أولياء الله
أولياء الله
| يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته. |
| اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً. |
مقدمة:
| وبعد أيُّها الإخوة الكرام: فقد أجريت استطلاعاً سريعاً للرأي، على بعض المجموعات الإلكترونية، وكان سؤالي للناس مَن هُم أولياء الله؟ تفاجأت بأنَّ عدداً لا بأس به من عموم المسلمين، لا يعرفون تعريفاً واضحاً لأولياء الله، كثيرٌ منهم ربطوا أولياء الله، ببعض الشخصيات والعلماء من التاريخ، الذين سمعوا عنهم من الدُعاة، وكثيرٌ أيضاً ربط الوليّ بخَرق العادة، فوَليُّ الله هو من تُخرَق له العادات، لأجل ذلك كان لا بُدَّ من هذه الخُطبة، لتنمية الوعي، وتصحيح بعض المفهومات الخاطئة عند كثيرٍ من المسلمين. |
| أيُّها الإخوة الكرام: وردت أولياء الله في القرآن الكريم، في سورة يونس في قوله تعالى: |
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)(سورة يونس)
| هذه الآية عرَّفت أولياء الله بشكلٍ واضحٍ جداً، لا لبس فيه ولا يحتاج إلى اجتهادٍ بعده، فلا اجتهاد في مورد النَص (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) الإيمان عقيدةً والتقوى سلوكاً، الإيمان فكراً والتقوى منهجاً، الإيمان مُنطلقاً والاستقامة على منهج الله عملاً، هذا هو وَليُّ الله، وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)، (الَّذِينَ آمَنُوا) بصيغة الماضي، إشارةً إلى أنَّ الإيمان ثابتٌ مستقرٌ في نفوسهم، لا يُزعزعه شيء، وقال: (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) بالفعل المضارع، إشارةً إلى أنَّ الاستقامة على منهج الله، أن يأتي الإنسان ما أَمَر، وأن ينتهي عمَّا نهى الله عنه وزَجَر، وهذه حقيقة التقوى (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) بالفعل المضارع، إشارةً إلى أنها عملٌ مُستمر، فعقيدتهم ثابتة وهي الإيمان، وعملهم دائماً وفق منهج الإيمان، وهو الاستقامة على منهج الله، هؤلاء هُم أولياء الله، أنت إن شاء الله وَليُّ من أولياء الله، إن كنت مؤمناً بالله مستقيماً على أمره، فأنت إن شاء الله وَليُّ من أولياء الله. |
معنى الوَليّ:
| أيُّها الإخوة الكرام: ما معنى وَليُّ الله في اللغة؟ من كان وَليَّاً أي مُحباً، ناصراً لدين الله، قريباً من الله، هذا المعنى اللغوي، وليُّ الله، معنىً يشتمل على القُرب والحُب والنُصرة، فأنت توالي فلاناً من الناس ولله المثل الأعلى، فهو صديقك تُحبه، وهو قريبٌ منك تبثُّه همومك، وهو إن وقعت في مأزقٍ وقف معك ونصرك، هذا هو الوَليّ، نحن أولياء الله، بمعنى أننا إن شاء الله، نُحب الله، قريبون من الله، ننصُر دين الله، وعندها يكون الله تعالى وَليَّاً لنا يوالينا، قال تعالى: |
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(31)(سورة فصلت)
| (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) هذه العقيدة (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) هذا المنهج، فأنت وَليُّ الله والله وَليُّك، تتولاه حُبَّاً وقُرباً ونُصرةً لدينه، ويتولاك حُبَّاً وقُرباً ونُصرةً لك على مَن يعاديك. |
صفات الأولياء:
| أيُّها الإخوة الكرام: وفي الحديث الشريف ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم، بعضاً من صفات الأولياء: |
{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله عباداً ليسوا بأنبياء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: هم قومٌ تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نورٌ على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ: {ألا إنَّ أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} [يونس: 62] }
(صحيح ابن حبان)
| أولياء الله مُتحابون في الله، يجتمعون على الله، ويتفرقون على الله، لا يجتمعون على مالٍ ولا على نَسَب، وإنما على محبة خالقهم الذي يوالونه ويُحبُّونه. |
أولياء الله تعالى على مراتب:
| أيُّها الإخوة الكرام: لكن أولياء الله على مراتب، وأعظم المراتب في ولاية الله الأنبياء، فالأنبياء هُم أعظم أولياء الله، لأنهم أكثر المؤمنين إيماناً، ولأنهم أكثر المُتَّقين تُقىً، ثم يأتي بعد ذلك المؤمنون، كلٌّ بحسب إيمانه، وبحسب تقواه، وفي الحديث الشريف يقول الله تعالى في الحديث القدسي: |
{ يقولُ اللهُ تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربةِ، وما تقرب إليّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افترضته عليه، ولا يزالُ عبدي يتقربُ إليّ بالنوافلِ حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به وبصرَه الذي يُبصِرُ به ويدَه التي يَبطشُ بها ورجلَه التي يمشي بها، فبي يسمعُ وبي يُبصرُ وبي يَبطشُ وبي يمشي، ولئن سألني لأُعطينه ولئن استعاذني لأُعيذنه، وما ترددت في شيءٍ أنا فاعلُه ترددي في قبضِ نفسِ عبدي المؤمنِ يكرهُ الموتَ وأكرهُ مساءتَه ولابدَّ له منه }
(أخرجه البخاري)
| تعلم إنساناً مستقيماً، مؤمناً، تقيَّاً، لا يمشي إلى أحدٍ بسوء، تعاديه؟! (من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربةِ) يحارب الله، إذا والاك الله فإنَّ مَن يُعاديك كأنما يُحارب الله، هذه هي الولاية مع الله، أنت تقول: لي صديقٌ والله إن مسَّني أحد يقول: إن مَسَسَه بوردةٍ قذفته بمدفع، هذا مع الناس، مع الله عزَّ وجل: (من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربةِ، وما تقرب إليّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افترضته عليه) هذه المرتبة الأولى في أولياء الله، يأتون الفرائض ويتركون النواهي، هؤلاء أولياء الله في مرتبةٍ مُعيَّنة، ما يتركون فرضاً فرضه الله، ثم جاءت المرتبة الثانية قال: (ولا يزالُ عبدي يتقربُ إليّ بالنوافلِ حتى أحبَّه) كُلَّما أكثرت من النوافل كنت أقرب إلى وَليَّك جلَّ جلاله، وكُلَّما أحبك الله أكثر. |
معنى الكرامة:
| أيُّها الإخوة الكرام: على مدار عقودٍ سابقة، ارتبط أولياء الله تعالى بالكرامات، بمعنى أنَّ الناس إذا قيل وَليُّ الله، قالوا الكرامة، وإذا قيل كرامات قالوا: هذه لأولياء الله. |
| ما الكرامة؟ الكرامة هي إكرام الله تعالى لعبده المؤمن التقي الوَليّ، الكرامة هي أنَّ الله تعالى يُكرِم عبده بعطاءٍ من عنده، هذه هي الكرامة بالمعنى العام البسيط، الذي يشمَل كل وَليٍّ من أولياء الله تعالى، يُكرِم عبده بعطاءٍ منه، سمّاها القرآن الكريم أيام الله، قال تعالى: |
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(5)(سورة إبراهيم)
| يومٌ رزقك الله فيه ولداً، هذا يومٌ من أيام الله، يومٌ وفَّقكَ في امتحانٍ مصيري، هذا يومٌ من أيام الله، يومٌ شفاكَ من مرضٍ عُضال، هذا من أيام الله، عطاءٌ إلهي، يومٌ صبَّرَك على بلوةٍ حلَّت بك، يومٌ من أيام الله. |
| أيُّها الإخوة الكرام: عندما تنجو من حادثٍ كان في عُرف الناس مُحقَّقاً، نظروا إلى التصوير قال: كادت السيارة تقتله ونجا، هذه كرامةٌ أكرم الله بها عبداً من عباده، لو قال أطباء الدنيا كلها لا شفاء من هذا المرض، ثم شفى الله تعالى عبداً مؤمناً تقيَّاً من عباده، فهذه كرامة، لو قالوا إن أوجاع هذا المرض لا تُحتمَل، ثم دخلت إلى مؤمنٍ تقيٍّ وَليٍّ فوجدته صابراً مُتصبِّراً راضياً عن الله، هذه كرامة، لو احترقت أرضٌ واسعة، لكن النار لم تصل إلى أرضك يا مَن تدفع زكاة مالِك، وتأتي حقَّ الله تعالى، وتتقي أن تعصيه، أكرمك بهذه الكرامة، لو كنت ترجو أن تحج بيت الله الحرام تُحب ذلك، لكن الأسباب مُنقطعة بين يديك، لا يوجد مال لا يوجد موافقة، ثم كما يقول العوام: من غامض علمه هيأ لك حج البيت الحرام، هذه كرامة، لو أنَّ الله تعالى أَلهمكَ أن لا تذهب إلى مكانٍ، كان هناك موعدٌ، تقول لا أدري لماذا لم أذهب؟ ثم وقعت مصيبةٌ في هذا المكان فنجوت منها، هذه كرامة، عندما ينصُر الله تعالى فئةً قليلةً ويُثبِّتُها أمام أعتى جيوش العالم، هذه كرامة، إجابة الدعاء كرامة، عندما تقول يا ربّ وفقني فيوفقك هذه كرامة، موافاة ماءٍ في موضعٍ لا ماء فيه هذه كرامة. |
| هاتان الكرامتان ذكرهما أبو إسحاق الإسفراييني قال: "هو أن يُجيب دعاؤك وهو أن توافي ماءً في موضعٍ لا ماء فيه"، كل الناس يعرفون هذا المكان لا ماء فيه، لكنك وجدت ماء، ربُّنا عزَّ وجل يسَّره لك، هذه كرامة. |
من الكرامات التي ذكرها القرآن الكريم:
| من الكرامات التي ذكرها القرآن الكريم، كرامة مريم التي رزقها الله رزقاً من عنده: |
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)(سورة آل عمران)
| وكرامة أهل الكهف الذين أووا إلى الكهف فناموا ثم بَعثَهم الله تعالى. |
| مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة كان يُغشّيهم النُعاس ينعسون، ينزِّل عليهم البرد، هذه كرامة، قاتلت معهم الملائكة هذه كرامة. |
| هنا ملاحظة مهمة أيُّها الكرام: إكرام الله تعالى لعبده وفق العادة، أو بخلاف العادة المألوفة، لا يعني أنه وَليّ، قال تعالى: |
كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20)(سورة الإسراء)
|
إذاً نعود إلى الأصل، وهو أنَّ وَليَّ الله تعالى هو المؤمن التقي، الإكرام من الله تعالى بعد ذلك إن جاء فيا مرحباً، وإن أراد الله تعالى أن يبتلينا، بنقصٍ من الأموال والأنفُس والثمرات، فهذا لا يقدح في أنَّ هذا الإنسان وَليٌّ لله. |
| أيُّها الإخوة الكرام: العِبرة بالإيمان والتقوى، فالله تعالى قد قال إبراهيم عليه السلام: |
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126)(سورة البقرة)
| رِزق الله ليس مخصوصاً بالمؤمنين (وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). |
| أيُّها الإخوة الكرام: يقول الجُنيد رحمه الله: "إذا رأيتم الرجُل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تغتروا به حتى تروه عند الحلال والحرام" طبعاً هذا فرضاً وجدلاً، هذا لا يكون في دنيا البشر، لكن بمعنى أن لا تنظُر له وتقول: الله أكبر مشى على الماء أو طار في الهواء، انظُر هل هو تقي؟ يخاف الله؟ إذا كان يُحلُّ الحلال ويُحرِّم الحرام فهو وَليُّ الله. |
ما هي أعظم الكرامات؟
| ما أعظم كرامة يُكرِم الله بها عباده؟ أعظم كرامة يُكرِم الله تعالى بها وَليّاً من أولياءه، قال ابن تيمية رحمه الله : "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة" أعظم ما يُكرمك الله تعالى به، أن يوفقكَ للاستقامة على منهجه، هذه أعظم كرامة. |
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(30)(سورة فصلت)
| ما هذه الكرامة؟! |
| قال ابن القيِّم رحمه الله: "بل الكرامة الحقيقية هي كرامة الإيمان والهداية" هذه هي الكرامة، أن يهديك الله تعالى هذه أعظم كرامة. |
| يقول الجُنيد رحمه الله: "الكرامة أن تثبُت قدمُك على الصراط المستقيم لا أن تمشي على الماء أو تطير في الهواء" هذا قول الإمام الجُنيد، الكرامة أن تستقيم قدمُك على الصراط المستقيم، أن تثبُت في زمن الفِتن والمُتغيرات، اليوم كل شيءٍ يدعو إلى المعصية، فِتن كقِطَع الليل المظلم، شهوات وشُبهات في الإعلام، وعلى شاشة الجوال، وأنت ثابتٌ مؤدٍّ للفرائض، ملتزمٌ بشرع ربك، إن أخطأت عُدت إليه فوراً وتُبت وأنبت، تسرُّك حسنتك، تسوؤك سيئتك، هذه هي الكرامة العُظمى، هذه أعظم كرامة. |
| ومن أعظم الكرامات كما يقول أهل العلم: أن يُعلِّمك الله، قال تعالى: |
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا(113)(سورة النساء)
| هذه أعظم كرامة، من أعظم الكرامات أن يُعلِّمك الله، علَّمنا الله الحلال والحرام، لا أقول يُعلِّمك أن تأخذ شهادةً عُليا في الفقه المُقارن، على العين والرأس، لكن كم من أُناسٍ ما تعلموا في المدارس، لكن علَّمهم الله أن يعرفوه، أن يخشوه، أن يُحبّوه، والله هذا أعظم عِلمٍ، جدَّتي وجدَّتُك لم يدخلوا المدارس، ربما لا يعرفون إلا القراءة والكتابة لكنهم يخافون الله. |
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)(سورة فاطر)
| هؤلاء كراماتهم عند الله عظيمة، هؤلاء أهل الكرامات لأنهم يخافون الله. |
| أيُّها الإخوة الكرام: الآن سأدخُل في موضوعٍ حساسٍ نوعاً ما، لماذا نُنكِر كثيراً اليوم على من يُخصِّص دروساً كاملة لرواية خوارق العادات؟! الوَليّ الفلاني فعل كذا، والفلاني فعل كذا، والفلاني فعل كذا، وتخرُج المقاطع على وسائل التواصل، وتقوم الدنيا ولا تقعُد، لماذا نُنكِر ذلك؟ نحن لا نُنكِر الكرامات معاذ الله، الكرامات ثابتة في كتاب الله تعالى وفي سُنَّة رسوله، وقلنا هي عطاءٌ من الله لعبده، وهل يُنكِر إنسانٌ عطاء الله لعباده؟ أبداً، إذاً أين المشكلة؟ المشكلة أولاً هي في أربع نقاط: |
| النقطة الأولى: أنَّ من يروي لنا يروي ما هبَّ ودبّ دون أي سَنَدٍ صحيح، لمُجرَّد أنه يقرأ في الكتُب أنَّ فلاناً ربتَ على حمارٍ ميتٍ فقام الحمار فمشى، أو أنه قال للناس لا تغسلوني، وبعد أن مات قام وقال: أنا أُغسِّل نفسي فأصبح حيَّاً، هذه من كراماته، المشكلة أنَّ هذه القصص ليس لها سَنَد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: |
{ كَفَى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بِكُلِّ ما سمِعَ }
(أخرجه مسلم وأبو داوود وابن حبان)
نحن أمة السند:
| كل ما يسمعه يذكره، قالوا لي، قرأت في الكتاب الفلاني، نحن أُمة السَنَد، عندما أقول لك: قال صلى الله عليه وسلم، قُل لي: هذا الحديث سَنَده ضعيف، أقول لك على العين والرأس أنا آسف، نحن أُمة السَنَد، نأتي بالحديث عن، عن، عن، إلى أن نصِل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نروي شيئاً لا نعلَم سَنَده، لمُجرَّد أننا نأتي بأشياءٍ غريبةٍ تستثير عواطف الناس، ويقول الله أكبر! والقصة ليس لها سَنَد هذا أولاً. |
| الأمر الآخر: لأنه أحياناً تُروى دون ضوابطٍ شرعية، والكرامة لا تُعارض نصَّاً شرعياً، إكرام الله لعباده لا يمكن أن يُقال في كتاب، موجودة في الكتب أنَّ فلاناً من كراماته أنه كشف عورته أمام الناس وبال! هذه كرامة؟! هذه إهانة، أن يُقال إنَّ فلاناً قال: استغث بفلان حتى يأتي لك، قال له: استغيث بالله، قال: لا تستغث بالله، استغث بالشيخ الفلاني لأنه يأتي لك، لأنك تعرفه لكن لا تعرف الله! هكذا يُقال، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: |
{ كنتُ رديفَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ يا غلَّامُ - أو يا بنيَّ - ألا أعلِّمكَ كلماتٍ ينفعكَ اللَّهُ بهنَّ؟ فقلتُ: بلى فقالَ: احفظِ اللَّهَ يحفظكَ، احفظِ اللَّهَ تجدهُ أمامَكَ تعرَّف إليهِ في الرَّخاءِ يعرفُكَ في الشِّدَّةِ إذا سألتَ فاسألِ اللَّهَ وإذا استعنتَ فاستعن باللَّهِ قد جفَّ القلمُ بما هوَ كائنٌ فلو أنَّ الخلقَ كلَّهم جميعًا أرادوا أن ينفعوكَ بشيءٍ لم يقضهِ اللَّهُ لكَ لم يقدروا عليهِ وإن أرادوا أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يقضهِ اللَّهُ عليكَ لم يقدروا عليهِ فاعمل للَّهِ بالشُّكرِ واليقينِ واعلم أنَّ الصَّبرَ على ما تكرهُ خيرٌ كثيرٌ وأنَّ النَّصرَ معَ الصَّبرِ وأنَّ الفرجَ معَ الكربِ وأنَّ معَ العسرِ يسرًا }
(أخرجه الترمذي وأحمد والبيهقي)
| هذا يُعارِض النصوص الشرعية. |
| الأمر الثالث: أنهم يروون من الكرامات ما يصِل إلى مستوى المعجزة بل يفوقها، أشياء لم تحصل لأنبياء ويقول حصلت لفلانٍ من الناس. |
| يقول الإمام الصنعاني وهذه كلمةٌ تعلّمناها وحفظناها دون أن ننتبه لمضمونها: "وأمّا قوله إنَّ كل معجزةٍ لنبيٍ تصلُح أن تكون كرامةً لوَليّ، فهذه دعوةٌ لا دليل عليها" القرآن الكريم معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يصلُح أن يكون كرامةً لأحدٍ يوحي الله إليه؟ |
الأنبياء جاؤوا بالمعجزات:
| سيدنا عيسى عليه السلام كان يخلُق من الطين كهيئة الطير، فينفُخ فيه فيكون طيراً، فهل يصلُح هذا كرامةً لوَليّ؟ |
| موسى عليه السلام كلَّم الله تكليما، فهل يصلُح هذا كرامةً لوَليّ؟ |
| ويقول الإمام السُبكي، انظروا إلى كلام أهل العِلم، يقول: "معاذ الله أن يتحدَّى نبيٌ بمعجزةٍ تكررت على وَليّ، بل لابُدَّ أن يأتي النبي بما لا يوقعه الله على يد الوَليّ، وإن جاز وقوعه عقلاً، فليس كل جائزٍ في قضايا العقول واقعاً" ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن الأنبياء جاؤوا بالمعجزات، فلمّا تقع هذه المعجزات على يد الأولياء، هذه لم تعُد معجزة، هو تحدَّى الناس أنه لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بها، ثم أتى بها، فقال معاذ الله، ثم قال: وإن جاز وقوعه فليس كل جائزٍ في قضايا العقول واقعاً، العقل يُجيز وقوع أشياءٍ كثيرة، لكن هل وقعت أم لم تقع شيءٌ آخر. |
| يقول ابن تيمية رحمه الله: "فلا تبلغ كرامات أحدٍ قط مثل معجزات المرسلين" |
الغلوَّ في الأولياء والصالحين:
| النقطة الرابعة: كم أدَّى الحديث عن كرامات الأولياء دون ضوابطٍ ودون سَنَد، ولأجل الرواية فقط، وتسمع أحياناً بكراماتٍ لم تسمع بها في تاريخ الأُمة، مصطنعة حديثة، كم أدَّى ذلك إلى الغلوَّ في الأولياء والصالحين؟! هل يرضى عالِمٌ جليلٌ رحمه الله، كالإمام الجيلاني أذكره بالاسم، الإمام عبد القادر الجيلاني إمامٌ من أئمة المسلمين، هل يرضى أن يُقال: إنَّ فلاناً استغاث به بعد ألف عام فأغاثه؟! هو هل يرضى بذلك رحمه الله؟ هُنا هل نمدَح الإمام الجيلاني أم نَذمُّه؟ والله نَذمُّه عندما نأتي بقصصٍ من أجل أن نُغري بالناس، حدثني عن عِلم الرجُل، عن أخلاقه، حدثني عن تواضعه، حدثني عن سيرته، حتى أتأسى به، قل لي الإمام النووي صاحب رياض الصالحين وأقرئني كتابه، هذا ما يُعلِّم الناس. |
| أمّا إن حدَّثتني عن بعض خوارق العادات التي جرت معه، وشيء موافق للشرع وشي غير موافق، وشيء من الخيال وشيء من الحقيقة، وكلام ما هبَّ ودبّ، ثم خرجت أنا من المسجد، ما الذي حصل؟ استثرت عواطفي، سُرِرتُ، والله أكبر، ثم خرجت من المسجد، ماذا أفعل أنا؟! حدّثني عن أخلاق الإمام النووي، عن عِلمه، عن كتابه العظيم الذي لا يوجد بيتٌ في بيوت المسلمين يخلو من رياض الصالحين، حدّثني عن هذا العالِم كم كان يُمضي في التآليف في العمل، حتى أقوم إلى الاقتداء به، إلى العمل. |
نحن لا نُنكِر الكرامات ولكن الإيمان بوقوعها شيء وأن نُصدِّق بكل ما يُروى من غير سَنَدٍ شيءٌ آخر:
| أيُّها الإخوة الكرام: مرةً أخيرة حتى لا يخرُج رجُلٌ الآن من المسجد ويقول: قد سمعنا خُطبةً للشيخ وقد أنكر الكرامات، أنا لا أُنكِر الكرامات، هذا تصريحٌ أبلغ من أي تأويل، ولكن الإيمان بوقوعها شيء، وأن نُصدِّق بكل ما يُروى من غير سَنَدٍ ولا ضابط شيءٌ آخر، وجعلها منهجاً دينياً يسير عليه الناس، وخطة عمل، ويجب أن تُذكَر الكرامات بشكلٍ دائمٍ، وإيّاك أن تنتقد أو أن تقول: هذه وقعت أو لم تقع، وأن تترجم لعالِمٍ من العلماء فتقول: هذه لا يصحّ شرعاً أن تكون كرامةً، هذه فيها الإهانة لدين الله عزَّ وجل، فهُنا المشكلة. |
| عندما أقول لإنسانٍ إيّاك والأحاديث الموضوعة، لا يخرُج ويقول: الشيخ يُنكِر الحديث الشريف، أنا أُنكِر الأحاديث الموضوعة وشديدة الضعف، أن نعمل بها أو أن نرويها، هذا ما أُنكِره، لكن لا أُنكِر أصل الحديث، فالكرامة عطاءٌ من الله تعالى لأوليائه، وهو كثيراً ما يجري ضمن العادات، من رزقٍ حلال، ومَطعمٍ طيِّب، وولدٍ صالح، وزوجةٍ تقيَّة، وقد يجري بخلاف المألوف والمُعتاد لكن ضمن ضوابط الشريعة، ولا يرقى لأن يكون معجزةً كمعجزات الأنبياء، وهو في مُحصِّلة الأمر للأولياء، أي لكل مؤمنٍ. |
| كلٌّ منكم له يومٌ مع أيام الله، كلٌّ منكم إن شاء الله أحسبكم والله حسيبكم، ولا أُزكّيكم على الله، لكنكم روّاد مساجد، أحسب إن شاء الله أننا جميعاً إن التزمنا إيماناً وتقوى، فنحن إن شاء الله من أولياء الله، ولنا كرامةٌ عند الله يُكرمنا، ويُعطينا، ويهَبُنا، ويمنحُنا الرزق، والخير، والسكينة، والصبر، والأمن، والاستقرار النفسي، هذا كله عطاءٌ من الله تعالى لعباده. |
| أيُّها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله. |
| الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. |
الدعاء:
| اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات. |
| اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا. |
| اللهم اجعلنا من أوليائك، سِلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، اللهم اجعلنا من أوليائك الصالحين، اللهم اجعلنا من أوليائك المؤمنين، اللهم اجعلنا من أوليائك المُتَّقين. |
| اللهم يا أكرم الأكرمين كُن لنا عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً. |
| اللهم اجعلنا نُحبك حتى كأننا نراك، أسعدنا بلُقياك، اجمعنا بحبيبك ومصطفاك صلى الله عليه وسلم، وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبُنا عليك اتكالنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين. |
| اللهم إنَّا نسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل. |
| اللهم فارِج الهم كاشف الغم، مُجيب دعاء المُضطرين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أنت ترحمنا، ارحمنا برحمةٍ من عندك تُغننا بها عمَّن سواك. |
| اللهم كُن لأهلنا في فلسطين في غزَّة، عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً. |
| اللهم ثبِّتهم، اللهم ثبِّتهم، اللهم ثبِّتهم. |
| اللهم أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف، أطعِم جائعهم، واكسُ عُريانهم، وارحم مُصابهم، وآوِ غريبهم، وارزقنا صلاةً في المسجد الأقصى قبل الممات فاتحين مُحررين يا أرحم الراحمين. |
| اللهم عليك بالصهاينة ومَن والاهم ومَن أيَّدَهم ومن وقف معهم في سرٍّ أو علن، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك. |
| اللهم إنهم يقولون من أشدُّ منّا قوة، وقد غاب عنهم أنك أشدّ منهم قوة، فكن لهم يا ربّي بالمرصاد، وخذهم كأخذ عاد، إنك وَليُّ ذلك والقادر عليه. |
| اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً سخياً رخياً، مُطمئناً مُستظِّلاً بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، ووفِّق القائمين عليه لما فيه مرضاتك وللعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، وجميع ديار المسلمين، والحمد لله ربّ العالمين. |

