الحج
كيف نتحمل المسؤولية
| يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته. |
| اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً. |
مقدمة:
| وبعد فيا أيُّها الإخوة الكرام: يُحكى أنَّ رجُلاً كان مُستلقياً على شاطئ البحر، وقد أحاط به مئةُ عقربٍ، وكان كل مَن رأى الرجُل يقول إنه هالكٌ، لا بُدَّ أن تلدغه العقارب، العجيب أنَّ الرجُل لم يُصَب بلدغةٍ واحدة لماذا؟ لأنَّ كل عقربٍ كان يقول في نفسه: سأترُك المهمة لغيري، لن أُرهِق نفسي بلدغه، غيري يفعلها، فلم يلدغه أحد، فنجا الرجُل لا لقوةٍ عنده بل لتقاعُسهم جميعاً عن المهمة، هذه الطُرفة مقدمةٌ لفكرةٍ مفادها، أنَّ هناك من يتحمَّل المسؤولية وهناك من يُحمِّل المسؤولية لغيره. |
المؤمن يتحمَّل المسؤولية:
| المؤمن يتحمَّل المسؤولية، هكذا ينبغي أن يكون، وكثيرون يتخلون عن المسؤولية ويُحمِّلونها لغيرهم، وهذا المرض قد تحدَّثنا عنه في الخُطبة الماضية، مَن يُحمِّل المسؤولية لغيره، إمّا يقول أنا ضعيفٌ غيري يحملها، أو يتكبَّر فيقول أنا لا أُخطئ فلا يحمِل المسؤولية، وفي النتيجة لا يتحمَّل المسؤولية إمّا لشعوره بالضَعف، أو لشعوره بتضخُّم الذات، وعلى الحالتين لا يتحمَّل المسؤولية. |
| وبيِّنا أنَّ آدم وزوجه عصيا ربهما في الجنَّة وأكلا من الشجرة، ولكنهما تحمَّلا المسؤولية. |
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23)(سورة الأعراف )
| فتاب الله عليهما، بينما إبليس لم يتحمَّل المسؤولية، أراد أن يُحمِّلها لآدم قال: |
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ(12)(سورة الأعراف)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا(62)(سورة الإسراء)
| المشكلة عنده ليست عندي، ثم حمَّل المسؤولية لخالقه. |
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)(سورة الأعراف )
| أنت أغويتني، القوي المؤمن الشجاع يتحمَّل المسؤولية، وغيره يُحمِّل المسؤولية للآخرين ظاناً أنه ينجو بذلك لكنه عند الله لن ينجو. |
وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ(24)(سورة الصافات)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)(سورة الحجر)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(6)(سورة الأعراف )
| سواءً تحمَّل الإنسان المسؤولية في الدنيا أم لم يتحمَّلها، فإنه سيُسأل يوم القيامة شاء أم أبى. |
المسؤولية على أنواعٍ:
| أيُّها الإخوة الكرام: المسؤولية على أنواعٍ، مسؤوليةٌ ذاتيةٌ تُجاه نفسي، ومسؤوليةٌ تُجاه خالقي، ومسؤوليةٌ تُجاه الآخرين، هذه مسؤولياتي، هناك مسؤوليةٌ تُجاه نفسي التي بين جَنبَي، وهناك مسؤوليةٌ تُجاه خالقي، وهناك مسؤوليةٌ تُجاه الآخرين، أمّا المسؤولية الذاتية قال تعالى: |
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)(سورة الأحزاب)
المسؤوليةٌ الذاتيةٌ تُجاه نفسي:
| ما هي الأمانة؟ هي نفسك التي بين جَنبَيك، حملها الإنسان قال: أنا لها يا ربّ، أنا أتعهد أن أقوم بمسؤوليتي تُجاه نفسي، أن أُزكيها، أن أحملها على طاعة الله، أن آمرها بالمعروف وأن أنهاها عن المُنكَر (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) ظلوماً لنفسه جهولاً بحجم المسؤولية، عندما قال أنا لها ثم لم يحملها. |
| أمّا المؤمن فليس ظلوماً ولا جهولاً، لأنه قال أنا لها وحملها، يتحدَّث القرآن هُنا عن الإنسان قبل الإيمان (كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) ظلم نفسه لأنه حمَّلها شيئاً لا تستطيعه، وجَهِل حجم المسؤولية، مثلاً الآن لو قلت لإنسانٍ أمامك هذه الحقيبة وزنها مئة كيلو غرام، هل تستطيع أن تحملها؟ قال: أنا لها، ثم جاء ليحملها فلمّا حاول رفعها جاءته آلامٌ شديدة في ظهره وعجز عن حملها، فأقول له: أنت ظلوم، ظلمت نفسك، آذيت جسمك، أنت لا تستطيع حملها، وأنت جهولٌ لا تعلم أنها ثقيلة، لكن لو قال أنا لها ثم حملها، فهو في أعلى عليّين، لأنه تحمَّل وحمَل فعلاً، قال تعالى مُتحدِّثاً عن بني إسرائيل قوم موسى: |
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(5)(سورة الجمعة)
| وصفٌ في مُنتهى الدقة (حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ) هذا كتاب الله بين أيديكم، احملوه اعملوا بما فيه، خُذوه بقوةٍ، لكنهم لم يعملوا به ثم لم يحملوها، حُمِّلوها فلم يحملوها، قال: (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) ماذا ينفع الحمار لو وضعت على ظهره كتاباً من ألف صفحةٍ في العلوم جميعها؟ ماذا ينفعه؟ لا ينفعه شيء، يحمله لكنه لا يعمل بما فيه. |
المسؤولية تُجاه أنفسنا أن نُزكِّيها:
| أيُّها الإخوة الكرام: أمّا المسؤولية تُجاه خالقنا، فهي أن نقوم بواجب العبودية لله، المسؤولية تُجاه أنفسنا أن نُزكِّيها. |
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10)(سورة الشمس)
| أن نَحملها على الطاعات، أن ننهاها عن المُنكرات، أن نملأها بمكارم الأقوال والأفعال، نُزكِّيها نُخلِّيها من الأدران ونملأُها بالخيرات، هذه مسؤولية النفس. |
المسؤولية تُجاه الخالق:
| أمّا المسؤولية تُجاه الخالق، فأن نقوم بواجب العبودية لله تعالى، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظروا كيف كان يتحمَّل المسؤولية صلى الله عليه وسلم: |
{ أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رَسولَ اللَّهِ، وقدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ؟ قالَ: أفلا أُحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْدًا شَكُورًا فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أرَادَ أنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ }
(أخرجه مسلم وأحمد والطبراني)
| أنا وأنت نُصلّي نرجو أن يغفر الله لنا ذنوبنا، أمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد غُفر له الذنب الماضي واللاحق إن حَصَل (وقدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ) انظروا إلى تحمُّل المسؤولية قال: (أفلا أُحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْدًا شَكُورًا) مسؤوليةٌ تُجاه خالقي أن أعبده حقَّ عبادته، لا أتخلّى عن مسؤوليتي ولو غُفِرت الذنوب، فكيف ونحن غارقون في الذنوب نسأل الله السلامة. |
المسؤولية تُجاه الآخرين:
| المسؤولية تُجاه الآخرين تبدأ من والديك، إلى أُسرتك الصغيرة، إلى عائلتك الكبيرة، إلى زوجك، إلى أولادك، إلى مجتمعك، إلى أرحامك، إلى أصدقائك، إلى إخوتك في الدين، إلى إخوتك في الوطن، إلى إخوتك في الإنسانية، مسؤوليةٌ تُجاه كل شيءٍ، حتى تُجاه الحيوان الأعجم، هناك مسؤوليةٌ تُجاهه ألّا تؤذيه، هذه المسؤولية تُجاه كل الكون من حول الإنسان، المسؤولية تُجاه الآخرين. |
| أيُّها الإخوة الكرام: وفي هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ عليهم وهو مسؤولٌ عنهم والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ }
(أخرجه البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي)
| (كلُّكم) أنا وأنت، لا تقُل الراعي هو الحاكم، هذا راعٍ رعيَّته كبيرة وحِمله ثقيل وكان الله في عونه، أنا راعٍ وأنت راعٍ لنا رعيَّة، الرجُل في بيته له رعيَّة، والمرأة في بيتها لها رعيَّة، ومدير الشركة عنده رعيَّة، كلٌّ منّا راعٍ، والمُعلِّم في صفِه عنده رعيَّة، والمحامي عنده رعيَّة، والطبيب رعيَّته المرضى، وهكذا.. وكلٌّ مسؤولٌ عن رعيَّته حفظ أم ضيَّع، نصح أم غش، فيَفهم المؤمن هُنا أنَّ مسؤوليته تُجاه الآخرين عظيمة، ألا يظلمهم وأن يُحسِن إليهم. |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6)(سورة التحريم)
| (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) هذه المسؤولية الذاتية (نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) هذه المسؤولية تُجاه الآخرين. |
سيدنا أبو بكرٍ رضي الله عنه تحمَّل المسؤولية:
| هذا سيدنا أبو بكرٍ رضي الله عنه، تحمَّل المسؤولية منذ اللحظة الأولى لوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما قال المسلمون بالآلاف فليحمِل واحدٌ منهم المسؤولية، قال: أنا لها أنا أحملها، الناس في هَرجٍ ومَرجٍ وحُزن، حتى عملاق الإسلام عُمر رضي الله عنه لا يُصدِّق الخبر، يأتي أبو بكرٍ أحبُّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدخُل إليه وهو مُسجّى فيبكي: |
{ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مات وأبو بكرٍ بِالسُّنْحِ، فجاء أبو بكرٍ، فكشف عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقَبَّلَهُ قال: بأبي أنتَ وأمي، طِبْتَ حيًّا وميتًا، ثم خرج، فحمدَ اللهَ، وأثنى عليهِ، وقال: ألا من كان يعبدُ محمدًا، فإنَّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبدُ اللهَ، فإنَّ اللهَ حيٌّ لا يموتُ، وقال:{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى قولِهِ {الشَّاكِرِينَ} قال: فنشجَ الناسُ يبكونَ، قال: واجتمعتِ الأنصارُ إلى سعدِ بنِ عبادةَ في سقيفةِ بني ساعدةَ ، فقالوا: مِنَّا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، فذهب إليهم أبو بكرٍ، وعمرُ بنُ الخطابِ، وأبو عبيدةَ بنُ الجراحِ، فذهب عمرُ يتكلَّمُ، فأسكتَهُ أبو بكرٍ، ثم تكلَّمَ أبو بكرٍ فتكلَّمَ أبلغُ الناسِ، فقال في كلامِهِ: نحنُ الأمراءُ وأنتمُ الوزراءُ، فبَايِعُوا عمرَ وأبا عبيدةَ، فقال عمرُ: بل نُبَايِعُكَ أنتَ، فأنتَ سيدنا وخيرنا وأَحَبُّنَا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأخذ عمرُ بيدِهِ، فبايَعَهُ، وبايَعَهُ الناسُ }
(أخرجه البخاري والبيهقي في الاعقاد وابن سعد في الطبقات الكبرى)
| ما هذا التحمُّل للمسؤولية؟! أنا الآن سأحمِل همَّ الدين كله على عاتقي، هذا أبو بكر لذلك هو الصدِّيق، لأنه تحمَّل المسؤولية من اللحظة الأولى. |
| ارتدَّت بعض العرب، امتنعوا عن دفع الزكاة، أي لا يدفعون حقوق بيت المال، قام أبو بكرٍ هذا الرجُل الأسيف، الذي كان إذا صلّى لا يستبين الناس كلامه من شدّة بُكائه، هذا الذي نحفظه عن أبي بكرٍ، أنه كان يبكي في الصلاة، في هذا الموقف قال: |
{ عن عمر ذُكرَ عندَهُ أبو بَكرٍ فبَكى، وقالَ : وددتُ أنَّ عمَلي كلَّهُ مثلُ عملِهِ يومًا واحدًا من أيَّامِهِ وليلةً واحدةً مِن لياليهِ أم ليلتُهُ فليلةٌ سارَ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ إلى الغار فلمَّا انتهَيا إليْهِ قالَ: واللَّهِ لا تدخلُهُ حتَّى أدخلَ قبلَكَ فإن كانَ فيهِ شيءٌ أصابَني دونَكَ فدخلَ فَكسحَهُ ووجدَ في جانبِهِ ثقبًا فشقَّ إزاره وسدَّها بِهِ وبقي منْها اثنان فألقَمهُما رجليْهِ ثمَّ قالَ لرسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ادخُل فدخلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ووضعَ رأسه في حِجرِهِ ونامَ فلُدِغَ أبو بَكرٍ في رجلِهِ منَ الجحر ولم يتحرَّك مخافةَ أن ينتبِهَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فسقَطت دموعُهُ على وجْهُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فقالَ: مالك يا أبا بَكرٍ؟ قالَ: لُدِغتُ فداكَ أبي وأمِّي فتفلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فذَهبَ ما يجدُهُ ثمَّ انتقضَ عليْهِ وَكانَ سببَ موتِهِ وأمَّا يومُهُ فلمَّا قُبضَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ارتدَّتِ العربُ وقالوا: لا نؤدِّي زَكاةً، فقالَ: لو مَنعوني عقالًا لجاهدتُهم عليْهِ، فقلتُ: يا خَليفةُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ تألَّفِ النَّاسَ وارفُق بِهم، فقالَ لي:أجبَّارٌ في الجاهليَّةِ وخوَّارٌ في الإسلام؟ إنَّهُ قدِ انقطعَ الوحيُ وتمَّ الدِّينُ أينقصُ وأنا حيٌّ؟ }
(أخرجه البيهقي في دلائل النبوة واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد وابن بشران في فوائده)
| أُقابل الله وأقول الثغر الذي كنت عليه نقص الدين منه وأنا شاهد! ما هذا التحمُّل للمسؤولية؟! |
كلُّ منّا مُرابطٌ على ثغره يتحمَّل المسؤولية:
| كان السلف يقولون: "أنت على ثُغرةٍ من ثُغر الإسلام فلا يؤتَينَّ الإسلام من قِبَلِكْ"، كلُّ منّا مُرابطٌ على ثغره، أيقول الناس أبو فلان يُصلّي في المسجد ويغشُّنا؟ أوتيَ الإسلام من قِبَلِكْ، انصرف بعض الناس وهذا ليس عُذراً لهم، انصرفوا عن الصلاة في المسجد قالوا: فلان يُصلّي في المسجد لكنه يغش الناس! |
| أتضعين الحجاب على رأسكِ مُلتزمةً بأمر الله ثم تغتابين خلق الله؟! فتأتي المرأة المتفلِّتة من منهج الله فتقول: انظروا إلى فلانة تزعم أنها صالحة ولكنها تؤذي الناس بلسانها، أوتيَ الدين من قِبَلِكْ أنتِ على ثغر، الطبيب على ثغر، أيقول الناس: هذا هو الطبيب المسلم يبتزُّنا ويلجئُنا إلى تحاليلٍ طبيةٍ لسنا بحاجتها! المحامي على ثغر، المُعلِّم في الصف على ثغر، والله كلٌّ منّا على ثغرٍ يا كرام، فلنقتدي بأبي بكرٍ يقول: (تمَّ الدِّينُ أينقصُ وأنا حيٌّ؟). |
سيدنا عُمر رضي الله عنه تحمَّل المسؤولية:
| ثم إذا أتينا إلى عُمر رضي الله عنه، يأتي عام المجاعة، انظروا إلى تحمُّل المسؤولية، فيُحرِّم الطعام على نفسه ويقول لبطنه وقد أكل الشعير يقول: <<والله ليس لك عندنا أيُّها البطن غير هذا حتى يوسِّع الله على المسلمين>> لن آكل الطعام والناس جوعى. |
| كان يقول: <<لو أنَّ جملاً هلك بشطّ الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه>> تحمُّل للمسؤولية أنا مسؤول. |
| كان يقول: <<لأن نِمتُ نهاري لأُضيعنَّ رعيَّتي، ولأن نِمتُ ليلي كله لأُضيعنَّ نفسي أمام ربّي>>، عندي مسؤولية في الليل وعندي مسؤولية في النهار، فالنوم قليل مسؤوليتي كبيرة. |
| رَبعي بن عامر لمّا دخل على رستُم قائد الفُرس وقال له: ما الذي جاء بكم؟ قال: <<إنَّ الله ابتعثنا لنُخرِج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سَعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام>> نحن مَن ابتعثنا الله، هذه مسؤوليتي أُريد أن أقوم بها. |
{ وقال زيدُ بنُ ثابتٍ: بعَثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ أُحُدٍ أطلُبُ سعدَ بنَ الرَّبيعِ، فقال لي: إن رأَيْتَهُ فأقرِئْهُ منِّي السلامَ، وقُلْ له: يقولُ لك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كيف تجِدُك؟ قال: فجعَلْتُ أطوفُ بين القتلى، فأتَيْتُهُ وهو بآخِرِ رمَقٍ، وفيه سبعون ضَرْبةً، ما بين طَعْنةٍ برُمْحٍ، وضَرْبةٍ بسَيْفٍ، ورَمْيةٍ بسَهْمٍ، فقلتُ: يا سعدُ، إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقرأُ عليك السلامَ، ويقولُ لك: أخبِرْني كيف تجِدُك؟ فقال: وعلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ السلامُ، قُلْ له: يا رسولَ اللهِ، أجِدُ ريحَ الجنَّةِ، وقُلْ لقومي الأنصارِ: لا عُذْرَ لكم عند اللهِ إن خُلِص إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفيكم عينٌ تَطرِفُ ، وفاضت نفسُهُ مِن وقتِهِ }
(شعيب الأرناؤوط تخريج زاد المعاد)
| في اللحظة الأخيرة يتحمَّل المسؤولية وهو يموت، لا عُذر لكم أن يؤتى الإسلام وأنتم شاهدون، تحمَّل المسؤولية. |
كيف نتحمَّل المسؤولية؟
| كيف نتحمَّل المسؤولية؟ أولاً بمراقبة الله تعالى، والله أيُّها الكرام لا يمكن أن يتحمَّل أحدٌ المسؤولية الحقَّة إلا إذا كان يعلم أنَّ الله ناظرٌ إليه، القوانين تُحمِّل الناس بعض المسؤوليات وهي مطلوبة، لكن المراقبة تحمِّله المسؤولية، لماذا يكون مسرعاً ثم فجأةً يُخفِّف سرعته؟ لأنه ينظُر إلى الشرطي الواقف ينتظره ليخالفه، أو إلى الكاميرا المثبَّتة التي ستُصوُّر سرعته، يشعُر بالمراقبة فيتحمَّل المسؤولية، المراقبة أولاً مراقبة الله تعالى. |
| هذا سهل بن عبد الله التستُري يقول: <<كنت أقوم في الليل فأنظُر إلى صلاة خالي محمد بن سوار فتُعجبني صلاته، يُصلّي في الليل يتحمَّل مسؤوليته أمام نفسه وأمام ربّه، قال فتعجبني صلاته، فالتفت إليَّ يوماً وقال: يا سهل إذا تقلَّبت في الليل عند النوم فقُل في قلبك ثلاثاً: الله معي، الله ناظرٌ إليّ، الله شاهدي، قال: فجعلت أقولها ثلاثاً، ثم قال: اجعلها سبعاً، ثم قال: اجعلها إحدى عشرة مرة، قال: فوجدت حلاوتها في قلبي، ثم قال لي: يا سهل من كان الله معه وناظراً إليه وشاهداً عليه أيعصيه؟ قلت: لا، قال: إيّاك والمعصية>> المراقبة أولاً أن نُراقب الله. |
ليس في ديننا دنيا ودين:
| الأمر الثاني: ألّا نفصِل بين دنيا ودين، أحبابنا الكرام نحن ليس في ديننا دنيا ودين، يقومون أحياناً بعمل برامجٍ إذاعيةٍ وتلفزيونية دنيا ودين، تمييعٌ للمصطلحات، ليس هناك دنيا في مقابل دين، هو دين، الدنيا والدين دين، فعلِّم ابنك أنه عندما يُرتِّب سريره صباحاً يتحمَّل المسؤولية، يرتبه إرضاءً لربّه وليس إرضاءً لأُمه ولا لأبيه، طبعاً بر الوالدين مطلوب، لكن يُرتِّب حتى السرير إرضاءً لربّه، ليس هناك دنيا ودين كله دين، وبذلك يتحمَّل الإنسان مسؤولياته الدنيوية ويعتبرها ديناً يدين به الله تعالى. |
إذا أردت أن يتحمَّل ابنك مسؤوليةً فحمِّله المسؤولية:
| الأمر الثالث: إذا أردت أن يتحمَّل ابنك مسؤوليةً فحمِّله المسؤولية، بعض الآباء يقول لك: ابني لا يتحمَّل المسؤولية، متى حمَّلته المسؤولية ولم يحملها؟ يقول لك: أخاف عليه، إذاً لن يحمِل المسؤولية، ما دمت تخاف عليه لن يحمِل المسؤولية، وكِّله بمهمة، كلِّفه بمهمة ثم تابعه على تنفيذها، ثم عزِّزه، امدحه عندما ينفذُّها فيتعلَّم تحمُّل المسؤولية. |
| أسامة بن زيد أيُّها الكرام كان عُمره لم يصِل إلى الثامنة عشرة لمّا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائداً على جيشٍ إلى أرض البلقاء في الشام، وفي الجيش أبو بكرٍ وعُمر رضي الله عنهما، وأنفذ البعث أبو بكر رضي الله عنه، ووصل إلى البلقاء أسامة بن زيد وأرعب الروم، وهو ابن ثماني عشرة سنة، واليوم ابن الثماني عشرة سنة يبحث عن الفريق الفائز في المُباراة. |
| إذا درسنا سيرة أسامة بن زيد سنجد أنه حُمِّل المسؤولية، حمل هم الدين من نعومة أظفاره، فأنت حمِّل ابنك المسؤولية قُل له: أنت مسؤول، وكِّله بمهمة طبعاً مع المراقبة، والمهمات التي تكون تحت نظرك لكن عن بُعد، وكِّله قُل له افعل كذا، أُريد منك كذا في البيت كذا في المدرسة، حمِّله المسؤولية، تقول الأم: دائماً أُدرِّسه صار في الصف السادس وما زلت أُدرِّسه كل يوم، لماذا؟ قال: حتى يأتي بالعلامة التامة، فليأتي بتسعةٍ من عشرة أو ثمانٍ من عشرة، لكن بشرط أن يتحمَّل المسؤولية، أنه يدرس هو ويُحضِّر هو للامتحان، لا بُدَّ أن يتحمَّل المسؤولية، وإلا لن يتحملها إذا لم نُحمِّله نحن المسؤولية. |
دائرة الممكن تتسِّع بالأعمال لا بالآمال:
| الأمر الأخير أيُّها الكرام: كيف نتحمَّل المسؤولية؟ أن نتحرك ضمن دائرة الممكن، فدائرة الممكن تتسِّع بالأعمال لا بالآمال، يعني شابٌ يقول لي: والله لم تأتِ اللحظة المناسبة بعد لأحمِل المسؤولية، لم تأتِ حتى الآن اللحظة المناسبة لأقوم بدوري في بناء أُمتي، لم تأتِ اللحظة ما رأيك؟ قلت له لن تأتي هذه اللحظة أُبشِّرُك من الآن، ستموت قبل أن تأتي هذه اللحظة، الذي ينتظر اللحظة المناسبة ليتحمَّل المسؤولية، نُبشِّره من الآن لن تأتي هذه اللحظة المناسبة، فلنتحرك ضمن دائرة الممكن. |
| من تلبيس إبليس على الناس أنه يُزهدهم بالممكنات ويُطمِّعهم بالمستحيلات، أنت إن شاء الله ستكون في الجيش الذي سيفتح الأقصى، ويجب أن نُشجِّع أبناءنا على ذلك، لكن الآن الذي بين يديك لماذا لا تفعل به شيئاً؟ لماذا لا تقوم الآن لنُصرة أُمتك بالممكن، فيُزهده بما بين يديه ويُطمِّعه بما هو بعيدٌ عنه نسبياً، فلا هو يُحقِّق البعيد ولا القريب، فلا بُدَّ أن نتحرك ضمن دائرة الممكن، دائرة الممكن تتسِّع بالأعمال لا بالآمال. |
| أيُّها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله. |
| الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى أله وأصحابه أجمعين. |
الدعاء:
| اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات. |
| اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين. |
| وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبُنا عليك اتكالنا. |
| اللهم لك الحمد على ما أنعمت به علينا من نعمة الغيث من السماء. |
| اللهم فأتم نعمتك وفضلك علينا يا أكرم الأكرمين، واروِ البلاد والعباد بفيض بركاتك يا كريم. |
| اللهم اسقِنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ولا تُهلكنا بالسنين ولا تُعاملنا بفعل المُسيئين. |
| اللهم كُن لأهلنا المُستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، في فلسطين وفي غزَّة وفي السودان وفي كل مكانٍ يُذكر فيه اسمك يا الله، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً. |
| اللهم أطعِم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مُصابهم، وآوِ غريبهم، وألهِمنا سبيلاً لنُصرتهم يا أرحم الراحمين فإنك أعلم بحالنا. |
| انشُر الأمن والأمان في ربوع بلادنا، ووفِّق القائمين عليها للعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، والحمد لله ربِّ العالمين. |

