الدكتور بلال نور الدين
إذاً سيدي هو : ( رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) صلى الله عليه وسلم ، أيضاً يتحدث صلى الله عليه وسلم عن مفهوم نحتاجه اليوم كثيراً ، الحديث الذي يرويه ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : |
{ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لن تؤمنوا حتى تراحموا . قالوا : يا رسول الله ! كلنا رحيم ؟ قال : إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ، ولكنها رحمة الناس رحمة العامة }
[أخرجه الطبراني]
أي كلنا يرحم ولده ، يرحم زوجته ، يرحم أهل بيته : (( إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ، ولكنها رحمة الناس رحمة العامة )) |
هذا المفهوم سيدي نحتاجه اليوم في عالم يضج بالقسوة . |
الرحمة نوعان ؛ فطرية وعامة :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
يوجد رواية خبر لطيف ، امرأة تخبز على التنور ، ابنها تضعه إلى جانبها ، فكلما تضع رغيفاً تقبله ، وتشمه ، وتضمه ، مرّ رجل صالح ، ناجى ربه أن ما هذه الرحمة يا رب ! فوقع في روعه أن هذه رحمتي وضعتها في قلب أمه وسأنزعها ، الدليل : |
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)[ سورة طه]
فلما نزعت هذه الرحمة ألقته في التنور وأحرقته . |
أنا أرى كل عطف الآباء على الأبناء من الله عز وجل ، أنا مرة كنت في مستشفى أطفال لفت نظري أن المحجبة تبكي ، والسافرة تبكي ، والمدنية تبكي ، والريفية تبكي ، والمتعلمة تبكي ، والجاهلة تبكي ، ألقى الله في قلب الأمهات هذه الرحمة : ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ ) المعنى الشمولي عليكم رحمة مني . |
الدكتور بلال نور الدين
إذاً هذه محبة فطرية لكن الرحمة العامة كما قال صلى الله عليه وسلم تحتاج إلى تكليف ، اليوم يوجد شعوب في الأرض ترحم مواطنيها لكن لا ترحم الأمم الأخرى : (( رحمة العامة )) |
الإنسان مفطور على حبّ الكمال :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أنا لي رأي دقيق : لو الإنسان ما تلقى أي رسالة سماوية إطلاقاً ، عنده مسؤولية لأن الله أعطاه عقلاً ، وأعطاه فطرة ، فعقله وفطرته تكفيان لترك الكبائر ، مثل القتل مثلاً ، النهب ، السرقة ، فالفطرة : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ) فالإنسان مفطور على حب الكمال . |
عفواً ؛ شخص بألاسكا ، ثلوج فقط ، سأل سؤالاً : هل لهذا الكون إله ؟ هذا اجتهاده ، بحث عن عمل وجد عملاً في كندا ، التحق ، قبلوه ، حولوه إلى فرع للشركة في بلد شرق أوسطي ، سكن في بيت إلى جانبه عالم فتعلم . |
الله عز وجل ينتظرنا . |
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)[ سورة إبراهيم ]
ينتظرنا . |
الدكتور بلال نور الدين
وتنتقل رحمته صلى الله عليه وسلم سيدي حتى للحيوان . |
{ عن سعيد بن جبير رحمه الله ، سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: لَعَنَ الله مَنّ مَثَّلَ بالبهائم }
[أخرجه البخاري ومسلم والنسائي]
كما يقول صلى الله عليه وسلم : |
{ عن شداد بن أوس رضي الله عنه : قال : ' ثِنتان حَفِظْتُهُما عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إِنَّ اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ ، فَإِذا قَتلتُم فأحسِنُوا القِتلة ، وَإِذا ذَبحتُم فأحْسِنُوا الذَّبحَ ، وليُحدَّ أحدُكم شَفرَته ، ولْيُرِحْ ذبيحَته }
[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي]
أي هذه الرحمة العامة التي امتلأ بها . |
رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
من صاحب هذه الناقة ؟ قال : أنا ، قال النبي الكريم : فإنها شكت إليّ أنك تجيعها وتتعبها . |
الدكتور بلال نور الدين
الناقة شكت له . |
الدكتور محمد راتب النابلسي :
الناقة شكت له . |
الدكتور بلال نور الدين
والجذع حنّ إليه . |
الدكتور محمد راتب النابلسي :
نعم ، فلذلك أنا أرى الموضوع والعلاقة بالحيوان شيء غير سهل ، لا تذبح دابة أمام أختها ، النبي قال : أتريد أن تميتها مرتين ؟ يراعي هذه الناحية مراعاة دقيقة جداً . |
الدكتور بلال نور الدين
هذه رحمة صلى الله عليه وسلم . |
الدكتور محمد راتب النابلسي :
والله أنا رأيت إنساناً يقطع رأس الدجاجة في ماء يغلي فوراً ، الله يحاسب حساباً شديداً على هذا . |
خاتمة وتوديع :
الدكتور بلال نور الدين
جزاكم الله خيراً سيدي ، وأحسن إليكم . |
أخوتي الأكارم ، في نهاية هذا اللقاء الذي سعدنا فيه بصحبه شيخنا ، ثم بمتابعتكم الطيبة ، أسأل الله أن نلتقيكم دائماً على خير ، وأنتم في أحسن حال مع الله ومع خلقه ، إلى الملتقى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه . |