صفقة خاسرة !

  • خطبة جمعة
  • 2025-10-17
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

صفقة خاسرة !

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.

مقدمة:
وبعد أيُّها الإخوة الكرام: خلق الله الإنسان وجَبَله على حُب الربح وبُغض الخسارة، يُحب الربح ويُبغِض الخسارة من أي نوعٍ كانت، التاجر يدخُل صفقةً بمئة، فإن خرجَ بمئةٍ وعشرين سعِدَ بربحه وفرِح به، متسابقٌ يتنافس مع غيره في سباقٍ ما، فإن أحرز فيها مكاناً متقدِّماً، كأن يُقال فلانٌ الأول في المسابقة، فرِح وربح، هكذا جَبَلَ الله الإنسان.
شخصٌ رشَّح نفسه للانتخابات، ما إن صدرت النتائج وصدر اسمه في قائمة الناجحين، حتى طار فرحاً.
في المُقابل يسوء الإنسان أن يخسر، تسوؤه خسارته سواءً خسر ماله، أو خسر شيئاً من صحته، أو خسر منصبه والطاولة التي كان يجلس وراءها، فيأمُر وينهى، هذه جِبِلَّةٌ جُبِلَ عليها الإنسان، يُحب الربح ويُبغِض الخسارة، علماً أنَّ مقاييس الربح والخسارة، ربما تختلف بين شخصٍ وآخر، بحسب عقيدته وإيمانه وتربيته، بمعنى أنه المؤمن الحقّ، صاحب العقيدة الحقيقية المُنطلِقة من كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يترنَّم مثلاً إن ربح في الانتخابات، لا يطير فرحاً، لا يخرُج عن طَوره، ربما يفرح جزئياً، لأنَّ الله سيُسخِّر له خدمة الناس، وهذه بحسب نيِّته لكنه بالعموم لا يفرح، بل يراها مسؤوليةً عظيمةً أُلقيَت على عاتقه، وحُمِّلها وسيُحاسَب عليها بين يدي ربّه، كلمة مسؤول بالنسبة للمؤمن وفق عقيدته، ليست ككلمة مسؤول لغير المؤمن، المؤمن يسمع كلمة مسؤول فيتذكَّر قوله تعالى:

وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ(24)
(سورة الصافات)

أي سأُسأل، أنا مسؤولٌ كبير، إذاً ستُسأل يوم القيامة عن كل شيء، كلما عظُمت مسؤوليتك عظُم السؤال بين يدي خالقك، فهو لا ينظُر للمنصِب على أنه ربح، ينظُر إليه على أنه مسؤوليةٌ عظيمة، فيَغتمُّ إن خرَجَ اسمه بين الناجحين في الانتخابات مثلاً.
أيضاً المؤمن لا يرى أي خسارةٍ عندما يُنفِق ماله، بل يرى ذلك ربحاً، ويراه غيره خسارةً، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ ما نقصت صدقةٌ من مالٍ، وما زاد اللهُ عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع عبدٌ إلا رفعه اللهُ }

(أخرجه مسلم)


المؤمن يُدرِك أنَّ ما يُنفِقه لا يخسره وإنما يُدَّخَر له أجراً عظيماً عند خالقه:
المال لا ينقُص عندما تتصدَّق، كان مئةً، تصدَّقت بعشرين، أصبح ثمانين، لا ينقُص، بالمُنطلَق الإيماني لا ينقُص، لأنَّ هذه العشرين أصبحت عند الله مئتين، فهل نقُص المال؟! لم ينقُص، فمقاييس الربح والخسارة تختلف، النبي صلى الله عليه وسلم كان يوزع شاةً

{ عن عائشة رضي الله عنها: أنهم ذبحوا شاةً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلها غير كتفها }

(رواه الترمذي)

لأنَّ المؤمن يُدرِك أنَّ ما يُنفِقه لا يخسره، وإنما يُدَّخَر له أجراً عظيماً عند خالقه، الأكثر من ذلك غاية الجود أن يجود الإنسان بنفسه في سبيل الله، حرامُ بن ملحان وهو خال سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه، خرج داعيةً إلى الله تعالى ومُجاهداً في سبيله، يُعلِّم الناس كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، في الطريق خرج إليه رجلٌ مجرمٌ فطعنه طعنةً قاتلة حتى أنفذهُ:

{ سَمِعَ أنَسَ بنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، يقولُ: لَمَّا طُعِنَ حَرَامُ بنُ مِلْحَانَ، وكانَ خَالَهُ يَومَ بئْرِ مَعُونَةَ، قالَ: بالدَّمِ هَكَذَا فَنَضَحَهُ علَى وجْهِهِ ورَأْسِهِ، ثُمَّ قالَ: فُزْتُ ورَبِّ الكَعْبَةِ }

(صحيح البخاري)

أين الفوز؟ لقد قُتِلت، لقد خسرت حياتك! قال: (فُزْتُ ورَبِّ الكَعْبَةِ) لأنَّ الجود بالنفس في سبيل الله تعالى ربحٌ وليس خسارةً، من قضى من أهلنا في غزَّة، صابراً، مُحتسباً، راضياً بقضاء الله تعالى، مُرابطاً في أرضه، فازَ وربِّ الكعبة.
على الشاشة رأيناه قد قُتِل ورأينا أهله يبكونه، في الحقيقة لم يخسر روحه لأنه قدَّمها في سبيل الله تعالى، فهي أغلى روح تُقدَّم، فمقاييس الربح والخسارة تختلف بحسب العقيدة، بحسب المُنطلقات التي تحملها أنت في داخلك، فما تراه خسارةً قد يراه غيرك ربحاً، وما تراه ربحاً قد يراه غيرك خسارةً.

القرآن الكريم يُحدِّث الناس بمنطق الربح والخسارة:
أيُّها الإخوة الكرام: القرآن الكريم يُحدِّث الناس بمنطق الربح والخسارة، يُحدِّثهم بمنطقهم، كثيراً ما يُحدِّثنا القرآن بمنطقنا عن الربح والخسارة، ليدعونا إلى العمل والاجتهاد والبذل، يُحدِّثنا بما نريده وهو الربح، ويُكرِّهنا بما لا نريده وهو الخسارة، وهذا من رحمة الله بنا، من الصفقات الرابحة التي تحدَّث عنها القرآن قال تعالى:

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111)
(سورة التوبة)

أعظم ربح، صفقةٌ عظيمة من الله تعالى، خالقنا يعرِض علينا تجارةً رابحة وصفقةً لا يمكن أن تخسر، الآن قُل لأي تاجرٍ أمامي صفقة الربح فيها مئةً بالمئة، يقول لك: موافق فوراً وهو يثق بك بأنك لا تغشه، لا توجد صفقاتٌ في التجارة نادرة، أن يؤكَّد الربح فيها قبل الدخول في الصفقة، الله تعالى ومن أصدق من الله حديثاً، يعرِض على عباده صفقةً رابحةً لا يمكن أن تخسر، السلعة هي نفسُك ونفسي، السلعة هي نفوسنا نُقدِّمها والثمن هو الجنَّة (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فمن ذا الذي يبيع نفسه وماله لله، يقول: أنا لله بكل ما أملِك، والثمن جنَّةٌ عرضها السماوات والأرض.

الجنَّة سلعةٌ يبيعها الله وأنت المُشتري والثمن هو طاعة الله تعالى:
في حديثٍ آخر تُقلب الصفقة، تُصبح السلعة ثمناً والثمن سلعةً، فالسلعة هي الجنَّة والله يبيعها، وأنت المُشتري والثمن هو طاعة الله تعالى، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ من خاف أدلجَ ومَن أدلج بلغ المنزلَ ألا إن سلعةَ اللهِ غاليةٌ ألا إن سلعةَ اللهِ الجنة }

(أخرجه الترمذي)

مَن خاف العدو مشى في الدُلجة، والدُلجة أول ظلام الليل، يخرُج من بداية الليل ليُدرِك الفجر وقد وصل إلى مأمنه، هناك أعداءٌ يطاردونه.
الله يبيعك جنَّة فيها:

{ قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ، قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] قال أبو مُعاويةَ، عن الأعمَشِ، عن أبي صالِحٍ: قرَأ أبو هُريرةَ: قُرَّاتِ أعْيُنٍ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

وأنت تستخسر دُريهماتٍ في سبيلها، وأنت تستخسر رُكيعاتٍ في جوف الليل من أجلها، وأنت تستخسر غض البصر من أجلها، وأنت تستخسر صلاة الفريضة من أجلها، يبيعك جنَّةً، سلعة غالية جداً والثمن بسيط جداً.
هبّ أنَّ إنساناً قال لك: خُذ هذه السيارة من أحدث طراز، وسنة الصنع 2025، والثمن ليرة فقط، ماذا تقول؟! الله يبيعنا جنَّةً بثمنٍ بخس، عُمرٌ محدود تُطيع الله فيه، تُقدِّم فيه ما تستطيع لربك، لإعزاز دينك، والجنَّة تنتظرك (ألا إن سلعةَ اللهِ غاليةٌ ألا إن سلعةَ اللهِ الجنةُ).
صفقةٌ رابحةٌ أُخرى: قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10)
(سورة الصف)

انظروا إلى الخطاب القرآني العظيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مَن الذين آمنوا؟ أنت وأنا، أليس بيننا وبين الله عقدٌ إيماني؟ ألم نقُل:

{ من قالَ: رَضيتُ باللَّهِ ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبِمُحمَّدٍ رسولًا، وجَبت لَهُ الجنَّةُ }

(أخرجه مسلم وأبو داوود والنسائي)


إذا سمعت قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأعِر سمعك:
نحن الذين آمنوا، الخطاب لك اسمع، إذا سمعت الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأعِر سمعك فإنه خيرٌ يؤمَر به، أو شرٌّ يُنهى عنه، انتبه، ما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هناك شيءٌ مهم، قال: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) نعم يا رب دُلَّنا، قال:

تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12)
(سورة الصف)

انظروا إلى الثمن العظيم:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)
(سورة آل عمران)

صفقةٌ أُخرى رابحة:

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ(29)
(سورة فاطر)


الخُسران المُبين:
تجارةً لا يمكن أن تخسر أبداً، في المقابل هناك صفقاتٌ خاسرة، سيندم عليها المرء أشدّ الندم يوم القيامة، وهناك خسائرٌ كبيرة، ليست خسائر الدنيا مهما عظُمت أمامها بشيء، قال تعالى:

فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(15)
(سورة الزمر)

هذا هو الخُسران وما سواه ليس بخُسران، تقول لي: لم يصدر اسمي مع الناجحين في مجلس الشعب، خسرت؟! تقول لي: لم أربح كما ينبغي عاد رأس المال ناقصاً، خسرت؟! تقول لي: عندي مشكلة في الجسم، خسرت؟! أيُّ خسارةٍ تلك؟!
(أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) أن يأتي المرء يوم القيامة وقد خسر نفسه، كانت لجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض فأوردها النار إلى أبد الآبدين، وخسر أهله لأنهم إن كانوا في الجنَّة فلن يكونوا معه فقد خسرهم، وإن كانوا في النار معه فقد أوردهم الهلاك كما أورَد نفسه الهلاك، فهو خاسرٌ على الحالين (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا) (أَلَا) أداة الاستفتاح للتوكيد (ذَٰلِكَ هُوَ) للتوكيد (الْخُسْرَانُ) بأل التعريف (أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) يعني غيره ليس خسراناً، لا تقُل لي خسرت في الدنيا، قُل قدَّر الله وما شاء فعل، الخسارة هناك.

من أعظم الصفقات خسارةً أن يُتاجر الإنسان بدين الله تعالى:
أيُّها الإخوة الكرام: انظروا فيما أقول: من أعظم الصفقات خسارةً أن يُتاجر الإنسان بدين الله تعالى، أعظم صفقةٍ خاسرةٍ في التاريخ، أن يُتاجر الإنسان بالدين، وأن يجعل منه مطيةً لتحقيق هواه ومصالحه الموهومة، قال تعالى:

اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(9)
(سورة التوبة)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(174)
(سورة البقرة)

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ(187)
(سورة آل عمران)

آيات الله، دين الله، منهج الحق، لا يُعتاض عنه بمال الدنيا مهما كثُر، أي ثمنٍ مهما عظُم فهو إلى جوار منهج ربّنا ثمنٌ حقير، ثمناً قليلاً، آيات الله غالية تُبذَل دونها المُهَج والأرواح، دين الله يحيا الإنسان من أجله، يُقدِّم حياته ليحيا في ظلال منهج الله تعالى وآيات الله، فإذا ببعض الناس يستخدم الدين لمصالحه المُتوهمة، وأقول المُتوهمة لأنه لا مصلحة حقيقية إلا في اتباع منهج الله حقَّاً، يستخدم الدين العظيم، العالي الشأن، الرفيع في عليائه، يستخدمه لمصلحةٍ ضيِّقة، ويجعل من هذا الدين العظيم، والمنهج القويم، والآيات الباهرة، مطيةً يمتطيها للوصول إلى مآربه، ويُتاجر بها من أجل عرَض الدنيا الزائل، كم هو خاسر؟ أيُّ خسارةٍ أعظم من تلك الخسارة؟!
رجُلٌ يجلس في مكتبه، أمامه شيك بمبلغ مليون دولار مثلاً، ولا يمكن إن أُتلِف الشيك أن يُستبدل، والشيك مقلوبٌ على وجهه الثاني، جاءه رجُلٌ قال له: من أين أذهب إلى ساحة الحجاز؟ الشيك مقلوبٌ أمامه لم ينتبه أنه الشيك، أمسك قلماً ورسم له الخريطة على ظهره، ودلَّه وذهب الرجُل، بعد أن ذهب الرجُل أراد أن يُرتِّب مكتبه، وجد ورقةً مرسوماً عليها الطريق الذي دلَّه عليه، فمزَّقها وألقاها في القمامة، ثم اكتشف أنه أتلف الورقة النقدية بمليون دولار ولا بديل عنها، كيف يكون شعوره بالخسارة؟ بدل أن يستخدمها ليشتري بها أشياءً وأشياء، استخدمها بأبسط استخدامٍ، جعلها ورقةً ليُشخبِط عليها كما يُقال، هذا ما يحصل بالإنسان الذي يستخدم دين الله ولو كان شيخاً ذا عِمامة، عندما يستخدم الدين لمصالحه الشخصية.

أسوأ استخدام أن تأتي إلى دين الله وتستخدمه لمصالحٍ شخصية:
أسوأ استخدام أن تأتي إلى دين الله وتستخدمه لمصالحٍ شخصية، ستتفاجؤون عندما تسمعون أنَّ الإمام الشافعي رحمه الله كان يقول: "لأن أرتزق بالرقص أهوَن من أن أرتزق بالدين" ستقول لماذا؟ بالرقص! نعم بالرقص، يرقص فيُعطيه الناس مالاً، أهوَن؟! طبعاً أهوَن من أن يرتزق بدين الله تعالى فيُحرِّفه، أو يفتي بخلاف ما يعلم من أجل السلطان، أو من أجل الدنيا، "لأن أرتزق بالرقص أهوَن من أن أرتزق بالدين".
المال أيُّها الكرام، عبدٌ مخلصٌ لكنه سيدٌ رديء، المال إذا كان تحت يدك يُخلِص لك، لكن إذا جعلته سيداً عليك فهو أردأ سيِّد، يأمُرك بالشرّ وينهاك عن الخير، فاجعل المال عبداً لك، لا تجعله سيداً عليك.
أيُّها الإخوة الكرام: يقول صلى الله عليه وسلم:

{ بشِّرْ هذهِ الأُمَّةَ بالتَّيسيرِ، والسَّناءِ والرِّفعةِ بالدِّينِ، والتَّمكينِ في البلادِ، والنَّصرِ، فمَن عمِلَ منهُم بعملِ الآخرةِ للدُّنيا، فليسَ لهُ في الآخرةِ مِن نصيبٍ }

(أخرجه أحمد والبيهقي)

أخرج ابن عساكر في تفسير قوله تعالى:

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(31)
(سورة البقرة)

وهذا التفسير للاستئناس ليس تفسيراً واحداً، هناك تفسيراتٌ كثيرة لهذه الآية، قال ابن عساكر في تفسير: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) قال: علَّمه أسماء ألف حرفةٍ من الحِرف ثم قال: يا آدم قُل لولدك، ونحن أولاد آدم، إن لم تصبروا عن الدنيا، تريد الدنيا وهذا حقُّك، تريد أن تشتري وتعيش، إن لم تصبروا عن الدنيا فاطلبوها بهذه الحِرف ولا تطلبوها بالدين، دعوا الدين في عليائه، لا تطلبوا المال بالدين.

{ وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علماء هذه الأمة رجُلان: رجُلٌ آتاه الله علماً فبذله للناس، ولم يأخذ عليه طمعاً، ولم يشترِ به ثمناً، فذلك تستغفر له حيتان البحر ودواب البر والطير في جو السماء، ويقدم على الله سيداً شريفاً حتى يرافق المرسلين، ورجُلٌ آتاه الله علماً، فبخل به عن عباد الله، وأخذ عليه طمعاً، واشترى به ثمناً، فذاك يُلجم يوم القيامة بلجامٍ من نار، وينادي مناد: هذا الذي آتاه الله علما فبخل به عن عباد الله، وأخذ عليه طمعا، واشترى به ثمنا، وكذلك حتى يفرغ من الحساب }

(رواه الطبراني في الأوسط)


من مظاهر استغلال الدين الاستغلال السياسي:
من مظاهر استغلال الدين، الاستغلال السياسي، الدين ليس مطيةً، الدين لا ينفصل عن السياسة، ولكن السياسة تَبعٌ للدين، فالدين يوظِّف السياسة لخدمة المجتمع، لكن الدين لا يُتَّخذ مطيةً سياسيةً أبداً، قال تعالى في سورة التوبة، وهي السورة الفاضحة الكاشفة، يُخاطبنا لا يروي لنا قصةً عن الماضين، يُخاطبنا:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(34)
(سورة التوبة)

وكأنه يقول لنا: إيَّاكم يا أُمة محمد أن تكونوا كالأحبار والرُّهبان، تصدُّون عن سبيل الله وتأكلون أموال الناس بالباطل.

من مظاهر استغلال الدين الاستغلال الاقتصادي:
أيُّها الإخوة الكرام: من مظاهر استغلال الدين، الاستغلال الاقتصادي، أن يُتَّخذ الدين مطيةً لتحصيل المال، والسُمعة، والمكانة، ومن من مظاهر استغلال الدين ما نُسمّيه بالكهنوت، نحن ليس في ديننا رجال دين، هذا تسرَّب إلينا من عقائدٍ أُخرى، من ثقافاتٍ أُخرى، نحن ليس عندنا رجُل دين، كلنا رجال هذا الدين، من صغيرنا إلى كبيرنا، كلنا نحمل همَّ الدين، فأن يجعل رجُلٌ لنفسه كهنوتاً خاصاً ومكانةً خاصة، بحكم هيئته وعِمامته، ثم يُمارئ الأقوياء، ويتزلَّف للأغنياء، ويجلس على كرسيه ليروي الخُرافات والمُنكرات، دون أدلةٍ ودون بيِّنات، والجميع يجب أن يهزَّ رأسه لأنَّ فلاناً يضع عِمامةً على رأسه، فهذا ليس من ديننا في شيء.
إمّا أن تكون عالِماً حقَّاً، فلَكَ احترامك ومكانتك بقدر عِلمك، أو أن تكون قصَّاصاً تحكي للناس بغير منهج الله تعالى، فليس لك أي مكانة، ليس هناك كهنوت في دين الله، -انتبهوا هذا الشيخ الفلاني- إن كان على المنهج فعلى العين والرأس له احترامه، وإن كان بخلاف المنهج فيُقال له أخطأت، ليس عندنا كهنوت في دين الله تعالى، كلنا رجالٌ لدين الله تعالى، أنا وأنت، إن كنت أنا أو كنت أنت تحمل عِلماً يزيد عنّي ففضلك بقدر عِلمك، وإن كنت تعمل أكثر منّي ففضلك بزيادة عِملك.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(11)
(سورة المجادلة)

مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ(10)
(سورة فاطر)

لكن ليس لي مزيةٌ لأني ألبس عباءةً، ولا لأنني أضع عِمامةً، مَزيتي فيما أحمله من عِلمٍ وعملٍ أنا وأنت.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)
(سورة الحجرات)

أمّا الكهنوت، أن يجلس شخصٌ ما عنده عِلمٌ شرعيٌ مؤصَّل، ويُمضي الدرس كله في رواية بعض القصص الخيالية والخُرافات، ويُحصَّن لأنه يجلس خلف الكرسي وحوله الناس، فليس لأحدٍ حصانة في دين الله تعالى، إمّا أن يلتزم المنهج وإمّا أن يُراجَع فيه.

التكسُّب بالدين أن أتخذه سِتاراً لمآربي الشخصية ولمصالحي المتوهمة:
أيُّها الإخوة الكرام: بقي أن أقول شيئاً، التكسُّب بالدين لا يعني أبداً أنَّ هناك مُدرِّساً للقرآن الكريم، أو مُدرِّساً لأولادنا للتربية الإسلامية، في مدرسةٍ عامةٍ أو شرعية، يقضي وقته ليُعلِّم أولادنا، ثم يتقاضى أجره في نهاية الشهر، هذا أَولى الناس بأن يأخذ أجراً، وأَولى الناس بأن نُعظِم له المال والأجر، مادام مستقيماً ويُعلِّم العقيدة الصحيحة، بل نزيده ما نستطيع لأنَّ المُعلِّم عماد المجتمع، هذا لا يتكسَّب بدين الله، هذا يُنفِق وقته خدمةً لدين الله تعالى، فهو أَولى الناس بالإكرام، حتى لا يُفهَم أنَّ التكسُّب بالدين، يعني أنَّ شخصاً يُعلِّم القرآن للأولاد في المدرسة أو التربية الإسلامية أبداً، هذا ليس تكسُّباً بالدين، التكسُّب بالدين أن أتخذه سِتاراً لمآربي الشخصية، ولمصالحي المتوهمة، هذا هو التكسُّب بالدين المنهي عنه شرعاً، والذي يُقال عمَّن فعله:

اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(9)
(سورة التوبة)

حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين.
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبنا عليك اتكالنا.
اللهم إنَّا نسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل.
اللهم ربّنا فارِج الهمّ كاشف الغمّ، مُجيب دعاء المُضطرين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أنت ترحمنا ارحمنا برحمةٍ من عندك تُغننا بها عن رحمة من سواك.
اللهم إنّا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيُّك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شرِّ ما استعاذك منه عبدك ونبيُّك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم أهلنا في غزَّة، أهلنا في فلسطين، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم أطعِم جائعهم، واكسُ عُريانهم، وارحم مُصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً مُتقبَّلاً وسهماً صالحاً.
اللهم أَجرهُم من مكر أعدائهم، اللهم إنهم يمكرون بهم، وقد أريتنا مكرهم بهم، فأرِنا مكرك بهم يا أرحم الراحمين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله، والحمد لله ربّ العالمين.