التوحيد
دين القيّمة
| يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته. |
| اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً. |
مقدمة:
| وبعد فيا أيُّها الإخوة الكرام: ربما يُعرَض عليك عملٌ مجهوده كبير لكن دخله قليل فترفضه، ربما تُدعى إلى سفرٍ فيه مشقةٌ زائدة فتُعرِض عنه، قد تُعاين بيتاً لتشتريه فتجد أنه قديمٌ متهالك، فتعتذر عن شرائه، تمرُّ بنا أشياءٌ كثيرةٌ في الحياة، أشياءٌ وأشياء، نقبَل ونرفُض، نوافق أو نعارِض، نُعجَب أو نسفَه، شيءٌ واحدٌ إن أعرَض عنه الإنسان، فإنه لا يسفَه هذا الشيء ولا يحتقره، بل يبقى هذا الشيء في عليائه، مهما كثُر المُعرِضون عنه، ولكن المُعرِض في الحقيقة، يحتقر نفسه ولا يحتقر الشيء الذي يُعرِض عنه، إنه دين الله تعالى، قال تعالى: |
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(130)(سورة البقرة)
| الذي يُعرِض عن دين الله تعالى، هو في الحقيقة لا يسفَه دين الله، لأنَّ دين الله تعالى في العلياء، لكنه يحتقر نفسه لأنه حرمها من هذا الخير العظيم، في اتباع منهج الله القويم. |
الدين شيء والتديُّن شيءٌ آخر:
| أيُّها الإخوة الكرام: الدين سعادة الأبد أو شقوة الأبد، الدين مَن تمسَّك به سعِدَ ونجا ومَن أعرَض عنه شقيَ وهَلَك، لكن الدين شيء والتديُّن شيءٌ آخر، الدين شيء وتديُّن الناس شيءٌ آخر، الدين ليس مُنتجاً بشرياً، الدين من عند الله تعالى، الدين نصوصٌ، وَحيٌ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الدين كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الدين. |
| أمّا التديُّن فهو وضعٌ بشري، وهو التزامٌ إنساني وفق فهم المُتديِّن، فالتديُّن ليس بالضرورة أن يكون ديناً، ومشكلة كثيرٍ من المسلمين أو غير المسلمين في بلاد الغرب، أنهم يخلطون بين الدين والتديُّن، فينظُر أحدنا إلى معاملة مسلمٍ معه، فيقول هذا هو الإسلام، هذا ليس الإسلام، هذا هو تديُّن فُلان وفهمه للإسلام، الإسلام في كتاب الله تعالى وفي سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم. |
| لنوضِّح الموضوع مثلاً: بعض الناس يكتفون بالشعائر، يُصلّي، يصوم، يُزكّي، يحُج، يقول لك: هذا هو الدين، ماذا تريد منّي أكثر من ذلك؟ أقول له: رويدك، كيف معاملتك مع الناس؟ أجد أنه يتعامل مع الناس بفظاظةٍ، بغِلظةٍ، يغش المسلمين، يكذب عليهم، يُدلِّس عليهم، ثم يقول لك: أنا مُتديِّن، أنت مُتديِّن! هذا فهمُك للدين، وهو فهمٌ مغلوط، فالدين ليس شعائر فقط، الدين في المسجد والدين في السوق، الدين في محراب الصلاة والدين في محراب الحياة، فهذا تديُّنك، أَدعو الله أن يُصلِح لك دينك، أي تديُّنك الذي تدين الله تعالى به، فهمك الذي فهمت عليه الدين. |
التديُّن المغلوط ليس دين الله تعالى:
| بالطرَف المُقابل: تجد إنساناً أميناً إذا عامل الناس، صادقاً معهم، لا يغش الناس، تقول له: أنت لا تُصلّي، يقول لك: الدين المعاملة، أنا أُعامل الناس بشكلٍ جيد، ماذا تريد منّي أكثر من ذلك؟ الدين ليس في المسجد! هذا فهمه للدين، هذا فهمٌ مغلوطٌ أيضاً، الدين ليس معاملة الناس بالحُسنى فقط، الدين شعائر وتعامُل، فالأول فهِم الدين خطأً والثاني فهِم الدين خطأً، تجد امرأةً مُتبرِّجة تخرُج بطريقةٍ لا ترضي الله تعالى في الشارع، تنصح لها، هذا لا يرضي الله، عليكِ بالحجاب، تقول لك: إيماني في قلبي، أنا ديني في قلبي، أنا ما أتحدث عن الناس، أنا ما اغتبتُ أحداً، ما غششت أحداً، ما دخلك بهذه القماشة التي أضعها على رأسي؟! هذا تديُّنها المغلوط هذا ليس دين الله تعالى. |
| في المقابل تجد امرأةً مُحجَّبةً، مُلتزمةً بالحجاب الشرعي واللباس الشرعي، ثم هي تغتاب المُسلمات وتتحدث عن أعراضِهنَّ، ثم إذا قلت لها ما هذا؟ قالت لك: أنا مُسلمة مُحجَّبة فعلت المطلوب، لم تفعلي المطلوب، فلا هذا فهِم الدين صحيحاً ولا هذا فهِم الدين صحيحاً، ولا تلك فهمت الدين صحيحاً ولا الثانية فهمت الدين صحيحاً، هذا ما أقوله: الدين شيء والتديُّن شيءٌ آخر، الدين ضرورة لكل الناس، هو كالهواء الذي إن لم يستنشقه الإنسان يموت، هو ضرورةٌ للحياة، لا يمكن أن تستقيم حياة الناس دون دين، لكن الدين الذي أنزله الله تعالى وليس التديُّن الذي يفهمه كثيرٌ من الناس، ويفهمون دين الله تعالى خطأً. |
| أيُّها الإخوة الكرام: من هنا فإنَّ الله تعالى وصف في قرآنه الدين في عدة مواضع، بأنه الدين القيِّم، أو ديناً قيَماً، أو دين القيّمة، ما معنى ذلك؟ قال تعالى: |
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(40)(سورة يوسف)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(30)(سورة الروم)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(161)(سورة الأنعام)
| قال تعالى يصف كتابه الكريم: |
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا(2)(سورة الكهف)
| وقال تعالى: |
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ(5)(سورة البينة)
ما معنى دين القيِّمة؟
| ما معنى دين القيِّمة؟ دين القيِّمة هو الدين الذي شرعه الله تعالى مستقيماً لا عِوج فيه، يهيمن على حياة الناس فتستقيم حياتنا به، هو مستقيمٌ ومهيمنٌ على كل شؤوننا، فتستقيم حياة الناس بالدين القيِّم، أمّا التديُّن المغشوش فلا تستقيم حياة الناس به، التديُّن الذي يقف مع الظالم لا تستقيم حياة الناس به، بل يكون أتباعه أول الكافرين به، التديُّن المغشوش الذي يُخدِّر الناس هذا ليس ديناً قيِّماً، التديُّن الذي يُبنى على رواية الخرافات هذا ليس ديناً قيِّماً، هذا دينٌ مِعوَج، الدين ليس خُرافةً، والدين ليس مُمالأةً للظالمين، والدين ليس وقوفاً في صف الطُغاة بدعوى المُحافظة على الدين، بل هذا هدمٌ للدين. |
| كم من جماعاتٍ وقفت مع الظالمين، بدعوى الحفاظ على الدين، فجعلوا كثيراً من الناس يكفرون بهم، وللأسف الشديد أقولها متأسفاً، وأحياناً بالدين، لأنهم فهموا أنَّ هذا هو الدين، التديُّن المغشوش ليس ديناً، الدين هو دين القيِّمة الذي يُهيمن على حياة الناس فتستقيم حياتهم به، فيه توازن بين الروح والفكر، فيه توازن بين عالم المادة وعالم القيَم، دين القيِّمة لا يُهمِل دُنيا الناس، لكنه يوجهها في الطريق الصحيح للوصول إلى الآخرة بسلام (دِينُ الْقَيِّمَةِ). |
خمس قواعد لدين القيِّمة:
| أيُّها الإخوة الأحباب: ما هو دين القيِّمة كما في الآية؟ هو خمسة أشياء، هذه الآية وضعت خمس قواعد لدين القيِّمة ما هي؟ |
| قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). |
البند الأول: العبادة.
| الأمر الأول في دين القيِّمة العبادة، عبادة الله لكن الآن سندخُل في التفاصيل، حتى العبادة وهي الجزء الرئيسي في دين القيِّمة، فُهِمت عند كثيرٍ من الناس خطأً، ما معنى العبادة؟ نقول طريقٌ مُعبَّدة: أي وطئتها الأقدام حتى أصبحت مذللةً خاضعةً للبشر ذلولاً، نحن عندما نقول عبادة الله تعالى فنعني بها، أن تُصبح حياة الإنسان خاضعةً لمنهج الله، وليس كما يفهم بعض المسلمين، أنَّ العبادة هي إقامة الصلاة، ودفع الزكاة، وحج البيت، وهذا جزءٌ أساسيٌ في العبادة، لكنه ليس كل العبادة، العبادة هي اسمٌ جامعٌ كما يقول العلماء، لكل ما يرضاه الله تعالى، من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، بمعنى: أنك عندما تكون في السوق تبيع وتشتري أنت في عبادة، إن أخضعت بيعك وشراءك لمنهج لله، عندما تجلس مساءً مع زوجتك وأولادك فأنت في عبادة، إن كانت هذه الجلسة خاليةً من المُحرَّمات. |
| عندما تذهب أيُّها الشاب مع زملائك إلى الملعب للعب الكرة، ساترين للعورات، غير مُلتهين عن فريضةٍ من الفرائض، أو واجبٍ من الواجبات فأنتم في عبادة، العبادة هي كل فعلٍ بشريٍ يخضع لمنهج الله، في كل أحوال الإنسان هو في عبادة، في سوقه، في عمله، في مسجده، في بيعه، في شرائه، في دَينه، في عطائه، في منعه، في ابتسامته، في غضبه، هو في عبادة، فدين القيِّمة يعني أن تعبُد الله بالمفهوم العام لكلمة العبادة، وعندها نفهم قوله تعالى: |
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)(سورة الذاريات)
| البعض يقول لك: ربُّنا عزَّ وجل خلقنا من أجل أن نُصلّي له ونصوم ثلاثين يوماً؟! وهو غنيٌ عنّا وذكر ذلك في الحديث القدسي: |
{ قال اللهُ تعالَى: يا عبادي! إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُه مُحرَّمًا فلا تَظالموا، يا عبادي! إنَّكم تُخطِئون باللَّيلِ والنَّهارِ وأنا أغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا ولا أُبالي فاستغفروني أغفِرْ لكم، يا عبادي! كلُّكم جائعٌ إلَّا من أطعمتُ فاستطعِموني أُطعِمْكم، يا عبادي! لم يبلُغْ ضُرٌّكم أن تضُرُّوني ولم يبلُغْ نفعُكم أن تنفعوني، يا عبادي! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وجِنَّكم وإِنسَكم اجتمعوا وكانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منكم لم يُنقِصْ ذلك من مُلكي مثقالَ ذرَّةٍ، ويا عبادي! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وجِنَّكم وإنسَكم اجتمَعوا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني جميعًا فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ منهم مسألتَه لم يُنقِصْ ذلك ممَّا عندي إلَّا كما يُنقِصِ المَخيطُ إذا غُمِس في البحرِ، يا عبادي! إنَّما هي أعمالُكم تُرَدُّ إليكم، فمن وجد خيرًا فليحمَدْني ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلَّا نفسَه }
(أخرجه مسلم)
| خلقنا لنجعل حياتنا وفق منهج الله تعالى، لنسعد في الدنيا وفي الآخرة، هذا معنى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي ليُخضِعوا حياتهم للمنهج، ليسيروا وفق منهج الله، في بيعهم وشرائهم وتعاملهم، فلا ظُلم، ولا بغيَ، ولا عدوان، ولا أكل للأموال بالباطل، ولا قطع للأرحام، ولا عقوق للوالدين، هذه: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا). |
| بالمناسبة (مَا) نافية، و (إِلَّا) أداة استثناء حصر، وعندما يجتمع النفي مع أداة الاستثناء (إِلَّا) يكون المعنى حصرٌ وقصر (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا) أي لم يؤمَروا بشيءٍ إلا بما ستذكره هذه الآية فقط، هذا هو المأمورون به، مثل قوله تعالى: "لا إله إلا الله" أي لا معبود بحقٍ إلا الله، نفي مع إلّا يعني حصر، فهذه هي العبادة أولاً، أن نُخضِع حياتنا لمنهج الله، وهذا أول بندٍ في دين القيِّمة. |
البند الثاني: الإخلاص.
| البند الثاني: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) فالعبادة بلا إخلاص، ومهما كانت متوافقةً مع منهج الله، فلا تُقدِّم ولا تؤخِّر، ولا تُفيدك في أُخراك شيئاً، قد تجد إنساناً بحُكم عمله يصدُق مع الناس، لا يغشُّهم حتى تروج تجارته، فتقول: هذا الفعل صحيحٌ وفق المنهج، لكن ليس فيه إخلاصٌ لله (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) فالإخلاص سرّ العبادة، وأي عبادةٍ تخلو من الإخلاص، أصبحت رياءً ولا تُقبَل عند الله. |
| مع الإخلاص يقبَل الله تعالى قليل العمل وكثيره، ودون إخلاص لا يقبَل الله تعالى قليل العمل ولا كثيره، عملٌ لوجه الله تعالى أنت مخلصٌ فيه لله يكفي، ومئةُ عملٍ ليس فيها إخلاص لا تنفعك شيئاً (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). |
| البند الأول العبادة في دين القيِّمة، البند الثاني الإخلاص في العبادة. |
البند الثالث: حنيفية المَيل عن الباطل إلى الحق.
| البند الثالث: قال: (حُنَفَاءَ) ما معنى الحنيف؟ الحنيف هو المائل، ويُقال رجُلٌ أحنف إذا كانت رجله مِعوجَّةً إلى الداخل، مرض نسأل الله العافية، ابتلاءٌ من الله، الأحنف رجله مِعوَجَّة مائلة، فالحنيف هو المائل، ما معنى حُنفاء؟ أي مائلون عن الباطل وأهله إلى الحق وأهله، هذه عقيدة الولاء والبراء، لا تستحوا بعقيدة الولاء والبراء، اليوم يريدون منّا أن نستر هذه العقيدة، ألّا نتكلم فيها، أي أننا جميعاً إخوةٌ، وكلنا واحد في أننا من بني البشر، وكلنا واحد في أننا لا يظلم بعضنا بعضاً، ولو اختلفت عقائدنا، صحيح كلنا واحد، لكن في الدين: |
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6)(سورة الكافرون)
| هناك مفاصلة، في العقيدة مفاصلة، هذا معنى حُنفاء، مائلون عن الباطل، أنا لست مع أهل الباطل، أنا لا أُرضي أهل الباطل، أُرضي أهل الحق، أنا أوالي أهل الحق ولو كانوا ضعفاء وفقراء، هذا موحِّد هذا أخي، وأُعادي أهل الباطل ولو كانوا أغنياء أو أقوياء، لا يعني أُعاديهم أنني سأُحاربهم، لا، لكن أنا أتبرأ من كفرهم، ومن شركهم، ومن نفاقهم، أنا مع أهل الحق، أنا مسلم، هذا معنى حُنفاء، يميلون عن الباطل وأهله إلى الحق وأهله. |
{ قيلَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ الأدْيانِ أَحَبُّ إلى اللهِ؟ قالَ: الحَنيفيَّةُ السَّمْحةُ }
(مسند الإمام أحمد)
| التي كان عليها أبونا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. |
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(67)(سورة آل عمران)
| (قالَ: الحَنيفيَّةُ السَّمْحةُ) فالحنيفية هي المَيل عن الشرك، فهي التوحيد، والسَّمحة هي في العمل، أي الحنيفية بالفكر، أنا أترك أهل الباطل، أميل إلى أهل الحق، والسَّمحة في التعامُل. |
{ رَحِمَ اللهُ عبدًا سَمْحًا إذا باعَ، سَمْحًا إذا اشْتَرى، سَمْحًا إذا قَضَى، سَمْحًا إذا اقْتَضَى }
(أخرجه البخاري)
| فالدين فيه سماحة، لكن في العقيدة فيه مفاصلة (الحَنيفيَّةُ السَّمْحةُ) بيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: |
{ عنِ اللهِ تعالى: إني خلقتُ عبادي حنفاءَ فاجتالتْهم الشياطينُ فحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانًا }
(أخرجه مسلم والنسائي في السنن الكبرى وابن حبان)
| في الأصل عندما خُلِق الإنسان لا يريد الباطل يريد الحق، في الأصل على الفطرة. |
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ(7)(سورة الحجرات)
| ففي الأصل الإنسان خُلِق مائلاً إلى الحق مُعرِضاً عن الباطل، قال: (إني خلقتُ عبادي حنفاءَ فاجتالتْهم الشياطينُ فحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي) فمالوا بعكس المَيل المطلوب، قال: (فحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم) هذا عكس السَّمحة، ديننا دينٌ سمح، الحلال حلال لا يجوز أن نُحرِّم حلالاً، قال: (فحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانًا) فالأصل هو الحنيفية السَّمحة، والشياطين مهمتها أن تُعرِض بك عن الحنيفية إلى الشرك، وعن السَّمحة إلى تحريم الحلال والغلوّ في الدين، الذي لا يرضي الله تعالى. |
{ إنَّ هذا الدينَ يسرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبهُ، فسدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا ويسِّروا واستعينُوا بالغَدوةِ والروحةِ وشيءٍ من الدُّلجةِ }
(أخرجه مسلم)
| إذاً أصبح عندنا دين القيِّمة عبادة، إخلاصٌ في العبادة، حنيفية مَيلٌ عن الباطل إلى الحق. |
البند الرابع والخامس: مرتبطان (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ).
| بقي شيئان: (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ) لماذا في القرآن الكريم دائماً ما يرتبط هذان الرُكنان من أركان الإسلام، يعني لا يُذكَر يُقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان ويحجّوا البيت، لكن في الأعم الأغلب: |
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(277)(سورة البقرة)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)(سورة المائدة)
| (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ) لأنَّ هاتين العبادتين تندرج تحتهما كل العبادات الأُخرى، فإقامة الصلاة هي الحركة نحو الخالق بالصلة، وإيتاء الزكاة هي الحركة نحو المخلوق بالبِر والإحسان. |
| الآن أعطني أيُّ عبادةٍ أُخرى ستندرج تحت هاتين العبادتين، الصيام إحسانُ صلةٍ بالله، الحج إحسانُ صلةٍ بالله، صلة الأرحام إحسانُ صلةٍ بالمخلوق، من البند الثاني (وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ) بر الوالدين إحسانُ صلةٍ بالمخلوق، ترك الغش والغيبة والنميمة إحسانُ صلةٍ بالمخلوق. |
أيُّها المسلم لديك حركتان: شاقوليةٌ نحو المولى وأُفقيةٌ نحو المخلوق:
| فأنت أيُّها المسلم لديك حركتان: شاقوليةٌ نحو المولى بالصلاة به دائماً، حُسن الصلة به، وأُفقيةٌ نحو المخلوق بحُسن التعامل معه، فإذا حقَّقت الأمرين معاً، حقَّقت جميع العبادات وتركت جميع النواهي، فلذلك يأتي هذان الرُكنان مُقترنين ببعضهما دائما، إذاً: |
| أولاً: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ). |
| ثانياً: (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). |
| ثالثاً: (حُنَفَاءَ). |
| رابعاً: (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ). |
| خامساً: (وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ). |
| قال: (وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) هذا هو الدين الذي تقوم به حياة الناس، هذا هو الدين الذي ليس فيه اعوجاجاً، أمّا الموالون للباطل وأهله، فهذا ليس دين القيِّمة، أمّا التاركون لعبادة الله بالمعنى الكامل، المُكتفون بالشعائر، فليس دين القيِّمة، أمّا جماعة إيماني في قلبي ولا علاقة لي بالشعائر، فليس دين القيِّمة، أمّا جماعة الإساءة إلى الناس فليس دين القيِّمة، دين القيِّمة تتوفر فيه خمسة شروط، يعبُد الناس ربهم بإخلاصٍ، يميلون عن أهل الباطل ويتجهون إلى أهل الحق. |
الحنيفية فُهِمَت اليوم بشكلٍ غلط فأصبح بأسُنا بيننا:
| بالمناسبة اليوم يفعل بعض المسلمين حُنفاء، لكن ربما فهموها حُنفاء ضمن الصف الإسلامي، فهو يميل عن الشيخ الفُلاني إلى الشيخ الفُلاني، ويميل عن المذهب الفُلاني إلى المذهب الفُلاني، الحنيفية فُهِمَت اليوم بشكلٍ غلط، فأصبح بأسُنا بيننا، نحن نتنازع، نحن سهامنا تتوجه إلى بعضنا، سهامنا لا تتوجه إلى أعدائنا تتوجه إلى بعضنا، فهذه مشكلة، الحنيفية أن تترك الباطل وأهله، وأن تميل إلى الموحِّد، قد يكون عنده أخطاء فتنصَح له، لكن أنت مَيلك إلى أهل الحق جميعاً، ولو اختلفوا معك في بعض الجزئيات لكنك تميل إليهم، لأنهم موحِّدون، لأنهم يؤمنون بالله تعالى وبرسوله، مسلمون من أهل القِبلة، لا يأتون بمُكفِّرٍ، فأنت تميل إليهم وتتبرأ من أعدائهم، في أحداث غزة الأخيرة، التي ما زالت قائمة، ظهر كثيرٌ من الناس والعياذ بالله حُنفاء بالمعنى العكسي، فمالوا عن أهل الحق والمظلومين، ووقفوا مع الظالمين، فحُنفاء تعني أن تترك الشرك والباطل، وأن تميل إلى الحق وأهل الحق. |
| ثم: (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) إحسانُ الصلةِ بالله (وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ) إحسانُ الصلةِ بالمخلوق، فمن استجمع هذه الخمسة: (وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) وانظروا إلى هذا التعبير الإلهي العظيم (وَذَٰلِكَ) وهُنا سامحوني قليلاً، باللغة العربية أنت تقول هذا للقريب، وتقول ذلك للبعيد، فهُنا اللام هي لام البُعد، والكاف كاف الخطاب، والذال اسم إشارة، فالله تعالى يشير إليه بلام البُعد لعلو مكانته، ليس لأنه بعيد، لكن لأن مكانته عالية. |
ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(2)(سورة البقرة)
| (ذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) انظروا إليه هو في العلياء، تديُّنكم في الحضيض، التديُّن المغشوش عند كثيرٍ من الناس، هو الذي هبط بكم، أمّا ذلك في عليائه دين القيِّمة، (وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) وجاء المُبتدأ معرفة والخبر معرفة للحصر، أي ما سواه ليس دين القيِّمة. |
| أيُّها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله. |
| الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. |
الدعاء:
| اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات. |
| اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين. |
| وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبُنا عليك اتكالنا. |
| اللهم يا أكرم الأكرمين كُن لنا عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً. |
| اللهم إنّا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلَم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلَم. |
| اللهم إنَّا نسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل. |
| اللهم كُن لأهلنا في السودان، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً. |
| اللهم يا أرحم الراحمين ارحم شهداءهم، اللهم انزع الفُرقة من قلوبهم، اللهم وحِّد كلمتهم على الخير والهُدى. |
| اللهم أصلِح الحال يا أرحم الراحمين. |
| اللهم كُن لأهلنا في غزة عوناً ومعيناً، اللهم عليك بأعدائهم فإنهم لا يُعجزونك. |
| اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، هازِم الأحزاب، سريع الحساب، اهزِم الصهاينة المُعتدين ومَن والاهم ومَن أيَّدَهم ومن وقف معهم في سرٍّ أو علن. |
| اللهم عليك بهم فأنهم لا يعجزونك. |
| اللهم إنهم قد طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فأرِنا فيهم عجائب قدرتك، واصرِف عنّا كيدهم ومكرهم يا أرحم الراحمين. |
| اللهم اجعل هذا البلد آمِناً سخياً رخياً مُطمئناً وسائر بلاد المسلمين، ووفِّق القائمين عليه للعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، وصلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين. |

