• الحلقة الثانية
  • 2021-03-27

العبودية


مقدمة
لقد جاء الإسلام ونظام العبودية قائم عند العرب وغيرهم من أمم الأرض، فالإسلام ليس مسؤولاً عن هذا النظام، بل هو من موروثات الجاهلية التي جاء الإسلام للقضاء عليها، إلا أن الحكمة كانت تقتضي التدرجَ في إلغائه، فالخمر مثلاً من موروثات الجاهلية، والإسلام حرَّمه على مراحل متعددة، وفي هذا المعنى تقول عائشة رضي الله عنها تتحدث عن القرآن الكريم:

{ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا }

( أخرجه البخاري )

وكذلك كان إلغاء نظام العبودية متدرجاً على عدة مراحل، إلا أنه استغرق وقتاً أطول من محرمات أخرى وذلك لطبيعة هذا النظام المعقدة.
لقد كان من الممكن أن يصدر أمرٌ بإعتاق العبيد بشكل فوري، إلا أن هذا الإعتاق المفاجىء فضلاً عن أن كثيراً من الناس سيجدون عنتاً في تطبيقه، فإن في الإعتاق المفاجىء مشكلاتٍ جديدة أكبر من العبودية نفسِها.
إن إعتاق العبيد بشكل مفاجىء سيؤدي إلى وجود أعداد كبيرة من الأفراد في المجتمع المسلم دون عمل يكتسبون منه، ودون مسكن يؤويهم، ودون كفيل يكون مسؤولاً عن تأمين متطلباتهم في الأمن والشبع، وسيكون هؤلاء العبيد أحد رجلين، صالحٍ سيلجأ إلى التسول ريثما يجد عملاً يكفيه، أو سيء سيصبح سارقاً أو قاطعَ طريق!
إن القضاء على أية ظاهرة منتشرة يمكن أن يتم عبر طريقين، طريقِ القوة أو طريقِ الفكرة.
نعم إن القضاء على الظاهرة عن طريق القوة سريعٌ، لكن ليس له ديمومة، بينما القضاء عليها بالفكر والقناعة يأخذ وقتاً ولكنه عميق الأثر طويل الأمد.
باختصار: لقد قضى الإسلام على العبودية في الفكر قبل أن يقضي عليها على أرض الواقع.
يشبه ذلك القضاء على ظاهرة شرب الخمور.

الوازع الداخلي والرادع الخارجي
لقد فرض آخر زعماء الاتحاد السوفييتي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي قانوناً صارماً وغير مسبوق يهدف إلى السيطرة على الانتشار الواسع لتناول الكحول في بلاده والذي كان يودي بحياة ملايين المواطنين ويستهلك عشر الناتج المحلي، وأدت هذه الإجراءات الصارمة والتي أُنفق عليها الملايين بغية ضبط الحدود ومنع التهريب إلى تقليل عدد الوفيات بنسبة الربع، لكن المفاجأة كانت بعودة الوضع إلى ما كان عليه بل وأسوأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتخفيف القيود على الكحول حيث زاد عدد الوفيات بنسبة وصلت إلى أربعين بالمئة خلال الأعوام الأربعة التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي.
بينما حرم الإسلام الخمر بآية واحدة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
( سورة المائدة )

بعد أكثرَ من عشر سنوات من البناء الفكري فكان أن ألقى أهل المدينة كل ما في آنيتهم من الخمور لمجرد نزول آية التحريم.
واليوم بعد أكثر من 1400 سنة على التحريم ما تزال المجتمعات الإسلامية هي الأكثر بعداً عن هذه الظاهرة على الرغم من عدم وجود أي قوانين تمنع تناول الخمر، وعلى الرغم من عدم تطبيق الحدود الشرعية، بل مع وجود ما يشجع على الخمر في وسائل الإعلام!
وهذا هو الفرق بين الوازع الداخلي الذي بناه الإسلام، والرادع الخارجي الذي تفرضه القوانين.

تعامل الإسلام مع ظاهرة العبودية
ونعود إلى ظاهرة العبودية التي كانت منتشرة في كل المجتمعات قبل الإسلام وليس في المجتمع العربي فحسب، لقد كان بوسع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يفرض القوانين الرادعة التي تلزم كلَّ من لديه عبدٌ أن يعتقه فوراً، إلا أن مثل هذه القوانين فضلاً عن آثارها الاجتماعية والاقتصادية السيئة، فهي تلغي الظاهرة، لكنها لا تقضي على الفكرة.
كان بالإمكان القضاء على ظاهرة العبودية بقوة القانون ولكنها ستبقى في فكر الناس راسخة، ومتى وجدت الظروف الملائمة عادت لتظهر بقوة أكبر.
لقد تركزت سياسة الإسلام في التعامل مع ظاهرة العبودية في ثلاث نقاط:

1- تضييق المداخل:
حيث سدَّ الإسلام كلَّ المنافذ التي تؤدي إلى استرقاق عناصرَ جديدة في المجتمع المسلم، ولا عجب بعدها أن تقرأ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى خصمٌ لكل من استرقَّ حراً:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ }

( أخرجه البخاري )

فلم يبق من مداخل العبودية إلا ما يكون في حالات استثنائية في الحروب تفرضها المصلحة ويقررها ولي الأمر، فاسترقاق الأسرى في الحروب ليس أصلاً بل هو استثناء لحاجة كما سنبين في الحلقة القادمة.

2- توسيع المخارج:
قال تعالى:

فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
(سورة البلد)

وهذه الآيات من سورة البلد؛ وهي سورة مكية نزلت والمسلمون يسامون سوء العذاب، نزلت وبلال الحبشي رضي الله عنه يعذَّب فيقول: أحدٌ أحدٌ، نزلت وآل ياسر يعانون ما يعانون، نزلت لتقول: إن أول ما تتجاوز به العقبة التي تقف في طريقك إلى الله أن تعتق عبداً مملوكاً أو تساهم في فك رقبته!
ثم جعلت الشريعة إعتاق الرقاب كفارة لمن حلف يميناً ثم تراجع عنها أو حنث بها، وكذلك كفارة للقتل الخطأ وللظهار، ولمن أتى زوجته في نهار رمضان وهو صائم.
ورتب الشرع ثواباً عظيماً لكل من يعتق رقبة في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم:

{ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ }

( متفق عليه )


3- وضعُ القواعد الشرعية للتعامل مع العبيد والإماء:
ومن هذه القواعد:
- إلغاء التسمية: ففي الحديث:

{ وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي، أَمَتِي، وَلْيَقُلْ فَتَايَ فَتَاتِي غُلَامِي }

( أخرجه مسلم )

وفي حديث آخر:

{ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي، فَكُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: فَتَايَ }

( أخرجه مسلم )

- حسن المعاملة:

{ عَنِ المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ }

( أخرجه البخاري )

بعد هذه القواعد هل يشك عاقل في أن هذا العبد أو تلك الأمة ينطبق عليهما وصف العبودية، أم أنهما عمال مكرمون من الفئة الأولى!
ولا عجب بعد ذلك أن تسمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي، لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ ) بعد أن سمع قوله صلى الله عليه وسلم:

{ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلْعَبْدِ المَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ }

(أخرجه البخاري)

وبعد أن رأى معاملة الصحابة رضي الله عنهم للمملوكين وما يتمتعون به من معاملة راقية.
من خلال تضييق المداخل وتوسيع المخارج ووضع الضوابط لحسن المعاملة ضمن الإسلام إنهاء هذه الظاهرة وتحرير الإنسان من عبادة الإنسان وتوجيهه إلى عبادة الواحد الديان.
والحمد لله رب العالمين.