السَّعة في القرآن والشريعة
السَّعة في القرآن والشريعة
الأستاذ حسين:
السيدات والسادة، المستمعين والمستمعات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حيَّاكم الله بأطيب تحياته، وأهلاً ومرحباً بكم في مُستهل هذه الحلقة الجديدة من اللقاء المفتوح، وبرنامجكم فكرٌ وحضارة. |
عنوان حلقة اليوم السَّعة في القرآن والشريعة، قال الله عزَّ وجل: |
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)(سورة غافر)
صدق الله العظيم. |
ورود كلمة السَّعة ومشتقاتها في القرآن الكريم:
ورَدت كلمة السَّعة ومشتقاتها في القرآن الكريم نحوَ اثنتين وثلاثين مرة، جاءت على صيغة فعل المضارع ستَ مرات، جاءت على صيغة فعل الماضي ستَ مرات |
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ۚ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۚ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ۚ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)(سورة الأعراف)
وعلى صيغة المصدر إحدى عشرة مرة |
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)(سورة البقرة)
وعلى صيغة اسم الفاعل خمس عشرة مرة |
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ (32)(سورة النجم)
والسَّعة نقيض الضيّق والعُسر، وتتعلق بالأمكنة |
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)(سورة العنكبوت)
كما تتعلق بالحال |
لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)(سورة الطلاق)
وبالقدرة أيضاً، وقد وردت السَّعة بحق الله تعالى في سياق صفاته، فهو العليم |
إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)(سورة طه)
وهو تعالى الرحيم |
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)(سورة الأعراف)
كما أنه تعالى واسع المغفرة (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ) وواسع الحكمة |
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)(سورة النساء)
وثمَّة سَّعةٌ في مُلك الله |
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)(سورة البقرة)
وسَّعةٌ في أرضه عزَّ وجل |
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)(سورة النساء)
لا بُدَّ من عناصر وعوامل في الشريعة تجعلها تتسِّع للتطور والتغيُّر انسجاماً مع حركة الإنسان :
وقد تميَّزت الشريعة الإسلامية بالعموم والشمول، زمانياً ومكانياً و إنسانياً، ولهذا كان لا بُدَّ أن يكون بداخلها من العناصر والعوامل ما يجعلها تتسِّع للتطور والتغيُّر انسجاماً مع حركة الإنسان في الكون، وذلك لكي تنفتح أمام هذا الإنسان أبواب اليسر والاستطاعة، ولكي تكون الشريعة أيضاً صالحةً للتطبيق ومحقِّقةً لمصالح العباد ومصدراً لسعادتهم. |
ثمَّة عواملٌ عديدة تشكل قواعد في الفقه الإسلامي، منها سِّعة العفو، فالشريعة لم تنص على حكم كل شيء، ومنها اهتمام نصوص الشريعة بالأحكام الكُليَّة وترك الجزئيات للاجتهاد البشري وتعدد الأفهام، ومنها تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأعراف، ومنها رعاية الضرورات والأعذار، فالمشقَّة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات، والتشدُّد لا يرتبط أبداً بالإيمان والتقوى. |
في هذه الحلقة نستعرض مفهوم السَّعة في القرآن والسُنَّة، ونطرح سؤالين اثنين: |
ما مدلولات السَّعة في القرآن؟ وما علاقتها مع الشريعة وأحكامها؟ ثم كيف يمكن أن نفهم هذه السَّعة في عصرنا لتحقيق مقاصد الشريعة، وإقامة العمران وبناء الإنسان على هذه الأرض. |
دينُنا دين يُسرٍ وسَّعةٍ لا دين مشقةٍ وعُسر، في هذه الحلقة سنحاول أن نتعرَّف على معنى السَّعة في القرآن وفي الشريعة، أُرَّحب أيضاً بضيفي فضيلة الدكتور بلال نور الدين أستاذ الشريعة والفقه الإسلامي، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته دكتور بلال. |
الدكتور بلال نور الدين:
حيَّاكم الله أستاذ حسين، بارك الله بكم ونفع بكم وأعلى قدركم. |
الأستاذ حسين:
يا مرحباً بك، وأنا أتأمل الآيات الكريمة في القرآن الكريم التي تتحدث عن السَّعة، وجدت أنَّ كثيراً منها أو ربما معظمها متصلٌ بالله وبصفاته وبمُلكه، ما الذي يعني ذلك؟ قوله تعالى مثلاً: (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) وبعد ذلك (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ) في الرحمة أيضاً، كل هذه انعكاساتها على مسألة السِّعة في الحكم أو الشريعة. |
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الله تعالى من أسمائه الحسنى الواسع، والله تعالى يقول في قرآنه: |
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)(سورة الأعراف)
على كل إنسان أن يأخذ نصيبه من اسم الله الواسع:
والمعنى البسيط المُتبادر إلى الذهن أن يدعو الله بأسمائه الحسنى فيقول يا غفور اغفر لي، يا واسع وسِّع عليَّ في رزقي، والمعنى الأعمق أن يأخذ الإنسان نصيبه من هذا الاسم، فيتخلق بهذا الخُلق، فإذا كان الله غفوراً رحيماً، فاغفر لخلقه وارحمهم، وإذا كان الله عزَّ وجل واسعاً فلماذا تُضيِّق ما وسَّعه الله تعالى، هذا معنىً عميق في دعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى، وهو أن نشتق من كمال الله شيئاً نتصف به، فالله تعالى واسع، وقد قال بعض العلماء: لو تشابهت ورقتا زيتونٍ لما سُمّيت الواسع، فخلقه فيه سَّعة، تنوُّع رهيب، تأكل الأنواع المختلفة، من التفاح أنواع، من العنب أنواع، فالله واسعٌ في خلقه، والله تعالى واسعٌ في مُلكه، (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) وأرض الله واسعة، والله تعالى واسعٌ في تشريعه، فلمّا شرع الأحكام جلَّ جلاله، جعلها مبنيةً على السَّعة، قال: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ ) وقال (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). |
فمن هنا الله تعالى جعل من أسمائه الواسع، لنتعلم منه فنوسِّع على عيال الله في الرزق، في الطعام، في الشراب في الأحكام، كعلماء كدعاة إلى الله أن نوسِّع عليهم وألّا نُحجِّر واسعاً، لمّا قال هذا الأعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأى من أخلاقه لمّا قال لهم: لا تزرموا عليه بوله، دعوه حتى يقضي بوله، قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، هكذا لشدة فرط حبه لرسول الله وتعامله معه، فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا أخا العرب لقد حجَّرت واسعاً، فرحمة الله واسعة. |
{ دخلَ أعرابيٌّ المسجدَ ، والنَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ جالسٌ ، فصلَّى فلمَّا فرغَ قالَ اللَّهمَّ ارحمني ومحمَّدًا ولا ترحمْ معنا أحدًا فالتفتَ إليهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ لقد تحجَّرتَ واسعًا فلم يلبثْ أن بالَ في المسجدِ فأسرعَ إليهِ النَّاسُ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أهريقوا عليهِ سَجْلًا من ماءٍ أو دلوًا من ماءٍ ثمَّ قالَ إنَّما بُعثتُم ميسِّرينَ ولم تبعثوا معسِّرينَ }
(سنن الترمذي)
قال: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فإذا كانت رحمة الله واسعة، فلماذا نُضيّقها نحن على عباد الله، وإذا كان مُلكه واسعاً، فلماذا نُضيّق عليهم في أرض الله، وإذا كانت أحكامه واسعةً، فلماذا نُضيّق عليهم في ما وسَّعه الله، ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً فإنه يكون أبعد الناس عنه صلى الله عليه وسلم. |
إذا نحن لمّا الله تعالى جعل من أسمائه الحسنى الواسع، فهذا من أجل أن نوسِّع، أن نكون واسعين في حركتنا، في أُفقنا، في فكرنا، في تعبيرنا، في أحكامنا، في تعاملاتنا مع الناس، في رحمتنا بهم، في كل شيءٍ، في إبداعاتنا في صناعاتنا. |
الأستاذ حسين:
(رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ) تصوَّر هذا التعبير! لا يوجد شيء في هذا الوجود إلا ربنا سبحانه وتعالى وسِعه رحمةً وعلماً، والرحمة سبقت العِلم. |
الرحمة سبقت العلم ورحمة الإنسان تنبع من علمه:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم، (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا) سيدي هو في الأصل رحمة الإنسان تنبع من علمه، لكن قدَّم النتيجة على سببها، فأنت بقدر علمك تكون رحيماً بالناس، هب أنَّ إنساناً ضيِّق الأُفق، لم يتوسَّع في دراسة العلوم، ثم جاءه مُستفتٍ يطلب منه فتوى في قضيةٍ لها سَعةٌ في كتاب الله تعالى أو في سُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فضيَّق عليه الواسع، وقال له لا يجوز، وهو له مخرجٌ في كتاب الله تعالى أو في سُنّة رسوله، لماذا ضيَّق عليه؟ لأنه عنده نقصٌ في المعلومات، فالواسع دائماً يأتي مع العليم، واسع عليم |
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)(سورة البقرة )
(رَّحْمَةً وَعِلْمًا) لأن الأنسان كلما تعلَّم، أقصِد العِلم الحقيقي، العِلم المبني على الأُسُس والقواعد السليمة، العِلم بالله وبأسمائه الحسنى وصفاته الفُضلى، ثم العِلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ثم العِلم بالخَلق، وبحاجاتهم، وبظروفهم، وبيئاتهم، لمّا يكون الإنسان بهذه السَعة في العِلم، ينقلب علمه إلى رحمةً بعباد الله، وإلى سَعة على عباد الله، لذلك السَعة مرتبطةٌ بالعِلم، والرحمة كذلك مرتبطةٌ بالعِلم، فبقدر علمك بالله وبأمره ونهيه وخلقه، تكون رحمتك بعباد الله، وبقدر علمك تكون سَعتك في التعاطي مع عباد الله، فتتعاطى معهم بالخير، تتعامل معهم بالبِر والإحسان، ترحم مذنبهم، تُعطي فقيرهم، توسِّع على المقتِر منهم، إلى آخر ما في ذلك من معاني السَّعة. |
الأستاذ حسين:
وارتبطت أيضاً السَّعة في القرآن الكريم دكتور بلال بالمغفرة، وبالفضل، وبالحكمة، قوله تعالى في الحكمة: |
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)(سورة النساء)
قوله تعالى في الفضل: |
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ۗ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)(سورة آل عمران)
(إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) هل حركة مثل هذه الصفات التي تدور في فلك السَّعة من متطلبات الإنسان في هذه الحياة لاكتسابها من الله عزَّ وجل؟ |
كلما علا قدر الإنسان اتسَّعت رؤيته:
الدكتور بلال نور الدين:
بالتأكيد، الفضل هو الزيادة، والسَّعة هي الزيادة، فالله ذو فضلٍ وهو ذو سَّعة جلَّ جلاله، فهو واسعٌ وله فضلٌ على عباده، متى تتفضَّل على الناس؟ متى تجود عليهم بفضل مالك؟ بفضل علمك؟ عندما تكون واسعاً، مرَّةً ركبت في الطائرة ولمّا كنت في الأرض كنت أشاهد أمتاراً قليلة، فلمّا علَت الطائرة، أصبحتُ أوسع في نظرتي وأشمل فيها، فلمّا علَت أكثر وأكثر رأيت مدينتين تبعُدان عن بعضهما مئات الكيلو مترات ورأيتهما بعيني من أعلى، فكلما علا قدر الإنسان اتسَّعت رؤيته، ولمّا تتسِّع رؤيته تتسِّع معها عاطفته، فالأنبياء صلوات ربّي وسلامه عليهم، لمّا ارتقوا في مراتب العلو في قربهم من الله تعالى، اتسَّعت رؤيتهم، فجاءوا للعالمين، أحبوا الخَلق جميعاً، تمنوا الهِداية للخَلق جميعاً، أرادوا للخَلق جميعاً أن يكونوا في أعلى مراتب القرب من الله تعالى، أن ينالوا ما نالوه، فلمّا علَت مرتبتهم عند الله اتسَّعت رؤيتهم واتسَّعت عاطفتهم، واتسَّعت إنسانيتهم فشملت الخلق كلهم. |
فالفضل مرتبط بالسَّعة، والمغفرة مرتبطة بالسَّعة، لأن المغفرة هي أن تعفو عن الإنسان، لمّا جاء حاطب بن أبي بلتعة، وقد ارتكب خيانةً عظمى في جميع الأعراف، بلَّغ قريشاً إنَّ محمداً سيغزوكم، سيدنا عمر بن الخطاب وله الحق في ذلك، لكن في لحظة انفعال مُعيَّنة قال دعني أضرب عنق هذا المنافق، هذا منافق، هذا أخبر العدو بأسرار المسلمين، ما الذي جعل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يقول دعهُ يا عمر؟ نظرته الواسعة، ما الذي جعله يغفر له هذه الذَّلة؟ نظرته الواسعة، ما الذي قاله؟ قال إنه شهد بدراً، وسَّع الدائرة، نظر إليه في لحظة ضعفٍ طارئ |
{ بعثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ والزُّبيرَ وأبا مَرثدٍ وكُلُّنا فارسٌ قال انطلِقوا حتى تبلغوا رَوضَةَ خاخٍ فإنَّ فيها امرأةً معها صحيفةٌ من حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ إلى المشركين فأْتوني بها فانطلَقْنا على أفراسِنا حتى أدركْناها حيثُ قال لنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ تسيرُ على بعيرٍ لها قال وكان كتب إلى أهلِ مكةَ بمسيرِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ فقلُنْا لها أين الكتابُ الذي معكِ قالت ما معي كتابٌ فأَنَخْنا بها بعيرَها فابتغَيْنا في رَحلِها فلم نجِدْ فيه شيئًا فقال صاحبايَ ما نرى معها كتابًا فقلتُ لقد علمتُما ما كذَبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثم حلفتُ والذي أحلفُ به لئن لم تُخرِجي الكتابَ لأُجَرِّدَنَّكِ فأهوَتْ إلى حُجزَتها وهى محتجزةٌ بكساءٍ فأخرجَتِ الصحيفةَ فأَتوا بها رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالوا يا رسولَ اللهِ قد خان اللهَ ورسولَه والمؤمنين دَعْني أضربْ عُنُقَه قال يا حاطبُ ما حملكَ على ما صنعتَ قال يا رسولَ اللهِ واللهِ ما بي أن لا أكون مؤمنًا بالله ورسولِه ولكني أردتُ أن تكون لي عند القومِ يدٌ يدفعُ اللهُ بها عن أهلي ومالي ولم يكن أحدٌ من أصحابِك إلا له هناك من قومِه من يدفع اللهُ تعالى به عن أهلِه ومالِه قال صدقتَ فلا تقولوا له إلا خيرًا فقال عمرُ يا رسولَ اللهِ إنه قد خان الله ورسولَه والمؤمنين دَعْني أضربْ عُنقَه قال أو ليس من أهلِ بدرٍ وما يدريك لعل اللهَ عزَّ وجلَّ اطَّلع عليهم فقال اعملوا ما شئتُم فقد وجَبتْ لكم الجنةُ فاغْرَوْرَقَتْ عينا عمرَ رضيَ اللهُ عنه وقال اللهُ تعالى ورسولُه أعلمُ }
(أخرجه البخاري ومسلم)
لم ينظر سيدنا رسول الله إلى الذنب، نظر إلى صاحب الذنب، عمر رضي الله عنه نظر إلى الذنب فقط، فوجده ذنباً عظيماً يستحق العقوبة القاسية، رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَّعته نظر إلى صاحب الذنب مع الذنب، فوجده قد ألمَّت به لحظة ضعفٍ طارئ، قال: يا رسول الله، والله ما ارتددت ولا كفرت بعد إيماني، ولكني امرؤٌ ملصقٌ في قريش لست من أنفسها، لست من زعامات قريش، لست من القبيلة، أنا أُلصقت بها فأردت أن أحمي مالي وعيالي عندهم فأرسلت لهم هذا الخبر وأنا أعلم أنَّ الله ناصرك، قال: إني صدَّقته فصدِّقوه ولا تقولوا فيه إلا خيراً، إنه شهد بدراً، وما أدراكم أنَّ الله اطلَّع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. |
السَّعة مغفرة و فضل وعطاء وحكمة:
إذاً هذه النظرة الواسعة الشمولية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي التي جعلته يغفر الذنب، فالمغفرة مرتبطةٌ بالسَّعة، فالله تعالى لمّا يعلم من عبده أنه ألمَّت به لحظة ضعفٍ فوقع في الذنب، فإنه يغفر له ويرحمه ويعفو عنه، فالسَّعة مغفرة، والسَّعة فضلٌ وعطاءٌ وحكمة، والسَّعة حكمة، لأن الحكمة في الأصل مأخوذةٌ من حكمة الفرَس التي توضع للفرس فيتحرَّك حركةً صحيحةً في أكله وشربه، يعني الحركة المناسبة في الوقت المناسب في الزمان المناسب، أن تضع كل شيءٍ في موضعه، وهذا لا يتأتى إلا لمن يعرف المواضع كلها، يعرف الرجال، ويعرف أقدار الرجال، ويعرف الأوقات المناسبة، وينظر من جميع الجوانب فلا يأخذ القضية من جانبٍ واحد، ويحكم عليها، إذاً نحن أمام سَّعة في النتيجة، سَّعة علمنا وسَّعة نظرنا وسَّعة أُفقنا في التعامل هي حكمة، تدفعنا إلى حكمةٍ في التعاطي، أمّا الإنسان الذي ينظر من زاويةٍ واحدة، سيُجانب الحكمة، ربما يرتكب حماقات كبيرة ثم يندم عليها، يتهوَّر، لأنه لا يعرف المداخل والمخارج للمسألة، فيقع في المحظور، ثم يقال له فعلت كذا وقلت كذا، وأنت لا تعلم أنَّ فلاناً كانت ظروفه كذا وكذا، فيقول ليتني لم أقُل، ليتني لم أفعل، يندم. |
الأستاذ حسين:
كيف انعكست دكتور بلال هذه المدلولات لمفهوم السَّعة على مدونة الفقه الإسلامي، أو على أحكام الشريعة وتطبيقاتها، يعني كيف الفقهاء والعلماء ومدونة الفكرة عندنا اهتمَّت بهذا الجانب وعكسته في المجال التطبيقي؟ |
من أهم مرتكزات الفقه الإسلامي شمول الشريعة ويسر الشريعة:
الدكتور بلال نور الدين:
جزاك الله خيراً، هذا سؤالٌ واسع، بارك الله بكم، الحقيقة أنَّ الفقه الإسلامي عندما ننظر إليه نظرةً شمولية، نجد أنَّ من أهم مرتكزاته أنه يُعنى بشيئين، الأول: شمول الشريعة، سَّعة الشريعة، لكل ما في العصور من مستجدات، والثانية: يسر الشريعة، واليسر فرعٌ عن السَّعة، لأنه عندما تكون واسعاً تُيسِّر على عباد الله، فيقولون دائماً إنَّ الفقه الإسلامي يمتاز بميزتين: شموله ويسره، وتيسيره على الناس، فالشمول سمة من سمات شريعتنا، اليوم يوجد مستجدات في عصرنا، يوجد أشياء لم تكن. |
الأستاذ حسين:
كل يوم يتطور الإنسان تتطور الحياة. |
الدكتور بلال نور الدين:
فهل الفقه الإسلامي فقهٌ جامد أم نحن جمدنا عليه؟ أنا أقول وأزعُم أننا نحن من جمدنا عليه، هو واسع شامل، اليوم عندما تنظر في رسائل الدكتوراه التي تقدَّم في المحافل العلمية، وفي الجامعات وفي الأكاديميات، فإنك تجد عناوين تقول هل سأجد في كتاب الله وسُنّة رسوله وفي أقوال الفقهاء ما يؤيدها؟ أنا العبد الفقير كانت رسالتي في الدكتوراه أحكام البيئة التعليمية في الفقه الإسلامي، ووجدت أحكاماً في الفقه الإسلامي للمعلم والمتعلم، والتعليم الإلزامي، والمناهج الدراسية الحديثة، ووجدت في أقوال الفقهاء من الكنوز ما ألّفت به مؤلفاً وتقدمت به فقط في مجال الأحكام التعليمية اليوم، في هدايا المعلِّم، في الدروس الخاصة التي يجريها المعلمون متى تجوز متى لا تجوز، في احتفالاتهم، كلها وجدت لها أحكاماً في وسع لا حدود له، عندما تقرأ اليوم عن أحكام الملكية الفكرية، هل كان هناك ملكية فكرية في زمن الفقهاء؟ لم تكن أو كانت محدودة جداً، لكن اليوم تجد براءات الاختراع وأحكام الملكية الفكرية، ما تجد له في شريعة الله تعالى الأشياء، جعلت برنامجاً مرَّةً عن أحكام الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي في الفقه، فنفذ الوقت ولم ينفذ ما عندي، زمن الاتصال ومكان الاتصال، وهل نصوُّر شخصاً دون إذنه أم يمتنع ذلك، هل نُسجِّل صوته دون إذنه أم لا يجوز |
الأستاذ حسين:
هل هذه التفاصيل في المستجدات موجودة في مُدونة الفقه الإسلامي، أم أنَّ الكُليَّات موجودة والفقيه يستنبط منها تبعاً للتطوُّر المستجد في الواقع؟ |
في الفقه هناك نص قطعي الثبوت و الدلالة وهناك نص ظني الدلالة:
الدكتور بلال نور الدين:
بالعموم الثانية، الفقه الإسلامي شموله في أنه وضع الكُليَّات، وسَّعته في أنك تستطيع أن تستنبط من هذه الكُليَّات أحكاماً للأمور الطارئة. |
لماذا يقولون في الفقه عندنا نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وهناك نص ظني الدلالة، ظني الدلالة من أجل أن يغطي المتغيرات إلى قيام الساعة، لو كانت النصوص كلها قطعية الدلالة فقط على هذا المدلول لتجمدت، ولما استطعنا تطويرها، ولما استطعنا أن نستنبط منها، وأن نولِّد منها أحكاماً جديدة. |
الأستاذ حسين:
ولا عشنا في شقاء، كيف تريد أن تلتزم بأمرٍ يُحمِّلك مشقّةً كبيرة؟ |
الدكتور بلال نور الدين:
وقعنا في العسر، والله تعالى ما جعل علينا في الدين من حرَج جلَّ جلاله، والله تعالى ما جعل علينا فيه عنتاً وعسراً وضيقاً، فلذلك جعل هذه النصوص تسعُ كل زمان، فأنت أحياناً تنبهر أمام النَص عندما تجد فيه، يعني مثلاً حتى يكون الأمر عملياً، عندما يقول صلى الله عليه وسلم بأن الإنسان لا ينظر في كتاب أخيه بغير إذنه، اليوم عندما تجلس في وسائط النقل وتفتح جوالك، ويأتي إنسان وينظر فيه من غير إذنك، هذه هي! |
{ عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ }
(رواه أبو داود)
هو قال لا ينظر في كتاب أخيه وفق معطيات العصر، تكتب شيئاً لا تريد لأحدٍ أن يطَّلع عليه، واليوم عندك صورة في جوالك، أو أنك تراسل أحداً على وسائل التواصل، فلا تريد له أن يطَّلع عليه |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)(سورة الحجرات)
أعطاك الحكم العام ليشمل كل المستجدات بشكلٍ كامل، عندما تحدَّث عن آداب الاستئذان ثلاثاً فإن أُذن له وإلا فليرجع، اليوم الذي يرن هاتفه مئة مرة، أين آداب الاستئذان؟ أليس هذا كطرق الباب اليوم؟ |
{ عن أَبي موسى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: الاستِئْذان ثَلاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإلَّا فَارْجِع }
(متفق عليه)
طرق الباب سابقاً واليوم رنة الهاتف، لعله يُصلّي وأنت اتصلت أربع أو خمس رنات، اتركه خمس دقائق أو عشر دقائق ليُنهي صلاته، فإذن نحن أمام ثروة فقهية، أمام فقهاء، حتى كان في فقه الفقهاء، اليوم يقولون في علوم التنمية الحديثة مَن وماذا وكيف وماذا لو، وأرأيت لو، فكان الفقيه يقول أرأيت لو قال كذا، افتراضات فيما سيحدث، كان يقرأها الإنسان فيقول ما هذا الكلام؟ |
الأستاذ حسين:
انظر العقل الفكري المسلم كيف كان وإلى أين أصبح اليوم؟! |
الدكتور بلال نور الدين:
للأسف الشديد أننا لا أدري لماذا أصبحنا في زاوية بحيث نأخذ مذهباً فقهياً واحداً ونتعصب له، ونحارب من ينكر علينا أو من لا يأخذ برأينا، عجيب! كل ما في نصوص الشريعة وكل ما في نصوص الفقهاء مما يدعو إلى استخدام العقل لاستنباط الأحكام، لتوليد أحكام جديدة لعصرنا، من فقهاء ثقات من مجامع فقهية موثوقة، تركناه جانباً وأصبحنا نتعصب لرأيٍ أو لقولٍ أو لمسألةٍ دون أن نعيَ سَّعة هذه الشريعة. |
الأستاذ حسين:
أريد أن أسألك هنا دكتور بلال لو تكرمت عليّ، هل أضرَّ ذلك هذه النتيجة بفاعلية الدين في حياتنا؟ أو بصيغةٍ أُخرى، هل أنتج أنماطاً من التديُّن الذي يدعوني لأقول مغشوشة أحياناً، وبالتالي تجد البعض لم يفهم الدين وانسحب منه؟ |
الدكتور بلال نور الدين:
طبعاً، وأزيدك شيئاً، أنَّ بعض من تركوا الدين كما قلت، انسحبوا منه أو وقفوا منه موقفاً معادياً للدين، ربما من بعض أسبابه، لا أقول جميعها، هو أننا لم نقدِّم لهم حلولاً واقعيةً منطقيةً شرعيةً، أنا هنا لا أريد أن أتجاوز الشريعة معاذ الله، أنا لست ممن يعبثون بدين الله، يُميعون الدين، لا لسنا من هؤلاء، ولا نقبل منهم ذلك، ولكن ضمن حدود الشريعة. |
الأستاذ حسين:
ممن يفهمون الدين على مقاصده كما أراده الله تعالى. |
الأسباب التي دعت البعض إلى التديُّن المغشوش:
الدكتور بلال نور الدين:
لمّا لم نستطع، أو لم نفعل، أو لم نقدر، أو لم تسعفنا الظروف، لنقدِّم الحلول ولنعرض الإسلام بالعرض الصحيح الذي أراده الله، وكما أنزله الله تعالى صالحاً لكل زمانٍ ومكان، هذا من الأسباب التي دعت البعض إلى تديُّنٍ مغشوش، إلى تمييعٍ للدين أحياناً، إلى تطرُّف تفلُّتي أو تطرُّف تشدُّدي، وكلاهما مذمومٌ منبوذ في الطرفين، إلى مُعادين للدين لأنهم ظنوا أنَّ هذا هو الدين الذي نقدِّمه لهم من كتابٍ من الكتب الصفراء، كما هو دون أن يعالج مسائل الواقع دون أن ينظر إلى الواقع، دون أن يحل مشكلات المسلمين، فلمّا لم يجدوا فيه حلّاً، لضعفنا وقصورنا في تقديمه، لا لضعفٍ فيه حاشاه، لأن الله تعالى قال: |
لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)(سورة فصلت)
فلمّا قصّرنا في عرضه العرض الصحيح، وفي بيان ميزاته، وفي إسقاطاته على واقعنا المعاصر وإيجاد الحلول لها، وجدنا من أبناء جلدتنا من يتنكر للدين ومن يبتعد عنه، أو مَن يجعله للتبرُّك والقدسية، ويُعرِض عنه إلى القوانين الأرضية، وإلى القوانين الغربية، لأنه بزعمه وجد فيها بغيته، وإن كانت قاصرةً دائماً، و حاشا أن تصل إلى شيءٍ من عظمة تشريعنا الإسلامي. |
البعض اختزل في هذا الدين لسوء فهمنا موضوع السَّعة في الدين:
الأستاذ حسين:
نعم، سَّعة الدين هكذا أفهمها، تنصرف إلى كل ما يتعلق بحياة الإنسان وحركته في هذا الكون، لكن البعض اختزل هذا الدين، ضيَّقوا كثيراً واختزلوا في جانب العبادات، أو في جانب، انتقائية هو يختارها، هل هذا أيضاً أضرَّ بالدين عندما اختزلناه بدل أن ننظر إليه في أنه يشمل الحياة كلها، حركة الإنسان في العمل وفي الإنتاج، ووجوده في السوق، ووجوده في المكتب، في المختبر، و نحن للأسف أو بعضنا اختزل هذا الدين في زاوية أو في مسجد أو في صلاة أو في زكاة، في عبادات مُعيَّنة، هل هذا أيضاً من سوء فهمنا لموضوع السَّعة في الدين؟ |
الدكتور بلال نور الدين:
بالتأكيد، الآن أستاذ حسين أنا أُجري تجربة، وأجريتها سابقاً على وسائل التواصل، ائتِ اليوم بعشرة مسلمين، من عوام المسلمين، من المسلم العادي البسيط الذي يؤدي العبادات، ائتِ به، قل له ما هي العبادة؟ يقول لك: الصلاة والصوم والزكاة والحج، قل له لا يوجد عبادات ثانية؟ ربما تجد واحد أو اثنين يقول لك بر الوالدين، ينتقل لشيءٍ آخر، قل له عملك عبادة؟ يقول لك العمل رزق، ندَر أن تجد من يفهم أنَّ العبادة هي أن تُخضِع حياتك لمنهج الله تعالى، ندَر من تجد أن يقول لك إنَّ العبادة أن تنتقل من محراب الصلاة إلى محراب الحياة، فأنت في السوق في عبادة، لمّا تبيع السلعة بسعرها الصحيح دون أن تغش المستهلك، ندَر من يقول إنني عندما أكون في رياضة ألعب في النادي الصباحي، فأنا في عبادة لأني نويت التقوي على طاعة الله، ولم أُخالف شرع الله عزَّ وجل في هذه التمارين التي أُؤديها، ندَر أن يقول لك قائل إن هذه عبادة، والحمد لله رب العالمين. |