تفاعل النبي صلى الله عليه و سلم مع القرآن

  • الحلقة الرابعة عشرة
  • 2021-04-26

تفاعل النبي صلى الله عليه و سلم مع القرآن


مقدمة :
الدكتور بلال نور الدين :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه .
نحن أيها الكرام مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما أجمل أن نكون في معيته صلى الله عليه وسلم ، نستشف من هديه النبوي ، ونتحدث عن شمائله ، وعن سيرته العطرة ، وعن أحاديثه الراقية ، نفعل ذلك بصحبة شيخنا فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي .
السلام عليكم سيدي .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وبارك الله بكم ، ونفع بكم .

الدكتور بلال نور الدين :
وبكم سيدي ، أكرمكم الله .
سيدي ؛ نتحدث اليوم عن جانب من شخصيته صلى الله عليه وسلم نحتاجه في كل يوم ، عندما نعيش في ظلال القرآن الكريم ، عندما نعيش مع كتاب الله تعالى ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه القرآن ، وعاش خير ما يعيشه إنسان مع القرآن ، وقد ذكرنا سابقاً بمعيتكم أنه كان خلقه القرآن ، وقلتم كان قرآناً يمشي صلى الله عليه وسلم .
فالآن سيدي كان يتفاعل النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن بتفاعل يلفت الأنظار ، يوم يروي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له :

{ عن سمرة بن جندب رضي الله عنه : قال : قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : اقْرأْ عَليَّ القرآنَ ، فقلتُ : يا رسولَ الله ، أقرَأُ عَليْكَ وعَليْكَ أُنزِلَ ؟ قال : إني أُحِبُّ أن أسمَعَهُ من غيري ، قال : فقرأتُ عليه سورةَ النساءِ }

فلما بلغ قوله تعالى :

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً (41)
[ سورة النساء]

{ ...فالتَفَتُّ إليه ، فإذا عيناهُ تذرِفانِ }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي]

كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن الكريم ؟

كيفية التعامل مع القرآن الكريم :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أنا مضطر أن أبدأ بفكرة دقيقة جداً ، وهي معنى قوله تعالى :

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
[ سورة البقرة]

فيما أتصور حق التلاوة أن تقرأه بلغة صحيحة ، لذلك قال سيدنا عمر : تعلموا العربية فإنها من الدين ، هذه واحدة .
ثم أن تقرأه إن أمكن قراءة مجودة ، يوجد إدغام ، ومد ، وإقلاب ، وإظهار .
والثالثة ؛ أن تقرأه مع الفهم ، أهم بند في هذا الموضوع التدبر ، أين أنت منه ؟ هناك مئات الآيات المتعلقة بــ : يا أيها الذين آمنوا ، وأنت مؤمن هل طبقت هذا الكلام ؟ البطولة أين أنت من هذه الآيات ؟ هل أنت مطبق لها ؟
مثلاً : شخص نُصح أن يتعرض لأشعة الشمس ، جلس بغرفة قميئة ، وباردة ، لا يوجد بها شمس إطلاقاً ، وأثنى على الشمس ، وعلى ضوء الشمس ، وعلى شفاء الشمس ، كلام لا يقدم ولا يؤخر .
ما لم نطبق هذا القرآن :

{ عن ابن عباس رضي الله عنهما : أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ' خيرُ الصحابةِ : أربعةٌ وخيرُ السرايا : أربعُمائةٍ ، وخيرُ الجيوشِ : أربعةُ آلافٍ ، ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ }

[أخرجه أبو داود والترمذي]


اتباع تعليمات الصانع انطلاقاً من حرصنا على سلامتنا وسعادتنا :
إذا كان المسلمون مليارين ، ومع الأسف الشديد ، والحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح ، ليست كلمتهم هي العليا ، بل هناك حرب عالمية ثالثة ضد الدين ، وهذا شيء واضح وضوح الشمس ، كانت هذه الحرب تحت الطاولة ، اليوم فوق الطاولة ، أحد أعضاء الكونغرس قال : لن نسمح بقيام حكم سني ، شيء واضح كالشمس ، فلابد من أن نعود لهذا الدين ، إلى أسباب قوته ، بتطبيقه .
عندنا مظاهر دينية صارخة ، مساجد ، مصاحف ، مهرجانات ، مؤتمرات ، كله جيد، ما لم نطبق هذا الدين لن نقوى به ، بدخلنا ، لا يوجد دخل حرام ، باستثمار أموالنا ، باختيار حرفتنا ، باختيار علاقاتنا ، باختيار لقاءاتنا ، باختيار سياحتنا ، هذا الدين يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية ، إذا فهمنا الدين عبادة شعائرية لا نقطف ثماره إطلاقاً ، إذا فهمناه منهجاً تفصيلياً يبدأ من أخص خصوصياتنا وينتهي بأكبر موضوعاتنا ، صار منهج حياة، فهذا تعليمات الصانع .
أنت راكب مركبة غالية جداً ، تألق ضوء أحمر في لوحة البيانات ، إن فهمته ضوءاً تزيينياً احترق المحرك ، تحتاج إلى مئة ألف ، إن فهمته بحسب تعليمات الصانع ضوءًا تحذيرياً أوقفت المركبة ، وأضفت الزيت ، انتهى الأمر .
فانطلاقاً من حرصك اللامتناهي على سلامتك وسعادتك ينبغي أن تتبع تعليمات الصانع ، تعليمات الصانع ، راكب مركبة ، والطريق مكتوب : حقل ألغام ، ممنوع التجاوز ، يا ترى هذه اللوحة هي حد لحريتك أم ضمان لسلامتك ؟ هذه هي القصة كلها ، في اللحظة التي تفهم فيها النواهي أسابا لسلامتك ، والأوامر أسباب لسعادتك تقبل على هذا الدين إقبالاً مذهلاً ، الإقبال على الدين يسبقه فهم صحيح ، الفهم الصحيح يحتاج طلب علم ، لا بد من طلب العلم ، تعرف من أنت ؟ أنت المخلوق الأول ، لماذا أنت في الدنيا ؟ لعبادة الله .

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( 56 )
[سورة الذاريات]

طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .

الدكتور بلال نور الدين :
جزاكم الله خيراً سيدي ، إذاً تعامله مع القرآن صلى الله عليه وسلم ، كان يتعامل معه بهذا التفاعل لأنه تعليمات الصانع جلّ جلاله ؟

الدكتور محمد راتب النابلسي :
تعليمات الصانع ، والصانع هو الخبير ، والآية تقول :

إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
[ سورة فاطر]


الدكتور بلال نور الدين :
صدقتم سيدي .
سيدي ؛ حذيفة رضي الله عنه يروي لنا طريقة تفاعل النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن ، يقول : يقرأ مترسلاً ، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح ، إذا مرّ بسؤال سأل ، إذا مرّ بتعوذ تعوذ ، هذا التفاعل مع كتاب الله ، أي كأن الله يخاطبني به .

قراءة القرآن نوعان ؛ تعبديّة وتدبريّة :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أنا هنا أحب أن ألفت النظر ، هناك قراءة تعبدية ، وقراءة تدبرية ، لا مانع أن تجمع بين القراءتين ، برمضان كل يوم تقراً جزءاً مثلاً ، هذه قراءة تعبدية ، قد تقف بآية ساعة ، قد تمضي يوماً بآيتين فقط ، هذه قراءة تدبر ، البطولة أن تجمع بين القراءتين ، قراءة تعبد لكسب الثواب كما يقول بعضهم ، وقراءة تدبر لأخذ المنهج لهذا القرآن كي تطبق تعليمات الصانع ، فهم القرآن شيء مهم جداً ، هذا فهم كلام خالق الأكوان ، الكون قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي ، ونحن الآن بحاجة ماسة جداً جداً إلى أن يرى الناس إسلاماً يمشي أمامهم ، إن حدثهم فهو صادق ، إن عاملهم فهو أمين ، إن استثيرت شهوته فهو عفيف .

الدكتور بلال نور الدين :
يعف عن الشهوات والمحارم .
سيدي ؛ سيدنا بلال رضي الله عنه يروي حديثاً لابن حبان وهو في الصحيح ، يقول له صلى الله عليه وسلم :
(( لقد أنزل الليلة عليّ آية ))
ثم تلا :

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
[ سورة آل عمران]

ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها .

التفكر أقصر طريق لمعرفة الله عز وجل :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
نعم ، التفكر - أخي الكريم بارك الله بك على هذا السؤال - أقصر طريق لمعرفة الله، وأوسع باب ندخل منه على الله ، لأنه يضعنا وجهاً لوجه أمام عظمة الله ، والآية تقول ، الحقيقة الآية سلبية :

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)
[سورة الحاقة]

آمن بمفهوم تقليدي أنه يوجد خالق ، أما إذا تفكرت في خلق السماوات والأرض تؤمن بالله العظيم ، شيء دقيق جداً ، فهذا التفكر أسرع طريق إلى الله ، وأوسع باب يدخل منه على الله عز وجل ، وبالقرآن يوجد ألف وثلاثمئة آية تتحدث عن الكون والإنسان ، آية الأمر تأتمر ، آية النهي تنتهي ، آيات التفكر تتفكر ، فالتفكر أعظم عبادة ، عبادة راقية جداً ، والعبادة تنقلك إلى معرفة الله ، إن عرفت الآمر نفذت الأمر ، ما المشكلة ؟ المسلمون عرفوا الأمر ولم يعرفوا الآمر تفننوا في معصيته ، الصحابة الكرام والتابعون وتابعو التابعين عرفوا الآمر وعرفوا الأمر فتفانوا في طاعته ، هذا الفرق بين سابق الأمة وحاضرها .

الدكتور بلال نور الدين :
ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها .
نعم سيدي ، عبد الله بن الشخير كان يقول :

{ عن مطرِّف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله : عن أبيه قال : رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرَّحا من البكاء }

[أخرجه أبو داود والنسائي]


من أراد مخاطبة الله فليقرأ القرآن :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
كلام خالق الأكوان ، كلام رب الأرض والسماء ، كلام الجليل ، كلام الجميل ، كلام العزيز ، كلام الرحيم .

الدكتور بلال نور الدين :
التفاعل معه حتمي ، ويدرك الإنسان أن المتكلم هو الله ، وقد قالوا : إذا أردت أن يخاطبك الله فاقرأ القرآن ، وإذا أردت أن تناجي الله فصلِّ ، في الصلاة تناجيه ، وفي القرآن يتكلم معك ، يا أيها الذين آمنوا ، يا أيها الناس ، يخاطب .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
خطاب للمؤمنين ، بمئات الآيات .

خاتمة وتوديع :
الدكتور بلال نور الدين :
يخاطبنا جلّ جلاله .
جزاكم الله خيراً سيدي ، وأحسن إليكم .
أخوتي الأكارم ؛ لم يبقَ لي في نهاية هذا اللقاء إلا أن أشكر لشيخنا ما تفضل به ، وأن أشكر لكم حسن المتابعة ، سائلاً المولى جلّ جلاله أن نلتقيكم دائماً على خير وأنتم بخير ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته