إنك إمرؤ فيك جاهلية

  • الحلقة الخامسة والعشرون
  • 2021-05-07

إنك إمرؤ فيك جاهلية


مقدمة :
الدكتور بلال نور الدين :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على الهادي الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أيها الأخوة الأحباب ؛ أينما كنتم أسعد الله أوقاتكم بكل خير ، في مستهل حلقة جديدة من برنامجنا : " مع الرسول صلى الله عليه وسلم " ، نسعد في هذه الحلقات باستضافة فضيلة شيخنا الدكتور محمد راتب النابلسي لنحاوره ، ونستفيد من علمه في شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم .
السلام عليكم سيدي .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته .

الدكتور بلال نور الدين :
عنوان حلقتنا اليوم سيدي يمكن أن نسميها : علاقة النبي صلى الله عليه وسلم أو توجيهاته فيما يسمى اليوم العنصرية ، أو القوميات ، أو كل إنسان يعتز بما له من نسب ، وغير ذلك من الأمور التي لم يجعل لها الإسلام قيمة عليا .
النبي صلى الله عليه وسلم كما صح في الحديث ، في حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه :

{ عن المعرور بن سويد رضي الله عنه : قال : رأيتُ أبا ذرّ وعليه حُلَّة ، وعلى غلامه مثلُها ، فسألته عن ذلك ؟ فذكر أنه سَابَّ رجلاً على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فعيَّره بأُمِّه ، فأتى الرجلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم : إِنك امْرُؤ فيك جاهلية ، قلت : على ساعتي هذه من كِبرَ السنّ ؟ قال: نعم ، هم إِخوانُكم وَخَوَلُكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فلْيُطْعِمْه مما يأكلُ ، ولْيُلْبِسه مما يَلْبَسُ ، ولا تُكلِّفُوهم ما يغلبهم ، فإن كلّفتموهم فأعينوهم عليه }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي]

فهذه الكلمة سيدي وإن كانت قاسية :
(( إِنك امْرُؤ فيك جاهلية))
عندما عيّر إنساناً بأمه .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
لكنها منهج .

الدكتور بلال نور الدين :
نبوي ، نعم سيدي .

الإنسان إما أن يكون عنصرياً أو إنسانياً متديناً :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أنا أتصور الإنسان إما أن يكون عنصرياً ، أو إنسانياً متديناً ، معنى أنه عنصري أي أمضى السهرة كلها بالسخرية من أم زوجته ، هي ساكتة ، تخاف أن تُطلق ، في اليوم التالي تكلمت عن أمه كلمه أقام الدنيا ولم يقعدها ، هذا عنصري .
سأنتقل من حالة فردية خاصة إلى أكبر مؤسسة في العالم ، وحق الفيتو عنصري ، خمس دول قالت : لا ، ألف قانون إنساني أُلغي باعتراض واحد ، ومادام هناك عنصرية الحروب لا تقف ، لذلك الحرب بين حقين لا تكون ، الحق لا يتعدد ، كخط مستقيم بين نقطتين، لو حاولت أن ترسم خطاً آخر يأتي فوقه تماماً ، فالحرب بين حقين لا تكون ، أصلاً الحق لا يتعدد ، وبين حق وباطل لا تطول ، لأن الله مع الحق .
إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ويا ربي ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟
أما المشكلة بين باطلين فلا تنتهي ، بين حقين لا تكون ، بين حق وباطل لا تطول، بين باطلين لا تنتهي .

الحق هو الشيء الثابت والهادف أما الباطل فهو الشيء الزائل والعابث :
ما هو الحق ؟ وما هو الباطل ؟ الحق ؛ الشيء الثابت والهادف ، للتقريب : أنشأنا جامعة ، أنا أحمل شهادة من جامعة عمرها خمسمئة ألف عام ، أنشأنا جامعة هذه وجدت لتبقى، الحق الشيء الثابت والهادف ، لقيم ثابتة ، لقيم نبيلة ، قد تكون وطنية ، وقد تكون إنسانية ، وقد تكون دينية ، الشيء الثابت والهادف ، لكن السيرك ينصب لمدة أسبوعين فقط ، الباطل الشيء العابث والزائل ، العابث والزائل .

الدكتور بلال نور الدين :

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)
[ سورة الإسراء]


الدكتور محمد راتب النابلسي :
فالحق الثابت والهادف ، والباطل العابث والزائل ، فالبطولة أن تتمسك بالقيم الثابتة، هذه لا تتبدل ، لا بالمكان ، ولا بالزمان ، ولا بالسفر ، ولا بالحضر ، ولا بالرخاء ، ولا بالشدة ، قيم ثابتة ، المؤمن يستقيم على أمر الله بأي حال ، فنحن نحتاج إلى قيم ثابتة لا إلى قيم متغيرة، دائماً الغرب أراد تفكيك الثوابت ، هناك خطة خبيثة جداً لتحطيم الأسرة ، والإسلام يرفع قيمة الأسرة ، يوجد عملية تفكيك ، وعملية دعم ، الدين يدعم الأسرة ، لأن الأسرة هي المؤسسة الوحيدة التي منها يبنى المجتمع ، فإن صلحت صلح المجتمع .

كلما ارتقى الإنسان اتسعت رؤيته وعاطفته :
لذلك الإنسان إما عنصري ، أو أخلاقي ، الأخلاق :

وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( 4 )
[ سورة القلم ]

النبي الكريم أعطاه الله مئات الصفات التي لا أقول تميز بها ، أقول : انفرد بها ، هذه القيم تغطي كل المجتمع ، وقف في جنازة لغير مسلم ، فقالوا : ليس مسلماً ؟! فقال : أليس إنساناً ؟ هذه تقريباً .
سأقول مثلاً لكنه مزعج : الإنسان يأكل أطيب الطعام بالسوق ، وبالبيت لا يوجد طعام ، هذا يمكن أسوأ إنسان بالأسرة ، هناك إنسان أسرته ، وإنسان الأسرة الواسعة ، وإنسان بلدته ، وإنسان بلده ، وطنه ، وإنسان قومه ، وإنسان إنساني ، كلما اتسعت هذه الدائرة ارتقى الإنسان عند الله ، وكلما ضاقت .
كنت مرة في المغرب ، ركبت في الطائرة ، كان الطيار تلميذي ، أجلسني عنده في مقعد للضيوف ، أو للمفتشين ، عندما دخلنا إلى سورية رأيت بعيني هذه طرطوس وصيدا خمسمئة متر ، تعلمت درساً لا أنساه ، كلما ارتقى الإنسان اتسعت رؤيته ، وأضيف عليها : وكلما ارتقى الإنسان اتسعت عاطفته .

الرحمة نوعان ؛ عامة وخاصة :
المؤمن شمولي ، يوجد مؤمن لبيته فقط ، أو لأهله فقط، أو لأولاده فقط ، ما لم تكن هذه العاطفة جماعية ، بتعبير آخر ؛ رحمة عامة .
الرحمة الخاصة ، كنت مرة في مستشفى كل إنسان حريص على ابنه ، القضية سهلة ، هذا طبع ، أما الإيمان فيقتضي أن ترحم الناس جميعاً ، عندك موظف فقير ، أعرف شخصاً طلب منه هذا الشاب الفقير اليتيم أن يخرج قبل ساعة من الدوام ليلتحق بمدرسة أهلية ليلية ليأخذ شهادة ، قال لي : لن أسمح له ، متى ما تعلم أخسره ، رأيت الأنانية ؟
أذكر مرة بمحل ، حمل هذا الموظف ثوباً ، اثنين ، ثلاثة ، خمسة ، لم يعد يستطيع، قال له : أنت شاب ، عندما حمل ابنه ثوباً واحداً ، قال له : بابا انتبه لظهرك ، هذه عنصرية لا يوجد أقبح منها ، قد تكون بأسرة ، قد تكون ببلدة ، قد تكون ببلد معين ، وقد تصل إلى البشرية كلها ، نحن نعيش عصراً عنصرياً ، أي ترتكب أكبر الأخطاء والجرائم ، والعالم ساكت .
شخص قُتل ، الإعلام سلط عليه ، العالم قام ولم يقعد ، فهناك تباين كبير جداً في المبادئ والقيم .

الدكتور بلال نور الدين :
نعم سيدي ؛ إذاً هذا الاعتزاز بالقوميات وبالنسب الإسلام لنقل لا يقيم له وزناً إلا إذا رافقه الإيمان والاستقامة .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب مسلم مسألة فيها نظر
هذا الغرب .

الدكتور بلال نور الدين :
في غزوة بني المصطلق سيدي ، وبعد نهاية الغزوة صار هناك مشادة ، قال رجل :

{ عن جابر رضي الله عنه : قال : غَزَوْنا مع رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم ، وقَدْ ثَابِ معه ناسٌ من المهاجرين حتى كَثُرُوا ، وكان مِن المهاجرينَ رجلٌ لَعَّابٌ ، فَكَسَعَ أنصاريّا ، فَغَضِبَ الأْنصَاريُّ غَضّبا شديدا ، حتى تَدَاعَوْا ، وقال الأنصاريُّ : يَا لِلأنْصَارِ ، وقال المهاجِريُّ : يا للمهاجرينَ ، فَخَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال : مَا بَال دَعْوَى الجاهلية ؟ ثم قال : مَا شَأْنُهُمْ ؟ فأُخبر بكَسْعَةِ المهاجِريِّ الأنْصارِيِّ ، فَأتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَألهُ القَوَدَ ؟ فقال : دعُوها ، فإنها مُنتْنَةٌ }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي]

دعوى الجاهلية هذه ، فالنسب له قيمة في الإسلام لا ينكر ذلك ، لكن كيف نوازن ؟ ما قيمة النسب أمام العمل ؟

قيمة النسب أمام العمل :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه ، رومي ، سلمان منا آل البيت ، فارسي ، بلال حبشي .

الدكتور بلال نور الدين :
كانوا يقولون : أبو بكر سيدنا ، وأعتق سيدنا ، بلال .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
أما :

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
[ سورة المسد ]

قرشي .

الدكتور بلال نور الدين :
هو عم النبي .

من يعتمد على المقياس الموضوعي يرتفع شأنه :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
لذلك :

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[ سورة الحجرات ]

هذا مقياس الدين ، مقياس موضوعي .
أنا أذكر مرة كنت بأمريكا ، دُعيت إلى معمل أرقى معمل سيارات ، كاد يلاك ، أو جنرال موتورز ، لفت نظري موظف كبير جداً له شكل صارخ دينياً ، ويحتل مرتبة تفوق حدّ الخيال ، هو يصمم السيارة لبعد خمسة أعوام ، تطور الأسرة مثلاً ، تطور ثمن الوقود ، إلى آخره ، تعلمت درساً ؛ بالدول القوية مقياسهم موضوعي لا انتمائي ، وأي مجتمع يعتمد المقياس الموضوعي يرقى ، ويقوى ، إذا اعتمد المقياس الانتمائي فيسقط .

الدكتور بلال نور الدين :
للأسف الآن أصبحوا حتى هذه الأمور يغيرونها أي للأمانة .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
هذا سابقاً .

الدكتور بلال نور الدين :
للأسف حتى الآن أصبحوا يعولون للانتماء .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
كان عالم يصف مؤسسة دينية كبيرة جداً يقول : الشريف سابقاً .

الدكتور بلال نور الدين :
فكل شيء يتغير ، بارك الله بكم سيدي .
سيدي ؛ معاملته مع الخدم ، أيضاً لم تكن معاذ الله أن تكون عنصرية .

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه : قال : كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له : جليبيب في وجهه دمامة ، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم التزويج قال : إذن تجدني كاسداً . فقال : غير أنك عند الله لست بكاسد }

[أخرجه أبو يعلى والإمام أحمد]

هذا المقياس الإيماني .

معاملته صلى الله عليه وسلم مع الخدم :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
كما قلت قبل قليل : هو لكل البشر ، للضعفاء ، للأقوياء ، للأغنياء ، للفقراء ، لأصحاب المراتب العلمية العالية .
أنا أقول كلمة : هذا المكيف عليه on ، يأتي إنسان أُمي يضع يده على on يأتيه هواء بارد ، يتمتع بهذا الهواء ، يأتي إنسان آخر معه دكتوراه بالتكييف يفهم دقائق هذا الجهاز .
فعندنا بهذا الدين الإنسان إذا طبق هذا الدين بلا تعمق ، بلا تبحر ، بلا أدلة ، يقطف كل ثماره الفردية .

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( 33 )
[سورة الأنفال]

أما الفائدة الجماعية فتحتاج أن الوضع العام أن يكون وفق منهج الله .

الدكتور بلال نور الدين :
سيدي ؛ أيضاً عندما تأخر عليه أحد الخدم ، ناداه مرة ومرتين ، قال : لولا خشية..

الدكتور محمد راتب النابلسي :
القصاص لأوجعتك بهذا السواك ، والله شيء يضحك ، يضحك إعجاباً ، سواك يضرب به ؟! لولا خشية القصاص لأوجعتك بهذا السواك .

خاتمة وتوديع :
الدكتور بلال نور الدين :
هذه هي النبوة .
جزاكم الله خيراً سيدي ، وأحسن إليكم .
أخوتي الأكارم ؛ لم يبقَ لي في نهاية هذا اللقاء الذي طاب بحضوركم ، وسعدنا به في صحبة شيخنا جزاه الله عنا خير الجزاء ، ونفعنا بعلمه ، إلا أن أشكر لكم حسن المتابعة سائلاً المولى جلّ جلاله أن نلتقيكم دائماً وأنتم بأحسن حال مع الله ، ومع خلقه ، إلى الملتقى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته