هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

  • الإذاعة الأردنية - اللقاء المفتوح
  • 2024-04-29
  • الأردن
  • عمان

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟


الدكتور حسين:
السيدات والسادة، المُستمعون والمُستمعات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حيَّاكم الله بأطيب تحياته، وأهلاً ومرحباً بكم في مُستهل هذه الحلقة الجديدة من اللقاء المفتوح، وبرنامجكم فكرٌ وحضارة، وفيه نتابع سلسلة حواراتنا الفكرية التي تأتيكم في مثل هذا الموعد من كل أسبوع، يصحبكم فيها حسين الرواشدة، عنوان حلقة اليوم: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ قال الله عزَّ وجل:

إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
(سورة الإسراء)

وقال سبحانه:

وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
(سورة هود)

وقال تعالى:

لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
(سورة يونس)

صدق الله العظيم

مقدمة:
وردت كلمة الإحسان ومشتقاتها في القرآن الكريم نحو مئةٍ وتسعين مرة، جاءت مرتبطةً بالإيمان، والإسلام، والتقوى، كما اقترن الإحسان بأسماء الله وصفاته، وأفعال الأنبياء والصالحين والأبناء البرَرة، ومن معاني الإحسان الجمال والطيب، والإتقان، والإيجاد، والنصر، والبِرّ، والمعروف، وتوزَّعت لفظة الإحسان في القرآن الكريم على أكثر من ثلاثين وجهاً لغوياً، من بينها حسُنَ، وأحسَن، والحُسنى، والمُحسنون وغيرها، ما يعني أنَّ الإحسان يتصرَّف في كل المواقع، والمواضع، والعلاقات، والأحكام، والأخلاق، وفي مجالات العلاقة مع الله تعالى ومع البشر، فيما يتعلق بالأفراد، والجماعات، والدول، والأُمم، كما أنَّ هنالك علاقة تبادلية بين الإحسان والإتقان، الإتقان عملٌ يتعلق بالمهارات الإنسانية المُكتسبة، فيما الإحسان طاقةٌ داخلية تنمو في الإنسان، فتُغذّيه، والإحسان بهذا المعنى وصفةٌ للجودة الحضارية المُنسجمة مع خيرية هذه الأُمَّة.
وفي إطار المفهوم يمتد الإحسان من معنى الإنعام على الغير إلى معنى الإحسان في فعله، أو أنه ما ينبغي أن يُفعَل من الخير، أو أنه المُعاملة الفُضلى ممن لا يلزمه إلى مَن هو أهلها، وهو بهذه الوجوه مرتبطٌ بالجمال والزيادة في المعروف والتجويد بالعمل، كما أنه مُتطابقٌ تماماً مع جوهر الإيمان ومقاصد الدين، وإذا كان لله تعالى برأي ابن القيِّم تصرفاتٌ في الكون، أحدهما بالمشيئة والآخر بالإرادة، فإنَّ قوله تعالى:

هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
(سورة الرحمن)

هو خيارٌ للإحسان بموجب المشيئة، وقوله تعالى:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
(سورة النحل)

هو تصرفٌ بموجب الإرادة، الأول إشارةٌ إلى قانون، أمّا الآخر فأمرٌ وتشريع، مشيئة الله اقتضت أن نمضي في الإحسان، باعتباره سُنَّةً تسري على العالمين، فيما إرادته عزَّ وجل اقتضت أن نتوجه إلى اختيار الإحسان باعتباره الأصلح لنا في الدنيا والآخرة.
في هذه الحلقة نستعرض مفهوم الإحسان في القرآن الكريم، ونطرح سؤالين اثنين: ما معنى الإحسان؟ وما دلالاته في القرآن الكريم؟ ثم ما وظائفه ومجالاته وآثاره في حياتنا، وفي علاقاتنا مع الخالق عزَّ وجل ومع الناس أجمعين؟
أُرحِّب بضيفي فضيلة الدكتور بلال نور الدين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته دكتور بلال.

الدكتور بلال نور الدين:
وعليكم السلام والإكرام، بارك الله بكم أستاذ حسين، وشكراً لهذه المقدمة الطيِّبة اللطيفة.

الدكتور حسين:
حيَّاكم الله، أنا أشكرك، دائماً تكون معنا ضيفاً عزيزاً، وأسأل الله دائماً أن يجزيك عنّا كل الخير.

الدكتور بلال نور الدين:
أكرمكم الله.

الدكتور حسين:
ما معنى الإحسان دكتور بلال؟ يعني أحياناً ينصرِف الموضوع إلى جانبٍ دينيٍ بحت، في علاقة الإنسان مع الله تعالى، لكن هل الإحسان ينحصر في هذا المفهوم فقط؟

ما معنى الإحسان؟
الدكتور بلال نور الدين:
لا أُبالغ أخي دكتور حسين إن قلت إنَّ الإحسان هو في كل مجالات حياتنا، في كل مجال دون استثناء، كل شيء يحتاج إلى الإحسان، فالإحسان لغةً هو أن يأتي الإنسان بالفعل الحسَن على وجهٍ حسَن وأن يصنع الجميل، وهذا يشمل كل شيء، فيُحسِن الإنسان في علاقته مع ربه ابتداءً، ويُحسِن في علاقته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُحسِن مع مخلوقات الله، ليس البشر فقط لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ إنَّ اللَّهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتُمْ فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذبحتُمْ فأحسنوا الذَّبحَ، وليُحدَّ أحدُكُم شفرتَهُ، وليُرِحْ ذَبيحتَهُ }

(صحيح أبي داوود)

وشيء أعمُّ كلمةٍ في اللغة، أعمُّ كلمةٍ في عربيتنا هي شيء، فهي تُطلق على كل شيء، فالله كتب الإحسان على كل شيء، قال: (فإذا قتلتُمْ فأحسِنوا القِتلةَ) حتى مع الحيوان، (وإذا ذبحتُمْ فأحسنوا الذَّبحَ) إذاً حتى في علاقتنا مع الحيوان هناك إحسان، حتى مع الجماد، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ أَقْبَلْنا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن غَزْوَةِ تَبُوكَ، حتَّى إذا أشْرَفْنا علَى المَدِينَةِ قالَ: هذِه طابَةُ، وهذا أُحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّهُ }

(صحيح البخاري)

فالإحسان يشمل كل شيء، بدءاً بعلاقة الإنسان بخالقه وانتهاءً بعلاقته مع الموجودات، يعني لو أنه كتب على ورقةٍ من الأوراق ثم بقي فيها مكاناً فارغاً، فإن من الإحسان أن لا يُتلفها بل أن يستخدمها كاملةً حتى يُرشِّد استخدام الأشياء، هذا من الإحسان، فالإحسان يشمل كل علاقاتنا، كل حياتنا، كل علاقةٍ بكل شيءٍ يمكن أن يكون فيها إحسانٌ أو إساءة.

الدكتور حسين:
بهذا المعنى إذا كان الإحسان هو الضابط لحركة الإنسان في هذا الكون، كيف يكون هذا الضابط؟ أو كيف يتصرَّف هذا الضابط؟ أو ما المطلوب من الإنسان في إطار هذا الضابط أن يتحرك؟

العدل والإحسان صنوان لا يفترقان:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة المطلوب منه أن يأتي بالشيء الحَسَن، الله تعالى يقول في كتابه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) وحيثما قَرأتَ في كتاب الله إنَّ الله يأمر، فكأن الله تعالى يقول لك انظر إلى الآمر قبل أن تنظر إلى الأمر، لأنك تُبادر إلى تنفيذ الأمر بقدر معرفتك بالآمر، فإذا قُلت لشخصٍ ما إنَّ أباك يأمرك أن تذهب، يقول لي سمعاً وطاعةً فأبي صاحب الفضل عليّ، إنَّ أُمك تأمرك أن تُساعدها، يقول: أُمي الله أكبر، ومالي لا أُساعدها؟! فإذا قلت لك إنَّ الله يأمر، فهل علمت من الآمر؟ إنه الله، بمَ يأمر جلَّ جلاله؟ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) العدل تفعله المحاكم، يفعله كثيرٌ من الناس، يقول لك: أُريد حقّي كاملاً، لكن الله لا يأمر بالعدل فقط، الإحسان فوق العدل، العدل أن تأخذ حقّك، لكن الإحسان أن تتنازل أحياناً عن بعض حقّك، العدل أن تقول حقوق وواجبات، أن يقول الزوج مثلاً أنا لي حقّ وعليّ واجب، أديّت واجبي فلماذا لم آخذ حقّي؟ يتعامل بمبدأ العدل، لكن الله لا يأمر بالعدل فقط، لأنَّ الحياة لا تستقيم بالعدل فقط، فلو أنَّ كل إنسانٍ قاضى الآخرين بما له قبل أن يُعطي ما عليه أو بعده، ما كل الناس في سويةٍ واحدة، فالحياة لا تستقيم بالعدل فقط، فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، فالعدل والإحسان صِنوان لا يفترقان، فكما أنَّك أحياناً تُطالب بالعدل، فعليك أن تبذُل الإحسان، عندها تستقيم حياة الناس.

الدكتور حسين:
مرتبة الإحسان فوق مرتبة العدل، يمكن أن تحصَل على العدل، يعني واحد قتل واحد، يمكن أن يحكموا له وأن يُقتص منه، يأتي الإحسان هنا ليُضيف معنىً آخر في العفو.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم يعني سيارةٌ في حدودٍ مُعيّنة، بسرعةٍ طبيعية صدمت شخصاً، العدل حكم القضاء له بشيء، لكن الإحسان أن تنظر إلى حال هذا الشخص، الذي سيُسجَن، الذي سيقضي في السجن أشهُر ويبقى أهله بلا مُعيل، وربما أولاده سيخرجون في الطُرقات ولا مُعيل لهم، فالإحسان أن تقول أنا ما وجدت منه تقصيراً، يعني هذا الحادث قضاءً وقدراً، وما وجدت منه سرعةً زائدةً، أو مُخالفةً، فأنا أُحسِن له وأذهب إلى السجن وأُخرجه ليعود إلى أولاده، فالعدل شيء والإحسان شيءٌ آخر، وحياتنا لن تستقيم بالعدل وحده لا بُدَّ من الإحسان.

الدكتور حسين:
من هُم المُحسنون هنا؟ من هُم هؤلاء الصِنف؟ ما هي مواصفاتهم؟ كيف يمكن أن يحوزوا أو ينتزعوا مثل هذه الصفات؟

من هُم المُحسنون وما هي صفاتهم؟
الدكتور بلال نور الدين:
المُحسِن هو ذاك الشخص الذي بَنَى حياته على العطاء، لا على الأخذ، بمعنى أنه قد يترك بعض حقِّه، قد يتنازل عن بعض دَينه، قد يتنازل عن بعض راحته في سبيل إسعاد الآخرين، أولئك هُم المُحسنون

وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
(سورة البقرة)

الله تعالى يُحبّ المُحسِن، والله تعالى من أسمائه المُحسِن جلَّ جلاله، فهو مُحسِنٌ إلى عباده، بدأهم بالإحسان، قل لي بربك أخي دكتور حسين، لمَّا ربَّنا عزَّ وجل بدأنا بالإحسان، هل قدَّمنا شيء ليُحسِن إلينا جلَّ جلاله؟ ما قدَّمنا شيئاً، نحن ابتدأنا الله تعالى بالإحسان، فلمّا قال: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) فما الذي أحسَن الله به إلينا؟ فابتدئ عباد الله تعالى بالإحسان قال تعالى:

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
(سورة القصص)

كيف أحسَن الله إلينا؟ أَحسَن إلينا ابتداءً، لم نُقدِّم شيئاً فجزانا، فالله تعالى لم يكن إحسانه ردّاً على جميلٍ قدَّمناه حاشاه جلَّ جلاله، فأنت أيضاً أحسِن كما أحسَن الله إليك، أي ابتدئ الناس بالإحسان، لا يكن همُك هو ردُّ الجميل، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم، وهذا يندرج على كل الأحوال، يقول:

{ ليس الواصلُ بالمكافِيءِ ولكنَّ الواصِلَ الذي إذا انقطعتْ رحمُه وصلَها }

(أخرجه البخاري والترمذي وأبو داوود وأحمد)

واصل رَحِمِه الذي يقول زارني سأزوره، أعطاني سأعطيه، واحدةً بواحدة كما يقول الناس، لا، قال (الواصِلَ الذي إذا انقطعتْ رحمُه وصلَها) هذا (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ).

الدكتور حسين:
هذا من صِنف المُحسنين.

من صفات المُحسن أن يبتدئ الناس بالإحسان:
الدكتور بلال نور الدين:
هذا هو من صِنف المُحسنين، لأنه يبتدئ الناس بالإحسان، هو لا ينتظر أن يُحسنوا إليه حتى يُحسِن إليهم، وإنما هو يُحسِن، لذلك قالوا: "إذا أحسنت إلى شخصٍ فانسى إحسانك فوراً، وإذا أحسن إليك آخر فليكن ذلك في ذهنك دائماً"، بعض الناس يعكسون الآية، فإذا أحسَن إلى شخص فإنه لا ينسى ذلك أبداً، وإذا أحسَن الناس إليه يتناسى، بل العكس ينبغي أن يكون قائماً حتى تكون مُحسِناً حقّاً، أن تُبادئ الآخرين بالإحسان، أن تُحسِن إليهم دون أن تنتظر منهم رداً.

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
(سورة الإنسان)

لا نريد منكم، نحن نريد جزاءً ونريد شُكوراً لكننا لا نريده منكم، نحن مُحسنون، إذاً ممن تريدونه؟ نحن نريده من الله، فماذا كانت العاقبة في نهاية الآيات؟ قال تعالى:

إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا (22)
(سورة الإنسان)

جاء الجزاء من الله، وجاء الشُكور من الله تعالى، عندما أحسنوا إلى الخلق، وقالوا (لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) جازاهم وشكر لهم خالق السماوات والأرض.
فهذا هو المُحسِن، المُحسِن إنسانٌ لا ينتظر من الآخرين شيئاً، وإنما يُبادر إلى الإحسان إلى الآخرين، يبدأ بإحسان علاقته مع الله.

{ أنَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ: ما الإيمَانُ؟ قالَ: الإيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ ومَلَائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، وبِلِقَائِهِ، ورُسُلِهِ وتُؤْمِنَ بالبَعْثِ. قالَ ما الإسْلَامُ؟ قالَ الإسْلَامُ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، ولَا تُشْرِكَ به شيئًا، وتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وتَصُومَ رَمَضَان ،قالَ: ما الإحْسَانُ؟ قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ، قالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قالَ: ما المَسْئُولُ عَنْهَا بأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وسَأُخْبِرُكَ عن أشْرَاطِهَا: إذَا ولَدَتِ الأمَةُ رَبَّهَا، وإذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإبِلِ البُهْمُ في البُنْيَانِ، في خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ تَلَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] الآيَةَ، ثُمَّ أدْبَرَ فَقالَ: رُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شيئًا، فَقالَ: هذا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ. }

(صحيح البخاري )

ثم ينتقل إلى الإحسان إلى خلق الله جميعاً، بدءاً من أهل بيته الصغير، يُحسِن إلى زوجته فلا يُسيء إليها، يُكرمها، يتحمَّل أذاها.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
(سورة النساء)

قال أهل التفسير مُعاشرة الزوجة بالمعروف لا تعني أن تُلحق الإحسان بها فقط، وإنما إحسانك لها أن تتحمل الأذى منها، هذه المعاشرة بالمعروف.

الدكتور حسين:
لكن هناك بعض الأصناف في القرآن الكريم خصَّهم أو أمر بالإحسان إليهم، بالتخصيص:

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
(سورة الإسراء)


الإحسان للوالدين من أعظم أنواع الإحسان:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم أعظم الإحسان بعد الإحسان إلى الله تعالى في عبادته، أعظم الإحسان هو أن تُحسِن لمن كانا سبب وجودك في هذه الحياة، ودقق أخي الحبيب في قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ) هذه الباء يُسمّيها أهل التفسير باء الإلصاق، يعني لا ينبغي أن يكون الإحسان إلى الوالدين وإنما بهما، بمعنى أنه لا يُقبَل منك أيُّها الابن أن تقول خصّصت لهما سائقاً وخادماً، وأنا أزورهما يوماً بالأسبوع أو في الشهر مرةً، وألتقي بهما وأطمئن على أحوالهما! إحسان عن بُعد لا يُقبَل، (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أنت ينبغي أن تذهب إليهما وتأخذهما بسيارتك، أنت ينبغي أن تزورهما يومياً وتتفقد أحوالهما، الإحسان عن بُعد غير مقبول مع الوالدين، لأنهما لمّا أحسنا إليك أحسنا إليك مُلاصقةً، حملتك، ورعتك أُمك، ووالدك أنفق عليك، وربّاك، ورعاك، و(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) فينبغي أن يكون الإحسان من جنس الإحسان الأول، (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، ثم دقق أخي الحبيب: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) فقرَن الإحسان بالوالدين بعد الإحسان معه جلَّ جلاله بعبادته (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وهذا إحسانٌ مع الله تعالى (الإحسان أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ)، (إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) فجعل ذلك العطف لبيان أهمية الإحسان بالوالدين، وبأنهما كانا سبب وجودك.

من سِعة الإحسان أنه جاء بعدة مترادفات في القرآن الكريم:
الدكتور حسين:
من اللطائف في القرآن الكريم أنَّ الإحسان ورد أكثر من مائةٍ وتسعين مرَّة، لكن أيضاً وجوه الإحسان في القرآن تقلّبت على ثلاثين وجه، منها مثلاً حَسُن، أحسَن، الحُسنى، المُحسنون، يعني أنا أتوقف عند بعض الآيات، قوله تعالى مثلاً:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
(سورة الكهف)

قوله تعالى مثلاً:

وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
(سورة النساء)

في قوله تعالى:

وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
(سورة لقمان)

هذه الترادفات في الأوجه، أو التبادلات في الأوجه في القرآن الكريم، في تفصيل معنى الإحسان هل تمنحنا دلالات مُعيّنة؟

الدكتور بلال نور الدين:
بالتأكيد، أخي الحبيب أحياناً تأتي كلمة في القرآن الكريم تأتي على وجهٍ واحدٍ، كاسم الفاعل مثلاً، أو تأتي بوجه اسم المفعول، أو بالفعل وحده، مثلاً لفظ العقل بالقرآن لم يرِد إلا بالفعل، يعقلون، عقلوه، وهم يعلمون إلى آخره، أفلا يعقلون، لكن أن تأتي الكلمة بتصريفاتها المتعددة، ولغتنا لغة الاشتقاق، فهذا يدل على سَعِة الدائرة، الله تعالى عندما قال:

لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
(سورة الأنبياء)

(فِيهِ ذِكْرُكُمْ) فيه عِزّكم وشَرفكم هذا معنىً، لكن المعنى الثاني (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي يَذكركم الله تعالى في قرآنه، فأنت عندما تقرأ القرآن وتجد لفظ الإحسان، المُحسِن، أحسَن عملاً، وهو مُحسنٌ، (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) إلى آخره، فهذا ذِكرٌ لك، فتأتي أنت وتقيس نفسك على الأفعال، وعلى الصفات، وعلى الأسماء فتنظر في أيها أنت، هل أنت في مرتبة من يُحسِن حيناً ويدع الإحسان حيناً؟ أم أنت ارتقيت وأصبحت في مرتبة (وَهُوَ مُحْسِنٌ) حاله حال الإحسان؟ أم صرت من المُحسنين الذين قال الله تعالى فيهم: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فانظر في أي مجالٍ أنت، لأن الكلمة إذا تعددت وتنوعت في النَص، ونحن هنا أمام نَص قرآني مُذهل ومُعجز، فإنَّ هذا يدل على أنه يجب أن تتلمس ذِكرك في كل موقع، فهناك من يُحسِن هذا فعل، وهناك من حاله الإحسان (وَهُوَ مُحْسِنٌ) بحالةٍ مُعيّنة، وهناك من أصبح من المُحسنين، يعني لمّا أكثر من الإحسان، صار أهلاً أن يُطلَق عليه لقب أو لفظ المُحسِن، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

الإحسان يشمل كل ما في الحياة وحتى الجمادات:
الدكتور حسين:
أحياناً أشعركما قلت دكتور أنَّ هذه التوزيعات في المعاني تنصرِف أيضاً إلى أنَّ الإحسان يشمل كل شيء كما قلت، المواقع، الأخلاق، الأحكام، كل ما في الحياة يشملها هذا المفهوم، بحيث عندما نقوم بعمل، أي عمل سواءً كان صغيراً أو كبيراً، سواءً كان يتعلَّق بعملنا كوظيفة، بعملنا في مجال دعوي، يتغلغل الإحسان داخله.

الدكتور بلال نور الدين:
مئة بالمئة أخي الحبيب، بمعنى أنك اليوم إذا كنت تمشي في حقل وهناك نملةٌ تمشي، فإنك لا تدوسها بقدمك عمداً، هذا مكانها، هذا بستانها، فإنك لا تتعمد أن تدوسها، إذا كنت تقود سيارتك وأمامك قطة تعبر الشارع فإنك تنتظرها، إلى هذا الحد؟! نعم إلى هذا الحد، النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:

{ إنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بمَكَّةَ كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُبْعَثَ إنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ. }

(صحيح مسلم )

شفافية عالية، معجزة هذه للأنبياء، لكن هل تعاملنا بالإحسان حتى مع الجمادات؟ حتى مع ترشيد الاستهلاك، حتى مع الماء، قال له:

{ أنه مرَّ بسعد وهو يتوضأ، فقال: ما هذا السرف؟! قال: أفي الوضوء سرف؟ قال: نعم، وإن كنتُ على نهرٍ جارٍ }

(أخرجه ابن ماجه وأحمد)

أخذ كأس من الماء فلمّا بقي فيه شيء أعاده إلى النهر، نهرٍ جارٍ ماذا تفعل؟! قال: ينتفع به قومٌ آخرون، فالإحسان أخي الحبيب هو أن تأتي بالفعل الحَسَن في كل شيء، في كل شأنٍ من شؤون حياتك، ولمّا تنوعت هذه الكلمة في مواضع عديدة في كتاب الله تعالى، في عشرات المرات، نعم هذا بلا شك إشارةً إلى أنَّ مواضع الإحسان متعددة، فتارةً يكون الإحسان مع الخالق عبادةً، وتارةً يكون مع رسول الله تأسّياً واتباعاً، وتارةً يكون مع الوالدين، ومع الزوجة، ومع الأولاد، ومع الخَدم، ومع الأعداء ، هل هناك إحسان مع الأعداء؟! نعم هناك إحسان مع الأعداء، مع الأسرى، هناك إحسان، مع العدو عندما نُسالم وعندما نُحارب، نُحارب بإحسان ونُسالم بإحسان، كل شيء في حياتنا يمكن أن يكون بإحسان، ويمكن أن يكون بإساءة والعياذ بالله تعالى، فالمؤمن يبني حياته على الإحسان، يبني حياته على العطاء، يبني حياته على أنَّ علاقتي بالآخرين سينتظمها الإحسان، فأُحسِن، اليوم عندما أقود سيارتي في الطريق، وهناك آخر ورائي يريد أن أفتح له الطريق، وبإمكاني أن أفتح له الطريق، فأنا عندما أبني علاقتي على الإحسان نعم أفتح له الطريق، ما الذي يَضيرُني؟ لماذا أُضيِّق عليه الطريق هذا ليس من الإحسان، عندما أُطلِق بوق سيارتي، هل أُطلقه بلا سبب لإزعاج الآخرين؟ هذا من الإحسان وهكذا.

الدكتور حسين:
نعم هذا يُضيف إلى حياة الإنسان، وإلى العالم بالتالي، إلى كل العالم مسألة جمالية غير موجودة أصلاً، يعني أنت عندما تتصور أنَّ الحياة تمشي مثلاً على العدل أو على القانون، فتتصور شكلاً للحياة مُعيَّن مُنضبِط، ربما يكون أيضاً مُمِّلاً لكن عندما يدخل الإحسان في هذا المجال، يُنير أُفقاً أكبر في العالم، يصبح العالم أكثر إشراقاً، أكثر جمالاً أليس كذلك؟

الإحسان هو حياة لقلب المُحسِن لأنه يُحسِن لنفسه أولاً:
الدكتور بلال نور الدين:
بلى، بِلا خلاف، فالإحسان أول ما يُسعِد يُسعِدُ صاحبه، لأنَّ ربنا جلَّ جلاله لمّا خاطب أعداء الحق والخير قال:

هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(119)
(سورة آل عمران)

فالغيظ والإساءة تُميت الإنسان، يموت بغيظه، لكن عندما يُحسِن نقول له: عِش بإحسانك، كُن حيَّاً بإحسانك، فالإحسان حياة، حياة لقلب الإنسان أولاً، فالمُحسِن أولاً يُحسِن لنفسه

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ(46)
(سورة فصلت)

فأول ثمرةٍ من ثمرات الإحسان، أنَّ المُحسِن يعيش في سلامٍ مع ذاته، يعيش في فضيلة، في قيمة عظيمة جداً، وهي قيمة أنه يعفو، يُسامح، لا ينتظر من الآخرين شيئاً وإنما ينتظر أن يُعطي، فهذه قيمة نفسية عظيمة للإنسان، ثم بعد ذلك يبدأ هذا الخير يعُمّ، فأنا لمّا أمرني الله تعالى بالإحسان، أمر مليار إنسان أن يُحسِنوا إليّ، في الوقت ذاته وفي الوقت نفسه فيعُمّ الخير، فأنا أُحسِن، والإحسان يجلب الإحسان، قالوا العُنف لا يجلب إلا العُنف، والإحسان لا يجلب إلا الإحسان، فلمّا أُحسِن في بيتي تُحسِن زوجتي لي (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) قاعدة عظيمة، ولمّا أُحسِن إلى أولادي سيُحسِن أولادي لي عندما يكبرون، وعندما يُصبح عندهم وعي يُحسِنون إلى والدهم، وعندما أُحسِن إلى أرحامي سيُحسِن أرحامي لي، وعندما أُحسِن إلى شريكي سيُحسِن شريكي لي، هذه سُنَّة الحياة، الإحسان يأتي بالإحسان.

الدكتور حسين:
إذاً هو بوصلة لضبط حركة الإنسان في هذه الحياة، وبالتالي الحياة تُصبِح أكثر جمالاً وأكثر هدوءاً وأكثر سلامةً أيضاً.
أشكر فضيلة الدكتور بلال نور الدين أستاذ الشريعة والفكر الإسلامي، بارك الله بك دكتور أشكرك جزاك الله كل خير.

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم وحفظكم، شكراً لك.